هل احتلت فرنسا الجزائر بسبب حادثة المروحة وإهانة سفيرها؟
نظرا لأهمية الجزائر الإستراتيجية، فقد شهدت طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر العديد من المحاولات الفاشلة لاحتلالها ولا سيما من البريطانيين والفرنسيين والإسبان والهولنديين والدنماركيين، ولكن أخطرها وأكثرها شراسة تلك التي قام بها الفرنسيون واحتلوا على إثرها الجزائر. (شترستوك)
5/9/2024
حين سقطت غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس في يد الإسبان عام 1492م اضطر المسلمون إلى مغادرة الأندلسفارين من القهر الإسباني، وقد استقر عدد كبير من هؤلاء المهاجرين الإسبان في بلدان شمال أفريقيا، ومنذ ذلك الحين بدأ الإسبان يفكرون في احتلال بلدان شمال أفريقيا لا سيما المغاربية منها؛ ليحولوا دون عودة المسلمين إلى الديار التي هُجِّروا منها، ولنهب خيرات هذه البلدان والسيطرة عليها، وقد شجعهم على اتخاذ هذه الخطوات ضعف البلدان المغاربية في ذلك التوقيت وتشرذمها.
بدأ الإسبان غارتهم على السواحل الجزائرية فاستولوا على عدة مدن منها مثل المرسى الكبير سنة 1505م، ووهران سنة 1509م، وبجاية سنة 1510م وصخرة البنيون الواقعة في بوابة ميناء مدينة الجزائر العاصمة اليوم لتكون الخطوة التالية احتلالهم المدينة، ولما رأى أهل الحل والعقد في المدينة أن المقاومة لم تفعل الكثير من أجل صد الإسبان؛ ذهب وفد منهم إلى مدريد لعقد اتفاقية سلام مع ملكها، ووافقوا في تلك الاتفاقية على دفع ضريبة سنوية للقائد الإسباني المقيم في بجاية مقابل عدم التعرض لمدينة الجزائر.
الجزائر في العهد العثماني
ولكن الخطر الإسباني كان متفاقمًا ومثلما لم يلتزموا باتفاقهم مع أهل الأندلس وغرناطة وشرعوا في سياسة محاكم التفتيش والإبادة قبل الطرد النهائي، كان اتفاقهم مع الجزائريين لشراء للوقت، وخديعة لأهل البلد حتى يتسنّى لهم الهجوم المباغت، وفي هذه الأثناء ظهر في غرب البحر المتوسط القائدان الكبيران خير الدين بربروس وأخوه عروج اللذان كانت لهما أياد بيضاء في استنقاذ مسلمي الأندلس، وجهادهم المستمر والمستميت لتخليص بلدان شمال أفريقيا من الاحتلال الإسباني.
وقد أدرك الأخوان أنهما بحاجة ماسّة إلى وقوف دولة إسلامية قوية خلفهما، وكانت هذه الدولة هي الدولة العثمانية التي شرعت منذ وقت قليل في السيطرة على الأقطار العربية في مصر وبلاد الشام، ولها أسطول قوي في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط، وفتوحات مشتهرة في شرق ووسط القارة الأوروبية؛ وكانت أيضًا على علم بتحركات وتطورات القضية الأندلسية؛ فقد جاء عدد كبير من المهاجرين الأندلسيين واستقروا في إسطنبول عقب سقوط الأندلس.
وأيضًا أدركت الدولة العثمانية مدى خطورة الإسبان والطليان على هيمنتها التجارية والاقتصادية في البحر المتوسط، ورأت في التحالف مع الأخوين ابنَي بربروس، وتلبية استغاثة أهل الجزائر بالسلطان سليمان القانوني واجبًا دينيًّا، وهو الأمر الذي أثمر تحالفًا فذًّا أدى إلى طرد الإسبان بعد حروب متواصلة من مدن الجزائر وتونس وليبيا طوال القرن السادس عشر الميلادي، ومنذ تلك الحقبة دخلت الجزائر تحت الحكم العثماني وأصبحت تابعة له.
ورغم دخول الجزائر في ظل الدولة العثمانية فإنها ظلّت قاعدة عسكرية وبحرية متقدمة في غرب البحر المتوسط، تمدّ الأندلسيين في ثورتهم بالسلاح والعتاد تارة، وتحمل الضعيف والفارّ منهم إلى العدوة الجنوبية من المتوسط تارة أخرى، وقد مرّت طوال ثلاثمئة عام قضتها تحت الحكم العثماني بالعديد من التغيرات الإدارية والسياسية بين قوة وضعف، وارتفاع وتقهقر حتى عصرها الأخير وهو عصر الدايات، والداي هو حاكم الجزائر، وكان يُختار أحيانا من قادة البحر الكبار "رُيّاس البحر" وأحيانا أخرى من كبار الموظفين العثمانيين في الجزائر، وقد تمتع هؤلاء الحكام بقدر كبير من الاستقلال عن الباب العالي.
ولهذه الأهمية الإستراتيجية الكبرى للجزائر فقد شهدت طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر العديد من المحاولات الفاشلة لاحتلالها ولا سيما من البريطانيين والفرنسيين والإسبان والهولنديين والدنماركيين، ولكن أخطرها وأكثرها شراسة تلك التي قام بها الفرنسيون واحتلوا على إثرها الجزائر.

صورة مرسومة للأمير عبد القادر الجزائري أحد قادة مقاومة الاستعمار الفرنسي للجزائر في مدينة مارسيليا الفرنسية (الفرنسية)
الأطماع الفرنسية القديمة
لقد شهدت الجزائر في الأعوام الثلاثين الأولى من القرن التاسع عشر قبل مجيء الاحتلال الفرنسي سنة 1830م العديد من الاضطرابات والتراجع على المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية، ويرصد المؤرخ الجزائري أرزقي شويتام في كتابه "نهاية الحكم العثماني في الجزائر وعوامل انهياره" أسباب هذا التراجع؛ فيقول: "إن الظاهرة البارزة التي ميزت الفترة الأخيرة من العهد العثماني عن سابقتها في الجزائر هي انتشار موجة من الاضطرابات في مختلف أنحاء البلاد؛ مما تسبب في عدم استقرار نظام الحكم؛ فقد تولى الحكم في الفترة الممتدة من عام 1790 إلى 1830 ثمانية دايات تم اغتيال ستة منهم".
كانت فرنسا تتطلع إلى احتلال الجزائر منذ قديم الزمان بداية من لويس التاسع إلى نابليون بونابرت الذي أصر على احتلالها للقضاء على الوجود الإنجليزي في حوض المتوسط، وقد أقسم في عام 1802 على أنه سيحتل الجزائر ويخربها ويذل أهلها ليوفر الأمن وحرية الملاحة لسفنه في حوض البحر المتوسط، ولهذا الغرض كلّف الضابط بوتان عام 1808 التجسّس على الجزائر ووضع مشروع الاحتلال، لكن نابليون فشل في تحقيق مشروعه هذا بسبب تفاقم مشاكله التوسعية وانهزامه أمام الدول الأوروبية المتحالفة في معركة واترلو عام 1814.
ومن اللافت أن فرنسا سعت منذ وقت مبكر إلى إنشاء محطات تجارية على سواحل أفريقيا لحماية طرقها التجارية، وفي نفس الوقت القضاء على ما كانت تصفه بـ"القرصنة المغربية"، وقد ورد في الدراسات التاريخية أن المخططات الفرنسية الخاصة باحتلال الجزائر وبقية البلدان المغاربية لم تكن حديثة العهد وإنما ترجع إلى عهد لويس التاسع (1226- 1270م) الذي غزا مصر وتونس وفشلت غزواته، ولم تتوقف فرنسا منذ ذلك التاريخ عن رسم خططها لغزو الجزائر.
فقد بعث الملك الفرنسي شارل التاسع رسالة في 11 مايو/أيار 1572 إلى سفيره في إسطنبول فرانسوا دو نواي يأمره فيها بأن يطلب من السلطان العثماني سليم الثاني أن يتخلَّى مقابل مبلغ مالي سنوي عن الجزائر ليعيِّنَ عليها أخاه دوق أنجو الذي سيصبح الملك هنري الثالث فيما بعد. وإذا كانت هذه المحاولة قد فشلت لرفض العثمانيين هذا الطلب؛ فإن فرنسا لم تيأس من تحقيق أمنيتها في الاستيلاء على الجزائر، فتعددت -منذ ذلك الوقت- خططها، وتنوّعت مشروعاتها، التي تتحدث جميعها عن إعادة الجزائر إلى المسيحية، كما يرصد المؤرخ أحمد عزت عبد الكريم في كتابه " دراسات في تاريخ العرب الحديث".
ومن أهم المشاريع الفرنسية التي تم إعدادها لغزو الجزائر ذلك المشروع الذي أعدّه القنصل الفرنسي في الجزائر دوكيرسي عام 1791، ولكن هذا المشروع لم يكتب له النجاح؛ نظرا لانشغال فرنسا بالأحداث السياسية التي تلت ثورتها والاضطرابات الداخلية التي أدت إلى سوء الأوضاع الاقتصادية. وقد حدت تلك الأوضاع بالجزائر إلى إرسال عدة شحنات من القمح واللحوم والجلود والزيوت، بل وتقديم قروض مالية؛ فتمكنت فرنسا بفضل هذه المساعدات الجزائرية من القضاء على المجاعة التي كانت تهدد سكانها آنذاك.
على أن طموحات أسرة آل بربون الملكية التي تولت حُكم فرنسا بعد مؤتمر فيينا عام 1815 واندحار نابليون؛ أحيَت بدورها مشروع الاحتلال في إطار أطماعها السياسية على عهد الملك شارل العاشر الذي تولى حكم فرنسا عام 1824، وكان هذا الملك يرى أن الفرصةَ سانحةٌ للقيام بحملة عسكرية على الجزائر تُمكّنه من القضاء على معارضيه السياسيين في الداخل، وامتصاص غضب الشعب الفرنسي، وكذلك قطع الطريق على بريطانيا في البحر المتوسط.
وكان الذي يحكُم الجزائر منذ عام 1818م هو الداي حسين باشا وكان الفرنسيون أنفسهم يصفونه بالعقل والحزم، ولكن في 30 أبريل/نيسان 1827م التقى السفير الفرنسي في الجزائر ديفال بالداي حسين، وقد أصر هذا السفير على إساءة الأدب، وحاول استخدام سيفه الشخصي، الأمر الذي أغضب الداي وحدثت بين الجانبين مناوشة كلامية وتلويح الداي له بالمروحة اليدوية، وهي التي استمدت الحادثة الاسم منها، وقد اتخذت فرنسا من هذه الحادثة مبررا للتآمر على الجزائر واحتلالها تحت ذريعة إهانة سفيرها.
فشرعت ابتداء من 16 يونيو/حزيران 1827م في فرض حصار بحري على الجزائر استمر مدة ثلاث سنوات كاملة، وقد اعتبرت فرنسا حادثة صفع سفيرها في الجزائر فرصة لتحقيق مشاريعها وأحلامها القديمة. والحق أن الداي حسين كان قد أرسل إلى وزارة الخارجية الفرنسية في أكتوبر/تشرين الأول من العام السابق 1826م يطلبُ سحب هذا السفير الذي اتّهمه بالفساد والرشوة والتآمر، ولكن الحكومة الفرنسية لم تقبل طلبه، وكانت فرنسا إثر حادثة المروحة ولطم سفيرها لا تقوى على القيام بحملة عسكرية على الجزائر لانشغالها بدعم اليونان في حرب المورة التي عُرفت باسم معركة نافارين، والتي هُزمت فيها الدولة العثمانية ودُمر فيها الأسطول المصري، فلما انتهت هذه الحرب في 1829 بدأت تخطط للانتقام.
يتبع.....