إيطاليا وروسيا.. معارك التجسس على وثائق سرية مقابل أموال
كثير من الوثائق "السرية للغاية" سلمها الضابط الإيطالي لنظيره الروسي تتعلق بحلف الناتو
2/4/2021
على خلفية اعتقال ضابطين إيطالي وروسي متلبسين بجريمة تجسس، أبلغ وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو السفير الروسي، في روما، احتجاج حكومة بلاده على قضية التجسس.
وكشف دي مايو عن قرار روما طرد الضابط الروسي، ومسؤول الملحقية العسكرية لدى السفارة نظرا لخطورة القضية.
ووفق ما نشرته وسائل الإعلام الإيطالية الساعات الماضية، يبدو أن الضابط الإيطالي المعتقل والتر بيوت (55 عاما) -الذي كان يعمل برتبة قبطان فرقاطة لدى "المكتب الثالث الخاص بمخابرات الدفاع"- قد نقل للضابط الروسي دميتري أوستروخوف وثائق مصنفة "سري للغاية" الكثير منها يتعلق بحلف شمال الأطلسي (الناتو) مما تسبب بفتح أزمة دبلوماسية بين روما وموسكو.
وفي الأسئلة والأجوبة التالية، نحاول توضيح بعض تفاصيل ومآلات القضية:
كم دفعت موسكو للضابط الإيطالي مقابل حصولها على البيانات السرية؟
تلقى الضابط الإيطالي ما لا يقل عن 4 أو 5 دفعات مالية بقيمة 5 آلاف يورو، كل دفعة كان يتم فيها تسليم البيانات السرية للضابط الروسي نفسه داخل علبة أدوية صغيرة، وبوتيرة شهرية.
وكانت عملية التسليم واستلام المال تتم في نفس المكان، وداخل سيارة الضابط الإيطالي، التي زرع بداخلها عناصر وكالة الأمن الداخلي الإيطالية العديد من الأجهزة اللاقطة وآلات التصوير لتوثيق كل ما كان يجري داخلها.
كيف ردت موسكو على روما؟
أعربت موسكو عن أسفها لقرار طرد دبلوماسيّيها أوستروخوف ومسؤول الملحقية العسكرية لدى السفارة في روما أليكسي نيموردوف، ورغم إعرابها عن الأمل ألا تؤثر الحادثة على العلاقات الجيدة بين البلدين فإنها تحدثت عن احتمال اتخاذها إجراء مماثلا بحق دبلوماسيين من كادر السفارة الإيطالية بموسكو.
ما مآلات القضية؟
مما لا شك فيه أن قصة التجسس المثيرة لا تضع على المحك الأمن القومي الإيطالي فحسب، بل أيضا أمن دول أخرى في حلف الناتو، ولذا فلها تطورات ذات أهمية سياسية.
وقد اتضح هذا جليا من أولى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية بحق الضابطين الروسيين، حيث وصف وزير الخارجية محاولة الضابط الروسي شراء بيانات سرية بـ "العمل العدائي الخطير ضد بلاده".
ناهيك أن اختيار الخارجية الإيطالية منح الضابطين الروسيين 24 ساعة فقط لمغادرة أراضي البلاد كان مؤشرا سياسيا يدل على قسوة رد روما.
في السياق، رأى المتحدث الرسمي السابق لرئاسة الجمهورية والصحفي ماوريتسيو كابرارا -في مقال رأي صحيفة كورييري ديلا سيرا- أن قضية التجسس الجديدة تضع العلاقات بين البلدين على منحدر يمكن أن يقودها إلى اتجاهين لا ثالث لهما: الأول تدهور غير عادي، والثاني نحو المحافظة على علاقات تكون أفضل على الأقل من تلك القائمة بين موسكو والعديد من دول حلف الناتو الأخرى، وذلك باللجوء إلى الحيل والدهاء الدبلوماسي.
ولفت المحلل السياسي الإيطالي الشهير إلى أن موسكو تقف الآن أمام 3 طرق للرد على روما، وقد لخصها بالرد بالمثل تماما، أو طرد دبلوماسي إيطالي واحد فقط، وأخيرا عدم اتخاذها أيا من الإجراءين.
وخلص كابرارا إلى القول إنه رغم أن الاجراءات الدبلوماسية في مثل هذه الحالات قد تكون شائعة، فإن القضية التي انفجرت في روما سيكون لها تطورات خاصة، فاستدعاء السفير الروسي من قبل الخارجية لم يكن سوى أولى الخطوات الدبلوماسية للتأكيد على أن قضية التجسس لا تدخل في إطار الإجراءات الروتينية.
هل هناك سوابق طرد ممثلين دبلوماسيين؟
بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول 2016 كان المواطن الروسي سيرغي نيكولايفيتش بوزدنياكوف على موعد في حي تراستيفيري على ضفة نهر تايبر الشرقية بالعاصمة الإيطالية مع ضابط المخابرات البرتغالي مانويل فريدريكو كارفالو، وذلك لاستلام وثائق للناتو مصنفة "سرية" مقابل 10 آلاف يورو.
وعقب إلقاء القبض عليهما، ادعى بوزدنياكوف تمتعه بالحصانة الدبلوماسية، وبعد شهرين من ذلك التاريخ أخلى القضاء الإيطالي سبيله وقرر إغلاق القضية.
عام 2018 طلبت المملكة المتحدة من الحلفاء طرد بعض دبلوماسيي موسكو إثر تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا في سالزبوري.
وردّت فرنسا وألمانيا على ذلك الطلب بطرد 4 دبلوماسيين لكل منهما. أما إيطاليا فقد طردت اثنين فقط.
من جانبها، ردت موسكو بطرد دبلوماسي إيطالي واحد فقط كان قد وصل للتو إلى البلاد، وآخر كان يستعد للعودة إلى روما نظرا لنهاية مهمته هناك.
في سبتمبر/أيلول 2019 انفجرت قضية الجاسوس الروسي ألكسندر كورشونوف، مدير الشركة الوطنية الحربية الروسية "أو دي كي" (ODK) الذي اعتقلته عناصر الشرطة الإيطالية بجزيرة كابري بناء على مذكرة توقيف أميركية بعد استيلائه على تصاميم محركات أميركية.
لكن وبعد التئام محكمة الاستئناف بمدينة نابولي ونطقها لصالح تسليمه للولايات المتحدة، تقدمت موسكو بالتماس للمحكمة مطالبة بمحاكمته في روسيا. وكانت المفاجأة أن إيطاليا حينما وجدت نفسها مضطرة لاختيار الطرف الذي كان يتعين عليها تلبية طلبه، جاء قرار وزارة العدل القاضي بترحيل كورشونوف إلى بلاده.
من فتح أبواب إيطاليا على مصراعيها أمام العملاء؟
قال الكاتب جان لوكا دي فيو -في مقال تحليلي نشرته صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية- إنه بعد انتهاء حقبة الاتحاد السوفياتي لم يعد الإيطاليون ينظرون للروس كأعداء بل شركاء على الأغلب في الحرب ضد الإرهاب.
وخلال الحقبة الطويلة لحكم رئيس الوزراء السابق سلفيو برلسكوني الذي حكم إيطاليا قرابة 25 عاما، أصبح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعز صديق له بين مختلف رؤساء العالم.
وطرح الملياردير الإيطالي (برلسكوني) نفسه مرارا بالمحافل الأوروبية والغربية كشخصية مفصلية للقيام بدور الوسيط بين واشنطن وموسكو لصالح الأمن والسلام العالميين.
ولفت الكاتب أنه بعد انتهاء حقبة برلسكوني، جاءت الموجة الشعبوية التي أوصلت قادة حركة "5 نجوم" وحزب الرابطة إلى سدة الحكم، الذين زاروا موسكو مرارا وأبدوا إعجابهم الصريح بنفوذ وشخصية الرئيس الروسي.
كما أشاد هؤلاء، في خلاف واضح مع موقف حلف الناتو، بقرار الكرملين ضم شبه جزيرة القرم، واستنكر زعيم حزب الرابطة اليميني الشعبوي ماتيو سالفيني عام 2018 قرارات طرد الدبلوماسيين الروس من بعض الدول الأوروبية، مؤكدا عدم فائدتها لمستقبل الحوار والتعايش.
ورأى الكاتب أن إيطاليا باتت في تلك الحقبة بلدا مستباحا من قبل الروس، وأكثر عزلة بين دول حلف شمال الأطلسي.
ما سر غضب واشنطن من روما في قبولها المساعدات الروسية لمكافحة جائحة كورونا؟
كانت إيطاليا العام الماضي في مثل هذه الأيام تعاني من أزمة احتقان شديدة في مستشفياتها نظرا لارتفاع عدد المصابين آنذاك بوباء كوفيد-19، وعدم جاهزية الدولة لمواجهة الأزمة الطارئة التي أودت بحياة الآلاف من الإيطاليين.
وفي تلك الأيام سارع القيصر الروسي إلى عرض المساعدات على إيطاليا لمكافحة الوباء.
ولاحظ الكاتب في مقاله التحليلي أنه بعد ترحيب روما بتلك المساعدات التي لم تتأخر عن الوصول على متن طائرات شحن ضخمة تابعة للجيش الروسي هبطت بأحد المطارات شمال البلاد، كانت المفاجأة كبيرة حينما نزل إلى أرض المطار عدد قليل من الأطباء والممرضين، وحشد من الجنود الروس المختصين بالاستخبارات العسكرية والأسلحة الكيميائية.
وأوضح أن الغضب الأميركي من الحكومة الإيطالية في ذلك الحين قد وصل ذروته، لدرجة اضطرار الحكومة وضع هؤلاء تحت المراقبة طيلة وجودهم في إيطاليا، نظرا أيضا لقرب عملهم في ذلك الحين من قاعدة "غيدي" الأميركية التي تُعتبر من أكبر مخازن القنابل النووية بأوروبا.
هل تغير قصة التجسس الأخيرة شكل علاقة إيطاليا وروسيا؟
يبدو من المبكر الآن التنبؤ بفصول جديدة من العلاقات بين روسيا وإيطاليا في ظل قصة التجسس الأخيرة وتأثيرها على توازن العلاقات بينهما، وذلك بالنظر إلى الازدياد الملحوظ للنفوذ الروسي بمنطقة البحر المتوسط وغرب البلقان خلال السنوات الأخيرة، وسقوط الحكومة الإيطالية اليسارية التي كان يرأسها جوزيبي كونتي وتنصيب الرئيس السابق للمصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي المعروف بولائه المطلق للناتو رئيسا للوزراء، فضلا عن انتهاء عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وانطلاق حقبة خلفه جو بايدن الذي لم يتوانَ منذ البداية عن وصف بوتين بالقاتل.
المصدر : الجزيرة نت - محمد حمدان - روما