مواطنو الصين "الشرفاء"
على مر القرون، كان أي حاكم يجلس على مقعد الحكم في العاصمة الصينية "بكين" يجد صعوبة في الاطلاع على الأحداث اليومية التي تجري في المناطق البعيدة عن مركز إمبراطوريته، وحتى ولو قام بتوظيف العديد من الجواسيس والشرطة، فإن عوامل مثلَ المساحة الشاسعة للأراضي الصينية وعدد السكان الهائل كانت تتضافرُ لإبطاء انتشار المعلومات ووصولها إليه في زمن كافٍ لاتخاذ قرارات سريعة، ولأجل ذلك تبنّت السلطات حينها تنظيم الأسر في وحدات "لجان" تتولى تطبيق القانون في مقاطعاتها، وقام مواطنون مشاركون بدوريات بالإبلاغ عن الاضطرابات، بما يمكنُ اعتباره تكليفا للشعب بجزء من السلطة، نظام مراقبة شعبي حمل اسم "Baojia". إلا أن "ماو تسي تونغ" لطالما شعر بالقلق من لجان الإمبراطور تلك ومن نفوذها المتشعب، قلق جعله يضعُها على قائمة أهدافه بعد الانقلاب الذي قاده عام 1949 وتأسيسه لجمهورية الصين الشعبية كما نعرفها حاليا، وكمتزعم للحزب الشيوعي، فإن أول ما فعله "تونغ" كان تفكيكَ تلك اللجان وإلغاءَ صلاحياتها تأمينا لجبهته الداخلية، ثم وبمرور الوقت أعاد إحياءَها بأشكال مختلفة وتدجينَها في نظام مراقبة متعدد المستويات يعتمد على تقارير سكان محليين تثقُ الحكومة في ولائهم المُطلق للشيوعية، واستمرّت الأمور على ذلك حتى انفتاح الصين على السوق الرأسمالية في الثمانينيات تحت حكم أسطورة النهضة الصينية "دنغ شياو بينغ"، وهو ما خفف من حدّة فاعلية تلك المنظومة، لتصبح غالبيةُ لجان المراقبة المكونة على عين "تونغ" في طور الاحتضار بحلول التسعينيات، مع رؤية جديدة كانت تضعُ قواعدها الأولى على السطح بقيادة "جيانغ تسه مين" زعيم الحزب الشيوعي حينها ومن خلف "بينغ" في مقعد الرئاسة.
عُرف "مين" منذ نشاطاته الحزبية في الثمانينيات على أنه اشتراكي منفتح، صفة كانت حاضرة في سياسته بعد توليه الرئاسة عام 1993، من تعزيزه لصلاحيات الرئيس على حساب اللجنة العسكرية الموصوفة وقتها بـ "المستبدة"، إلى خطته الثلاثية في قيادة الصين إلى مصافِّ الكبار وإخراجها من عزلتها، متضمنة إجراءات بينها دعم التنمية الإنتاجية وتطوير الماركسية والتقاليد الثورية، ومنح الأولوية لقرار الشعب، فيما عُرف بثلاثية "التنمية والثقافة والأولوية"، وهي خطة استتبعت معها ضرورة الانطلاق من القواعد والاهتمامات الشعبية، ووضعته في شقها العملي أمام تأسيس أكبر شبكة استطلاع ومراقبة عرَفها التاريخ، شبكة استدعت بدورها ربط القرارات المؤثرة بمصير البلاد ووسائل العيش بنتائج الاستطلاعات، الأمر الذي دفعه لصياغة قاعدته الحاسمة للحكم والفاعلية "لا قرارات بدون استطلاع".
لذا، مستفيدا من هيكليات لجان الرقابة السابقة، ومُضيفا قوة شرطة جديدة سُميت بـ "تشينقوان"(3) أوائل الألفينيات مع منحها صلاحيات لتطبيق القوانين ذات المستوى المنخفض، بدأ أعضاء الحزب -بتكليف من "مين"- قيادة الخطط الاستطلاعية بالتناوب، وقد تمت الاستفادة من حسابات المواطنين البنكية، وفواتير الشراء والرقابة الجزئية على وسائل التواصل الاجتماعي والويب، وتم جمعها مع البيانات المتدفقة من عشرات آلاف كاميرات الفيديو المنتشرة، في قاعدة بيانات ضخمة واحدة على مستوى البلاد، وخلال الفترة بين عامي 2004 و2007 أجرت الصين ثلاث موجات من النظام الشبكي من الاختبارات غطت 51 منطقة تجريبية فقط، لم تلبث أن قررت تطويرها مع المخاوف المتزايدة من حدوث اضطرابات مرافقة للآثار السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية على الصين، وما استتبعته من آثار مستمرة حتى وقتنا الحالي. (4)
يمكِّننا تتبعُ الخط الزمني أعلاه من توقع حجم التململ الاجتماعي المتشكل، فمع تزايد الحديث حول فساد مرتبط بشخصيات حكومية وداخل شركات مملوكة للدولة، ثمّ التقلص التقليدي لنفوذ حكومة المركز على محافظات الأطراف اقتصاديا، مرورا بالجدل بين الإصلاحيين والشيوعيين المحافظين داخل الحكومة، تزايدت كتابات النشطاء والمعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الخاصة معبرة عن الاستياء المنعكس عن كل ذلك، مع تفاقم الاضطرابات في الأرياف نتيجة الإهمال الحكومي وتزايد الهجرة تجاه المدن(5)، والتي لامسَت سقفا عاليا عام 2010 معلنة لأول مرة عن تفوق المدن على الأرياف في التعداد السكاني، ومعلنة في الآن نفسه عن استجابة طارئة للحزب، بإعلان الدخول في طور جديد من الاستطلاع حمل اسم "العيون الثاقبة" (Sharp Eyes).
ولأن استطلاعا على مستوى الصين كلها يستلزمُ بالضرورة موارد ضخمة، فقد اقتصرت إجراءات "العيون الثاقبة" على المدن الحضرية، وبدءا من ناطحات السحاب وحتى مقاعد الحدائق بدأت الفرق الرقمية بترميز البنى التحتية، وربطها بكتل إدارية ذات مُعرِّفات خاصة، متصلة مع قاعدة بيانات ضخمة تُدار بنظام واحد تغذيه الصور والفيديوهات القادمة من عشرات ملايين الكاميرات المثبتة في المرافق العامة والخاصة وصولا إلى الكاميرات المسيرة. وأتى ذلك رفقة انتعاش شهدته لجان المراقبة لأخذ مستويات جمع المعلومات إلى سقفها الأقصى، ففي مدينة "قوانغتشو" الجنوبية على سبيل المثال، وبأي ساعة خلال اليوم، يمكن تمييز 12 ألف كاميرا لنشاطات كل مئتي أسرة، وهو أمر وُصِفَ بالبدائي ونقله تنافس شركات وادي السيليكون الصيني التقنية في بيع خدماتها لمستويات أكثر فاعلية.
بعد ذلك، كان بإمكان أي مراقب للحزب وعبر شاشة هاتفه المحمول متابعةُ ما تبثه كاميرات الأمن، وبالتالي الإبلاغ عن أي نشاط غير مألوف أو مخالف للائحة، وهو مشروع بدا في شقه العمليّ اقتباسا من المبدأ الشيوعي الشهير "الجماهير لها عينان حادتان" واستحضارا لمحاولات "تونغ" جعلَ كل مواطن يتجسس على الآخر، ولكن مع استدخال لتكنولوجيا أكثر تطورا من زمنه بكثير. (6)
السور الناري العظيم
مع دخول كبرى شركات الذكاء البرمجي سوق التنافس على تقديم خدمات تتبُّع ذلك الدفق الهائل من البيانات، أصبحت التقنيات الحكومية حساسة للّغة على نحو متزايد، وأكثر قدرة على تحديد مصدر تدفق نوع محدد من البيانات، ما عنى أن أي عملية بحث حول مواضيع محظورة ومثيرة للجدل، كـ "احتجاجات 1989" أو "مذبحة ميدان السلام السماوي" مثلا(7)، ستضعُ موقع صاحبها تحت مجهر وكالات الأمن السيبرانية الصينية إضافة لحظر الصفحة، وسيكون وصول الشرطة السرية إليه مسألة وقت لا أكثر.
في نهاية العقد الألفيني الأول، ومع عدد مستخدمين للإنترنت يتجاوزُ حاجز نصف مليار، وتزايد سريع بأعداد مستخدمي فيسبوك ليلامس سقف 800 مليون صيني، وصعوبةٍ كبرى في مراقبة النشاط الإلكتروني المتزايد للصينيين، انتقل خبراء الأمن إلى حظر فيسبوك كاملا عام 2009، ثم تبعه حظر لأباطرة العالم الرقمي الآخرين كـ "تويتر" و"يوتيوب" و"أمازون" و"إنستغرام" وآلاف المواقع الأخرى بمرور الوقت، لتكونَ الرقابة المحكمة والمستمرة على الويب، وصولا للسماح بالتطبيقات ضعيفة الخصوصية مثل "الويب شات" بمواصلة العمل، وإدخال تطبيقات صينية بديلة يمكن رقابتها وإحكام السيطرة عليها، وهي لمسات الحزب الأخيرة على ما يمكن تسميته بـ "السلطوية الشبكية" بحسب تعبير الأكاديمي الأميركي "ريبيكا ماكينون"، أو بـ "الجدار الناري الصيني العظيم"(8) بحسب الحكومة الصينية.
فأسوة بسورها العظيم الذي حمى الإمبراطورية من هجمات الخارج، أطلقت الصين جدارها الناري لمحاصرة "خونة الداخل" والذين تم تعريفهم وفق أدبيات الحزب الشيوعي بأنهم "كل مخالف لرؤيته"، حاجبة عنهم آلاف المواقع الإلكترونية مع كمّ هائل من المعلومات، وبرغم ذلك، فإنه حسب تقرير لنيويورك تايمز فإنّ معظم الصينيين، بما في ذلك ذوو التعليم العالي، راضون في الغالب عن الأخبار والمعلومات المتاحة لهم، وبالرغم من أن برامج البروكسي تسمحُ للناس بالقفز على "جدار النار" واستكشافِ الإنترنت العالمي؛ لكن غالب الصينيين يشعرون بالسعادة تجاه العالم الذي توفرهُ لهم الإذاعات والمنشورات المرخصة من الدولة.
المواطن الصالح
لدى تسلم "تشي جين بينغ" الرئاسة عام 2013، وتحت عنوان "مكافحة الفساد"، وجد مليون صيني أنفسهم في السجون في إطار حملة أمنية استهدفت التخفيف من الاحتقان الشعبي ضد العديد من الممارسات غير القانونية لشركات مملوكة للدولة، حملة احتفت بها قاعدة عريضة من الصينيين، ووُصفَت في الآن نفسه من قِبل مُنتقدين بتطهير لفناء الحزب الخلفي من المنافسين المحتملين، وللمجتمع من المثقفين المخالفين لرؤية الحزب، وهو أمر فُسِّرَ بأنه خطوة لجلب جيل أكثر ولاء للقيادة العليا.
الرئيس الصيني، تشي جين بينغ (رويترز)
في الفترة نفسها، وبعد العنف الذي نجم عن تجاربَ مبكرة لنظام التصنيف جنوب الصين قبل عامين من تولي "بينغ" الرئاسة، عزا القائمون على نظام "العيون الثاقبة" -للصحافة محدودة الوجود- إنشاءه لأهداف مكافحة الجريمة وتحقيق الرفاهية للشعب، ولأن الخط الأيديولوجي للحزب يتبنى محاصرة الأديان، فقد نظم الإعلام الرسمي حملات دعائية استهدفت تشويه أقليتي التبت والإيغور، لتُصور عمليات النظام العسكرية ضدهما حربا مشروعة لإحلال الأمان والحفاظ على مبادئ الاشتراكية التي جلبت الازدهار للصين.
ظلت تلك البروباغندا مُسلطة من قِبل وسائل الإعلام المحلية والإنترنت المتاح ما دون الجدار الناري لشهور طويلة متواصلة وصولا لوقتنا الحالي، وشيئا فشيئا، بدأ الصينيون يربطون بين الازدهار والأمان من جهة ووجود شبكة من الكاميرات تتبعُ حركاتهم من جهة أخرى، وغدت الفيديوهات التي تُبث من الكاميرات الأمنية، بشكل متواصل ومباشر على الإنترنت، مادة للتعليق مُركِّزَة على أنشطة المارة ونمط الملابس، فيما غاب أي ذكر للخصوصية. (9)