الأسد الباكستاني المتحفز.. رحلتي إلى ديار إقبال وآثاره
لو كان امتدَّ العمر بإقبال حتى شهد ميلاد جمهورية باكستان الإسلامية، وتأمَّل ملامح خريطتها الأسَدية بعينه الصَّقْرية، لأعجبه ما تُوحي به هذه الخريطة من المعاني والظلال. (الجزيرة)
محمد مختار الشنقيطي - الجزيرة نت
24/3/2024
مِن الفَقْر أن تأتي وِفَاضُك فارغٌ ... وقد طُفتَ في تلك الرِّياض جميعِها
(سعدي الشيرازي)
تبدو لي خريطة باكستان دائما في شكل أسَد متحفِّز، منتصبِ الجسد على الضفة الشرقية لبحر العرب، يحمل أفغانستان على ظهره، ويُطلُّ برأسه الشامخ من قمم جبال الهيمالايا، وهو يتَّجه عبر سفوحها بغضب إلى الهند.
وتقع مدينة لاهور في مكان القلب من جسد هذا الأسد الباكستاني المتحفِّز، فهي حاضرة عريقة، وعاصمة لأولى الدول الإسلامية في الهند، الدولة الغزنوية. وقد بلغت لاهور أوج الازدهار والأبَّهة أيام الإمبراطور المغولي جلال الدين أكبر (1542-1605م)، وابنه الإمبراطور نور الدين جهانغير (1569-1627م)، اللذين اتخذاها عاصمة الإمبراطورية الإسلامية المغولية في الهند. وتُعتبَر لاهور اليوم مدينة الشعر والثقافة في باكستان، فضلا عن وفرة سكانها الذين يتجاوز عددهم 14 مليون نسمة. أما شغاف القلب من هذه المدينة العريقة فهو ضريح الشاعر الفيلسوف محمد إقبال (1877-1938م)، والمجمَّع التاريخي الضخم المحيط به، وهو يشمل "مسجد بادشاهي" الفخم، والقصر الإمبراطوري العريق المعروف باسم "شاهي قلعة".
وأعتقد أن إقبالاً لو كان امتدَّ به العمر حتى شهد ميلاد جمهورية باكستان الإسلامية، وتأمَّل ملامح خريطتها الأسَدية بعينه الصَّقْرية، لأعجبه ما تُوحي به هذه الخريطة من المعاني والظلال. ومما يزكِّي هذا الاستنتاج أن الأسد -ومثله الصَّقر- من أهم المجازات الشِّعرية التي يعبّر بها إقبال عن فلسفة العزة والقوة التي آمن بها، ودعا المسلمين إليها. فقد تردد في شعره تعبير "أسد الله" وصفا لعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وغيرهما من الصحابة الكرام والقادة العظام، كما تردد في شعره تعبير "قلب الأسد" وصفا للشجاع الجَسور، ووصف الأفغان بأن "دماء الأسود تسري في عروقهم".
وهذه حكاية رحلتي إلى لاهور، ترسُّمًا لخُطَى الشاعر محمد إقبال، الذي كان يُعرف باللَّاهوري أحيانا. وهي رحلة حلُمتُ بها مدة مديدة، ولم يتيسر السبيل إليها إلا منذ بضعة أسابيع. وقد حملتني هذه الرحلة الـمُلهمة إلى "جاويد منزل" البيت الذي عاش فيه إقبال خواتيم حياته ولفظَ فيه آخر أنفاسه، ولقاءِ ثلاثة من أحفاد إقبال والاستمداد من ذاكرتهم العائلية عن جدِّهم العظيم، وزيارةِ "مزار إقبال" وهو الضريح الذي يحوي جسد إقبال، وقد تحوَّل وجهةً للزائرين من أنحاء العالم. كما تضمَّنت الرحلة زيارة "أكاديمية إقبال" التي تُعنَى بنشر تراثه بكل لغات الدنيا، وإلقاء محاضرة فيها عن أصداء شعره وفكره في العالم العربي، ثم زيارة مركز "بستان إقبال" الذي يقدِّم فكر إقبال للأجيال الجديدة.. ومواقع أخرى تحمل عبَق التاريخ، وتثير الحنين.
وقد تبدو حكاية رحلتي هذه -لأول وهلة- حكاية شخصية جدًّا، وهي كذلك بمعنى من المعاني. لكنها تضمَّنت أبعادًا سياسية وعمرانية، وسياقاتٍ أدبية وثقافية، أخرجتْها إلى آفاق أرحب من مجرد الانطباعات الشخصية. وأرجو أن يشفع لها ذلك في عين القارئ الكريم، فلعله واجد فيها شيئا من الفائدة والإمتاع والمؤانسة.
قرابة الوجدان والمكان

فقرات من "خطاب الله آباد" في جدارية بإيوان إقبال (الجزيرة)
كان محمد إقبال سبَّاقا إلى النداء بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في الأقاليم ذات الكثافة السكانية الإسلامية من شبه القارة الهندية، حفاظا على ذاتهم وهويتهم، وضمانا لاستمرار إسهامهم في الحضارة الإسلامية، وارتباطهم بالأمة الإسلامية التي آمن إقبال بوحدتها إيمانا عميقا. وجاء هذا النداء -الذي سرعان ما تحول برنامجا سياسيا للملايين من المسلمين- في خطاب ألقاه إقبال بمدينة "الله آباد" في ديسمبر/كانون الأول 1930م أمام المؤتمر السنوي لـ"رابطة عموم مسلمي الهند"، ثم تحول الخطاب -الذي اشتهر لاحقًا باسم "خطاب الله آباد"- إلى ما يشبه شهادة الميلاد الرسمية لجمهورية باكستان الإسلامية. ويجد زائر باكستان اليوم مقتطفات من ذلك الخطاب التاريخي مرسومة على لوحات جدارية، تتزين بها بعض المؤسسات العامة.
حينما أعلن طاقم الطائرة بداية الهبوط إلى "مطار العلامة إقبال" في لاهور اهتز قلبي بهجةً بتحقُّق الحلم الذي انتظر ربعَ قرن من الزمان، منذ أن اكتشفتُ إقبالاً في ختام التسعينيات من خلال كتب عربية مختصرة، قدَّمتْ للقارئ جوانبَ من حياته، وشذراتٍ من شعره وفكره. وتوالت السنون وأنا أتتبَّع كل ما أستطيع الحصول عليه من أعمالٍ له في ترجماتها العربية والإنجليزية والفرنسية، وأعمالٍ عنه باللغات الثلاث. ثم تحقق الفتح الأعظم في هذا المضمار بعد حصولي في الأعوام الأخيرة على منشورات "أكاديمية إقبال" في لاهور، وهي المؤسسة العلمية التي أحدثت ثورة حقيقية في الدراسات عن إقبال، أو "الإقباليات" كما يحب أن يدعوها الباحثون الباكستانيون.
قبل وصولي مدينة لاهور بيومين، حطَّت بي الطائرة في مطار مدينة كراتشي فجرًا، بعد رحلة من مطار حمَد بن خليفة في الدوحة استمرت ساعتين وبضع دقائق. وكان أول ما فاجأني -حين أعلن طاقم الطائرة قرب الهبوط- هو قِصَر زمان الرحلة. فقد كنت أدرك دائما أن باكستان قريبة من الجزيرة العربية في الوجدان، لكني لم أنتبه من قبلُ إلى أنها قريبة منها في المكان لهذا الحدّ. ولعل ما دعاه جمال الغيطاني (1945-2015م) "الحَوَل الثقافي" الذي أصاب العرب المعاصرين، فجعلهم لا ينظرون إلا غربًا، هو الذي أنساني هذه الحقيقة الجغرافية الواضحة. فأنا الذي ضربتُ في الأرض مغرِّبًا، وعشتُ في أقصى بقعة من غربِ الغرب، على سواحل كاليفورنيا، لم أكن منتبها لقرب المسافة بين باكستان والجزيرة العربية. فالانجذاب إلى الأجنبي الغريب أنْسانَا الشقيق القريب!
تقع كراتشي على الضفة الشرقية من بحر العرب، في الطرَف الجنوبي الغربي لباكستان، وهي أوفر مدن البلاد سكانًا، إذ يتجاوز عدد سكانها 16 مليون نسمة. وهذا الجزء الغربي من باكستان هو أوثق أقاليمها صلة تاريخية بالعالم العربي، خصوصا سواحل عمان واليمن والخليج. كما أن كراتشي هي عاصمة إقليم السّنْد المشهور في تاريخ صدر الإسلام، لأنه أول أقاليم القارة الهندية التي وصل إليها الفتح الإسلامي في نهاية القرن الأول الهجري. وكان ذلك على يد محمد بن القاسم الثقفي (62-98هـ/ 682-717م) القائد الشاب الجَسور الذي يصفه الزركلي في كتاب "الأعلام" بأنه "من كبار القادة ورجال الدهر". وقد وَليَ ابن القاسم قيادة جيش الفتح في جنوب فارس وشمال الهند وهو في الـ17 من عمره، وإلى ذلك يشير الشاعر حمزة بن بيض الحنفي (ت 116ه/734م)، بقوله:إن المروءة والسماحة والنَّدَى … لمحمدِ بن القاسم بن محمدِ
ساسَ الجيوش لسَبْع عشرةَ حِجَّةً … يا قربَ ذلك سُؤدَدًا مِن مَوْلدِ
ويقول المؤرخ العسكري العراقي اللواء الركن محمود شيت خطاب (1919-1998م) في كتابه: "قادة فتح السند وأفغانستان" إن محمد بن القاسم لما قُتِل وهو شاب في قمة عطائه، جرَّاء المكائد الشخصية والأنانية السياسية: "بكاه أهل السند من المسلمين لأنه كان يساويهم بنفسه، ولا يتميز عنهم بشيء، ويعدِل بالرعيَّة، ويَقسم بالسَّويَّة… وبكاه أهل السّنْد من غير المسلمين، لحُسن معاملته لهم، وتأمينهم على أموالهم وأنفسهم، وإطلاق حرية العبادة لهم".
كانت مهمتي في كراتشي هي المشاركة في مؤتمر للمنظمات الطلابية الإسلامية، بدعوة كريمة من "الجماعة الإسلامية في باكستان"، وهي إحدى أقدم الجماعات الإسلامية الإصلاحية المعاصرة، أسَّسها عام 1941م العلامة أبو الأعلى المودودي (1903-1979م). وقد اغتبطتُ كثيرا خلال يومَي المؤتمر بوفرة الحضور الشبابي وحيويته. وبعد انقضاء المؤتمر سارعتُ بالرحيل إلى لاهور.
يتبع...