إشكالية تناقض ثلاثية عناصر الخطط الاستراتيجية
لواء ركن متقاعد ناصر بن حمود العبسي
مجلة كلية الملك خالد العسكرية
كتب السيد (بروس حي ريدر) في مجلة كلية الحرب الأمريكية مقالاً مطولاً أطلق عليه Strategic realignment of Ends, ways, and means، أي ما معناه: إعادة النظر في متطلبات توافق الأهداف، والمفاهيم، والوسائل التي تتكوّن منها الخطة الاستراتيجية التي أُعدَّت لغزو العراق.
وأشار إلى الكثير من الجوانب ذات الصلة بهذا العنوان من وجهة النظر الأمريكية، وشرح الأسباب وما أفضت إليه من نتائج غير مرضية خلال سنوات الحرب التي لاتزال مستمرة. وقد رأيت في مقالته كثيراً من الدروس، والعبر، والمعلومات القيّمة المفيدة للمهتمين بالشؤون الاستراتيجية بصفة عامة، وفي مجالات تخطيط وتنفيذ وتعزيز الخطط العسكرية الوطنية بصفة خاصة، بغض النظر عن اختلاف كثير من الاعتبارات بين الولايات المتحدة وكثير من بلدان العالم في مثل هذه الحالة.
وبادئ ذي بدء، أقول للإخوة القرّاء إنني قد قمت بترجمة بعض المقتطفات من تلك المقالة على شكل اقتباس، حسب متطلبات هذه المقالة، وقد استهدفت جزئية هامة أشار إليها الكاتب، وهي في الحقيقة تمثّل جوهر موضوع مقالته، هذه الجزئية هي خطورة عدم استقامة، وسلامة، وواقعية، ومنطقية الخطة الاستراتيجية إذا لم تكن الأهداف واقعية وقابلة للتحقيق، بسبب أي خطأ قد يحدث أثناء بناء الخطة الاستراتيجية، أو أثناء عمليات التنفيذ والإدامة.
فالخطط الاستراتيجية تُعدّ لمعالجة أوضاع تشكّل تحديات كبيرة شديدة التعقيد في كثير من الأحيان، فالحروب تمثّل عملاً غير عادي يستوجب الاهتمام بإتقان الخطط.
لهذا قال الاستراتيجي المشهور (كلاوتزفيتز): "لا تشكّل الحروب عمل سياسات ما، ولكنها في حقيقة الأمر وسيلة سياسية واستمرار لصراعات سياسية بين طرفين، أو أكثر، ويتم تنفيذها بوسائل أخرى، وربما تكون القرارات التي تُتّخذ لإقرار الاستراتيجيات خاطئة في بعض الأحيان، مما يزيد الأمر سوءاً وتعقيداً، ويحد من نجاح الخطط الاستراتيجية". ومن المتطلبات الأساسية لإعداد الخطط وضع تصورات راشدة يتم من خلالها دراسة وتشخيص الأوضاع المستهدفة وتحديد الرؤى ونقاط القوة والضعف.
هذه هي أولى خطوات التخطيط بصفة عامة، وبالنسبة للخطط العسكرية، فإن المجال المستهدف هذا هو تشخيص حالة النزاع أو الصراع، لتفهُّم وتحديد الأعمال اللازم اتخاذها على بصيرة ودراية، توخيّاً لأفضل الطرق
لتحقيق النجاح علماً بأنه ليس من السهل تحديد المقاصد وحشد الوسائل في المواقف والنزاعات والصراعات المعقدة، ويتم بناء الخطط الاستراتيجية غالباً باستخدام ثلاثية التخطيط: الأهداف، والمفاهيم، والوسائل (Trinity of ends, ways and means).
ورغم أهمية استخدام هذه الثلاثية في بناء الخطط، إلاّ أنَّ عدم الحذر أثناء القيام بالإعداد قد يؤدي إلى فشل لا تُحمد عقباه، وقد تحدث المفاجآت أثناء عمليات التنفيذ عندما يكون أحد عناصر الخطة خارج التوازن، بسبب عدم الدقة في التخطيط، أو عدم التزام جهة معينة بدورها ومسؤولياتها.
وفي الولايات المتحدة يتم إعداد الخطط الوطنية على النحو التالى:
أولاً: تقوم الحكومة بتحديد البيئة الاستراتيجية المرغوب في الوصول إليها، ويتم وصفها بأنها الحالة النهائية the end state.
ثانياً: تقوم المؤسسة العسكرية بوضع مفاهيم وخطط وبرامج الأعمال اللازمة لتحقيق الغايات والأهداف.
ثالثاً: يتم وضع خطط الوسائل التي يجب حشدها، لدعم المجهود الوطني لتحقيق الحالة النهائية المرغوب في الوصول إليها من قِبل الجهات المعنية حسب مستوى الخطط ومتطلبات دعمها.
وفيما يلي أمثلة على ما سبق من واقع خطط العمل الأمريكي قبل وأثناء حربهم في العراق: في البداية تم تحديد الحالة النهائية من قِبَل الحكومة الأمريكية بموجب ما أُطلق عليها (الخطة الاستراتيجية لتحقيق النصر في العراق، ومجمل نصها: العراق ممثلاً بحكومة تحترم الحقوق المدنية، وتمتلك قوات أمنية كافية لحفظ النظام المحلي، وتحافظ على العراق حتى لا يصبح جنة آمنة للإرهاب).
وقد قال كاتب المقال (بروس جي ريدر): "لقد أصبحت الإشكالية الكبرى التي تدور حولها المناظرات السياسية حالياً في الولايات المتحدة هي كيفية إدامة توفير الدعم للقوات الأمريكية بكافة الوسائل، وبخاصة متطلبات إرسال مزيد من القوات إلى مسارح وميادين القتال، لحسم الحرب لصالح أمريكا، وهذا مثال على عدم التوازن بين الغاية والوسيلة، وأما بالنسبة للطرق أو المفاهيم concepts or ways، فإنه قد أصبح من غير المناسب الاستمرار في تطبيق هذه المفاهيم في العراق وفقاً لما تم إعداده قبل الغزو، نظراً لاختلاف غايات وأهداف ووسائل الجهات التي تخوض الأعمال القتالية ضد الأمريكان". والقول هنا ل "بروس"، لأن الحقائق والافتراضات التي بنى عليها الجيش الأمريكي خطط الغزو لم تكن دقيقة. وهذا مثال آخر على عدم الاتساق والتوافق بين عناصر بناء الخطة الاستراتيجية، أي الأهداف، والمفاهيم، والوسائل. وتقول القاعدة الاستراتيجية السليمة: إنه بالإمكان إجراء أي تعديل على كل شيء في الخطط ما عدا الأهداف بعد اعتمادها إلاّ في حالة الضرورة التي لا يمكن تجنّبها، وإذا حدث شيء يؤدي إلى تغيير أهداف الحرب، فإن ذلك حسب العقيدة القتالية والسياسة الأمريكية، يعني فشل الحكومة الأمريكية ووجوب محاسبة الرئيس وحكومته، وهذا من وجهة نظر السيد (بروس ريدر)