وقد أدَّت هذه "الإصلاحات الدينية" إلى ظهور البروتستانتية التي حملت نظرة جديدة لليهودية، واعتقدت أن الإنجيل هو عهد جديد مُكمِّل للتوراة "العهد القديم"، وأن فهم المسيحية لا يتم دون فهم اليهودية والاهتمام باللغة العبرية، ولهذا وُصفت البروتستانتية من قِبَل بعض الباحثين بأنها "تهويد للمسيحية". هذه الأفكار الدينية اللاهوتية التي رسَّختها البروتستانتية جعلت العهد القديم مرجعا أساسيا لها بكل ما يتضمنه من نبوءات حول عودة اليهود إلى فلسطين بوصفها شرطا لمجيء المسيح المُخلِّص، فظهرت عقيدة "الألفية الاسترجاعية" التي تؤمن بأهمية عودة اليهود إلى فلسطين تمهيدا للمعركة الحاسمة التي يعقبها "التطهير والانتصار" ومن ثم قدوم المسيح، وبدء "الألف عام السعيدة"[4].
ومن هذه المنطلقات نفهم أهمية الأبعاد اللاهوتية في تكوين وجهات نظر كبار الساسة الإنجليز مثل تشرشل ولويد جورج وبلفور وغيرهم في دعمهم للحركة الصهيونية في النصف الأول من القرن العشرين. ولكن الأسباب الدينية لم تكن وحدها المحرك للسياسة الإمبريالية البريطانية، إذ إن هناك أسبابا إستراتيجية قوية دفعت بريطانيا إلى إيجاد دولة لليهود تكون في فلسطين خاصة.
الهدف الإستراتيجي البريطاني
لقد أدرك البريطانيون، كغيرهم من القوى الغربية الأخرى التي شارك أسلافها في الحملات الصليبية على مشرق العالم الإسلامي فيما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلادي، أن اتحاد مصر وبلاد الشام حين يقع يكون بمنزلة الكمَّاشة التي تهيمن على الشرق الأوسط، وتقف حائلا أمام الموجات الاستعمارية الغربية العسكرية والثقافية، فضلا عن كونها قلب العالم الإسلامي، وعقله الثقافي والفكري، وخزَّانه البشري، وقد علَّمتهم عبرة التاريخ أن هذا الاتحاد يهدد المصالح الغربية في المنطقة، وللحيلولة دون قيام هذه الوحدة فإنه يجب زرع كيان يكون القلعة المتقدمة لخدمة المصالح الإستراتيجية الغربية، والبريطانية تحديدا.
البارون اليهودي ورجل المال اللورد روتشيلد (مواقع التواصل)
ولم يكن درس الحملات الصليبية في القرن الحادي عشر وحتى الثالث عشر هو الدرس التاريخي الوحيد في هذا السياق، لكن خروج محمد علي باشا والي مصر على الدولة العثمانية عام 1830 ولمدة عشر سنوات تالية، وسرعته الفائقة في توحيد مصر وبلاد الشام وحتى جنوب ووسط الأناضول، شكَّل تهديدا كبيرا للمصالح الإستراتيجية البريطانية لمستعمراتها في الهند ولأهدافها في التوغل في الشرق الأوسط. ولهذا السبب وقفت بريطانيا وروسيا والنمسا مع السلطان العثماني ضد محمد علي باشا، وهزموه وأجبروه على إبرام معاهدة لندن سنة 1840 والعودة إلى مصر والانسحاب من بلاد الشام كاملة. وفي العام نفسه في مارس/آذار أرسل البارون اليهودي ورجل المال اللورد روتشيلد خطابا لافتا إلى وزير الخارجية البريطاني بالمرستون جاء فيه:
"إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين، لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم واتحادهم. إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف نجدُ أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا، وكانت فلسطين دائما بوابة على الشرق، والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمنزلة حاجز يمنع الخطر العربي ويحولُ دونه، والهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك فقط خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقا للعهد القديم، لكنها أيضا خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الإمبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين"[5].
وقد اقتنع بالمرستون بحجج اللورد روتشيلد، فأرسل إلى السفير البريطاني في إسطنبول رسالة يشرح فيها الفوائد التي سوف يحصل عليها السلطان العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، وكان مما جاء فيها: "إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته تُشكِّل سدًّا في وجه مخططات شريرة يعدّها محمد علي أو مَن يخلفه وتحولُ دون تحقيق خطته الشريرة في المستقبل"[6].
ويمكننا أن نرى هذه الإستراتيجية البريطانية بإنشاء الدولة العازلة (Buffer State) والحرص على عدم وحدة الأمة العربية في آسيا وأفريقيا تحت راية دولة واحدة من خلال المؤتمرات الاستعمارية التي أقامتها بريطانيا مع الدول الاستعمارية الأخرى وقتها مثل فرنسا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال وغيرها لتحقيق هذه الغاية، التي تمخَّضت عن وثيقة "هنري كامبل بنرمان" رئيس الوزراء البريطاني عام 1907[7]، وهي وثيقة شكك بعض المؤرخين في مصداقيتها مثل أنيس صايغ ومحسن محمد صالح وغيرهما لعدم وقوفهم بأنفسهم عليها في الأرشيف البريطاني، مع اعترافهم أن هذا الأرشيف لا يحوي الوثائق شديدة السرية التي يترتب على نشرها تهديد لمصالح الدولة العليا.
دخول الفيلد مارشال اللنبي، القدس، 11 ديسمبر 1917. (مواقع التواصل الاجتماعي)
ومع ذلك يعترف محسن صالح، وهو مؤرخ فلسطيني أفنى عمره في دراسة القضية الفلسطينية وعلاقتها بالاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، أن هناك وثائق وكتابات أخرى تشير إلى مضامين وسياقات قريبة أو داعمة لمعطيات وثيقة كامبل بنرمان. فعندما التقى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل برئيس الوزراء البريطاني "جوزيف تشمبرلين" سنة 1902 قال له هرتزل: "إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين التي يمكن أن تكون دولة حاجزة بحيث تُؤمِّن المصالح البريطانية".
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أرسل اليهودي الصهيوني والوزير في الحكومة البريطانية "هربرت صمويل"، المندوب السامي الأول لبريطانيا في فلسطين فيما بعد، مُذكرة سرية إلى الحكومة البريطانية مطالبا إياها باحتلال فلسطين وفتح باب الهجرة والاستيطان اليهودي حتى يصبحوا أغلبية السكان، وشرح عوائد ذلك على بريطانيا. وبعد عامين ظهر وعد بلفور عام 1917 حتى قبل أن يسيطر الجنرال اللنبي على القدس وفلسطين كاملة، وكان العامل الإستراتيجي سببا رئيسيا في ذهن مَن اتخذوا هذا الوعد على أنه نقطة اتصال، ومنطقة حاجزة، وقاعدة متقدمة، ونجد مثل هذه الإشارات الإستراتيجية في تصريحات لويد جورج رئيس الوزراء[8].
والأمر اللافت أن كلًّا من فرنسا وألمانيا ثم أخيرا الولايات المتحدة قد اقتنعوا اقتناعا كبيرا بأهمية وجود دولة يهودية في فلسطين لشرذمة العالم العربي ومنع اتحاده مطلقا؛ لخطورة هذا الاتحاد على استمرار هيمنتهم المطلقة في المنطقة. ولهذا السبب نرى تأييدا أميركيا مبكرا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بالتنسيق التام مع بريطانيا، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية انسحاب الإنجليز من المنطقة ومجيء الأميركيين، قرر الكونغرس الأميركي في جلسته بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 1945 تبنِّي سياسة الرئيس "هاري ترومان" بتأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، "لأن اضطهاد اليهود المجرد من الرحمة في أوروبا أوضح الحاجة إلى وطن لهم، وحيث إن الرئيس أيَّد هذه الحاجة بالسماح لمئة ألف يهودي بالدخول إلى فلسطين، وإن تدفق اليهود إلى فلسطين قد أدى إلى تحسين أحوالها.. فإن المجلس يقرر بالإجماع أن الاهتمام الذي أبداه الرئيس في حل هذه المشكلة كان في محلِّه"[9].
وهكذا رأينا الأسباب الإستراتيجية الكبرى التي دفعت بريطانيا إلى تأييدها المطلق لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وسعيها الحثيث لإقناع القوى الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا ثم الولايات المتحدة بأهمية هذا الهدف لاستمرار بقاء مصالحهم الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها عدم السماح مطلقا لاتحاد العالم العربي وفي القلب منه مصر وبلاد الشام؛ وذلك بسيطرتهم على فلسطين وجعلها دولة محايدة تخدم المصالح الغربية فقط.
المصادر
[1] مذكرات حاييم وايزمان، مقدمة المترجم والمعد، ص20، 33.
[2] شكري عزيز: البعد الدولي للقضية الفلسطينية، الموسوعة الفلسطينية ص5.
[3] السابق ص11.
[4] فاخر شريتح: المسيحية الصهيونية ص55-62.
[5] جواد الحمد: مدخل إلى القضية الفلسطينية ص193.
[6] عبد الوهاب الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث ص27.
[7] Ronald Hyam, The Colonial Conference of 1907, pp 317-345.
[8] محسن محمد صالح: وثيقة كامبل بنرمان .. حقيقة أم مزيفة، الجزيرة نت، بتاريخ 12 سبتمبر 2017م.
[9] أحمد سعيد نوفل: دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي ص27.
المصدر: الجزيرة نت - محمد شعبان أيوب