في عام 1923؛ وُلدت الجمهورية التركية الحديثة في ظل تحديات هائلة خارجية وداخلية، حيث تركت خسائر أراضي الدولة في أواخر العهد العثماني نُدبة لا تُمحى في وعي مؤسسي الجمهورية. هذه الصدمة، التي تجاوزت حدود التأثير النفسي، رسّخت ثقافة إستراتيجية مهووسة بسلامة الحدود والدفاع عن البر، على حساب أي رؤية بحرية طموحة.
لذلك؛ هيمنت القوات البرية على الرواية الإستراتيجية للجمهورية الناشئة، وحجزت القوات الجوية موقعها لتكون ثاني أذرع القوة، أما البحرية فبقيت في الظل، مُقيدة بضيق الموارد الاقتصادية وانعدام الاستثمار الجاد.
إلى جانب ذلك؛ أدى انضمام تركيا إلى
الناتو عام 1952 إلى تثبيت هذه المقاربة، إذ جعل وجود ا
لأسطول السادس الأميركي في البحر المتوسط والشبكة الدفاعية للحلف، تطوير قدرة بحرية تركية مستقلة أمرًا غير ذي أولوية. واقتصرت مهمة البحرية حينها على ردع أي تهديد سوفياتي للمضايق الداخلية، مع حضور محدود في بحر إيجه ضمن قيود النزاع المزمن مع اليونان على الجزر والمياه الإقليمية.
كما كرّس النهج الانعزالي ل
مصطفى كمال أتاتورك، القائم على شعار "سلام في الداخل، سلام في العالم"، التركيز على تثبيت أركان الدولة الحديثة وتنميتها داخليًّا بدل الدخول في سباق بحري أو مغامرات خارجية.
لكن صيف 1974 كان نقطة الانعطاف التاريخية. بتنفيذ تركيا عملية "السلام" في قبرص، عبر إنزال بحري وجوي متزامن، ردا على انقلاب القبارصة اليونانيين المدعوم من المجلس العسكري في أثينا، سيطرت على نحو 40% من الجزيرة، ولم يعد البحر منذ ذلك اليوم مجرد حاجز دفاعي بل أصبح منصة لإبراز القوة.
ولاحقًا في الثمانينيات والتسعينيات، دفعت تحولات البيئة الإقليمية تركيا نحو مراجعة أوسع لإستراتيجيتها. فمع اختفاء التهديد السوفياتي المباشر، سقط أحد المبررات التقليدية التي تدفع أنقرة للإنضواء الكامل تحت المظلة البحرية للناتو. وفي المقابل، برزت تحديات جديدة أكثر تنوعا؛ توترات استجدت مع اليونان حول الجرف القاري والمياه الإقليمية، ونزاعات على السيادة الجوية والبحرية في بحر إيجة، وملف قبرص الذي ظل بؤرة صراع مزمنة.
في تلك الأجواء، تبنت هيئة الأركان التركية ما عُرف بـ"إستراتيجية الحربين ونصف"، وهي عقيدة دفاعية هجومية تفرض على الجيش الاستعداد لخوض حربين متزامنتين على الجبهتين الشرقية والغربية، إضافة إلى "نصف حرب" داخلية ضد التمرد الكردي. اعتبرت هذه الإستراتيجية موقع تركيا، المحصور بين البحرين الأسود والمتوسط، نقطة ضعف. ومن ثم وفقا لهذه الإستراتيجية؛ على البحرية أن تستعد لمواجهة عمليات هجومية متزامنة في البحرين الأسود والمتوسط، مع الحفاظ على تفوق تكتيكي في بحر إيجة الشديد الحساسية.
ومع دخول الألفية الجديدة؛ بدأت هذه التحولات تتشكل في ممارسات أكثر وضوحا وتأخذ طابعًا أكثر استقلالية عن الناتو، متأثرةً بتدهور العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بعد تباطؤ ملف انضمام أنقرة، وتزايد الخلافات مع واشنطن حول قضايا مثل حرب العراق 2003. بالتوازي، أثارت اكتشافات الغاز في شرق المتوسط شهية أنقرة لفرض وجود بحري دائم في مناطق متنازع عليها، مما دفعها لزيادة الإنفاق الدفاعي البحري وتطوير برامج تصنيع محلي للسفن الحربية.