كيف هزمت فلسطين نابليون عند أسوار عكَّا؟
3/10/2021
كان "الفرنساوية يزجرونهم زجر الغنم، ولم يزل هول الحرب في إمداد، والكرب في اشتداد، وتتناثر الرؤوس، وتهلك النفوس، ويُقتل الرجال والنساء والأطفال، وكنتَ تنظرُ واحدا يُقتل، وواحدا جديلا، وآخر دمه يسيل، والآخر بالأسر ذليل.. وفي ذلك الحين مات من العساكر ما ينيف عن الخمسة آلاف، ومن أهالي البلد ألفين، وأصبحت مدينة يافا لم يجد بها أحدا معافى، ولا بها مستترا".
(المؤرخ "نقولا الترك" في وصفه للمجزرة المروعة التي ارتكبها نابليون في مدينة يافا)
في عام 1523، تكامل سقوط مصر والشام في يد العثمانيين، وقضوا على السلطة السياسية والسيادية للدولة المملوكية التي عمَّرت أكثر من قرنين ونصف القرن، شهدت فيها بلاد الشام ومصر والحجاز معهم نجاحات وخيبات، وعانى الأهالي في أواخر أيامهم من الجور والعسف والأزمات الاقتصادية المتتالية التي جعلت دخول العثمانيين نجدة لهم على صعيد الأمن السياسي والاقتصادي.
وإذا كان العثمانيون استطاعوا السيطرة المطلقة على الأقطار العربية ومنها مصر والشام في عصر السلطان سليم شاه الأول (ت 1526) وابنه السلطان سليمان القانوني (ت 1566)، فإنهم سمحوا في الوقت عينه لبقايا المماليك بالانخراط العسكري في بنية الدولة العثمانية في مصر، والاستفادة من قواتهم العسكرية وتنظيماتهم المسلحة في حفظ الأمن ما داموا يقبلون بالشرعية الدستورية والقانونية والسياسية للعثمانيين، لكن مع مرور الوقت، واستغلال المماليك ضعف قبضة العثمانيين على مصر، صاروا أعمدة الحكم الحقيقي في البلاد؛ إذ سيطروا على مفاصل مصر الرئيسية، وضاعفوا أعدادهم بشراء مماليك جدد، وكوَّنوا جماعات مسلحة صارت أقوى من الفِرَق العثمانية.
بلغت قوة المماليك في مصر العثمانية ذروتها مع الأمير علي بك الكبير (ت 1771) وذراعه اليمنى الأمير محمد بك أبو الذهب (ت 1775) ثم مع الثنائي الأخير إبراهيم بك (ت 1816) ومراد بك (ت 1801)، حيث تمكَّن علي بك الكبير من الاستقلال عن الدولة العثمانية بصورة شبه رسمية، وأرسل مملوكه محمد بك أبو الذهب ليسيطر على بلاد الشام وعاصمتها دمشق، واستطاع بالفعل في غضون أشهر قليلة السيطرة على بلاد الشام، وكان يهدف إلى إعادة دولة المماليك القديمة كما كانت، لولا أن العثمانيين أغروا أباه بمنصب شيخ البلد في مصر ودعمهم اللا محدود له؛ فانقلب على أستاذه علي بك واستطاع القضاء عليه.
لكن وفاة محمد بك أبو الذهب بعد قليل جعلت مصر تخضع لمملوكَيْه الأمير مراد بك والأمير إبراهيم بك طوال أكثر من عشرين سنة، وكما يقول صاحب كتاب "مصر في القرن الثامن عشر": "حكم مراد وإبراهيم مصر فترة طويلة لعلها لم ترَ في تاريخها كله حكما أسوأ منه ولا حاكمين في قسوتهما وظلمهما وأنانيتهما وجهلهما، وقد فُرضت في عهدهما الضرائب الفاحشة التي لم يرَ الناس لها مثيلا من قبل حتى شملت بائعي الفسيخ والمخلل كما يقول الجبرتي".
وقد عاش المصريون بالفعل في القرى والمدن حياة قاسية في ظل هذه الضرائب الفاحشة، وكما يصف أحمد حافظ عوض في كتابه نابليون بونابرت: "وصل الحال بالفلاح المصري أنه لم يجد سكنا يُقيم فيه فكان يلتحف العراء، أما ذوو اليسار منهم فكانوا يعيشون في أكواخ من الطين ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوى الخبز المصنوع من الذرة والحلبة يتناوله بالبصل النيء أو الأعشاب التي يجمعها من جروف الترع ويطبخها بغير لحم. أما البذخ والترف والذهب والفضة والملابس المزركشة والغلائل الرقيقة والخيل المسومة والسلاح المنمق بالجواهر فلم يخرج عن دور المماليك وأتباعهم وذوي المحسوبية عليهم".
وفي ظل هذه الحالة من التنازع الداخلي والتخلُّف الحضاري العسكري على أقل تقدير، وفي ظل صعود المنافسة العالمية بين الإنجليز الذين تمكَّنوا من احتلال الهند وبين الفرنسيين الراغبين في احتلال مصر لضمان السيطرة الملاحية وإضعاف الإنجليز؛ شهدت أوروبا قيام الثورة الفرنسية التي غيَّرت مجرى التاريخ الأوروبي والعالمي الحديث عام 1789، وكان لهذه التغيرات الإستراتيجية أثرها المباشر على مصر وبلاد الشام.
صعد نجم نابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي الفذ الذي أدرك أهمية الشرق الأوسط وفي قلبه مصر والشام في صراع النفوذ العالمي بين إنجلترا وفرنسا، وأن التحرُّك للسيطرة على هذين الإقليمين أصبح ضرورة إستراتيجية فرنسية، فكيف استطاع نابليون احتلال مصر؟ وكيف تحطَّمت آماله عند أسوار عكا فأسقطته فلسطين كما أسقطت غيره من الطغاة والجبارين؟
نابليون والبحث عن المجد
نابليون بونابرتبزغ أثناء الثورة الفرنسية نجم الضابط الشاب نابليون بونابرت الذي قاد جيوش فرنسا واستطاع الظفر في العديد من المعارك، لا سيما في إيطاليا التي أقام فيها مجموعة من الجمهوريات الصديقة لبلاده، كما قضى على أرباب الثورة المضادة من القوى الرجعية والملكية القديمة سنة 1795، ونتيجة لذلك، راحت سُمعة نابليون ترتفع في أوساط الشعب والطبقة الثورية الحاكمة الجديدة، ولما كان عُمره أقل من أربعين سنة، والقانون حينذاك يقف حائلا دون انضمامه إلى الطبقة الحاكمة في "حكومة الإرادة"، فقد أُثر عنه أنه قال يوما: "إني لا أريد البقاء حيث أنا إذ لا عمل لي هنا، وإذا بقيت فإني سأنهار في وقت قريب. فكل شيء هنا يذوب ويضمحل، وقد بدأ مجدي يذوب، إن أوروبا القارة الصغيرة لا مجد فيها إلا بمقدار".
لم تكن القارة الأوروبية الصغيرة والعجوز تلبي طموحات نابليون الذي كان دائم التفكير في إنشاء إمبراطورية شرقية، وقد قال يوما: "سأنفخُ روح الثورة في سوريا التي أرهقتها مظالم الجزَّار (حاكم فلسطين وجنوب الشام)، وأزحف إلى دمشق فحلب، فينضم المظلومون والموتورون إلى جيشي في كل مدينة وقرية أصل إليها، ثم أدق باب القسطنطينية وأطيح بالإمبراطورية التركية، وأنشئ في الشرق إمبراطورية عظمى جديدة تكون موضع إعجاب الأجيال المقبلة، وتُحدِّد مركزي في التاريخ، وقد أعود إلى باريس عن طريق أدرنة وفيينا بعد أن أكون قضيت على البيت المالك في النمسا".
ولما كان رواد الإستراتيجية الفرنسية منذ القرن السابع عشر وما قبله يتطلَّعون إلى الشرق وفي القلب منه مصر وبلاد الشام للسيطرة عليهما إما رغبة في ثرواتهما، وإما للحد من نفوذ المنافسين التقليديين لهم مثل الهولنديين والبريطانيين، أوفدت حكومة الملك لويس السادس عشر سنة 1777 "البارون ده توت" إلى مصر بدعوى إجراء بحوث فلكية وعلمية، ولكنه كُلِّف في الحقيقة بعمل خرائط لشواطئ مصر وسوريا وجزر اليونان وكريت، كما كُلِّف بدراسة النقاط الواقعة على ساحل البحر المتوسط لا سيما بين الإسكندرية وأبو قير، ومعرفة أي نقطة تصلح لإنزال الجنود إلى البر، كما كلَّفت الحكومات الفرنسية آخرين بدراسة السويس والقاهرة، وذلك في الوقت الذي كان العثمانيون فيه في أضعف قوتهم، ومماليك مصر يخوضون حربا خاصة بين مراد بك وإبراهيم بك على جهة، وبين إسماعيل بك أحد مماليك علي بك الكبير شيخ البلد الذي قتله محمد بك أبو الذهب قبل ذلك بعدة أعوام على الجهة الأخرى.
من مصر إلى فلسطين
تجمَّعت إذن المصلحة الشخصية لنابليون في طموحه للزعامة والخلود التاريخي مع طموحات فرنسا في السيطرة على الشرق، والتضييق على غريمهم اللدود بريطانيا، فانطلق على رأس الحملة الفرنسية التي تكوَّنت من 55 ألف جندي من القوات البرية والبحرية ونزلت إلى الإسكندرية في شهر يوليو/تموز عام 1798، وبعد مقاومة عنيفة تقدَّمت إلى الدلتا ومنها إلى معركة الأهرام الشهيرة في الجيزة حيث سُحِقت القوات المملوكية والعثمانية بسبب الفارق الواضح في التسليح والتقنيات العسكرية، أو كما يقول العلامة الجبرتي: "إن الطابور (الفرنسي) الذي تقدَّم لقتال مراد بك انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب، وتقاربَ من المتاريس بحيث صار محيطا بالعسكر (المملوكي المصري) مِن خلفه وأمامه، ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع".
بعد ذلك، سيطر الفرنسيون على القاهرة في 14 يوليو/تموز 1798، وظنوا أنهم تمكَّنوا من مصر، لكن فرحتهم بالنصر لم تدم إلا قليلا، إذ استطاع القائد البريطاني "نيلسون" أن يعثر على الأسطول الفرنسي في الإسكندرية، وبدأ الأسطول البريطاني على الفور في ضرب الأسطول الفرنسي الراسي ودكِّه، ليتمكَّن في 1 أغسطس/آب من العام نفسه من إبادته تماما، وكانت خسائر الفرنسيين في معركة أبو قير البحرية مقتل أميرال ورُبانيين و1700 بحار، فضلا عن تدمير معظم قطع الأسطول.
بهذه الخسارة الفادحة قطع الإنجليز خطوط الاتصال بين فرنسا وجيش نابليون في مصر، وأدرك الفرنسيون مدى الخسارة الإستراتيجية التي لحقت بهم، ولما كانت الخطة الأصلية تتمثَّل في السيطرة على مصر والشام، فإن خسارة الأسطول الفرنسي جعلت نابليون يُسرع في احتلال بلاد الشام لتعويض الضرر الذي أصاب قواته في مصر، وقد حاول أن يتقرَّب من ولاة الشام التابعين للدولة العثمانية مثل "عبد الله العظم باشا" و"أحمد باشا الجزار"، وذلك بإخبارهم أنه ما دخل مصر إلا لمعاقبة المماليك الذين تعدّوا حدودهم مع الباب العالي، وعاملوا الأهالي بالظلم والمغارم، وأهانوا التجار والمواطنين الفرنسيين في مصر، لكن محاولاته الدبلوماسية في التقرُّب من ولاة الشام باءت بالفشل.
قرَّر نابليون إذن أن يشن حملة عسكرية قوية على الشام، مُدرِكا أهميتها الاقتصادية وعلى رأسها وجود الأخشاب التي يمكن أن يُعيد من خلالها إحياء الأسطول الفرنسي من جديد في مواجهته مع البريطانيين، فضلا عن خيراتها الكثيرة مثل الحرير والأقمشة والحنطة وغيرها مما كانت تُصدِّره إلى مصر، وفوق ذلك أهميتها الجيوسياسية بالنسبة إلى فرنسا في شرق البحر المتوسط، ولتحقيق هذا الغرض أعدَّ جيشا قوامه 13 ألف مقاتل، وأبقى في مصر ما يقارب الأربعين ألفا، وأخذ معه بعض المشايخ من القاهرة ليستعين بمركزهم الديني، كما اصطحب الحرفيين والمترجمين وغيرهم، وانطلق من القاهرة في أواخر شهر يناير/كانون الثاني من عام 1799، وبلغت قواته العريش في 9 فبراير/شباط، وتمكَّنت قواته من قتل 500 جندي عثماني، وأسر 900 آخرين.
بدأت القوات الفرنسية في التوغل في فلسطين التي كانت خاضعة للوالي أحمد باشا الجزار البوسني الأصل، وهو أحد المقربين آنذاك من شيخ البلد وزعيم المماليك في مصر علي بك الكبير (ت 1773)، وقد أثبت الجزار قوة وصلابة شديدة في مواجهة خصومه ودمويته تجاههم، ولُقِّب بـ "الجزار" لهذا السبب، وقد أدرك العثمانيون قوة الجزار وأنه يمكن الاعتماد عليه في بلاد الشام الجنوبية، فعيَّنوه واليا على جنوب الشام وفلسطين وعاصمتها عكا آنذاك. وكان الفرنسيون قد استطاعوا السيطرة على خان يونس ثم غزة، وفي 3 مارس/آذار 1799 تمكَّن نابليون وجيشه من دُخول يافا والاستيلاء عليها، وارتكب واحدة من أفظع الجرائم في تاريخ فرنسا في المشرق، إذ أنزل عقوبة الإعدام بحق آلاف الأسرى الذين استسلموا طائعين.
يقول نقولا الترك (ت 1828)، كاتب نابليون بونابرت والشاهد على هذه الحملة، في كتابه "ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية" إن الحامية العسكرية لمدينة يافا بلغ قوامها ثمانية آلاف جندي، وبعد استسلامهم كان "الفرنساوية يزجرونهم زجر الغنم، ولم يزل هول الحرب في ازدياد، والكرب في اشتداد، وتتناثر الرؤوس، وتهلك النفوس، ويُقتل الرجال والنساء والأطفال، وكنتَ تنظرُ واحدا يُقتل، وواحدا جديلا، وآخر دمه يسيل، والآخر بالأسر ذليل.. وفي ذلك الحين مات من العساكر ما ينيف عن الخمسة آلاف، ومن أهالي البلد ألفين، وأصبحت مدينة يافا لم يجد بها أحدا معافى، ولا بها مستترا".