بفضل عمله الجديد مع الجيش، وجد بيرقدار الفرصة أخيرا لاختبار نظرياته ونماذجه الجديدة ميدانيا ونجح في إقناع الجنرالات بالتواجد معهم في الميدان من أجل تدوين ملحوظات مفصلة حول نوعية التقنيات المطلوبة لطائراته، وبحلول عام 2015 نجح المهندس الشاب أخيرا في إجراء عرض ناجح للطائرات بدون طيار الأكثر تطورا من طراز "بيرقدار تي بي 2″، التي جذبت انتباه الجيش التركي بشدة بعد أن نجحت خلال تجارب الأداء في إصابة هدف على بعد 8 كيلومترات باستخدام صاروخ موجه تركي الصنع، أثناء تحليقها على ارتفاع يبلغ 4 كيلومترات، وفي العام نفسه اكتسب بيرقدار خطوة شخصية كبيرة لدى الرئيس التركي بعدما تزوج من ابنته الصغرى سمية أردوغان.
زفاف ابنه أردوغان "سمية" من "سلجوق بيرقدار" (مواقع التواصل)
خلال فترة قصيرة، أصبحت طائرات بيرقدار الجديدة العمود الفقري لقوات تركيا الجوية، بفضل قدراتها التقنية المرتفعة نسبيا، حيث تستطيع طائرات بيرقدار اليوم التحليق على ارتفاع يصل إلى 24 ألف قدم (حوالي 7.3 كيلومتر) لمدة تصل إلى 24 ساعة وتتمتع بمدى متوسط يقدر بـ15 كيلومتر، مع قدرة على حمل حمولة يبلغ وزنها 55 كيلوغرام، ومع هذا التطور الملحوظ في قدرات الدرونز المحلية، قررت أنقرة الاعتماد عليها كسلاح رئيسي في قتالها ضد المنظمات الكردية في جنوب شرق البلاد وعلى حدودها مع العراق، وبحلول يونيو/ حزيران 2019 كانت طائرات بيرقدار التركية قد حققت رقما قياسيا بواقع 100 ألف ساعة طيران خلال أقل من أربعة سنوات، ووفقا لتقارير وسائل الإعلام التركية، فإن الدرونز شاركت في غارات جوية ضد المنظمات الكردية في 11 محافظة على الأقل في جنوب شرق تركيا، كما تم استخدامها في خمس عمليات عبر الحدود في سوريا والعراق، آخرها عملية نبع السلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
ومع النجاح الكبير الذي أثبتته الطائرة خاصة في العمليات التركية ضد الأكراد، قررت تركيا توسيع نطاق استخدامها الدرونز على طول سواحل بحر إيجه والمتوسط وهو ما تسبب في احتكاكات متتالية بين تركيا من ناحية وبين قبرص واليونان من ناحية أخرى، حيث اشتكت الأخيرة من أن الطائرات التركية بدون طيار حلقت مرارا وتكرارا فوق الجزر اليونانية في بحر إيجه، في حين أبدت نيقوسيا في أكثر من مناسبة تذمرها من تحليق الدرونز التركية فوق سفن التنقيب عن الغاز التي أرسلتها تركيا لاستكشاف المياه المتنازع عليها بين قبرص واليونان، وبخلاف ذلك قدمت تركيا خلال عام 2019 ما لا يقل عن 12 طائرة من طراز بيرقدار إلى حكومة الوفاق الوطني الليبي لمساعدتها في صد الهجوم الذي شنه الجنرال خليفة حفتر على طرابلس، في الوقت الذي دشنت فيه أنقرة جهودا حثيثة لترويج طائراتها بدون طيار إلى الدول المهتمة وفي مقدمتها قطر وماليزيا وأذربيجان، قبل أن تنجح بالفعل في توقيع عقد لتصدير 12 طائرة بدون طيار متطورة إلى أوكرانيا.
بفضل هذه النجاحات، اكتسبت الدرونز ثقة ومكانة كبيرة داخل الجيش، وتحولت إلى أيقونة ثقافية خارجه إلى درجة أن الرئيس أردوغان حرص بنفسه على التقاط الصور مع الطائرات بدون طيار ووضع توقيعه على بعضها، وعلى نفس الخطا سار حكام المحافظات التركية – خاصة في الجنوب الشرقي الذي يشهد تمردا من حزب العمال – الذين أصبحوا ضيوفا منتظمين على حظائر الطائرات بدون طيار لتقديم المديح وممارسة طقوس الثناء للأيقونات الجديدة للعسكرية التركية.
يلتقط أردوغان صور تذكارية مع درونز بلاده ويضع توقيعه على بعضها (وكالة الأناضول)
ونتيجة لهذا الاهتمام الرسمي والشعبي، تلقى برنامج الطائرات بدون طيار في تركيا دفعة كبيرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث تضاعف أسطول البلاد من طائرات بيرقدار من 32 طائرة عام 2017 إلى قرابة 94 طائرة قبل نهاية عام 2019 نصفها على الأقل طائرات مسلحة، وفي الوقت نفسه نما حجم أسطول طائرات "أنكا" إلى 30 طائرة على الأقل، لتتحول الدرونز إلى ركيزة أساسية لست منظمات أمنية وعسكرية على الأقل في البلاد وهي الجيش والقوات الجوية والبحرية والدرك (الشرطة العسكرية) وجهاز الاستخبارات والمديرية العام للأمن (الشرطة المدنية)، وهو ما دفع أنقرة لإنشاء شبكة خاصة من المواقع المهيأة لاستقبال الطائرات بدون طيار في جنوب شرق البلاد، وعلى طول حدودها مع سوريا وعلى سواحلها على بحر إيجة والبحر المتوسط وزودت هذه المواقع بالتجهيزات اللازمة بداية من حظائر استقبال الطائرات إلى أبراج الطيران، واليوم، يقدر إجمالي عدد قواعد الطائرات بدون طيار في تركيا بتسعة قواعد على الأقل، وتعد هذه المرافق ضرورية للغاية لتشغيل أٍطول الدرونز التركي بالنظر إلى أن مدى معظم الطائرات المسيرة التركية لا يتجاوز مائة ميل في الوقت الراهن، ومعظمها يعتمد على أنظمة الاتصالات التقليدية وليس على الأقمار الصناعية.
بيد أن طفرة الدرونز التركية لم تقتصر على الزيادة في أعداد الطائرات وقواعد الدرونز فحسب، لكن مطوري الدرونز الأتراك نجحوا في تحقيق قفزات تقنية ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة، ففي أغسطس/ آب 2018 نفذت طائرات "أنكا" أول غارة جوية يتم التحكم فيها عبر الأقمار الصناعية، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه أكملت "أنكا" أول رحلة بمحرك من إنتاج محلي، وفي عام 2019 كسرت كل من "بيرقدار" و"أنكا" سجلات التحمل الخاصة بهما وطارت كل منهما لمدة أطول من 24 ساعة، وفي العام نفسه كشف منتجا الطائرات بدون طيار الرئيسيين في البلاد "بيرقدار ماكينا" و"شركة الصناعات الفضائية التركية" عن خطط لصناعة طائرات بدون طيار عالية الارتفاع مرتفعة التحمل (HALE) باسم "أكينسي" و"أكسونغور" على الترتيب، ليضعا بذلك تركيا على مشارف حوز جيل جديد أكثر تطورا من الدرونز المسلحة.
الجيل الثالث
تعتبر الطائرة "أكينسي" على وجه الخصوص خطوة طموحة للغاية في مشروع تركيا الضخم لإنتاج الطائرات بدون طيار، فمع محيط للطائرة من الجناح إلى الجناح يبلغ 20 مترا، وزمن تشغيل يتجاوز 24 ساعة وارتفاع يتجاوز 40 ألف قدم (حوالي 15 كيلومتر) وحمولة تتراوح بين 450 إلى 900 كجم وقدرة على حمل وإطلاق صواريخ كروز طويلة المدى والقنابل الموجهة بدقة، وتجهيزات أخرى متطورة تشمل رادار متطور ونظام خاص للحرب الإلكترونية وأنظمة اتصال فضائية، فإن "أكسينسي" لن تكون فقط أول طائرة بدون طيار مسلحة طويلة المدى في أسطول الدرونز التركي، ولكنها ستجعل طائرات "بيرقدار تي بي 2″ و"أنكا" تبدو بالمقارنة معها إلى مجرد ألعاب قاتلة.
يتبع