بعد رد الناتو "الأيديولوجي" بشأن أوكرانيا.. ما سيناريوهات حل أزمة الصراع الجيوستراتيجي بين الغرب وروسيا؟
في ظل تصاعد توقعات الغرب لغزو روسي محتمل لأوكرانيا، والخوف من حرب قادمة، كيف يمكن فهم البيئة الجيوستراتيجية للصراع بين روسيا والغرب؟ وما الدوافع الروسية من وراء هذا التصعيد؟ وهل نجحت استراتيجية روسيا باللعب على "حافة الهاوية" أو ما يسميه الغرب "التضليل الروسي" في الوصول إلى لحظة التفاوض مع الغرب؟ وما السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة؟
ما سيناريوهات لعبة عض الأصابع بين روسيا والناتو على الملعب الأوكراني؟ (الأناضول)
31/1/2022
لم تسفر جولات الحوار التي جمعت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن في جنيف، والمحادثات الروسية مع حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) في بروكسل، عن اختراق مهم حول مجمل القضايا المطروحة بين الجانبين، وعلى رأسها الأزمة المتصاعدة في أوكرانيا، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من التعقيد للأزمة، وتنامي فرص لجوء روسيا للخيار العسكري لحل الأزمة، إلا أنها في الوقت نفسه لم تنه فرص الحلول غير العسكرية، بما في ذلك التوصل إلى تفاهمات من شأنها تجاوز التصعيد المتبادل بين الجانبين.
وتراقب الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عن كثب تحركات روسيا على الحدود مع أوكرانيا، في ظل إعلان موسكو عدم رضاها عن الرد المكتوب، الذي قدمه الجانب الأميركي بشأن مقترحاتها حول توسع الناتو شرقا؛ إذ قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن رد حلف الناتو على الضمانات الأمنية التي طلبتها بلاده كان ردا "أيديولوجيا".
وفي ظل تصاعد توقعات الغرب لغزو روسي محتمل لأوكرانيا، والخوف من حرب قادمة، كيف يمكن فهم البيئة الجيوستراتيجية للصراع بين روسيا والغرب؟ وما الدوافع الروسية من وراء هذا التصعيد؟ وهل نجحت إستراتيجية روسيا باللعب على "حافة الهاوية" أو ما يسميه الغرب "التضليل الروسي" في الوصول إلى لحظة التفاوض مع الغرب؟ وما السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة؟
الخلافات الجيوستراتيجية بين الغرب وروسيا
تعود جذور الأزمة بين روسيا والغرب إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة في بناء نظام عالمي جديد يراعي مصالحها بشكل خاص، إذ عمدت الولايات المتحدة إلى تعزيز مركزية حلف الناتو في ضمان أمن ومصالح الغرب. ووجدت روسيا المنهكة وقتئذ نفسها خارج النادي الغربي، ولم تراع مصالحها بشكل كاف، ونُظر لها أميركيا بأنها قوة آيلة للتضاؤل.
إلا أنه منذ مطلع الألفية الجديدة بدأت روسيا في شق مسار لمقاربة جديدة تقوم -بالدرجة الأولى- على مواجهة هذا الواقع، في ظل تحسن في أوضاعها الاقتصادية، وامتلاك قيادتها الإرادة السياسية والدعم الشعبي، الذي تمثل في تولي الرئيس فلاديمير بوتين زمام القيادة في روسيا، وهو الذي أثبت امتلاكه لرؤية تختلف عن تلك التي تبناها سلفه في السعي إلى الانضمام للنادي الغربي، والالتحاق بركب النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
وشكل الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 لحظة فارقة في التعبير عن التوجهات الروسية الجديدة، كما يشير رد فعل موسكو على الأزمة في أوكرانيا والمواجهة اللاحقة مع الولايات المتحدة وانهيار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إلى الاتجاه نفسه.
في المقابل، عمل الناتو على توسيع نفوذه في 4 موجات من انضمام دول أوروبا الشرقية للحلف حدثت كلها في عهد بوتين، تمثلت في ضم دول البلطيق وسلوفاكيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا عام 2004؛ وكرواتيا وألبانيا عام 2009؛ والجبل الأسود عام 2017؛ ومقدونيا الشمالية عام 2020.
ولم يكن بمقدور روسيا في ذلك الوقت صد هذه الموجات، لكنها باتت تشعر الآن أن الفرصة أمامها لتحسين موقفها في حدودها الغربية، واستباق خطوات أميركية جديدة في السعي لتطويقها وإخضاعها لمعادلة الأمن الغربي على حسابها.
وعليه، حددت روسيا مجالها الحيوي ليشمل حدود ما بعد الاتحاد السوفياتي. وبنت في سبيل ذلك إستراتيجيتها القائمة على "منع نشوء بيئة معادية في مجالها الحيوي"، وما يعنيه ذلك من ضرورة أن يتخلى جيرانها في شرق أوروبا عن أفكار الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وشكلت أوكرانيا خصوصية في ذلك كونها دولة -من وجهة نظر بوتين- تلعب دورا رئيسيا في تعزيز أو تهديد أمن روسيا.
دوافع روسيا من التصعيد في أوكرانيا
يسعى الكرملين -عبر الحشد غير المسبوق لقواته على الحدود مع أوكرانيا، وتصعيد الأزمة مع الغرب- إلى إجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لمناقشة مجموعة أوسع من القضايا.
الأمر الذي نجح جزئيا عندما دفع حشد عسكري مماثل، في مارس/آذار 2021، الرئيس جو بايدن إلى دعوة بوتين لحضور قمة في جنيف. وهو ما اعتبرته روسيا اعترافا بدرورها كقوة رئيسية لا يمكن تجاوزها في ما يخص ضمان أمن الغرب. وهو ما عبر عنه بايدن حين أعلن أن روسيا كانت "خصما جديرا". ومؤخرا، جرت لقاءات على مستوى وزراء الخارجية، ومشاركة روسيا في محادثات مع الناتو في بروكسل.
إلا أن ذلك لا يعد الدافع الوحيد لدى بوتين الذي يسعى -عبر مواصلة الضغط على حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين- إلى إحداث تباين في الموقف الغربي يتيح لروسيا تعزيز إستراتيجيتها حول أمنها الحيوي في حدودها الغربية والجنوبية، في ظل تباين حاصل في المعسكر الغربي حيال السبل الأنسب للتعامل مع الأزمة في أوكرانيا.
فترى الأطراف الأوروبية ضرورة مواصلة السبل الدبلوماسية الساعية لتخفيف التوتر، ومنع وصول الموقف للحظة صدام عسكري سيجري في حال وقوعه على أراضيها، وسيسبب لها أزمات أمنية واقتصادية ويؤثر على إمدادات الطاقة من روسيا.
كما ترى هذه الأطراف أنها في غنى عن أزمات جديدة، وهي تحاول التصدي لأزمات مثل وباء كورونا، وأزمة المهاجرين، ومعالجة آثار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الاستحقاقات الانتخابية الداخلية في العديد من الدول الأوروبية.
إضافة إلى ذلك، تسعى روسيا إلى تعزيز مكانتها في نظام دولي جديد آخذ في التشكل، في ظل إعادة تموضع إستراتيجي أميركي، وانسحابات عسكرية أميركية من "ساحات القتال" التي خاضتها مطلع الألفية الجديدة.
وتركز روسيا في مسعاها هذا على تعزيز أهميتها لدى الصين على وجه الخصوص، التي باتت تمثل مركز الاهتمام الإستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، حيث ستكون الصين بحاجة إلى تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها.
وقد أسهمت نتائج الأزمة في كازاخستان مؤخرا في تعزيز أهمية روسيا لدى الصين في منطقة آسيا الوسطى، التي تعد ممرا حيويا لمشروع الصين "الحزام والطريق"، وهو ما يشير في الوقت ذاته إلى مركزية الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.
ولا يخلو تحرك بوتين من دوافع تتعلق بالصعيد الداخلي الروسي؛ إذ يسعى بوتين إلى إحكام مسار روسيا الإستراتيجي تجاه الغرب، وحشد النخبة الروسية خلف هذا التوجه، نظرا لاقتراب مرحلة توريث السلطة في روسيا في ظل تقدم بوتين في العمر، فمن المحتمل أن نكون في العقد القادم أمام قيادة جديدة لروسيا، لذلك يهدف بوتين لضمان استمراراها في المسار الذي وضع أسسه.
السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة
سيناريو تفاوضي
ملامح السيناريو التفاوضي -وهو المفضل لدى روسيا- بدأت في الظهور عمليا في اجتماع الرئيسين في جنيف، رغم اقتصار نتائج الاجتماع على بدء المشاورات الروسية الأميركية حول الاستقرار الإستراتيجي والأمن السيبراني، وعدم تطرقها للأزمة بشكل مباشر.
في الوقت نفسه، وصل مسار مينسك الهادف إلى إنهاء الصراع بأوكرانيا إلى طريق مسدود، بل كانت نتائجه عكسية مع قيام الناتو بزيادة حجم ووتيرة تدريباته العسكرية في منطقة البحر الأسود، في مقابل الحشود الروسية على الحدود مع أوكرانيا.
في هذا الصدد، نجح تكتيك روسيا المتمثل في إجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. لذلك، بناء على هذا النجاح الأولي، قدمت موسكو للأميركيين وحلفائهم مسودة معاهدة واتفاقية تحدد مطالب روسيا من الغرب بشأن مسألة الأمن الأوروبي.
وفي نقاش إمكانية تطبيق المطالب الروسية، يعد مطلب موسكو الرئيسي بوقف توسع الناتو في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق حيز التنفيذ بحكم الواقع، لأن الولايات المتحدة وحلفاءها ليسوا مستعدين لتحمل مسؤولية الدفاع العسكري عن حلفائهم، أوكرانيا وجورجيا، ومن غير المرجح أن يتغير ذلك.
وبالنسبة للغرب، لا تكمن المشكلة في النزاعات التي لم يتم حلها في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ودونباس، بقدر ما تكمن في احتمال مواجهة مباشرة مع روسيا في الأماكن التي تمتلك فيها موسكو مصالح أمنية حقيقية، ومستعدة لاستخدام القوة لحمايتها إذا لزم الأمر. في غضون ذلك، ليس لدى الولايات المتحدة مثل هذه المصالح أو الاستعداد لاستخدام القوة في سبيلها.
وانطلاقاً من ذلك، من المرجح عدم قبول انضمام أوكرانيا أو جورجيا في الناتو ما دام أن روسيا قادرة على منع ذلك. وعليه، فإن التهديد المتمثل في وجود أوكرانيا في الناتو هو في الواقع تهديد وهمي تفاوضي في وجه المطالب الروسية مرتفعة السقف.
وتبقى فرصة حضور الناتو في أوكرانيا في شكل أسلحة هجومية، وقواعد عسكرية، ومستشارين عسكريين، وإمدادات أسلحة، وما إلى ذلك أكثر صعوبة، كما أن للولايات المتحدة قدرات عسكرية في إطار الدرع الصاروخي حول روسيا، وحاملات الطائرات كفيلة باستغنائها عن وجود مباشر في أوكرانيا.
وعليه، قد لا يمثل إنشاء قواعد الصواريخ أولوية عسكرية بالنسبة لواشنطن، كما يمكن لروسيا مواجهة ذلك من خلال تزويد الغواصات الروسية التي تبحر بالقرب من البر الرئيسي للولايات المتحدة بصواريخ "تزيركون" (Tsirkon) الروسية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وهو ما يعد محددا مهما لدى الولايات المتحدة في حاجتها إلى مزيد من الوجود في الجوار الروسي.
في المقابل، سيكون من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- الاتفاق على إنهاء التعاون العسكري والتكنولوجي العسكري بين أوكرانيا والولايات المتحدة والناتو. كما تسعى موسكو إلى الاتفاق على القيود المفروضة على طبيعة الأسلحة التي يمد الغرب بها كييف، وهو سقف قد يكون مقبولا لروسيا.
ولكي يحدث ذلك، من المرجح أن تطالب الولايات المتحدة روسيا بوقف تصعيد الاستعدادات العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا. ومع ذلك، ستصر روسيا أن يكون أي خفض للتصعيد مصحوبا بقيود على مناورات الناتو بالقرب من حدود روسيا في أوروبا.
إن مطالبة موسكو بسحب جميع البنية التحتية العسكرية المنتشرة في الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية في الناتو مستحيلة، بقدر ما هي غير ضرورية إلى حد كبير، في ما يتعلق بأمن روسيا في ظل التطور العسكري الذي أعلنت عنه موسكو بقدرتها على تحريك صواريخ تزيركون على السواحل الأميركية، كما أن عدة آلاف من الجنود الأميركيين الموجودين في المنطقة لا يشكلون تهديدا خطيرا على روسيا، رغم تحفظها على وجودها إلا أن الأمر قابل للتفاوض.
ويبقى مطلب العودة لوضع ما قبل عام 1997 -بانسحاب دول شرق أوروبا التي انضمت للناتو- المطلب الوحيد عالي السقف، الذي قد يكون وضعه على الطاولة كورقة للتفاوض، بحيث يمكن التراجع عنه لاحقًا، مما يدل على استعداد موسكو لتقديم تنازلات.
وقد تكمن احتمالية أكبر للتوصل إلى اتفاقات في الدخول في نقاش حول مجموعة المقترحات والمطالب الروسية، والاستعداد لمتابعة مسارات متوازية بين الجانبين. ولكن يبقى عامل الثقة بإمكانية التوصل إلى اتفاقيات ترضي المصالح الأمنية لروسيا محوريا في ذلك.
فرص تنفيذ الولايات المتحدة لمطالب روسيا بالشكل والإطار الزمني اللذين حددتهما موسكو معدومة تقريبا. وتبقى احتمالية الاتفاق ممكنة من الناحية النظرية حيال اثنتين من القضايا الرئيسية الثلاث، وهما عدم التوسع وعدم الانتشار. لكن أي اتفاقيات من هذا القبيل ستكون ذات طبيعة سياسية، وليست ملزمة قانونا، نظرا لتعقيدات المشهد الداخلي الأميركي، ورغبة الولايات المتحدة في تجنب خلاف داخل المعسكر الغربي.
سيناريو الإجراءات الغربية أحادية الجانب
يمكن لحلف الناتو، بمبادرة من الولايات المتحدة، الإعلان عن وقف طويل الأمد لعملية ضم للأعضاء الجدد، على سبيل المثال. الأمر الذي أشار إليه بايدن مرارا إنه من غير المرجح أن تتم الموافقة على عضوية أوكرانيا في الناتو في العقد المقبل.
يضاف إلى ذلك التوقف عن نشر صواريخ متوسطة المدى وأسلحة هجومية أخرى، ليس كجزء من اتفاق مع روسيا، ولكن كاتفاقية حكومية دولية بين روسيا والولايات المتحدة فقط، والتي لا تحتاج إلى التصديق عليها في الكونغرس.
يبقى الكلاشينكوف على الكتف
في الوقت الحالي، لا يبدو أن أيا من مسارات اتفاقيات بشأن معالجة مطالب روسيا قد أخذت حيزا في الواقع، رغم بقاء فرصة ذلك متاحة.
ومع ذلك، بالنسبة لبوتين، فإن فشل مسار المفاوضات قد يكون له أهمية من نوع ثاني، حيث عمل بوتين على تكريس رؤيته بشأن مخاوفه الأمنية في أوروبا، وقد بات ذلك واضحا للجميع، ويتطلب من الغرب التعامل مع هذه الحقيقة. وهي في الواقع الأهداف الإستراتيجية للسياسة الروسية في أوروبا.
وإذا لم تستطع روسيا تحقيق هدفها بالوسائل الدبلوماسية، فستحتاج إلى اللجوء إلى أدوات وأساليب أخرى تعتمد في جوهرها على استخدام القوة العسكرية.
المصدر : الجزيرة نت - د. عبد الله العقرباوي