في التاسع عشر من يونيو/حزيران من هذا العام، وبينما انصبَّت أنظار العالم على الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمعرفة قراره النهائي بشأن الانضمام للحرب الإسرائيلية على إيران، حلَّ رئيس الأركان الباكستاني عاصم منير ضيفا على العاصمة واشنطن، في زيارة هي الأولى من نوعها لقيادة عسكرية باكستانية إلى البيت الأبيض منذ عام 2001.
سرت التكهُّنات بأن الأمر مرتبط بالحرب على إيران، وأن عودة الاهتمام بباكستان من طرف الرئيس الذي همَّشها ابتداء يعني أن الولايات المتحدة تريد أن تستعيد شراكتها مع إسلام آباد بصورة ما، أما فحوى الزيارة فلم يظهر إلا في اليوم التالي، حين تحدَّث ترامب قائلا: "إن الباكستانيين يعرفون إيران جيدا جدا، يعرفونها أكثر من معظمنا، وهم ليسوا سعداء بأيٍّ مما يجري".
على مدار ساعتين، تحدَّث عاصم منير مع ترامب حول خطورة انهيار النظام الإيراني، وما يُمكن أن يخلفه ذلك على بلوشستان بالتحديد، بما يشمل انتشار الجماعات المُسلَّحة التي يمكن أن تستغل انهيار النظام في طهران، وعلى رأسها جيش العدل الذي تُصنِّفه واشنطن جماعة إرهابية.
من جهته، لم يتأخر جيش العدل في إعلان نِيّاته، فبعد بدء التصعيد بثلاثة أيام، أصدر بيانا دعا فيه "شعب بلوشستان" إلى الانضمام إلى نضاله المُسلَّح ضد النظام الإيراني، دون توضيح أي بلوشستان بالتحديد، وإن كان ثمَّة فرق كبير بين المنطلقات الأيديولوجية لجيش العدل والمتمردين البلوش في باكستان تحول دون تحالفهما.
لا شك أن التحذير من تنامي نشاط المسلحين الإسلاميين يضغط على وتر حساس لدى واشنطن، التي أخفق غزوها لكلٍّ من العراق وأفغانستان في تحقيق أهدافه، بل وفتح الباب أمام جماعات مسلحة لا حصر لها، ولا تزال تعمل على مواجهتها بالتعاون مع باكستان، وهو تعاون أمني تجدَّد على خلفية نشاط تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) فرع خراسان، وكذلك حركة "تحريك طالبان باكستان" التي تُنفِّذ عمليات داخل باكستان، وتسبب في إثارة التوترات بين كابول وإسلام آباد.
أعرب رئيس الأركان الباكستاني أيضا عن مخاوفه من أن تتحوَّل عملية ضرب المشروع النووي الإيراني إلى سابقة سيئة يُمكن أن تُحفِّز الحروب النووية في المنطقة. ورغم أن إسرائيل لا تُعلِّق على المشروع النووي الباكستاني، فإن مؤسساتها العسكرية والاستخبارية لطالما نظرت إليه بتحفُّظ كبير.
و
كانت إسرائيل قد عرضت على الهند في الثمانينيات عملية جوية لقصف المفاعلات النووية الباكستانية قبل أن تنجح إسلام آباد في تجربة سلاح نووي، وذلك باستخدام طائرات إسرائيلية تنطلق من قواعد هندية، لكن حكومة إنديرا غاندي التي أبدت حماسا للفكرة تراجعت عنها، ثم رفضها نهائيا ابنها راجيف غاندي.
بالتوازي مع زيارة منير، كان الموقف السياسي والرسمي لباكستان قد لفت الأنظار باصطفاف صريح مع إيران، فقد صرَّح وزير الدفاع خواجة محمد آصف في جلسة للبرلمان الباكستاني قائلا إن "إسرائيل استهدفت إيران واليمن وفلسطين. وإذا لم تتحد الدول الإسلامية الآن، فإن كلًّا منها سيشهد المصير نفسه".
وفي جلسة طارئة بمجلس الأمن، طالب عاصم افتخار، مندوب باكستان لدى الأمم المتحدة، بالدعم الكامل للشعب الإيراني، وقال: "إن العدوان الإسرائيلي خطر على المنطقة كلها، وإن باكستان تقف في تضامن حازم مع شعب إيران الشقيق، وتقدم تعازيها لضحايا تلك الهجمات البشعة". وقد غرَّدت البعثة الدائمة لباكستان لدى الأمم المتحدة على موقع "إكس" قائلة إن لإيران الحق في الدفاع عن نفسها.
وفيما يبدو، لا تزال باكستان مهتمة بعلاقاتها مع واشنطن، وراغبة في الحفاظ على شراكة قديمة تجذب الكثيرين داخل المؤسسة العسكرية.
وكذلك لأن حاجة واشنطن إلى باكستان، التي يُمكن أن تتجدَّد بسبب الحرب على إيران، تعني أن باكستان ستجمع بين تحالف وثيق في جنوب آسيا مع الصين، وآخر مع واشنطن في الشرق الأوسط، وهو أمر يُسهِّله وجود عاصم منير على رأس الجيش الباكستاني، الشخصية الصاعدة مؤخرا على الساحة في البلاد بعد إقصاء عمران خان، الذي يُكِن له عداء شخصيا وسياسيا كبيرا، حيث ينحاز منير إلى نُسخة من القومية الإسلامية التقليدية تحت سيطرة الدولة والجيش، ويعمل على تطويق حركة "تحريك إنصاف" التي يقودها عمران خان، المسجون حاليا، التي لم تمتلك علاقات جيدة مع الولايات المتحدة أو الخليج.
تعلم إسلام آباد أيضا أن قَصْر اعتمادها التجاري والاقتصادي على الصين قرار غير حكيم، ومن ثمَّ فإن التنويع بين الاستثمارات الصينية واستثمارات الأميركيين تبدو وصفة مُمتازة للاقتصاد الباكستاني في قادم السنوات.
في المقابل، تُدرك واشنطن أن تجاهل باكستان بالكامل يعني منح أعدائها في المنطقة ظهيرا إضافيا، ومن ثمَّ يقول مُحللون أميركيون إن واشنطن يجب أن تهتم بالاستثمار هناك، حتى لو كانت استعادة الشراكة الوطيدة السابقة أمرا صعبا في ضوء الأولويات الأميركية. وفي أدنى الأحوال فإن ذلك سيمنع باكستان من أن تتحوَّل إلى حليف كامل لدول مثل إيران وكوريا الشمالية في آسيا حتى لو لم يؤثر بشكل كبير على علاقاتها مع بكين.
على الجهة المُقابلة، تجد الهند نفسها في موقف صعب حيال التصعيد الأخير، إذ إنها عادة ما امتلكت علاقات قوية مع إيران. مثلا، تعمل الهند منذ سنوات على تدشين مشروع ميناء تشابهار الإيراني، وهو لا يهدف فقط إلى منافسة ميناء غوادر الصيني المجاور في باكستان، وإنما إلى إنشاء ممر اقتصادي يربط الهند بأفغانستان وآسيا الوسطى، وهي منطقة مهمة تبحث عن سبيل إليها في ظل حيلولة كشمير الباكستانية دون امتلاكها صلة مباشرة هناك.
وقد وقَّعت الهند عقدا لمدة عشر سنوات لتطوير الميناء، مستفيدة من إعفاء مشروعها من العقوبات الأميركية على إيران، الذي كانت واشنطن قد أصدرته عام 2018، لكن إدارة ترامب أوقفت الاستثناء في إطار سياسة الضغط على إيران.
من جهة أخرى، ونتيجة علاقاتها الوثيقة بواشنطن وتل أبيب، نأت الهند بنفسها عن تبني بيان التنديد بالضربات الإسرائيلية الذي أصدرته
منظمة شانغهاي للتعاون يوم 14 يونيو/حزيران الماضي، بحضور الصين وروسيا وباكستان وبيلاروسيا ودول آسيا الوسطى الخمس.
وصرَّحت دلهي بعد اجتماع المنظمة أنها لم تحضر المناقشات بخصوص البيان، وأن موقفها من الأزمة واضح في بيان وزارتها للخارجية الذي صدر قبلها بيوم، وعدُّه كثيرون محاولة لتجنُّب اتخاذ موقف صريح، حيث جاء فيه: "إننا نراقب الوضع عن كثب، ونعمل لنزع فتيل التصعيد، والهند تتمتَّع بعلاقة ودية ووطيدة مع البلديْن".
وفي اليوم السابق لبيان منظمة شانغهاي، كانت الهند قد امتنعت عن التصويت على مشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بوقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط في قطاع غزة.
في ظل حرية حركة أوسع بعيدا عن الاعتماد الأوحد على التحالف الأميركي السابق، تحاول باكستان استغلال مأزق الهند لتقويض علاقات الأخيرة الجيدة بإيران. وتأمل إسلام آباد أن تنجح في تدشين شراكة أعمق باتت مُمكنة أكثر من أي وقت مضى مع طهران، وإن كانت العقوبات الأميركية تُهدِّدها هي الأخرى، مثلما حدث عام 2013، حين توقَّفت إسلام آباد عن الوفاء بالتزاماتها حيال مشروع خط غاز اتفق عليه البلدان عام 2010.
في هذا السياق، يُمكن فهم الموقف الباكستاني الأخير، الذي اصطف مع إيران، وإنْ لم يُقدِّم أي دعم مادي ملموس على الأرض، ودون أن يلغي من خياراته احتمالية قد تضطره مستقبلا حين يتوسع النزاع. من جهة، يُمثل سقوط النظام الإيراني عبئا على باكستان، بسبب الفوضى التي يُمكن أن يُحدثها، خاصة في ظل اختراق إسرائيلي وأميركي لبعض الحركات البلوشية الإيرانية يُمكن أن يتعزز بتعاون مع الهند ليشمل بلوشستان الباكستانية، المحورية الآن لممر الصين-باكستان الاقتصادي.
يبدو أن إسلام آباد منحازة إذن إلى الحفاظ على النظام الإيراني والعلاقة التي تشكَّلت معه على مر السنين، مهما كانت طبيعة التوتُّر الذي تخلَّلها من حين إلى آخر، كما يبدو أنها حريصة على إبقاء جميع خياراتها مفتوحة في ظل معركة تراجعت مؤشراتها حاليا، بعد وقف اطلاق النار، وعلى الصعيد الداخلي، يخدم الدعم الإعلامي لإيران شرعية النظام أمام الرأي العام الباكستاني المناهض لإسرائيل، وبالتحديد الأقلية الشيعية المتعاطفة مع النظام الإيراني، خصوصا في ظل غضب لدى قطاع من الشعب من إسقاط حكومة عمران خان ومن الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
في الأخير، ثمة تداخل ثقافي ومذهبي وسياسي بين البلديْن يُشكِّل عبئا في لحظات الاضطراب، ورصيدا مُهِما في حال تعميق العلاقات، علاوة على كونه سقفا يَحول دون العداء الصريح بين إيران وباكستان. أما التحالف الإستراتيجي والعسكري الكامل الذي روَّجت له بعض المنصات الإعلامية، فبعيد المنال، ما لم تشهد الحسابات الإقليمية والدولية لباكستان منعطفات جذرية تدفعها إلى إعادة التفكير في الأمر بعد أن تضع الحرب أوزارها.