تُسلِّط هذه التطورات الضوء على بعض المشكلات "التكتيكية" المعقدة التي تواجهها
موسكو في ساحة المعركة الأوكرانية. ولا تكمن مشكلة روسيا في أنها أخطأت تقدير نِيَّات الأوكرانيين في عملية استثنائية واحدة فحسب، بل وفي سوء التقدير والتجاهل المتكرر لنقاط قوة الأوكرانيين في الحرب، والتعامل معها على أنها "طفرات مؤقتة".
فبحلول منتصف عام 2022، كانت أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها تحت سيطرة روسيا، ومنها بلدة خاركيف، القريبة من الحدود الروسية وذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، ولذلك كانت استعادة خاركيف هدفا أساسيا بالنسبة إلى كييف.
وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، شنَّ الأوكرانيون هجوما مضادا سريعا تمددت أثناءه القوات بسرعة إلى داخل خاركيف، مستغلةً نقاط الضعف في الخطوط الروسية، واستعادت أراضي شاسعة وقتها، في عملية استُلهِمَت جزئيا من تكتيكات "الحرب الخاطفة".
وعلى المنوال نفسه، يُنظَر إلى هجوم خيرسون، الذي شنَّته القوات الأوكرانية في أواخر عام 2022 لاستعادة منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا، القريبة من شبه جزيرة القرم
والبحر الأسود، على أنه هجوم حَمَل بعض بصمات الحرب الخاطفة.
في كلتا المعركتين، كان تقدُّم الأوكرانيين سريعا وحاسما، ويبدو أن التكتيك نفسه استُخدم أثناء الاستيلاء الأوكراني على كورسك. فقد بدأت الأمور بحرب خاطفة إلكترونية، حيث أسقط الأوكرانيون المُسيَّرات الروسية المسؤولة عن الاستطلاع والمراقبة، ويُعتقد أن ذلك حدث عن طريق مُسيَّرات اعتراضية جديدة متصلة إلكترونيا برادار الدفاع الجوي.
ثم أدخل الأوكرانيون أجهزة تشويش قصيرة المدى إلى الخط الأمامي كي تستمر عملية التعتيم لأطول فترة ممكنة، وجرت برمجة هذه الأجهزة ببيانات جُمِعَت مسبقا عبر وحدات استطلاع الحرب الإلكترونية.
نتيجة لذلك، توقَّف تماما عمل المُسيَّرات الروسية المستخدمة لتحديد الأهداف وتوجيه المدفعية، وهي مُسيَّرات لعبت دورا محوريا في نجاح المدفعية الروسية سابقا، فكانت تُحدِّد الهدف بدقة بحيث تُضبَط المدفعية والأسلحة الأخرى باتجاهه، كما تشير بعض التقارير إلى أن لها الفضل في تدمير قرابة ثُلثَيْ الدبابات التي فقدتها كييف في الحرب.
الآن، ومع تحييد المدفعية الروسية بطمس أهدافها، دخلت أسراب المُسيَّرات الأوكرانية وضربت بدقة وكثافة الدفاعات المستقرة في كورسك، بما في ذلك الخنادق الأرضية المُحصَّنة، وبعد ذلك تقدَّمت القوات البرية لمسافة آمنة عبر الأرض التي أمَّنتها للتو، وأحضرت معها أجهزة التشويش، ثم بدأت العملية الخاطفة نفسها من جديد، فاستمر التقدُّم للأمام عبر التكتيك نفسه.
تنتمي كل هذه التكتيكات الحربية الأوكرانية إلى ما يُعرف بـ"الحرب الهجينة"، وهو أمر لم تتوقعه القوات الروسية على الأرجح، حيث إنها نوع من الحرب لم تتجهز لها روسيا بالكامل، في حين تجهَّزت لحرب نظامية معتادة مع كييف.
وتوظِّف الحروب الهجينة مزيجا من القوات والأدوات النظامية المعروفة (جنود ودبابات ومدفعية وطيران) إلى جانب تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل حروب العصابات، وعمليات الكر والفر، ونصب الكمائن، وتخريب البنية التحتية مثل الجسور والسكك الحديدية، والاغتيالات. وتستخدم كييف تكتيكات الحرب الهجينة لتقليص فارق القوة مع القوات الروسية الأكبر والأكثر تجهيزا، مستفيدةً من تبادل المعلومات الاستخبارية مع القوى الغربية.
إن الدور الذي لعبته تقنيات المراقبة والاستطلاع والاستخبارات يفتح الباب لفهم أحد أهم أسباب إبطاء الحرب، وهي أن روسيا في الواقع لا تحارب أوكرانيا فحسب، بل تحارب من ورائها الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا في النهاية.
فمنذ عام 2022، قدمت الولايات المتحدة ودول أوروبا عشرات المليارات من الدولارات من الأسلحة والذخائر والتدريب للقوات الأوكرانية.
ويتراوح ذلك بين الأسلحة المتطورة المضادة للدبابات، مثل صواريخ جافلين التي صدَّت الهجمات المدرعة، وأنظمة إطلاق النار الدقيقة بعيدة المدى، مثل قاذفات صواريخ هيمارس التي استهدفت مستودعات الإمدادات الروسية، والدفاعات الجوية المتطورة، مثل بطاريات
باتريوتوناسامز التي تحمي الآن المدن الأوكرانية من الصواريخ.
لكن العامل الصامت "المُضاعِف للقوة" في هذا السياق كان تبادل
المعلومات الاستخباراتيةمع الغرب، حيث تُزوِّد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) أوكرانيا بصور الأقمار الصناعية في الوقت الفعلي، ونتائج اعتراض الاتصالات والموجات اللاسلكية، ورصد شبكات الهاتف والإنترنت والاتصالات العسكرية، وبيانات الطيران والمراقبة من الطائرات الاستطلاعية فوق البحر الأسود أو على حدود أوكرانيا.
يمنح ذلك الجيش الأوكراني القدرة على معرفة مكان خصومه بدقة وفي الوقت الحقيقي، وعندما يتحرك رتل عسكري روسي أو تنقل روسيا معدات إلى جبهة معينة، يمكن للأقمار الصناعية الغربية كشف ذلك. وتصل هذه المعلومات إلى القيادة الأوكرانية في غضون دقائق، فيستعدون للهجوم أو
للكمين.
وبدلا من أن يعتمد الجيش الأوكراني على المُسيَّرات وحدها أو الرصد المباشر، فإنه يحصل على صورة دينامية ثلاثية الأبعاد للميدان، مما يجعل التخطيط أكثر فاعلية ويُقلل من المفاجآت.
يساعد ذلك أيضا في تحديد الأهداف عالية القيمة بدقة، مثل مراكز القيادة الروسية، ومخازن الذخيرة، والرادارات، ومنظومات الدفاع الجوي، وحتى السفن. وأشهر مثال على ذلك هو غرق الطراد الروسي "موسكفا" في أبريل/نيسان 2022، حين أطلق الأوكرانيون صواريخ "نِبتون" محلية الصنع، لكن المكان الدقيق للطراد في البحر الأسود، ومسار حركته، كان قد حُدِّد عبر الأقمار الصناعية الأميركية.
وفي كل مرة صعَّدت فيها روسيا (باستخدام مُسيَّرات "شاهد" الإيرانية مثلا)، رد الغرب بتزويد أوكرانيا بأدوات للمواجهة (مثل الأنظمة المضادة للمُسيَّرات والرادارات).
إن إدراك الأوكرانيين وجود حلفاء أقوياء وراءهم يشجعهم بالطبع على الاستمرار في الحرب، وعلى العكس من ذلك، تُدرك القوات الروسية أنها لا تواجه جارا ضعيفا، بل تواجه خصما مُسلحا جيدا بمعدات غربية متطورة، وهو بُعد نفسي تسبَّب في تراجع الروس عن هدف إرهاق أوكرانيا أو احتلالها بالكامل.
والواقع أن هذه المعركة، في جانب كبير منها، تُعَد معركة على "جدوى المساعدات الغربية"، ففي حال تكبَّدت أوكرانيا خسائر فادحة، فقد يتراجع الدعم الغربي، فلا أحد يرغب في دعم قضية خاسرة، وهو ما يُفسِّر دأب الأوكرانيين في استغلال الدعم الغربي بكل الوسائل المُمكنة.
علاوة على كل ذلك، يأتي ملف العقوبات الاقتصادية على روسيا، التي لم تُوقِف الحرب، لكنها قيَّدت المجهود الحربي الروسي إلى حدٍّ كبير. وقد استهدفت هذه العقوبات كل شيء، من البنوك الروسية وصادرات النفط إلى سلاسل التوريد العسكرية.
على سبيل المثال، أعلنت الدول الغربية ضوابط تصدير أشباه الموصلات وغيرها من المكونات عالية التقنية إلى روسيا، ومن ثمَّ أجبرتها على البحث عن بدائل رديئة لمعداتها العسكرية، مثل إزالة الرقاقات الدقيقة من الأجهزة المنزلية لاستخدامها في أنظمة استهداف الدبابات، كما اضطر الإنتاج الدفاعي الروسي إلى اعتماد تصاميم قديمة لا تحتاج إلى رقاقات مُستوردة، أو تبسيط التصاميم الأحدث.
مع مرور الوقت، يُضعِف هذا من جودة الترسانة الروسية. وقد شهد المراقبون بالفعل سحب روسيا دبابات "تي-62" من حقبة الستينيات من مخازنها لتعويض خسائرها في الخطوط الأمامية عام 2023، وحتى مدافع الهاوتزر السوفياتية القديمة بدأت تظهر في المقدمة. لذا، خلق الدعم العسكري والاقتصادي الغربي حرب صمود لم تتوقعها روسيا، ويبدو أن بوتين افترض عام 2022 حين غزا أوكرانيا أن
حلف الناتوسيكون منقسما أو مترددا في تسليح أوكرانيا، أو أن العقوبات ستكون فاترة.