من "ضبط النفس" إلى "بناء الردع"
عملت كل هذه التحولات كمباضع في قلب العسكرية الألمانية التي كانت أشبه بمريض يكافح في غرفة العناية المركزة. وكخطوة أولى للاستشفاء من آثار الحرب الباردة التي وجد البوندسفير نفسه أسيرا في زمانها إلى اليوم، دشنت برلين في عام 2022 صندوقا خاصا بقيمة 100 مليار يورو لدعم تحديث الجيش، وتعهدت بالوصول إلى هدف حلف الناتو بإنفاق ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني على الدفاع اعتبارا من عام 2024، مما يعني إنفاق زهاء 85 مليار يورو سنويا على الأغراض العسكرية.
وبالرغم من أن ميزانية الدفاع في الموازنة العامة لعام 2024 بلغت 51.8 مليار يورو فقط، وهو أدنى مما تعهدت به برلين، فإن إضافة مخصصات الصندوق الخاص وأسهم دفاعية أخرى وضعت ألمانيا على مشارف الوفاء بتعهداتها، وتكون بذلك قد لبت متطلبات الناتو لأول مرة منذ أوائل التسعينيات.
في غضون ذلك، أصبح سؤال تحولات "العقيدة العسكرية الألمانية" محل اهتمام متزايد، وقد جاء الإعلان العملي عن "طرفٍ" من هذه العقيدة مع تعهد ألمانيا ببناء أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، وهو ما يعني التحول من سياسات "الدفاع الجماعي" و"ضبط النفس والانكفاء على الذات" إلى عقيدة بناء الردع الألماني الخاص بمعزل عن الولايات المتحدة والناتو، وحتى عن القوى الأوروبية الحليفة.
تقع القاعدة الجديدة -وهي الأولى لألمانيا خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية- في دولة ليتوانيا بالقرب من عاصمتها، وستستثمر ليتوانيا أكثر من مليار يورو في القاعدة، وهو الأكبر في تاريخها، بينما يتوقع أن تنفق ألمانيا ما بين 6 إلى 9 مليارات يورو على بناء القاعدة التي تستوعب زهاء 5000 جندي بشكل مبدئي، بجانب 800 مليون يورو كنفقات تشغيلية سنوية، وتعمل ألمانيا وليتوانيا من أجل الوصول إلى القدرة التشغيلية الكاملة للقاعدة بحلول عام 2027.
إستراتيجية الأمن القومي الألماني الجديدة تضع روسيا بوصفها أكبر تهديد للسلام والأمن في أوروبا. (غيتي)
يُعد موقع القاعدة الألمانية الجديدة النقطة الأكثرَ إثارة للاهتمام، إذ تقع في قلب فجوة -أو ممر- "سوالكي" التي تفصل بين منطقة كاليننغراد الروسية وبيلاروسيا. وتُعتبر تلك الفجوة أضعف نقاط حلف الناتو جغرافيا، فهي الرابط بين بولندا ودول البلطيق، ومن خلال سيطرة روسيا على الممر، يمكن لموسكو أن تعزل دول البلطيق الثلاث؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا عن إمدادات حلف الناتو القادمة من بولندا.
تأتي القاعدة الألمانية ثمرة لرؤية أقرها حلف الناتو في اجتماعه السنوي بالعاصمة البولندية وارسو عام 2016 والمعروفة باسم "3+3″، وذلك بمبادرة من ألمانيا، حيث ستتولى الأخيرة دعم ليتوانيا، وبريطانيا دعمَ إستونيا، وكندا دعم لاتفيا، بينما تقدم الولايات المتحدة الدعم لبولندا، وذلك في إطار رؤية عامة للناتو لترسيخ وجوده في شرق أوروبا، عبر نشر مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في بولندا ودول البلطيق الثلاث.وتعزز تلك التحركات عقيدة "الاستجابة السريعة" للجيش الألماني بجانب "بناء الردع"، كما تؤكد القاعدة العسكرية على دور قيادي أوروبي تقوم به ألمانيا في الملفات الأمنية والعسكرية، مما يجعلها صاحبة النفوذ الأول في إقرار السياسات الدفاعية في الاتحاد الأوروبي، تماما كما هي صاحبة الكلمة العليا في الملفات السياسية والاقتصادية.
تزامن الإعلان عن القاعدة الألمانية مع تدشين إستراتيجية الأمن القومي الألماني في يونيو/حزيران 2023، وهي إستراتيجية أمنية شاملة تضع روسيا كأكبر تهديد للسلام والأمن في أوروبا. وتحدد الإستراتيجية ثلاثة مفاهيم رئيسية وتأسيسية، وهي: الدفاع، والمرونة، والاستدامة، كما تُعرّف النظامَ العالمي بأنه نظام يتسم "بالتعددية القطبية"، وتصف الصين بأنها خصم في تشكيل النظام العالمي، ولكنها في الوقت نفسه شريك "محتمل" في حل القضايا العالمية، وهي رؤية تختلف كثيرا عن رؤية أميركا إن لم تكن تتعارض معها من بعض الوجوه.
وفي السياق ذاته، تجري مناقشة على مستوى صانع القرار في ألمانيا لإنشاء أول مجلس للأمن القومي يشرف على تنفيذ الإستراتيجية الدفاعية والعسكرية، لكنّ تخوفات معارضي إنشاء المجلس في البرلمان الألماني تركز على "تركيز السلطة" في يد المستشار الألماني.
تؤكد تلك المؤشرات أن ألمانيا بدأت تأخذ خطوات أكثر استقلالية في الشأن الدفاعي، وبالرغم من أنها خطوات تتماشى مع رؤية حلف الناتو ولا تتعارض تماما مع مبدأ "الدفاع الجماعي"، فإنها تتميز بالاستباقية التي افتقرت إليها ألمانيا لعقود طويلة. كما تعزز الإستراتيجية مفهوم "الردع" أيضا، وتُعد خطوة أولى نحو بناء عقيدة هجومية تتناسب مع الشخصية الألمانية التاريخية.
وسوف تكون السنوات القليلة القادمة هي الحكَم على المدى التي ترغب برلين في الذهاب إليه، وهل سنرى مزيدا من الحضور والنفوذ العسكري الألماني في ساحات الصراع الملتهبة حول العالم أم لا.
المصدر : الجزيرة نت -
شادي إبراهيم