ما هو اتفاق "الجمعة العظيم" الذي أنهى الصراع الدموي في المملكة المتحدة؟
قصر باكنغهام في لندن (وكالة الأنباء الأوروبية)
14/2/2021
تحول اتفاق "الجمعة العظيم" -الذي أرسى السلام في أيرلندا- إلى حجر الزاوية في تحديد علاقة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهما الشريكان الأهم بالنسبة للندن، وبات أي اتفاق بين الأطراف الثلاثة يمر أساسا عبر هذا الاتفاق الذي أنهى عقودا من الصراع الدموي في الجزيرة الأيرلندية.
ولا تكاد تخلو أي أزمة دبلوماسية بين التكتل الأوروبي أو المملكة المتحدة من التحذير من المساس باتفاق "بلفاست" الذي تم توقيعه سنة 1998، وما قد يستتبعه ذلك من عودة العنف أو الدخول في متاهة من الصراعات السياسية، وتصل الحساسية في التعامل مع هذا الاتفاق إلى حد تهديد الرئيس الأميركي جو بايدن بإيقاف مفاوضات أكبر اتفاق تجاري في التاريخ بين البلدين في حال تم المساس بهذا الاتفاق.
وفي هذه النقاط نستعرض مسار اتفاق "الجمعة العظيم"، وأهميته السياسية وحتى الأمنية لاستقرار المملكة المتحدة:
ما هي أسباب اندلاع الصراع في أيرلندا الشمالية؟
يعود تاريخ الصراع في أيرلندا الشمالية إلى بداية 1920، وذلك بعد أن انفصلت عن أيرلندا إيذانا بنهاية قرون من حكم المملكة المتحدة لجزيرة أيرلندا التي انقسمت إلى جمهورية أيرلندا، وأيرلندا الشمالية التي بقيت تابعة للمملكة.
هذه التبعية قسمت مواطني أيرلندا الشمالية إلى فريقين، الأول هم "الوحدويون"، وهم مؤيدون للعرش البريطاني، وهناك من يطلق عليهم "الأوفياء"، وهؤلاء كانوا يعتنقون المذهب البروتستانتي، والفريق الثاني "القوميون" أو "الجمهوريون" ويطالبون بانفصال أيرلندا الشمالية عن المملكة والانضمام لجمهورية أيرلندا، ويعتنقون المذهب الكاثوليكي.
ولعب المذهب دورا كبيرا في هذا الصراع، ذلك أن الأغلبية في أيرلندا الشمالية كانت بروتستانتية، والأقلية من الكاثوليك، ووجد هؤلاء صعوبة بالغة في العثور على الوظائف والمنازل، مما دفعهم للاحتجاج.
كيف تحولت الأزمة إلى صراع مسلح؟
مع بداية ستينيات القرن الماضي تحول الصراع بين الطرفين إلى عنف مسلح استمر لأكثر من 3 عقود، وخلف أكثر من 3500 قتيل.
وخلال الفترة ما بين 1970 إلى 1990 تفاقم الصراع، وكثرت الهجمات المسلحة التي وصلت لضرب عمق بريطانيا واستهداف الجنود ورجال الشرطة البريطانيين، حينها قررت المملكة المتحدة إرسال جنودها لحل النزاع إلا أنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة مع الجماعات المسلحة الجمهورية، وأشهرها "الجيش الجمهوري الأيرلندي" الذي كان ينفذ تفجيرات في بريطانيا وأيرلندا.
ومن أشهر الأيام الشاهدة على هذه الفترة السوداء هو "السبت الدموي" سنة 1972 عندما قتلت القوات البريطانية 14 مدنيا نظموا مسيرة تطالب بحقوق الأيرلنديين.
كيف تم التوصل إلى اتفاق السلام؟
مع بداية عام 1990 بدأت بعض التغييرات الحقيقية تحدث ممهدة لاتفاق السلام، وذلك عندما أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي إيقاف عملياته العسكرية، مما منح الوحدويين والقوميين فرصة للبحث عن مخرج سياسي لهذا الصراع.
وبعد تدخل العديد من الدول -بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي وعد بتقديم 400 مليون يورو لدعم أيرلندا الشمالية، وبعد سنتين من المفاوضات السياسية و3 عقود من الصراع المسلح- تم إعلان اتفاق "الجمعة العظيم" سنة 1998 إيذانا بتشكيل حكومة جديدة تجمع بين طرفي النزاع.
بعدها تم توزيع نسخة من الاتفاق على كل بيت في جزيرة أيرلندا تمهيدا لاستفاء للتصويت عليه، وبالفعل تم التصويت لصالح الاتفاق.
ما هي أهم بنود اتفاق "الجمعة العظيم"؟
من أهم بنود الاتفاق دعوة الأغلبية البروتستانتية لتقاسم السلطة مع الأقلية الكاثوليكية، ولخلق مزيد من التوازن فقد منحت جمهورية أيرلندا الحق في إبداء الرأي في شؤون أيرلندا الشمالية، كما يحث لجميع مواطني أيرلندا الشمالية على حمل الجنسيتين الأيرلندية والبريطانية.
ويؤكد الاتفاق على أن أغلبية سكان أيرلندا الشمالية يؤيدون البقاء في ظل المملكة المتحدة، لكن الأغلبية في الجزيرة الأيرلندية تسعى لإقامة أيرلندا موحدة.
أما حجر الزاوية في هذا الاتفاق فهو التنصيص على عدم إقامة أي حدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، وضمان حرية تنقل الأشخاص والبضائع بدون أي عراقيل أو حواجز أمنية.
هل بات الاتفاق مهددا بالانهيار؟
لا يمكن الحسم في قرب انهيار الاتفاق بالنظر إلى أهميته الحيوية ليس للمملكة فقط وإنما لأوروبا، ولكن ملف البريكست وحرب اللقاحات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي وضعا الاتفاق على المحك، وذلك عندما حاول كل طرف فرض حدود صلبة بين الأيرلنديتين، وهو ما يعتبره الأيرلنديون -خصوصا الجمهوريين منهم- خطا أحمر لا يمكن تجاوزه.
ويبقى اتفاق البريكست أكبر اختبار لاتفاق "الجمعة العظيم"، فإذا فشل الأوروبيون والبريطانيون في الحفاظ على الوضع القائم حاليا في الجزيرة الأيرلندية فإن هذا يعني عودة التوتر، وهو ما لمح له أكثر من مرة حزب "شين فين" -الذي يعتبر الذراع السياسية للجيش الجمهوري الأيرلندي- بأن أي مساس بقضية الحدود سيؤدي إلى عودة التوتر.
لماذا يظهر الأميركيون اهتماما كبيرا بهذا الاتفاق؟
يظهر الأميركيون تشددا كبيرا فيما يتعلق باتفاق "الجمعة العظيم"، وهذا راجع إلى 3 أسباب، أولها أن واشنطن هي عرابة هذا الاتفاق من خلال الدبلوماسي جورج ميتشل ذي الأصول الأيرلندية الذي كان مبعوثا شخصيا للرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، وهو من أعلن عن الاتفاق، وبذلك تعد الولايات المتحدة هي الضامنة لهذا الاتفاق.
أما السبب الثاني فهو وجود لوبي قوي من الأميركيين من أصول أيرلندية لهم علاقات قوية في أروقة صنع القرار داخل واشنطن، ويضغطون لعدم المساس بهذا الاتفاق تحت أي ظرف، لأنهم يعرفون أن تكاليف خرقه ستكون باهظة.
ويتمثل السبب الثالث -وهو سبب جديد- بوصول الرئيس جو بايدن الذي له جد من أصول أيرلندية، ولهذا لم يتردد أبدا في تحذير البريطانيين من وضع حدود صلبة أيرلندية، لأن هذا سيكلفهم فقدان أكبر اتفاق تجاري في التاريخ.
هذا الحرص الأميركي يجعل المملكة المتحدة والأوروبيين حذرين في التعامل مع مضامين هذه الوثيقة التاريخية.
المصدر : الجزيرة نت - أيوب الريمي