جولة في "جاويدْ منزلْ"
كانت زيارة "جاويد منزل" من أهم مقاصد رحلتي إلى لاهور، ترسُّمًا لآثار إقبال وأنفاسِه، بعيدًا عن تجريدات الكتب النظرية الوافرة التي قرأتها عنه. و"جاويد منزل" هو الاسم الذي اختاره إقبال وزوجته "سردار" للبيت الجميل الذي شيَّداه. وقد تضمَّنت هذه التسمية تورية، حيث إن معنى كلمة "جاويد" في اللغة الأوردية هو "الخلود"، كما أن "جاويد" هو الاسم الذي اختاره إقبال لابنه جاويد إقبال (1924-2015م). وبذلك يكون للتسمية الأوردية "جاويدْ منزلْ" معنيان: "دار الخلود"، و"منزل جاويد". ويبدو أن إقبالًا كان يحب التورية باسم ابنه جاويد، فقد عنون أحد دواوينه بعنوان: "جاويد نامه"، وتُرجم هذا الديوان إلى العربية بعنوان "رسالة الخلود"، لكن بعض الأدباء اعتبره "رسالة إلى جاويد" موجَّهة من إقبال إلى ابنه، والتورية تتَّسع للمعنيين، وما أظنُّ إقبالًا إلا قصدهما معا. وقد نقل إقبال ملكية البيت بالاتفاق مع زوجته "سردار" إلى ابنهما جاويد قبيل وفاة سردار بقليل. وكان من أسباب ذلك -فيما يبدو- إحساسهما بقرب الرحيل، فأصبح المنزل منزلَ جاويد، واقعًا وقانونًا، لا مجازًا وتوريةً.
أمام المدخل من بيت إقبال المسمَّى "جاويد منزل" (الجزيرة)
ورغم أن البيت سُمِّي تفاؤلا "دار الخلود" -في أحد المعنيين لتسميته- فإن سردار وإقبالًا لم يُعمَّرا فيه كثيرا. فقد انتقلا إلى المنزل يوم 20 مايو/آيار 1935م، وتوفيت سردار بعد انتقالهما إليه بثلاثة أيام فقط، يوم 24 مايو/آيار. أما إقبال فقد توفي بعد نحو ثلاث سنين من الانتقال إلى المنزل الجديد، يوم 21 أبريل/نيسان 1938م. وقد أنفقت سردار من مالها الخاص لشراء الأرض التي شِيد عليها البناء، فأصرَّ إقبال على أن تكون ملكية البيت لها. ثم نقلت هي ملكية البيت -بعد ظهور أمارات المرض عليها- إلى اسم ابنهما جاويد. وربما كان من دوافعها إلى ذلك وجود أخ أكبر غير شقيق له هو أفتاب إقبال (1898-1979م). وكان أفتاب في الأربعين من عمره حين توفي أبوه إقبال، بينما كان جاويد يومذاك في الـ14 من عمره، وشقيقته منيرة في الثامنة من عمرها.
شِيدَ "جاويد منزل" في شكل فيلا فسيحة، بيضاء اللون، ذات مدخلين أماميٍّ وجانبيٍّ، بأعمدة وأقواس عند مدخليْها، أضفتْ عليها مسحة من ملامح العمارة الإسلامية الهندية والأندلسية. وقد أقام جاويد إقبال وشقيقته منيرة في المنزل بعد وفاة والديهما، وأقام معهما بعض أقاربهما، ومربِّيتهما الألمانية الوَفيَّة دُورِيس أحمد.
زرتُ "جاويد منزل" ثلاث مرات خلال الأيام الخمسة التي مكثتُها في لاهور. ويتألف المنزل من قسمين: قسم أمامي ذو مدخل رئيسي، وقد صُمِّم لاستقبال الضيوف وأعمال إقبال، وقسم خلفي ذو مدخل جانبي، وهو مخصص للأسرة. وقد قررت الحكومة الباكستانية، في الذكرى المئوية لميلاد إقبال عام 1977م، تحويل "جاويد منزل" إلى "متحف العلامة إقبال"، وافتُتح المتحف رسميا عام 1981م.
معرض لشهادات إقبال الجامعية في "جاويد منزل" (الجزيرة)
ويجد الزائر للبيت/المتحف اليوم معالم من حياة إقبال الشخصية معروضة في مناحيه. منها: سجادة صلاته، ومسوَّدات كتبه ودواوينه بخط يده، وشهاداته الجامعية. كما يجد مقتنيات شخصية منها ثياب، ونعال، ونظارات، وساعة يدوية، وخاتم. وقد عُلِّقت على أحد جدرانه الداخلية سجَّادة كبيرة مهداة من ملك أفغانستان نادر شاه (1883-1933م) الذي كان يكنُّ توقيرا كبيرا لإقبال. وقد استدعى هذا الملك إقبالًا إلى أفغانستان في أكتوبر/تشرين الأول 1933م، ليستشيره في الإصلاح التربوي في بلاده، وما لبث أن اغتيل الملك وماتت الفكرة معه. وفي غرفة نوم إقبال في "جاويد منزل" يجد الزائر سريره الذي كان ينام عليه، وعليه توفي فجر يوم 21 أبريل/نيسان 1938م. وقد ضُبِطت الساعة الجدارية على لحظة وفاته، وهي الرابعة وأربع دقائق فجرًا.
وكان علي بخش، خادم إقبال الملازم له منذ أيام الدراسة، هو آخر الناس عهدًا به، حيث توفي بين ذراعيه. وهو الذي وصف لنا اللحظات الأخيرة من حياته. ومنها أن إقبالًا رفض استعمال أدوية الألم تلك الليلة قائلا إنه لا يريد أن يضيع فرصة الإحساس بـ"تجربة الموت الفريدة"، وأنه أشار بأصبعه إلى صدره لحظة وفاته وقال: "هاهنا"! وهو ما يذكِّر بالحديث النبوي: "التَّقوى هاهنا".
وقد روت المربية دوريس أحمد أن علي بخش جاء فجرًا إلى الغرفة التي تنام فيها هي ومنيرة، وأخبرها بوفاة إقبال، ثم هرعوا إلى غرفة نوم إقبال، حيث "كان وجهه هادئا جدا، وكأنما تحرَّر من كل الآلام… كانت منيرة تجلس في حِضني، وجاويد يجلس بجنبي، وكنا نبكي جميعا. وبدَا لي ذلك اليوم أحلكَ أيام حياتي".
وعلى جدران "جاويد منزل" الداخلية صورٌ لإقبال وعائلته. منها صورته وهو يصلي بمسجد قرطبة في إسبانيا، وصور والده نور محمد (1837-1930م) ووالدته إمام بيبي (ت 1914م)، وأخيه الشيخ عطا محمد (1859-1940م)، وصور النسوة الثلاث اللائي تزوجهن. وكانت أُولَى هؤلاء النسوة بالترتيب الزمني هي كريم بيبي التي زوَّجه أبوه إياها عام 1893م، وأنجب منها ابنته معراج (1896-1915م) التي لم تُعمَّر طويلا، ثم ابنه أفتاب، ولم تنجح حياتهما الزوجية، لاختلاف الشخصية والمكانة. فقد كان إقبال يوم زواجه منها في الـ16 من عمره، وهو شاب مغمور، ينتمي لأسرة ريفية متواضعة الحال، "وهْو لا يملك إلا مَبْدأهْ" بتعبير الشاعر أمل دنقل (1940-1983م). وكانت هي في الـ19 من عمرها، وتنتمي لأسرة أرستوقراطية ثريَّة. كما كانت صاحبة "عقلية عجيبة، وطبيعة غريبة" -على حدِّ وصْف أحد الكتاب الباكستانيين- فعاملت إقبالًا بخشونة واستعلاء، ربما لأنها لم تدرك قيمته. ولعلها يصدق عليها قول الشاعر أمل دنقل في القصيدة ذاتها:كان في كَفَّيَّ ما ضيَّعتُهُ … في وُعُود الكلمات المُرْجَأهْ
كان في جنبَيَّ لمْ أدْرِ بهِ … أوَ يَدْرِي البحر قدْرَ اللُّؤلؤهْ؟
أما زوجُته الثانية وهي مختار بِيغُم التي اختارتها له أمه، فتزوجها عام 1913، وكانت "رقيقة القلب، حليمة الطبع"، كما يقول جاويد إقبال في كتابه: "النهر الخالد" عن سيرة والده. وقد توفيت عنده عام 1924 دون ذريَّة. وأما زوجته الأخيرة فهي سردار بِيغُم التي تزوجها عام 1913 أيضا، بموافقة زوجته الثانية، وأحبها حبا عميقا، وعاش معها أكثر من عَقدين، إلى حين وفاتها عام 1935. وهي والدة ابنه جاويد إقبال، وابنته منيرة إقبال التي لا تزال على قيد الحياة، وعمرها الآن 93 عاما.

سردار بِيغُم.. زوجة إقبال ووالدة جاويد ومنيرة (مواقع التواصل)
وفي هذا السياق، نشير إلى أن إقبالًا وقع في غرام مدرِّسته الألمانية الشابة إيمَّا وِيغِيناسْتْ (1879-1964) خلال مقامه بألمانيا لإعداد رسالة الدكتوراه بجامعة ميونيخ عام 1907م، وهم بالزواج منها. وكانت إيمَّا تدرِّسه اللغة الألمانية، وقد استعان بها إقبال على فهم "الديوان الشرقي" للشاعر الألماني الرومانسي العظيم جوهان غوته (1749-1832م) الذي أُعجب به إقبال أيَّما إعجاب، وحرص على قراءته في لغته الأصلية، ثم كتب ديوانه "رسالة الخلود" جوابًا له، وتأثُّرًا به. وقد نظم إقبال في إيمَّا غزلًا عذريا رقيقا، وكاتبها برسائل غرام لطيفة، يقول في إحداها إنه نسي لغته الألمانية، باستثناء كلمة واحدة، هي كلمة "إيمَّا".
وفي إحدى تلك الرسائل يعزِّي إقبالٌ إيمَّا في وفاة أبيها، ويشرح لها معنى قول المسلمين "إنا لله وإنا إليه راجعون" عند حلول مصاب بهم، ويحاول مواساتها بقول شاعرهما المفضَّل غوته: "إن الموت يفتح الطريق لمزيد من النور، وهو يُقِلُّنا إلى العوالم التي نقف فيها وجها لوجه مع الجمال المطلق والحقيقة المُطْلقة". ثم يذكِّرها بالأيام الجميلة التي كانا يتدارسان فيها معًا شِعر غُوته، قائلا: "لا أزال أذكُر الزمن الذي كنت أتدارس فيه أشعار غوته معكِ، وأتمنَّى أنك لا تزالين تذكرين تلك الأيام السعيدة التي كنا فيها قريبين جدًّا بعضنا من بعض".

إيمَّا.. مدرِّسة إقبال الألمانية التي أحبها وهمَّ بالزواج منها (مواقع التواصل)
وقد عزَم إقبال وإيمَّا على الزواج، لكن أسرتها منعتها من الانتقال إلى الهند، وامتنع إقبال عن الحياة في أوروبا. فالتزامه بهموم شعبه وأمَّته لم يسمح له بالركون إلى الحياة المرفَّهة في الغرب والاستقرار هناك. ويبدو أن كلا منهما قد خلَّف فراغا في قلب الآخر، فظلت "إيمَّا" متعلقة القلب بإقبال لسنين، ثم تطوَّعت في الصليب الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولى، وماتت من غير زواج، رغم أنها عاشت عمرا مديدا. وظل إقبال متعلق القلب بها بضع سنين، إلى أن تزوج سردار عام 1913م، فسدَّت فراغ قلبه.
وفي إحدى غرف "جاويد منزل" عاشت المربية دُورِيْس أحمد، صحبة ابنة إقبال الصغيرة منيرة. ودُوريس هي سيدة ألمانية كانت تقيم في الهند مع أختها، إلى أن طلب منها إقبال -بعد سنة من وفاة سردار- أن تتولى إدارة شؤون منزله، ورعاية جاويد ومنيرة اللذين فقَدا أمهما في عمر مبكر. وقد أوصى إقبال السيدة دوريس أن تبقى مع جاويد ومنيرة بعد وفاته إلى أن يكبرا، فوفَّت بوصيته أحسن الوفاء، ولازمتهما بعد وفاة إقبال 24 عاما، بتفان وإخلاص، فاعتبروها أمَّهما، واعتبرتهما ولديها. بل ظلت على صلة وثيقة بأولاد إقبال وأحفاده حتى نهاية حياتها.
وقد ألَّفتْ دُوريس أحمد كتابا وجيزا بالإنجليزية عن السنتين اللتين عاشتهما مع إقبال في "جاويد منزل"، بعنوان "إقبال كما عرفتُه"، وضمَّنت كتابها مُلحًا لطيفة، وملاحظات ثمينة، عن شخصيته وحياته اليومية. ومن ذلك مثلا:
- أن رجلا عربيا زار إقبال مرة، فطلب منه إقبال أن يتلو عليه من آيات القرآن الكريم، وطلب منها إحضار الطفلين جاويد ومنيرة لسماع التلاوة، وكان إقبال يبكي بحرقة، ويرتعد بقوة، من شدة التأثر بتلاوة القرآن الكريم.
- أن إقبالا بعد وفاة زوجته سردار غرق في أحزانه، ولم يحتمل قلبه بعد ذلك أن يدخل الغرف الداخلية المخصصة للأسرة، من شدَّة حزنه عليها. فاكتفى بالغرف الأمامية من المنزل، وكان يدفع إيجار تلك الغرف لابنه جاويد إلى أن رحل عن الدنيا.
- وأن إقبالا كان يمقُت الخمر مقتا شديدا. وكان شديد التواضع، عفَّ اللسان، فلم تره يشتم أحدا إلا مرة واحدة، اشتدَّ فيها غضبه، وذلك حينما اكتشف أن رجلا من السيخ زار "جاويد منزل" وهو يخبئ في ثوبه قارورة خمر.

دوريس أحمد تحمل حفيد إقبال، منيب، أيام طفولته (مواقع التواصل)
- وأن الطفلة الصغيرة منيرة قالت لها مرة: "عمَّتي، قولي من فضلك لا إله إلا الله. قالت: فقلتُ لا إله إلا الله، فصفَّقتْ منيرة بيديها مبتهجةً، وقالت لي: الآن أصبحتِ مسلمة، وسأسمِّيك فاطمة." وحينما روت دوريسْ القصة لإقبال ابتهج بها كثيرا.
- وأنها عاتبتْ منيرة بشدة في حضوره مرة، فاستدعاها منفردة بعد ذلك، وأخبرها أن ما فعلته من تأديب الطفلة أمر صحيح، ثم طلب منها أن لا تفعل ذلك مرة أخرى في حضوره، لأنه يجرح مشاعره، فقلبه لا يحتمل معاتبة منيرة.
- ولا عجب في ذلك، فقد كان إقبال رقيق القلب، جيَّاش المشاعر، كما كان عطوفا على الأيتام، حريصا على رعايتهم، وكانت ابنته الصغيرة يتيمة الأم. وقد تولى إقبال رئاسة مؤسسات لرعاية الأيتام، ومن أشهر قصائده المبكرة قصيدتا "دموع اليتيم" و"حديث اليتيم إلى هلال العيد" اللتان كتبهما عاميْ 1900 و1901م على الترتيب.