المسيرات تغير قواعد اللعبة
لم ينشأ نجاح عملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية من العدم، بل هو جزء من ثورة أوسع في حرب المسيرات تسارعت في الصراعات الأخيرة.
ويشير المحللون العسكريون تحديدا إلى حرب مرتفعات قره باغ التي استمرت 44 يوما بين
أذربيجان وأرمينيا عام 2020 كنقطة تحول أثبتت فيها المسيرات أنها يمكن أن تكون حاسمة. في ذلك الصراع، ساهمت المسيرات في تعطيل عدد كبير من الدبابات الأرمينية والمركبات القتالية ووحدات المدفعية والدفاعات الجوية. كما أدَّى تغلغل المسيرات في عمق ناغورنو قره باغ إلى إضعاف خطوط الإمداد الأرمينية والخدمات اللوجيستية.
ووفقا لتقرير صادر عن "المركز الأوروبي للتميز في مكافحة التهديدات الهجينة" (hybrid Coe) في فنلندا، قدمت هذه الحرب "لمحة عن التأثير الحاسم الذي يمكن لقدرات الطائرات المسيرة أن تُحدثه على نتيجة الحرب. وفي غضون 6 أسابيع فقط، أثبتت قدرات حرب الطائرات المسيرة أنها العامل الهجومي الحاسم الذي غيّر قواعد اللعبة لصالح أذربيجان، "مما سمح لها باستعادة الأراضي من خصم متحصن".
وأشار التقرير إلى أن أولئك "غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم بشكل صحيح ضد نواقل الهجوم القائمة على الطائرات المسيرة تحولوا فعليا إلى مجرد ضحايا في ساحة المعركة". وبعبارة أوضح، منحت الطائرات المسيّرة حتى الدول الصغيرة ذات القوة الجوية المتواضعة (وحتى بعض التنظيمات والكيانات من غير الدول) مدى دقيقا للضربات كان حكرا في السابق على القوى العظمى، وهو تحوّل نموذجي يتردد صداه الآن في جميع الجيوش حول العالم.
عززت تجربة الحرب في أوكرانيا منذ عام 2022 هذا الدرس، حيث لم ينجح أي من الجانبين في تحقيق تفوق جوي كامل بالطائرات المأهولة، وقد أتاح هذا الجمود الجوي فرصة للطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة لملء الفراغ. وعلى إثر ذلك، استخدمت أوكرانيا وروسيا طائرات مسيّرة في جميع مستويات القتال، بدءا من المسيرات الرباعية والمروحيات الصغيرة المستخدمة للاستطلاع وإسقاط القنابل، وصولا إلى الطائرات المسيّرة الأكبر حجما والمسلحة للضربات بعيدة المدى.
وكما يلاحظ المارشال الجوي المتقاعد جوني سترينجر من القيادة الجوية المتحالفة لحلف شمال الأطلسي، فإن الطائرات المسيّرة قد "أضفت طابعا ديمقراطيا على القوة الجوية".
تاريخيا، كان التفوق الجوي حكرا على الدول الغنية التي تمتلك أساطيل من الطائرات المتطورة والطيارين المدربين، لكن "انتشار الطائرات المسيرة الصغيرة بأسعار معقولة قلل بشكل كبير من هذه العوائق". وأضاف الخبير أنه في الصراعات الحديثة، "يمكنك القيام بمعظم أدوار القوة الجوية، إن لم يكن جميعها، مقابل ثمن طائرة مسيّرة وجهاز حاسوب محمول وبعض الخيال".
وتشهد الحرب في أوكرانيا على ذلك، فمع نشر روسيا أسرابا من قاذفات "سو-34" وطائرات هليكوبتر هجومية منذ بداية الحرب، ردت
أوكرانيا بأسطول متنوع من الطائرات المسيرة -من نوع بيرقدار تركية الصنع إلى مسيرات تجارية معدلة محليا- للقيام بالمراقبة واستهداف دروع العدو، وحتى ضرب أهداف إستراتيجية داخل روسيا كما نشاهد الآن.
والنتيجة هي تكافؤ فرص في الجو أكثر بكثير مما توقعه أي شخص. وتوضح دراسة أجريت عام 2024 في "مجلة القوة الجوية" (The air power Journal) أن حرب روسيا وأوكرانيا وقبلها حرب ناغورنو قره باغ أثبتتا خطأ التوقعات بشأن سرعة حسم معركة التفوق الجوي، حيث لم يتحول أي من الصراعين إلى حملة جوية أحادية الجانب؛ بل أجبرت "الدفاعات الجوية متعددة المستويات" الطائرات المأهولة على الابتعاد، وكان للانتشار الواسع للطائرات المسيرة منخفضة التكلفة ومتعددة الاستخدامات "تأثير تحويلي، إذ زاد من سرعة القتال ومداه وفتكه والضغط النفسي الذي يسببه".
وتشير الدراسة إلى أن هذه الطائرات المسيرة أصبحت بشكل أو بآخر "نظائر للقوة الجوية" -إذ تُحدث تأثيرات مماثلة للضربات الجوية التقليدية، ولكن بتكلفة ومخاطر أقل بكثير. ويُعدّ عامل التكلفة هذا بحد ذاته عاملا مُغيّرا لقواعد اللعبة. فالطائرة المقاتلة الحديثة تُكلّف ملايين الدولارات (ولم نتحدث عن تدريب الطيارين)، وعلى النقيض من ذلك، قد تكلف طائرة هجومية صغيرة أو طائرة رباعية مروحية تجارية مُعاد تصميمها بضعة آلاف أو ربما مئات من الدولارات أو أقل.
وينتج هذا التفاوت ما يُطلق عليه الخبراء "تكلفة غير مُواتية" للمُدافع، فقد يُهدر صاروخ أرض-جو باهظ الثمن (غالبا ما يكلف من 100 ألف دولار إلى ملايين الدولارات) في إسقاط طائرة مُسيرة أرخص بكثير. وكما لاحظ المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، شهدت الصراعات الأخيرة استخدام صواريخ
باتريوت بقيمة 3 ملايين دولار لتدمير طائرات مُسيرة مُخصصة للهواة بتكلفة بضع مئات من الدولارات، وهي معادلة خاسرة حتى للجيوش الثرية.
وكتب الدكتور جاك واتلينغ، مُحلل المعهد الملكي، إن المُهاجمين الفقراء (القوات الضعيفة ماديا والدول الصغيرة وحتى المليشيات) يُمكنهم نشر أصول هجومية رخيصة بأعداد كبيرة وإرهاق الدفاعات المُتقدمة بحجمها الهائل، مُحذرا من أن الجيوش النظامية يجب أن تتكيف وإلا ستُخاطر بتبادل تكلفة غير مُواتٍ، في الحروب المُستقبلية.
وتعد قدرة أوكرانيا على إمطار قواعد روسية متعددة بـ117 طائرة من دون طيار مثال واضح: فكل طائرة أوكرانية من دون طيار (ربما تكلف بضعة آلاف من الدولارات لقطع غيارها) استهدفت طائرات حربية تساوي أضعافا مضاعفة بكثير أو هدفا حيويا آخر، وإذا استمرت هذه العمليات فإنها تمثل في أدنى الأحوال حرب استنزاف رخيصة، تتضمن إنهاك عدو متفوق بإجباره على إنفاق موارد باهظة الثمن ضد أسراب من التهديدات منخفضة التكلفة، وفي أقصاها قد تتسبب في تغير إستراتيجي في الموازين بتكلفة لا تذكر.
الحرب الهجينة
ثمة تيارات متعددة في الأوساط البحثية تعمل على تقييم الدور الذي تؤديه الطائرات المسيّرة في الحروب الحديثة، ولكل تيار منها حججه وأدلته، إلا أن البعض بات يؤكد أن المسيّرات تُعدّ من أبرز الأسلحة التي تمثل تحولا جذريا في طبيعة الحروب، وذلك لأسباب عدة، أبرزها أنها تفتح المجال أمام نمط من الحروب يُتوقع أن يسود في المستقبل، وهو ما يُعرف بـ"الحرب الهجينة"، التي تمزج بين التكتيكات النظامية وغير النظامية.
فالمسيّرات تُعد أدوات تخريب فعّالة للغاية، إذ يمكن لنماذجها الصغيرة تنفيذ مهام متنوعة، تتفاوت في مدى تعقيدها ودقتها تبعا لجودة التخطيط وذكاء التنفيذ. ويُضاف إلى ذلك أنها ليست سلاحا حصريا بيد القوى العظمى فحسب؛ فبالرغم من امتلاك بعض الدول نماذج متطورة منها، فإن التهديد الحقيقي يكمن في الطائرات المسيّرة التجارية زهيدة التكلفة، التي بات من الممكن تصنيعها محليا، ما أدى إلى انتشارها الواسع في مختلف أنحاء العالم.
وتمتاز المسيّرات بإمكانية توظيفها في مختلف ساحات القتال، وبصور متعددة (فاليوم مثلا، لم تعد الدبابة وسيلة فعّالة من دون تغطية من مسيّرة تحلق فوقها).
كما أن أسرابا من هذه الطائرات قد تُكلّف أقل بكثير من الأسلحة التي تستهدفها، ما يجعلها وسيلة فعالة للاستنزاف، وبالتالي فهي تمثل سلاحا مثاليا للقوى الصغيرة وغير التقليدية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن المسيّرات تسهم في إعادة توزيع ميزان القوة، بحيث لا تبقى القوة العسكرية محتكرة من قبل الجيوش النظامية، فضلا عن الجيوش الكبرى وحدها.
والأهم من ذلك أن المسيّرات تتكامل بشكل كبير مع التقنيات المتقدمة، كأنظمة
الذكاء الاصطناعي ووسائل الحرب السيبرانية، وحتى الاستخبارات البشرية ما يعزز من قدراتها التكيفية والتكتيكية.
ومن المؤكد أن هجمات "شبكة العنكبوت" الأوكرانية انطوت على عمل استخباراتي ضخم (وفشل استخباراتي ضخم على الجانب المقابل) تضمن تحديد نقاط الضعف لتهريب المسيرات وسائر المعدات وإخفائها لهذه الفترة الطويلة وتحديد الأهداف واختيار مسارات الحركة وتوقيت التنفيذ وغير ذلك، وهذه هي نقطة القوة الرئيسية للحرب الهجينة: القدرة على المزج بين الوسائل التقليدية وغير التقليدية لخوض الحروب.
وتذهب بعض التوقعات إلى أبعد من ذلك متنبئة أن الحروب الهجينة سوف تكون هي النمط الأساسي للمواجهات حتى بين القوى النظامية التقليدية. ومن المتوقع مثلا أن تكون مقاتلات الجيل السادس في المستقبل ليست مجرد طائرات حربية تقليدية، بل قادة رقمية لأسراب من المسيّرات، تُدار عبر أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة، وتتولى تنفيذ مهام قتالية واستطلاعية وتشويش إلكتروني، ضمن بيئة عمليات متكاملة عالية التقنية.
وفي الحرب الهجينة، يمكن للمسيرات إرهاب أو مفاجأة الخصوم في عمق مناطقه الخلفية من دون المخاطرة بالطيارين أو الغزو العلني، وتوضح ورقة عمل صادرة عن "المركز الأوروبي للتميز في مواجهة التهديدات الهجينة" أن الخصوم المتقاتلين في الحرب الهجينة يميلون إلى "تبني إستراتيجيات حرب ذات تأثير محدود للسيطرة على التصعيد والمخاطر السياسية، ومن ثم تُعدّ أنظمة الضربات الدقيقة بعيدة المدى عبر المسيرات، مثالية عمليا لدعم مثل هذه الأساليب".
ويعني ذلك أن المسيرات تصلح بكفاءة كإسلوب إنكار، أو ما يسمى "الإنكار المعقول"، ففي الحروب الهجينة، كثيرا ما تسعى الدول والجهات الفاعلة إلى تجنب ربط الهجمات بها، وتوفر المسيرات هذه الميزة من خلال إطلاقها من مواقع مجهولة أو عن طريق وكلاء، مما يُصعّب تتبع الهجوم إلى مصدره، ومن ثم تفادي المزيد من التعقيدات على الساحة السياسية.