وعلى الأرض، فإن بولندا قد تسلمت في يونيو/حزيران 2023 الدفعة الأولى من دبابات أبرامز التي طلبتها من الولايات المتحدة، لتصبح أول دولة أوروبية تقوم بتشغيل هذه المركبات.
وفي يوليو/تموز 2021، أعلنت بولندا عن شراء 250 دبابة أبرامز مقابل 4.7 مليارات دولار، وبعد عام واحد في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا وافقت بولندا على شراء إضافي لـ116 دبابة مستعملة من طراز أبرامز والمعدات المصاحبة لها في عقد بقيمة 1.4 مليار دولار. (إلى جانب ما يمتلكه البولنديون بالفعل من دبابات ليوبارد الألمانية الشبيهة ويصل عددها إلى 200).
وتعد "أبرامز إم 1" (M1 Abrams) الآن واحدة من أثقل الدبابات في الخدمة، حيث تزن نحو 62 طنا متريا (ثقل الدبابة علامة تميز)، وهي حاليا الدبابة القتالية الرئيسية لجيش الولايات المتحدة، تستخدم الدبابة مدفعا رئيسيا أملس من نوع "راينميتال" (Rhein****ll) بعيار 120 ملم، وتحمل أكثر من 40 طلقة للبندقية الرئيسية، وتستخدم عادة نوعين رئيسيين من الذخيرة: طلقات خارقة للدروع، وأخرى متعددة الأغراض.
وقد جُهِّزت هذه الدبابة الثقيلة بدرع "شوبهام" متطور يوفر دفاعا قويا ضد الطلقات الخارقة للدروع والأسلحة المضادة للدبابات، ما يعطيها نقطة تفوق في المعارك على الأرض. أضف إلى ذلك أن خزانات الوقود والذخيرة تكون في حجرات منفصلة لحماية الطاقم من خطر انفجار ذخيرة الدبابة في حالة تلف الخزان.
وإلى جانب ذلك كان وزير الدفاع البولندي قد وقَّع ثلاثة عقود في أغسطس/آب الماضي مع المجموعة البولندية للأسلحة المملوكة للدولة لشراء 700 مركبة مدرعة من أنواع مختلفة، بقيمة نحو 250 مليون دولار، عادة ما تنتشر المركبات المدرعة مع الدبابات على الأرض لتتعامل مع المشاة وتحيّد صواريخهم المضادة للدبابات والخارقة للدروع، والدبابات تخترق الثغرات في خطوط العدو لدعم دخول المدرعات في المقام الأول. كل هذا ولم نتحدث عن إعلان بولندا في مارس/آذار الماضي عن نيتها للحصول على 1400 من مركبات المشاة القتالية البرمائية من طراز "بورسوك" محلية الصنع.
وبالطبع فإن ما سبق يحتاج الجنود إلى إدارته، وتمتلك بولندا خطة لذلك أيضا، حيث ترغب البلاد في تجنيد نحو 150 ألف جندي إضافي خلال العقد المقبل، الأمر الذي سيرفع عدد الجنود الكلي للجيش البولندي إلى 300 ألف جندي بحلول عام 2035، من خلالهم ستتمكن البلاد من بناء 6 فرق مدرعة، وهي وحدات عسكرية قائمة بذاتها ومجهزة بمزيج من دبابات أبرامز والمدرعات السالف ذكرها والمشاة والمدفعية والمهندسين ووحدات الدعم الأخرى، ومُصمَّمة للعمل في مجموعة متنوعة من البيئات القتالية، وهي قادرة على المشاركة في العمليات الهجومية والدفاعية.
ولدعم تلك الفرق تنوي بولندا الحصول على 8 بطاريات باتريوت ضمن صفقة مع الولايات المتحدة بقيمة 15 مليار دولار أُعلن عنها في يونيو/حزيران 2023، وهو نظام الدفاع الجوي والصاروخي الأساسي للجيش الأميركي، صُمِّم في البداية بوصفه نظاما مضادا للطائرات، لكن النسخ الأحدث منه قادرة على الاشتباك مع الصواريخ الباليستية
وصواريخ كروز والذخائر المتسكعة (الدرون الانتحارية) وحتى الطائرات المقاتلة.
ويُعَدُّ باتريوت واحدا من أكثر أنظمة الدفاع الجوي الأميركية تقدما، تصل صواريخه إلى ارتفاع أقصاه 24200 متر، ويسير بسرعة 5022 كيلومترا/ساعة، وإلى جانب ذلك توفر مجموعة الرادار الخاصة بمنظومة باتريوت القدرة الدقيقة للكشف عن الأهداف وتتبعها، يصل مدى نظام الرادار إلى 100 كيلومتر، ويمتلك القدرة على تتبع ما يصل إلى 100 هدف في وقت واحد، ويمكن أن يوفر بيانات توجيه لما يصل إلى تسعة صواريخ في آنٍ واحد.
ولغرض المقارنة، فإن دولا مثل فرنسا وألمانيا تمتلك فقط فرقتين مدرعتين، أما بريطانيا فتمتلك واحدة فقط، في مقابل 6 فرق من هذا النوع تطمح بولندا لبنائها كما أسلفنا، ستجد أن هذا الفارق واضح في كل التجهيزات البولندية على كل المستويات، وما تحدثنا عنه في هذا التقرير ليس إلا أمثلة عن بعض العلامات المميزة في سيل من الصفقات البولندية لتحديث كل وحدات الجيش بقيمة إجمالية تجاوزت 130 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى ثلاثة أضعاف هذا الرقم، يجري الأمر بسرعة شديدة وعجيبة لدرجة أن بحثا قصيرا ستُجريه في أي وقت عن أخبار بولندا لا بد أن يخرج بصفقة عسكرية تمت خلال الأيام القليلة السابقة لهذا التاريخ!
ومع هذا التسارع العسكري، يبقى السؤال قائمًا: هل نحن فعلًا أمام مارد أوروبا الجديد؟ رغم أن بولندا لا تمتلك الكثير من القوة الناعمة في أوروبا، فإنها تعمل حاليًا، إلى جانب التطوير العسكري، على تقوية تحالفاتها الموجودة بالفعل، فضلًا عن كونها عضوًا
بالاتحاد الأوروبي.
حيث تُمثِّل مجموعة فيشغراد، وهي تحالف ثقافي وسياسي وعسكري لأربع دول في وسط أوروبا، وهي التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا، فرصة كبيرة للبولنديين لخلق مكانة في المنطقة.
وأما مبادرة البحار الثلاثة، وهي منتدى يضم ثلاث عشرة دولة في الاتحاد الأوروبي تمتد على طول المحور الشمالي الجنوبي من بحر البلطيق إلى البحر الأدرياتيكي
والبحر الأسود في وسط وشرق أوروبا، تنظر بولندا إلى مبادرة البحار الثلاثة على أنها منظمة سياسية وليست مجرد منتدى اقتصادي، وتتوقع أن تكون كتلة موحدة لدول أوروبا الوسطى والشرقية تُمثِّل رادعا واعدا ضد أي محاولات للتوغل الروسي.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن العامل الأكبر الذي لا يمكن تجاهله: الحرب الروسية على أوكرانيا، التي بشّرت فور وقوعها بتحوُّل جيوسياسي كبير في أوروبا ينقل مركز ثقل حلف شمال الأطلسي من فرنسا وألمانيا إلى دول مثل بولندا وجيرانها في منطقة البلطيق. والواقع أن التحركات البولندية لتطوير قدراتها العسكرية لا بد أنها مرتكزة على تلك النقطة بشكل رئيس، بل ربما كانت بولندا تنتظر تلك اللحظة!
وفي الحقيقة، إن خطط بولندا لتطوير جيشها سابقة للحرب الروسية على أوكرانيا، لكنها تسارعت وتضخمت بسببه لا شك إلى مستوى قياسي، وكانت الحكومة تطمح بقوة إلى تعزيز المكانة العسكرية للبلاد بأي ثمن رغم كل الانتقادات، وبالتالي فإن ما فعلته الحرب الروسية على أوكرانيا هو أنها سرّعت بشكل أو بآخر، أو ربما برّرت كل ما فعلته بولندا وما ستفعله مستقبلا.
ونتحدث هنا عن دولة قُمعت على مدى مئات الأعوام وتغيرت حدودها بكثافة نادرا ما يمكن أن تراها في هذا العالم، احتُلَّت وقُسِّمت أكثر من مرة وسقط اقتصادها مرات متتالية، وأخيرا باتت تمتلك واحدا من أقوى الاقتصادات في العالم مع حكومة قومية متشددة وعدو هائل بات واقفا الآن على حدودها الشرقية، فما الذي يمكن أن ننتظره من هذه التركيبة الفريدة، وهل يمكن أن يؤدي التصعيد الروسي تجاه بولندا إلى انزلاق أوروبا بقيادة بولندا إلى حرب عالمية ثالثة؟