من غير المتوقَّع إذن أن يتخلَّى الجيش السوداني عن الإمبراطورية الاقتصادية التي أسَّسها ورعاها طيلة عقود، وأقصى ما يمكن أن يفعله هو تسليم الشركات الصغيرة فحسب امتثالا للضغط الأميركي، مع الاستئثار بإدارة الشركات ذات الأرباح الأكبر. لكن الأزمة الكبرى التي تواجه حكومة حمدوك هي الشركات التابعة لقوات الدعم السريع، التي يحتكم قائدها على أكبر ميزانية في السودان من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميا على شركات يديرها أقرباؤه جعلت قواته في النهاية قوة لا تقل ثقلا عن الجيش، بل وربما تضاهيه، كما منحته الاستقلال المالي عن الميزانية الحكومية.
طبقا لما أقرَّته الوثيقة الدستورية التي حدَّدت أسس الانتقال الديمقراطي في السودان بعد الثورة، فإن رئاسة المجلس السيادي تؤول إلى شخصية عسكرية (البرهان) لمدة 21 شهرا بدأت من تاريخ توقيع اتفاقية سلام جوبا مع الحركات المسلحة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، على أن تنتقل رئاسة المجلس بعد ذلك إلى القوى المدنية لمدة 18 شهرا. ومع اقتراب نهاية المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، يستعد المجلس العسكري لتسليم رئاسة المجلس السيادي إلى القوى المدنية في يونيو/حزيران 2022، في ظل الكثير من الملفات غير المحسومة، أبرزها وضع الشركات التابعة للجيش ورفضه تسليمها إلا لحكومة منتخبة، وهي بوادر انقسام عنيف بين المُكوِّن العسكري والمُكوِّن المدني داخل السلطة الانتقالية التي يتبادل طرفاها الآن الهجوم العلني، مع اتهامات للعسكريين بالرغبة في التراجع عن التحوُّل الديمقراطي والالتفاف على الوثيقة.
حتى اللحظة يجد رئيس الوزراء السوداني نفسه مكتوف الأيدي أمام الصلاحيات الواسعة لرئيس المجلس السيادي، وتدخُّل الجيش في ملفات الاقتصاد والسلام الداخلي والعلاقات الخارجية، مع تحميل القوى المدنية ما آلت إليه البلاد من ظروف اقتصادية ووضع سياسي وأمني مأزوم، وهو ما يضع السودان على مُفترَق طرق بين إمكانية وقوع انقلاب حقيقي يؤول بالحُكم في البلاد إلى الجيش حصرا، على غرار ما جرى في مصر، أو احتمالية قيام المجلس السيادي بمحاولة عرقلة عمل القوى المدنية والتشكيك في شرعيتها وتسليط الضوء على إخفاقاتها، على غرار ما يجري في تونس الآن، أو نجاح القوى المدنية في التوصُّل إلى اتفاق جديد يحفظ أسس الوثيقة ويُتيح لها استيعاب القوة الحالية للجيش رُغما عنها، على غرار ما يجري في الجزائر، وهي كلها سيناريوهات تعني أن مخاض الدولة السودانية الجديدة سيكون أصعب وأطول مما يعتقد الكثيرون.
المصدر : الجزيرة نت - محمد العربي