المنظّر والوزير:حصاد ايجابي
إن أهم خلاصة يمكن الخروج بها بعد مطالعة هذا السفر القيّم هو أنه أحد الكتب التي ستغير مجرى التاريخ، بالنسبة لتركيا، وجوارها القريب، وربما العالم. ومثلما قال الدكتور طارق عبد الجليل، الذي أسهم في ترجمة الكتاب إلى العربية، في قراءته للكتاب المنشورة على موقع أخبار العالم، فإن " "العمق الإستراتيجي" ليس كتاباً أكاديمياً، أو مؤلفا فكريا فحسب؛ بل أيضا هو نظرية جديدة تُضاف إلى علوم السياسة المعاصرة. إذ هو خلاصة بحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة والريادة لكل مجتمع ودولة تمتلك مقومات نهضتها وتعيها، مع ميزة تفضيلية لهذا الكتاب تتمثل في تجاوزه للأطر النظرية المجردة، وصياغته لرؤية إستراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية".
تجسدت هذه النظرية، الموصوفة في تضاعيف كتاب "العمق الاستراتيجي"، في واقع حي ملموس في السياسة التركية، يمكن أن يعاينها كل متابع لتطورات الأحداث، داخل تركيا وخارجها، خاصة وأنه قد أُتيح لصاحب النظرية العمل على تطبيقها بنفسه، وذلك بتوليه منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيرا للخارجية التركية العام الماضي 2009، إذ لم يتوان مطلقاً في التعبير الصريح عن مقاصدها.
ويمكن لكل مراقب تسجيل النتائج الإيجابية في السياسة التركية، الصاعدة تدريجاً نحو الإدماج والاندماج مع مكوناتها الحضارية والجغرافية. وما الانفتاح التركي على الدول العربية سوى تتويج لمجهودات مضنية على هذا الصعيد، قامت على رباط الدين، وتداخل الثقافة، وحقائق التاريخ، وواقع الجغرافيا، وما ينبثق عنها جميعاً من معادلات الاقتصاد والسياسة.
شدّ القوس إلى الشرق يطير السهم أبعد نحو الغرب
بعد سقوط جدار برلين في 1989 ، شعرت تركيا أن عالما قديما أنهار ورحلت معه مخاوفها من الجار السوفيتي، وأن عالما جديدا يولد لم يف فيه الحليف الغربي بوعوده مقابل تحالفها الصادق معه، ثم رأت أن قائد الحلف الغربي نفسه تتراجع قوته فتتراخى قبضته على النظام العالمي، وأن قوى أخرى صاعدة تزاحمه على موقع القيادة وباتت تستطيع منعه من إملاء إرادته إن لم تكن قادرة على فرض إرادتها عليه.
وبين ضياع اليقينيات السابقة ومثول الهواجس القادمة، كانت تركيا بحاجة إلى نظرة إلى الماضي، لتقيّم حصيلته وتهتدي بتجربته في استشراف الطريق نحو المستقبل، فتنتهز فرصه وتتفادى مطباته، فجاء كتاب العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية لأحمد داوود أوغلو، ليقدم إجابة عميقة على هذه المعادلة الصعبة التي تحكم بلده في الوقت الراهن.
وأغلو ليس المثال الأوحد على هذا الجهد الكبير في بحث القوى الدولية عن مواقع لها في النظام الدولي الجديد بل يشاركه في معالجة نفس المعادلة، ولكن من جهات مختلفة، عدد كبير من الباحثين المميزين ، فمثلا يسأل زبيغينو بريجنسكي، ورتشارد هاس وهنري كيسنجر ودنيس روس، عن كيف سيكون العالم الجديد الذي خلف عالم الحرب الباردة، وما دور أمريكا فيه.
وسيظل هذا الجهد مستمرا، في الدول التي تستشعر الثقة في نفسها، إلى أن تحجز لنفسها مكانا رفيعا في النظام الوليد قبل أن يستقر من دونها أو على حسابها. وكلما تهيأ لدولة ما حل هذه المعادلة، التي تحكم حاليا كل بلدان العالم، بأسرع وقت، كلما تفادت الاصطدام بجدران كانت تحسبها طرقا سالكة لمصالحها.
تركيا بين عالم يموت وعالم يولد
وأوغلو في حله لهذه المعادلة يراعي وضع تركيا الفريد لأسباب تتعلق بالجغرافيا والتاريخ والدور، لذلك يسهب كثيرا في استعراض هذه الأبعاد حتى ينتقل من المعادلة العامة التي تمس كل العالم، وهي موت عالم قديم وميلاد عالم لا يزال في طور التشكل، إلى مميزات المعادلة في السياق التركي، ويخلص إلى أن مصالح تركيا لا تتطابق دائما مع مصالح الغرب، وأن إحدى اليقينيات التي تشكلت على أساسها السياسة التركية، وهي أن تركيا بحاجة إلى الغرب أكثر من حاجة الغرب إليها، ليست صحيحة على الإطلاق، بل إن الغرب حاليا بحاجة إلى تركيا حاجتها إليه أو أكثر من ذلك، فيقول مثلا إن أوربا لن تصير قوة عالمية إلا إذا ضمت تركيا بين جنباتها.
وتتكون المعادلة التركية التي يتصدى أوغلو لحلها من عدد من العوامل:
1- زوال الإتحاد السوفيتي يعد العامل الأبرز، فتركيا لم تعد خائفة من توسعه على حسابها لتحتمي منه بالغرب كما في السابق، ثم إن عددا هائلا من الدول خرج من فروة الدب الروسي بمخاطر قد تنشر التفتت أو فرص قد تقوي أواصر التقارب مع الناطقين بالتركية في الجمهوريات الوليدة ؛ ولم تعد تركيا تنظر إلى دول جوارها العربي بمنظار الحرب الباردة فتعادي المعسكر الاشتراكي مثل سوريا والعراق، وتتحالف مع دول المحور الغربي لتصد التمدد الشيوعي بجوارها.
2- لم تكن حصيلة تركيا من تحالفها مع الغرب على قدر تضحياتها، فهي من دون دول الحلف الأطلسي الأخرى حصلت على العضوية بحق الدم الذي أراقه جنودها في الحرب الكورية، ولكن الدول الغربية ظلت تنظر إليها كبلد يقع في الأطراف يحرس التخوم الملاصقة للمعسكر الشيوعي، وهو الدور الذي نجده في كتابات الإستراتيجيين الغربيين، ومن بينهم المنظر الأشهر لصدام الحضارات صموئيل هنتنغتون ، ولكن بعد هذه الحراسة التي تكللت بنجاح ضمن سياسة الاحتواء، لم تحصل تركيا من جائزة النصر إلا على حصاد الهشيم، فأوربا رفضت ضمها في 1989، ووقفت والرئيس الأميركي جورج بوش الأب مع خصمها اليوناني، وانقص الكونغرس الأميركي من ميزانية المساعدة العسكرية المخصصة لها إلى 150 مليون دولار.
3- لا تتطابق أولويات تركيا دائما مع حلفائها الغربيين، فبينما كانت تقترب من سوريا أحتج نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق بول وولفوفيتز، منبها أنقرة إلى أن تتحرك في علاقاتها مع سوريا وإيران في إطار الإستراتيجية الأمريكية التي تهدف إلى تبديل سلوكهما "السيئ".
ورفضت تركيا مرور القوات الأمريكية عبر أراضيها لغزو العراق لأنها كانت تخشى من تداعياته عليها، مثل بروز دولة كردية على حدودها تكون سابقة قد يبني عليها الأكراد بتركيا مطالبهم نحو الانفصال، لكن أمريكا تجاهلت هذه المخاوف.
وأوغلو يقدم لوحة كاملة بالاختلافات بين أولويات تركيا و الدول الغربية، ويستنتج ضرورة أن تكون لبلاده سياسة مستقلة تضع في المقدمة المصالح القومية.
3- لم يعد مركز التنافس العالمي بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي بل انتقل إلى ما بات يعرف بقوس الأزمات الذي يشمل أساسا دول العالمين العربي والإسلامي، فيمتد من فلسطين إلى باكستان، مرورا بالعراق وأفغانستان، فهنا تتناطح القوى الكبرى على الموارد و المواقع والأدوار، وهنا يتنامى الوعي السياسي، وهنا تضطرب قلوب أكبر كتلة بشرية في العالم بمشاعر الإحباط والرغبة في الانتقام، وفي وسط هذا القوس توجد تركيا، وليس أمامها إلا أن تكون إما عاملا يزيد من الاضطراب فتضر نفسها، أو يرسي الاستقرار لأن مصلحتها في حاجة ماسة إليه، حيث أن تخفيف التوتر الداخلي ينقص هيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي، ويقوي النمو الاقتصادي الذي يحتاج إلى بيئة آمنة تجذب رؤوس الأموال؛ ثم إن تخفيف التوتر الخارجي يجعل تركيا تحصل على الموارد الضرورية مثل البترول وتضمن الأسواق الخارجية الكبيرة لتصريف منتجاتها.
4- لم تعد تركيا تشعر بالمرارة نحو العرب كما كانت خلال عهود تشكل الجمهورية على يد كمال أتاتورك، حين أراد الانسلاخ عنهم لأنهم أعاقوا بلاده عن امتلاك سر القوة الغربية، ولأنهم باعوا السلطنة العثمانية من أجل كسب حلف الغرب، فتركيا نفسها تحالفت مع الغرب وسعت جاهدة لتلتحق بأسرته لكنها عادت خائبة بعد طول انتظار أمام بابه، فظلت معلقة بين جار عربي تريد الانسلاخ عنه وجار أوربي يماطل في الوفاء بوعوده، وإذا لم يكن بيدها أن تحصل من الثاني على ما تريد فإن بيدها أن تتصالح مع الأول بعد زوال أسباب الجفاء وتنامي الحاجة المشتركة إلى بعضهما اقتصاديا وسياسيا.
هذه العوامل هي التي تشكل المعادلة الجديدة لتركيا، وهي تتعلق أساسا بالتحالف مع القوى الغربية، وتعد استمرارا للمعادلة السابقة التي واجهها أتاتورك نفسه حين ظن أن مستقبل تركيا في التطابق المطلق مع الغرب ثقافيا ونظاميا، ولكن حل أتاتورك لهذه المعادلة وصل إلى طريق مسدود، فالغرب لا يزال يصد أبوابه في وجه تركيا ولم يعد يستفرد بالقيادة الدولية، ولا بد من حل جديد ينشد نفس الهدف القديم.