في ذكراها الـ64.. هل رفض عبدالناصر الوحدة بين مصر وسوريا؟
الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في أحد خطاباته الجماهيرية (الصحافة العربية)
22/2/2022
القاهرة- شكّل الضباط السوريون نصف دائرة حول الزعيم الذي وجدوا فيه ضالتهم، كانوا على عجل لتحقيق الوحدة بين القاهرة ودمشق، لكن الرجل المنشود الذي امتلأت خطبه بدعاوى القومية العربية لم يتحمس لمطلبهم، وقال بشكل واضح "لا بد أن أقول لكم إن كل ما سمعته منكم لا يبرر قيام وحدة، فما ذكرتموه جميعا لا يخرج عن كونه أسبابا سلبية، وهذه الأسباب السلبية سوف تكون عبئا على الوحدة أكثر مما تكون قوة دافعة لها".
شرح الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، للضباط السوريين الذين أتوا في زيارة مفاجئة إلى القاهرة واجتمع بهم، مساء 15 يناير/كانون الثاني 1958، وجهة نظره محذرا من مآلات استعجال الوحدة دون رؤية واضحة لها.
لكن الزعيم المصري ارتكن إلى رغبة العسكريين السوريين في نهاية المطاف واضعا شروطا لتلك الوحدة، وفي 22 فبراير/شباط 1958، أعلن قيام الجمهورية العربية المتحدة التي تتكون من إقليمين، الشمالي سوريا والجنوبي مصر.
احتفلت الجماهير من البلدين بميثاق الوحدة دون علم منهم بما جرى داخل الغرف المغلقة من مناقشات تحمل آمالا ومخاوف، بل إن أحدهم لم يتوقع أن يكون الزعيم نفسه لم يتحمس لإعلان الجمهورية المتحدة بتلك الطريقة.
ما قبل الوحدة
في كتابه "سنوات الغليان"، ذكر الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، أن المجلس العسكري السوري عقد اجتماعا في دمشق، مساء 11 يناير/كانون الثاني 1958، وقرر سفر وفد يمثله إلى القاهرة لمطالبة عبدالناصر بالوحدة الفورية بين البلدين.
ضم الوفد السوري 14 ضابطا، ممثلين للمجلس العسكري السوري الذي تكون في أغسطس/آب 1957 من 24 عضوا يمثلون كل الكتل العسكرية، وعددا من القادة الذين لا ينتمون إلى تلك الكتل.
وأوضح هيكل أن ذلك المجلس اعتبر نفسه بمثابة كيان يحمي استقلال سوريا، ويحول دون انضمامها إلى الأحلاف الأجنبية، رغم وجود رئيس جمهورية ورئيس حكومة ومجلس نواب، مما أوجد ازدواجا فى السلطة.
اجتمع الوفد السوري مع عبدالناصر في الساعة الثامنة مساء 15 يناير/كانون الثاني 1958، وقدم الضباط للرئيس المصري مذكرة موقعة من أعضاء المجلس العسكري بطلب الوحدة الفورية.
يذكر الكاتب الصحفي نقلا عن محضر الاجتماع، أن أعضاء الوفد السوري جلسوا فى نصف دائرة حول عبدالناصر ومعهم قائد الجيش المصري عبدالحكيم عامر، ليبتدئ الزعيم الراحل حديثه "إن الموضوع أخطر من أية أوراق أو مذكرات، وأنا سمعت من عبدالحكيم ملخصا عما تحتويه هذه المذكرة، ولن أقرأها أمامكم الآن، وإلا كنا نقفز إلى النتائج دون أن نتحرى مقدماتها وأسبابها".
أبدى ناصر رفضه لإعلان الوحدة، قائلا "أرسلت لكم وجهة نظري في موضوع الوحدة، وأننا لسنا مستعدين لها قبل 5 سنوات، ولا أعرف ما الذي استجد خلال الأسبوعين الأخيرين بما يدعوكم الآن إلى المطالبة بالوحدة الفورية".
وأمام الرفض المصري، تحدث أفراد من الوفد السوري حول الوضع المحتدم في بلدهم حيث حالة الاستنفار الدائمة في الثكنات لأن كل فرقة تتوجس من الأخرى، فضلا عن الانقسام بين الأحزاب التي توزعت اتجاهاتها السياسية إلى درجة توشك بحدوث فتنة، إلى جانب النشاط القوي للشيوعيين في نفس الوقت الذي تتكاثف فيه الحشود العسكرية على الحدود التركية والعراقية مدفوعة بتحريضات أميركية.
غير أن كل الأسباب التي دفع بها السوريون، كانت من وجهة نظر عبدالناصر دوافع سلبية ستضر بالوحدة أكثر ما تكون قوة دافعة لها، ولم ييأس السوريون فزادوا في إلحاحهم الذي استمر على مدار عدة اجتماعات تالية، وبدأ عدد منهم يلمحون إلى كون الزعيم المصري يروج للقومية العربية دون رغبة جدية منه لتطبيقها على أرض الواقع، وفق ما جاء ضمن محضر الاجتماع الذي استشهد به هيكل.
وخلال جلسات الإقناع من جانب السوريين، تمكنوا من الحصول على موافقة من جانب الرئيس السوري شكري القوتلي على الوحدة، ليوافق عبدالناصر من جانبه بعد ذلك.
وتم توقيع ميثاق الوحدة بين مصر وسوريا بعد استفتاء شعبي، وانتخب عبدالناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، على أن تكون القاهرة هي العاصمة. وأصبح للدولة الجديدة دستور وحكومة مركزية، ومجلسان تنفيذيان إقليميان أحدهما مصري والآخر سوري، وتم توحيد برلماني البلدين، وكذلك إنشاء قيادة عسكرية موحدة يكون مقرها دمشق.
هل أراد الزعيم الوحدة؟
"أشعر الآن وأنا بينكم بأسعد لحظة من حياتي، فقد كنت دائما أنظر إلى دمشق وإليكم وإلى سوريا وأترقب اليوم الذي أقابلكم فيه، واليوم أزور سوريا قلب العروبة النابض سوريا اللي (التي) حملت دائما راية القومية العربية، سوريا اللي (التي) كانت دائما تنادي بالقومية العربية، واليوم أيها الإخوة المواطنون حقق الله هذا الأمل وهذا الترقب، وأنا ألتقي معكم في هذا اليوم الخالد، بعد أن تحققت الجمهورية العربية المتحدة".
كعادته ألقى عبدالناصر خطابا حماسيا خلال زيارته لدمشق بمناسبة الوحدة بين بلده وسوريا، أكد فيه سعادته بميثاق الوحدة، لكن هل حقا كان الزعيم سعيدا؟
بكلمات واضحة بعد يوم من انهيار الوحدة بين البلدين، وفي خطاب جماهيري، قال عبدالناصر إنه رفض فكرة الوحدة في اجتماع مع وفد سوري يوم 15 يناير/كانون الثاني 1958، لأنها ستمثل هدفا لكل أعداء الوحدة العربية، وإنه طلب الانتظار 5 سنوات مع البدء في أشكال جزئية من الوحدة بين البلدين مثل الوحدة العسكرية والاقتصادية والثقافية، وصولا في النهاية للوحدة الدستورية الكاملة.
في قراءة لها حول مشاهد الوحدة ومن ثم الانفصال، نشرتها صحيفة الأهرام، قالت ابنة الزعيم الراحل هدى عبدالناصر، إن أباها فوجئ يوم 14 يناير/كانون الثاني 1958، بوصول طائرة سورية إلى مطار القاهرة وعلى متنها ضباط سوريون.
التقى المشير عبدالحكيم عامر، الضباط الذين أخطروه بأن سوريا في خطر وتواجه كارثة، وهناك مخاوف من أن ينقض الشيوعيون على الحكم في دمشق، ورأوا أن الحل هو إتمام الوحدة مع مصر.
واستطردت هدى في نقل ما قاله أبوها خلال اجتماعه بمجلس الوزراء المصري، في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1961، عقب إعلان الانفصال، مؤكدة أنه أبلغ الضباط في اجتماع لاحق لاجتماعهم مع عامر، رفضه الوحدة بتلك السرعة لأنها لا يجب أن تقوم على أساس عاطفي.
رأى الزعيم المصري أن ترتيبات الوحدة بين البلدين تحتاج لنحو 5 سنوات، حسب ما قالت الابنة "إلا أنهم أصروا وقالوا له إن سوريا ستضيع فهل سوريا لا تهمك؟".
الرؤية نفسها تقريبا ينقلها الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، في كتاب سيرته الذاتية "البحث عن الذات"، حيث أكد أنه سافر إلى دمشق في نوفمبر/تشرين الثاني 1957، ووجد الأمور السياسية تتصاعد هناك بسرعة مذهلة نتيجة تمزق الجيش إلى فرق تختلف فيما بينها على وجود شكري القوتلي على رأس السلطة السورية.
وأضاف السادات أن حدوث انقلاب في سوريا بات وشيكا، لذا أسرع عدد من الضباط إلى القاهرة لإقناع عبدالناصر بالوحدة الفورية، مستطردا "حاول عبدالناصر جاهدا أن يثنيهم عن عزمهم، إذ لا يمكن أن تتم الوحدة فجأة ودون تمهيد.. خاصة وأن البلدين مختلفان في أوجه كثيرة.. ولكن عبثا حاول ليلة بعد أخرى إلى أن كانت الليلة الثالثة فلم يجد أمام إصرارهم مناصا من الموافقة على الوحدة".
تردد الزعيم
في مقال له حمل عنوان مقال "22 شباط في ذاكرة السوريين التاريخية: نداء من الماضي إلى المستقبل"، تحدث الباحث السوري شمس الدين الكيلاني، عن أجواء ما قبل إعلان الوحدة.
وقال إن ثمة سلسلة من حلقات التقارب بين مصر وسوريا، بدأت في عام 1955 بتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك بينهما، ثم وضعت الحكومة السورية ببرنامجها، في يونيو/حزيران 1956، إقامة اتحاد بين البلدين، غير أن النظر في مشروع الوحدة أُجِّل بسبب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ثم استكمل في سبتمبر/أيلول 1957 حين وقعت حكومتا البلدين اتفاقية الوحدة الاقتصادية.
وأضاف أنه في ظل المد القومي الطاغي آنذاك، وبروز شخصية الرئيس المصري بوصفه زعيما قوميا، طالبت قيادات سياسية وحزبية وعسكرية سورية باتحاد دمشق والقاهرة في دولة واحدة تحت قيادة ناصر.
وذكر المقال أن الزعيم المصري كان مترددا حيال إتمام الوحدة، مرجعا ذلك لتعارض الواقع السياسي في سوريا مع نمط الحكم الذي شرع في بنائه بمصر، والقائم على المركزية السياسية والإدارية وإمساك نخبة طليعية إدارة السلطة سياسيا واقتصاديا.
أمام المركزية في مصر، كان الجيش السوري تتناهشه الكتل المتنافسة على الحكم إلى جانب الصراع الدائم بين الأحزاب، لذلك وبحسب الكيلاني، فإن عبدالناصر اشترط لقبول الوحدة أن تتماثل أشكال الحياة السياسية في الإقليمين السوري والمصري، باعتماد صيغة الاتحاد القومي بديلا عن البرلمان، كإطار للمشاركة السياسية بعد حل جميع الأحزاب، وهو ما قبله الجانب السوري.
نهاية الوحدة
استمرت الوحدة بين القاهرة ودمشق نحو 3 سنوات حيث أعلن الانفصال في 28 سبتمبر/أيلول 1961، وثمة أسباب كثيرة يطرحها الجانبان المصري والسوري في ذلك الصدد.
هنالك تحليلات وشهادات تذهب للإشارة إلى مؤامرات خارجية حيكت خاصة من جانب إسرائيل لنسف الوحدة الوليدة، وأخرى ترى أن الولادة من البداية كانت مبتسرة، ومن ثم جاء تفتت الجمهورية المتحدة من داخلها، بسبب غياب الظروف التمهيدية والرؤية الشاملة التي تؤسس للاستمرار.
في المقابل، توجد أصوات تلقي بالخطأ كله على السياسات الناصرية التي رآها سوريون بمثابة تحويل بلدهم إلى مجرد إقليم يتبع السيادة المصرية، فضلا عن قرارات اقتصادية تأثرت بها سلبا الطبقة البرجوازية السورية مثل قرار التأميم وقانون الإصلاح الزراعي.
مع كل الأسباب التي أدت إلى فض الوحدة إثر انقلاب عسكري نفذه ضباط سوريون، تبدو وجاهة من يقول إن عبدالناصر رفض الجمهورية الجديدة قبل الإعلان عن قيامها.
وكعادته خرج عبدالناصر إلى الجماهير ليخطب فيها بحماس عقب قرار الانفصال، وفي معرض حديثه أكد أنه أرسل ظهر اليوم السابق فرقا عسكرية من البحرية والمظلات لمواجهة الانفصاليين؛ فهتفت الجماهير وصفقت للزعيم، وعندما أكمل حديثه قائلا إنه أبلغ الفرق العسكرية بالعودة عبر اللاسلكي لأنه لا يقبل أن يسفك عربي دم عربي؛ هتفت الجماهير وصفقت أيضا!
المصدر : الجزيرة نت - دعاء عبد اللطيف