جغرافيا الحروب... دور الطبيعة في النصر العسكري
لها تأثير حاسم بالنتيجة النهائية للمعارك رغم أهمية الأسلحة والقيادة والتدريب

منذ فجر التاريخ الإنساني تشكل المعلومات الجغرافية عنصراً مهماً من عناصر النزاع العسكري... كيف ذلك؟
"الجغرافيا هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول، لأنها أكثر ديمومة، إذ يأتي الرؤساء والوزراء ويذهبون، وحتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها"، هذا ما قاله برنارد ديفوت في كتابه "مسار الإمبراطورية" (the course of empire) إذ عند البحث عن أثر الجغرافيا في الأعمال العسكرية، ستجد أن هنالك علماً منبثقاً من جغرافيا السياسة الـ"جيوبوليتكس" واسمه الجغرافيا العسكرية.
تعرف مدرسة الخرائط التابعة لوزارة الدفاع الأميركية الجغرافيا العسكرية على أنها "ميدان متخصص من ميادين الجغرافيا، ويتناول المظاهر الطبيعية والبشرية التي يمكن أن تؤثر في تخطيط العمليات العسكرية وتنفيذها"، إذ شجع أحد رؤساء اتحاد الجغرافيين الأميركيين في خطاب له عام 1917، علماء الجغرافيا على أن يضعوا معلوماتهم وخبراتهم العلمية تحت تصرف حكوماتهم ليساعدوها في شن حرب ناجحة.
تأثير حاسم
تمثل الجغرافيا عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية، حيث تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية، وتحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسة على الجبهة.
وتهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الأرض التي تجري عليها العمليات العسكرية، ومنذ فجر التاريخ الإنساني تشكل المعلومات الجغرافية عنصراً مهماً من عناصر النزاع العسكري، وتتخذ العمليات العسكرية طابعاً جغرافياً لأنها تجري على موقع ما، ولذلك الموقع بيئته الطبيعية المميزة ومناخه، إذ تمتد جبهة القتال حتى منشأ الإمداد والتموين عبر الأجواء والمحيطات، وتتألف أساساً من منظور جغرافي من الوقت والمسافة وطبيعة الأوضاع السائدة ضمن إطار ذلك الوقت وتلك المسافة.

للجغرافيا لها تأثير حاسم على النتيجة النهائية التي تسفر عنها الحرب أو المعركة (بيكسلز)
وعلى رغم أن الأسلحة والقيادة والتدريب وتخطيط المعركة تؤثر إلى حد كبير في الحملات، فإن الجغرافيا لها تأثير حاسم في النتيجة النهائية التي تسفر عنها الحرب أو المعركة، لذا ينبغي أن يضع المخططون العسكريون هذه العلاقة الجوهرية نصب أعينهم عند التخطيط للعمليات العسكرية.
أشكال الدول
يؤثر الشكل الجغرافي في توجيه سياسة الدول الخارجية، هذا ما تحدث عنه الدكتور قاسم الدويكات في كتابه "الجغرافيا العسكرية"، إذ قال إن الشكل إما يمنحها قوة تعزز مكانتها العسكرية أو أن يضعف قوتها ويهدد صمودها، فالدول ذات الامتداد الطولي الشمالي- الجنوبي مثل تشيلي والنرويج والسويد وملاوي، أو ذات الامتداد الشرقي- الغربي مثل روسيا وبنما، إضافة إلى مشكلات السيطرة الداخلية التي يفرضها مثل هذا الامتداد الطولي، فإن الشكل يقف عائقاً كبيراً أمام عملية الدفاع عن حدود تلك الدولة في فترات الحرب، ويتوجب على القوات المسلحة لتلك الدول حماية حدود طويلة.
بينما يمتاز الشكل المتراص أو المتماسك المندمج الأطراف الدائري أو المربع بقصر الحدود قياساً بالمساحة الكلية لأرض الدولة، ويسهل هذا الشكل عملية السيطرة على أجزاء الدولة، ومن أمثلتها فرنسا ومصر وليبيا، إذ يسهل هذا الشكل على الجيوش السيطرة الداخلية على أنحاء الدولة، كما يسهل عملية الدفاع عنها، إضافة لتوفيره عمقاً استراتيجياً للمناورة العسكرية في الحرب.
ويوجد شكل يسمى المشتت أو المجزأ أو المقطع، وفيه تتكون الدولة من عدد من الأجزاء غير المتصلة، أو المنفصلة عن بعضها بعضاً بواسطة البحر أو بواسطة دول أخرى، ومن أمثلتها إندونيسيا وماليزيا وإيطاليا، ومن مساوئ هذا الشكل للدول صعوبة السيطرة والدفاع عنه ضد أي تهديد خارجي، كما يسهل قطع أي جزء من أجزائها عن المركز الأم في الحرب.
أما الشكل الرابع فهو غير المنتظم، وفيه تتداخل بعض أقاليم الدولة داخل دولة أخرى على شكل قطاعات وأصابع أو انبعاج حدودها للداخل ليسمح لإقليم دولة أخرى مجاورة بالتغلغل داخل حدودها، ومنها دولة الكونغو الديمقراطية وميانمار، فعدم الانتظام وتداخل الحدود يربك العملية الدفاعية، إذ يسهل قطعها عن الدولة الأم وعدم قدرتها على إخماد العصيان والثورات فيها، كما تفتقد للعمق الاستراتيجي.
وهناك ما يعرف بالدول المحتواة التي تحتويها دول أخرى بحيث تكون محاطة من جميع الاتجاهات ومنها الفاتيكان ودولة الأفارقة الزنوج في قلب جمهورية جنوب أفريقيا الوسطى، وهذا الشكل يعاني وضعاً اقتصادياً وعسكرياً هشاً لكونها تحت رحمة دول أخرى.
وتختلف الدولة المغلقة عن المحتواة في أنها تفتقر إلى منفذ بحري ويحيط بها عدد من الدول، فوجود المنفذ البحري يمنح الدولة قوة عسكرية واقتصادية في زمن الحرب، ومن هذه الدول مالي والنيجر وأوزباكستان والنمسا والبارغواي والأردن.
الدفاع في العمق
يعد حجم الدولة أحد عناصر قوتها الجغرافية زمن الحرب وفي الأعمال العسكرية، على رغم أنه لا يوجد حجم معين يمكن اعتباره مثالياً، لكن يرى أصحاب الفكر الـ"جيوبولتيكي" أن البقاء في المستقبل هو للدول ذات الرقعة الجغرافية الواسعة، بل إن دول العالم ستدرك أن اتساع الرقعة الجغرافية هي إحدى دعائم قوتها العسكرية، وهذا ما دفع الجغرافي جون هيرز إلى وصف الدول الصغيرة الحجم بأنها كيانات هشة ضعيفة وتفتقر إلى مقومات الدفاع عن نفسها، وعليه فإن عناصر بقائها تكمن في طلب الحماية والعون من جيرانها من خلال الارتباط معهم في تكتلات وأحلاف عسكرية إقليمية ودولية، وهو ما أطلق عليه هيزر اسم العالمية في نظريته "الدولة الإقليم".

تراعي الجغرافيا العسكرية العوائق الطبيعية مثل التضاريس والمناخ (بيكسلز)
وأطلق علماء الـ"جيوبولتيك" الألمان على اتساع رقعة الجغرافيا اسم "الدفاع في العمق"، فقد انهارت الدول ذات المساحة الصغيرة أمام الكبرى في الحرب العالمية الثانية، حيث استسلم الجيش الهولندي أمام الألماني بعد أربعة أيام من بدء الهجوم عليه، في حين صمد الروس الذين استندوا إلى عمق استراتيجي كبير أشهراً طويلة أمام جيش هتلر، فقد نجحوا في استخدام مبدأ تسليم الأرض لكسب الوقت نظراً لاتساع العمق الجغرافي لبلادهم.
في البر والبحر والجو
في كتاب سمير سبيتان وعنوانه "الجغرافيا العسكرية"، يتحدث عن التخطيطات الـ"جيوعسكرية" في البر والبحر والجو، يذكر أنه غالباً ما يكون الهدف من الحرب البرية الضغط المباشر على أفراد الشعب المعادي بتدمير وسائل المقاومة لديه والسيطرة على مراكز القوى التي يعتمد عليها، بمعنى أن الهدف الرئيس من الحرب البرية تحطيم جيش العدو عن طريق تدمير مراكز الصناعات الحربية والمدنية والمراكز التجارية باعتبار أنها تحد من قدرة العدو على القتال، وإشعاره بأنه غير قادر على إحراز أي نصر عسكري وكشف أنه غير قادر على الحفاظ على أراضيه أمام شعبه، مما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لدى الشعب واستسلامه أمام العدو.
تحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسة على الجبهة التي تتوزع عليها القوات بشن هجوم مباشر على العناصر المعادية بعد تحديد مناطق الضعف فيها، حتى تتمكن من الدخول إلى أراضيها أو التسلل من حولها للوصول خلف صفوفها لقطع طريق النقل والمواصلات، بالتالي شل حركات الإمداد والتموين إليه، وتراعي الجغرافيا العسكرية في ذلك العوائق الطبيعية مثل التضاريس والمناخ.

تحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة التي تتوزع عليها القوات بشن هجوم المباشر على القوات المعادية (بيكسلز)
أما في الحرب البحرية فتقوم الجغرافيا العسكرية بتحديد المسارات البحرية والاستفادة من التيارات البحرية إذا كان الإبحار في اتجاهها، أو تجنبها إذا كان خط السير في اتجاه مضاد لها، كما تهتم بدراسة العوائق التي تؤثر في المناورات البحرية بخاصه ما يتعلق بالظروف المناخية مثل الأعاصير والضباب وأثره في حجب الرؤية، كما تهتم بتحديد أماكن الشعاب المرجانية وجبال الجليد حتى تتجنبها السفن أثناء الملاحة البحرية، إضافة إلى أنها تحدد أعماق البحار والمحيطات على خرائط تعرف بالخرائط البحرية وتدرس المد والجزر وحركات الأمواج واتجاهاتها.
وتهدف الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية إلى مهاجمة السواحل وإنزال القوات عليها لتقوم بدورها في تدمير مراكز العدو الاستراتيجية والحيوية، أو الاستيلاء على مصادر الثروة الموجودة مثل ما كان يحدث في الحروب الاستعمارية، كما تهدف إلى حماية سواحل الوطن من الهجوم.
أما في الحرب الجوية فيطوع المخطط العسكري الحقائق الـ"جيوعسكرية" لإنجاح المهام الجوية، وقد شهد العالم تطوراً كبيراً وسريعاً في ميكنة الحرب ونقل المتفجرات وتوسع القدرات الفضائية، وكذلك ثورة المعلومات وتطور أنظمة تحديد المواقع، فلم تعد مهام سلاح الجو تقتصر على الإسناد القريب ونقل القطعات والسلاح والذخيرة والمؤن فحسب، بل أصبح دوراً محورياً وأساسياً في حسم المعركة، خصوصاً في ظل التفوق التكنولوجي الجوي الذي قد يؤمن سيادة جوية مطلقة أو تفوقاً جوياً ساحقاً، مما يمكنها من اقتحام الدفاعات الجوية وتنفيذ المهام خلف خطوط العدو وفي أعماق أراضيه.
كما يهدف البحث الـ"جيوعسكري" إلى السيطرة على الفضاء والفراغ الجوي وتأمين قدرة المتصديات الجوية على كشف ومعالجة وتدمير الطائرات المعادية، أو في الأقل مطاردتها وحرمانها من استخدام المجال الجوي الحيوي، ما يحقق سيادة جوية أو تفوقاً جوياً ساحقاً، وهو أفضل درجات التامين المطلوبة للمعركة خصوصاً في حال وجود فرق في القدرات الحربية والتفوق التكنولوجي للطرفين، وبهذا يؤمن سلاح الجو السيطرة على قطاعات العدو البرية والبحرية.
المصدر:
