الرفض النشط ونظام "ثور"
لم يثمر سباق التسلح الكهرومغناطيسي الكثيرَ في القرن الماضي، نظرا إلى أن أغلب التقنيات المطروحة كانت مجرد نظريات أو أسلحة قيد التطوير، ولم يؤخذ منها في الاعتبار للاستخدامات العملية، إلا قنابل النبضات الكهرومغناطيسية العالية الطاقة والأنظمة المعتمدة على الموجات المليمترية المعروفة باسم "أنظمة الرفض النشط" (Active Denial Systems ADS).
وتعدّ أسلحة الموجات المليمترية من أبرز أمثلة أسلحة الطاقة الموجهة، مثل أشعة الليزر العالية الطاقة وأسلحة الموجات الدقيقة (الميكروويف العالي الطاقة). ويعمل كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة في منطقة طيف كهرومغناطيسي مختلفة عن منطقة عمل النوع الآخر، ونظرا إلى ذلك، يتميز كل نوع بخصائص مختلفة نظرا إلى اختلاف أطوالها الموجية وتردداتها، على سبيل المثال، يؤثر الطول الموجي فيما يمكن أن تخترقه الطاقة الموجهة، مثل المعدن أو جلد الإنسان.

في الصورة تتضح منطقة عمل موجات الليزر العالية الطاقة التي تعمل فيما بين المنطقة المرئية ومنطقة الأشعة تحت الحمراء، وكذلك الموجات المليمترية والميكروويف العالي الطاقة، اللذان يعملان في منطقة ما بين الموجات الدقيقة والموجات الراديوية.
أشعة الليزر العالية الطاقة تنتج شعاعًا ضوئيًّا ضيقًا، عادةً ما يكون بين منطقة الأشعة تحت الحمراء والمنطقة المرئية، ويتم استخدامه على هدف واحد في كل مرة. يمكن أن يكون الشعاع نابضًا "متقطعا" أو مستمرًّا، ويولد طاقة قادرة على صهر الفولاذ. أما أسلحة الموجات المليمترية فإنها تتمتع بحجم شعاع أكبر من أسلحة الليزر العالية الطاقة؛ مما يعني أن بإمكانها التأثير في أهداف متعددة في آن واحد.
من تطبيقات الموجات المليمترية نظام الرفض النشط من تطوير شركة رايثيون الأميركية، وهذا النظام موجات مليمترية بتردد 95 غيغا هرتز، تتفاعل مع جزيئات الماء والدهون في جلد الشخص "حتى عمق 0.4 مليمتر في الجلد"، لإحداث إحساس بالحرارة يبلغ نحو 53 درجة مئوية، بغرض دفع القوات المعادية بعيدا عن منطقة ما أو للسيطرة على حالات الشغب.
أما عن أسلحة الموجات الدقيقة (microwaves)، فإنها تنتج قدرا كبيرا من الطاقة؛ مما يجعلها مؤهلة لإحداث ضرر دائم في الهدف، ونظرا إلى أنها تتميز بحجم شعاع كبير مثل أسلحة الموجات المليمترية، فإنها تستطيع التأثير في أهداف متعددة في وقت واحد.
في هذا السياق تشير التقارير إلى إعداد وزارة الدفاع الأميركية تدابير مضادة جديدة للحد من تهديدات الطائرات المسيّرة، حيث يرى المراقبون أن هذه الأساطيل المنخفضة التكلفة أصبحت تؤدي أدوارا بارزة في الصراعات، ويعتقد البنتاغون أن لديه في هذا الصدد سلاحا واعدا يعتمد على الموجات الدقيقة العالية الطاقة، وفق ما أشارت إليه مجلة العلوم الأميركية.
هذا ويخطط البنتاغون لإجراء عرض عسكري مضاد للطائرات المسيّرة في شهر يونيو/حزيران المُقبل، وسوف يقوم خلاله بتقييم 6 تقنيات جديدة، بينها تقنيات تستند إلى أنظمة الموجات الدقيقة، في مواجهة سرب من 50 طائرة من الطائرات المسيّرة.
يُذكر أن مختبر أبحاث القوات الجوية الأميركية أعلن في وقتٍ سابق خلال عام 2021، نجاحه في تطوير نموذج أولي لنظام كهرومغناطيسي مضاد للطائرات المسيّرة، وقد حمل هذا النظام اسم "ثور" (Tactical High Power Operational Responder THOR)، وهو سلاح موجات دقيقة عالية الطاقة، يمكن وضعه كله في حاوية بطول 6 أمتار، كما يمكن نقله جوا في طائرة نقل عسكرية متوسطة الحجم، ويستغرق إعداد النظام كله بواسطة شخصين ثلاث ساعات فقط، ويمتلك النظام واجهة مستخدم تقلل من الحاجة إلى التدريب.

في السياق ذاته كشف وزير مشتريات الدفاع في الحكومة البريطانية جيمس كارتليدج، عن تصميمات مدمرة بحرية من طراز 83 يُفترض أن تمثّل جزءا من منظومة الهيمنة الجوية المستقبلية في البحرية الملكية. وقال كارتليدج "إن نظام السيطرة الجوية المستقبلي سوف يستخدم مجموعة متنوعة من التقنيات المتطورة، بما في ذلك قدرات الكشف الرادارية المتطورة وأسلحة الطاقة الموجهة".
وزير المشتريات البريطاني لم يذكر نوعية سلاح الليزر الذي سوف يتم إلحاقه بهذه السفينة الحربية، إلا أن بريطانيا اختبرت بنجاح في وقت سابق، نظام سلاح الطاقة الموجه بالليزر "دارجون فاير" (Dragonfire) وهو أحد أسلحة الطاقة الموجهة التي تتميز بالدقة وسرعة الاستجابة واحتمال إصابتها العالية للصواريخ السريعة الحركة والصواريخ الفرط صوتية، وقد أوضح بيان وزارة الدفاع البريطانية أن شعاع "دراجون فاير" يمكنه أن يخترق المعدن؛ مما يؤدي إلى فشل هيكلي في معدات العدو.
التهديد الذي تشكّله الصواريخ الفرط صوتية أصبح متزايدا، بسبب مسارات الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تقوم روسيا بتجهيز سفنها الحربية وغواصاتها التي تعمل بالطاقة النووية بصواريخها المتطورة من طراز "زيركون" الفرط صوتي؛ مما دفع الدول الغربية إلى اعتماد أسلحة الطاقة الموجهة باعتبارها دفاعات ناعمة ضد تهديدات الصواريخ الباليستية. هذا وقد أصبح الدفاع الجوي القائم على الليزر -وهو أحد أسلحة الطاقة الموجهة- محطّ تركيز الجيوش المتقدمة خاصة على متن السفن الحربية.
من جانبه كشف الجيش الروسي عن إدخاله أسلحة طاقة موجهة حديثة مؤخرا إلى ترسانته، بغرض التصدي لتهديدات الطائرات المسيّرة في ساحة الحرب الأوكرانية، حيث أوضح يوري بوريسوف نائب رئيس الوزراء، أن روسيا نشرت أسلحة ليزر حديثة لمواجهة الطائرات المسيّرة التي قدمتها القوى الغربية لأوكرانيا، ومن ضمن هذه الأسلحة: نظام الصواريخ الباليستية العابر للقارات "زاديرا" الذي يتضمن عنصر ليزر عالي الطاقة يسمى بيريسيفت.
بوريسوف أوضح أن النظام تم نشره على نطاق واسع، وأن في إمكانه أيضًا تعتيم الأقمار الصناعية على ارتفاع يصل إلى 1500 كيلومتر فوق الأرض، كما ادّعى بوريسوف في وقت سابق خلال عام 2022، أن "زاديرا" أسقط بالفعل طائرة أوكرانية بدون طيار في غضون خمس ثوان، وقد بلغت المسافة التي تفصل الطائرة عن النظام 5 كيلومترات.

هذا وقد أعلن باحثون صينيون مؤخرا، نجاحهم في تطوير أول مدفع كهرومغناطيسي يمكنه إطلاق عدد كبير من المقذوفات من دون تعرضه لأضرار. وكما ذكرنا، فإن المدافع الكهرومغناطيسية تشبه المدافع التقليدية إلى حد بعيد، باستثناء أن الأولى تعتمد على المجال الكهرومغناطيسي لتوليد طاقة حركية تدفع المقذوف، بدلا من الاعتماد على التفجير الكيميائي.
وكان الجيش الأميركي قد أعلن في وقت سابق من عام 2021، تخليه عن برنامجه المتعلق بتطوير مدفع كهرومغناطيسي بعد إنفاقه أكثر من 500 مليون دولار. وقد تمثلت الأسباب المعلنة في وجود تحديات هندسية عدة، مثل تعرض برميل المدفع للتآكل بعد بضع طلقات فقط، فضلًا عن الرغبة في تحويل الموارد إلى برامج الصواريخ الفرط صوتية.
التقارير تشير إلى وجود أسباب أخرى وراء التخلي عن البرنامج الأميركي، تتمثل في عدم التطابق بين الدور المتصوّر للمدفع وأولويات البحرية المتغيرة، حيث كان التصور الرئيسي هو إلحاق المدفع بالمدمرة زوموالت (Zumwalt)، إلا أن هذا البرنامج لم يكتمل بسبب مشكلات التكلفة الخاصة به.
اختبارات المدفع الصيني الأخيرة، شهدت تسارع مقذوف يبلغ وزنه 124 كيلوغراما إلى سرعة أولية بلغت 700 كيلومترا في الساعة (194 مترا في الثانية). ولوضع هذا في الاعتبار، تجدر الإشارة إلى أن المشروع الأميركي الذي تم إنهاؤه تمكّن من إطلاق مقذوف يبلغ وزنه 18 كيلوغرامًا فقط؛ مما يعني أن استخدام مقذوف أخف وزنا في المدفع الصيني، سوف يدفع السرعة إلى تجاوز سرعة الصوت (340 مترا في الثانية) بسهولة.
أما وكالة الاستحواذ والتكنولوجيا التابعة لوزارة الدفاع الذاتي اليابانية، فقد أعلنت أيضا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نجاحها في اختبار مدفع كهرومغناطيسي، بالتعاون مع قوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية. في السياق ذاته كشفت وكالة المشتريات الدفاعية الفرنسية، عن مشروعها الخاص بتطوير مدفع كهرومغناطيسي في يوليو/تموز الماضي. وأشارت الوكالة إلى أن تطوير هذا المدفع المصمم لتسليح السفن، تم من قبل معهد الأبحاث الفرنسي الألماني في سان لوي بتمويل من وكالة الابتكار الدفاعي.
إيمانويل شيفا، الرئيس التنفيذي للمديرية العامة للتسليح التابعة لوزارة الدفاع الفرنسية، سلط الضوء على هذا المشروع، موضحا أن المدفع يعمل عن طريق إرسال قذيفة بين قضيبين مع فرق جهد كهربائي كبير، وأشار إلى أن المقذوف يمكن أن يغطي مسافة تصل إلى 600 كيلومتر، كما ذكر أنه خلال أحد العروض التجريبية، تمكّن قرص مطاطي صغير أُطلق من المدفع بقوة تعادل 100 ألف ضعف للجاذبية، من اختراق دروع سميكة.
ويتألف المدفع الكهرومغناطيسي من قضيبين متوازيين ومحرك، وكلاهما موصّل للتيار الكهربائي، إضافة إلى مقذوف غير موصّل للتيار. يتم توليد التيار على شكل نبضات بواسطة مصدر طاقة نبضي لإثارة القضبان، ويتدفق التيار الكهربائي عبر القضبان ثم يولد مجالًا كهرومغناطيسيا على المحرك بسبب قوة "لورنتز"، مما يؤدي إلى تسريع المحرك والمقذوف معا.
الأسلحة الكهرومغناطيسية: البعد الإستراتيجي
من الممكن التكهن بأن امتلاك أسلحة كهرومغناطيسية متطورة واسعة المدى سيؤدي إلى تغيير جذري في الصراعات المستقبلية، نظرا إلى أن هذه الأسلحة تجرّد الخصم من مزاياه التقنية، وتمحو عقودا من الاستثمار المالي والعقلي الذي قامت به المعامل البحثية في جيوش الدول العظمى. في هذا الصدد يرى العاملون في معهد أبحاث البحرية الصينية، أن الأسلحة الكهرومغناطيسية سوف تمكّن جيشا بإمكانيات أقل من هزيمة جيش آخر متفوق، من خلال مهاجمة أنظمة الاتصالات والمراقبة وسفن القيادة، وسوف تكون هذه أهدافا ذات أولوية في الحروب المستقبلية.
يؤكد ذلك موقع "الفضاء العسكري" (military aerospace)، حيث يشير إلى أن الأسلحة الكهرومغناطيسية العالية الطاقة سوف تتمكّن من تعطيل مجموعة قتالية من حاملات الطائرات في ثوانٍ معدودة، إضافة إلى تدمير الأجهزة الإلكترونية للطائرات قبل أن تبادر تلك بإطلاق أسلحتها، وكذلك تدمير الاتصالات الحيوية وأجهزة المراقبة والقيادة وإلغاء السيطرة على المركبات الفضائية من دون سابق إنذار؛ مما يؤدي إلى ترك القوات البرية عمياء وبعضها معزول عن بعض، في حين سوف يحتفظ العدو بقدراته العسكرية المتطورة، وفي هذه الحالة فإن الحرب، سوف تكون أشبه بمواجهة بين جيش بدائي من العصور الوسطى وآخر متفوق يمتلك أحدث التقنيات العسكرية.
أضف إلى ذلك أن هذه الأسلحة توفر عنصر المباغتة، نظرا إلى انتقالها بسرعة الضوء؛ مما يمنحها زمن طيران يقترب من الصفر، وهو ما يتيح ردًّا أسرع وتوافر وقت أطول لاتخاذ القرار من قبل المُستخدم، كما توفر هذه الأسلحة درجة كبيرة من السرية أثناء عملها؛ لأن الإشعاعات فوق وتحت نطاق الطيف المرئي غير ملحوظة ولا تولد صوتا مما يجعل تتبع مصدر الهجوم أمرا في غاية الصعوبة.
من المزايا الهامة أيضا لهذه الأسلحة، انخفاضُ تكلفة الاشتباك على المستويين البشري والمادي، على سبيل المثال، تُكلّف طلقة الليزر من نظام "دراجون فاير" البريطاني قرابة 13 دولارا، مما يعني أن النظام اقتصادي للغاية إذا ما قارناه بتكلفة تشغيل أي نظام اعتراض جوي آخر، مثل صواريخ كروز التي تطلقها القوات الأميركية قبالة اليمن، وتبلغ تكلفتها ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف تكلفة الطائرات المسيّرة التي تهدف إلى تدميرها.
ميزة انخفاض تكلفة التشغيل لا تقتصر فقط على المعركة، بل تنعكس كذلك على تكلفة التدريب مقارنة بالأسلحة التقليدية، نظرا إلى أن الطلقات التدريبية للأخيرة تمثل عبأ ماديا، كما في حالات التدريب على صاروخ متطور، ويمثل ذلك ميزة على مستوى تكلفة الاشتباك الواحد؛ مما يجعل الهجوم على الأهداف الصغيرة في حالات التهديد غير المتماثل أقل تكلفة.
في هذا السياق، توقعت إحدى الدراسات الصادرة عن جامعة جيمس ماديسون الأميركية، أن الولايات المتحدة سوف تواجه في النزاعات المستقبلية خصومًا يستخدمون أسلحة النبضات الكهرومغناطيسية ضمن التكتيكات غير المتماثلة لتعطيل أنظمة المعلومات، كما يؤكد أحد التقارير الصادرة عن كلية القيادة والأركان الجوية في قاعدة ماكسويل الجوية بالولايات المتحدة أن تطوير أسلحة الطاقة الموجهة صار قابلا للتطبيق، وأن هذه الأسلحة سوف تنتشر في بيئة العمليات في السنوات الخمس أو العشر القادمة، حيث إن تقنيات توليد الترددات العالية الكثافة وصلت إلى النقطة التي أصبحت فيها الأجهزة العملية ممكنة من الناحية التقنية.
التقرير يؤيد استثمار الجيش الأميركي في تطوير هذه النوعية من الأسلحة، نظرا إلى أنها تحفظ الميزة التنافسية للولايات المتحدة، كما أن هذه الأسلحة غير الحركية توفر للسياسيين والقادة العسكريين خيارات رد متنوعة تختلف عن تلك التي توفرها الأسلحة التقليدية، حيث إن تأثيراتها في معدّات العدو تتراوح بين التعطيل والتلف الدائم، اعتمادًا على عوامل عدة، مثل المسافة التي تفصلها عن الهدف، والوقت الذي تستغرقه وهي مسلطة على الهدف، وكذلك الجزء من الهدف الذي يركز عليه السلاح الموجه، حيث يمكن تسليطه على جهاز الاستشعار الخاص بالهدف بغرض تعطيله، أو التركيز على خزان الوقود أو البطارية بغرض التدمير.
هذه المجموعة من التأثيرات يمكن الاستفادة منها في إنذار الهدف وتحذيره بشكل متدرج، ويمكن أن يبدأ الإنذار المتدرج بمنع استخدام أصول العدو داخل منطقة ما بشكل مؤقت، ثم يتصاعد إلى تدمير الأصل إذا لزم الأمر، كما يمكن استخدامها جنبًا إلى جنب مع الأسلحة التقليدية لزيادة فعالية النظام القتالي بشكل عام، بغرض تعطيل المعدات الإلكترونية قبل الاشتباك بسلاح حركي، كما اقترح سابقا جون ألكسندر، مدير برنامج التقنيات الخاصة في مختبر لوس ألاموس.
التردد: تردد الموجة هو عدد الدورات الكاملة خلال ثانية واحدة ويقاس بالهرتز.
الطول الموجي: هو المسافة اللازمة لتكمل الموجة دورة كاملة واحدة. أو هو المسافة بين اثنتين من القمم المتعاقبة أو القيعان المتعاقبة للموجة.
قوة لورنتس: القوة المؤثرة في جُسيم مشحون يتحرك بسرعة (V) خلال مجال كهربائي (E) ومجال مغناطيسي (B)، لتعتبر بذلك مزيجًا من القوى المغناطيسية والكهربائية. سُميت بهذا الاسم نسبة إلى العالم الهولندي هندريك لورنتز الذي اكتشفها عام 1895. ويعبر عنها بالمعادلة F = qE + qv × B
المصدر : الجزيرة نت - أحمد كامل