ثورة سوتشو إمام.. كيف سحق الأتراكُ الفرنسيين في شوارع مرعش؟
16/9/2021
بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، وارتقاء جماعة الاتحاد والترقي، وفي القلب منها جمعية تركيا الفتاة، إلى سدة الحكم في الدولة العثمانية مع مجموعة من السلاطين الضعفاء الذين لم يبلغوا مكانة السلطان عبد الحميد ولا حتى اقتربوا منها، دخل العثمانيون في دوامة من الصراعات التي خطَّطت لها وافتعلتها الإمبراطوريات الأوروبية الصاعدة وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وروسيا.
لقد استطاعت هذه القوى أن تُمزِّق اللحمة الداخلية بين أهم مكونات الدولة العثمانية وهم العرب والأتراك، وقرَّبت الأرمن وجعلتهم ذراعا لها، كما اقترب أشراف الحجاز بزعامة الشريف حسين وأبنائه وعلى رأسهم الأمير فيصل إلى الإنجليز، وصاروا أئمة الثورة ضد السياسة العثمانية الجديدة التي كان لها أخطاؤها، في حين انخرط العثمانيون بزعامة الثلاثي أنور باشا وجمال باشا وطلعت باشا في الحرب الإيطالية ثم حروب البلقان التي فقدت فيها الدولة العثمانية أقساما شاسعة من البلقان، ثم دخلوا الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل، متورطين في صراع بين الألمان والنمساويين وحلفائهم من المجر والبلغاريين من جانب، وبين البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والروس والأميركيين من جانب آخر.
صراع كان في بدايته غير متكافئ، فما بالنا بنهايته. لقد سمح هذا الثلاثي الذي استولى على الحكم العثماني، ومعهم السلطان والصدر الأعظم (رئيس الوزراء) اللذان لا رأي لهما ولا مكانة، سمحوا بدخول سفينتين حربيتين ألمانيتين عام 1914 إلى مضيق البوسفور، وبدأت هذه السفن في قصف الموانئ الروسية على البحر الأسود، وكما يصف المؤرخ التركي "كمال بَيديللي" فإن "هذه الحادثة وقعت دون علم الحكومة بما في ذلك السلطان والصدر الأعظم، وقد قوبلت بالحيرة والدهشة، أما دول الحلفاء فقد ردَّت على الدولة العثمانية بإعلان الحرب"[1].
وهكذا دخل العثمانيون الحرب بلا رؤية ولا هدف سوى تحالفهم السري مع الألمان والنمساويين، واضطرت الجيوش العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى للقتال على جبهات متعددة؛ في روسيا والعراق وفلسطين وسوريا وسيناء بمصر وفي الحجاز ومضيق الدردنيل وغيرها، واستخدمت الدولة قواتها بالشكل الذي يتفق وآراء الألمان بوجه عام ويخدم أهدافهم الحربية ويُخفِّف عنهم الضغط في جبهات الحرب[2]. وقد أدرك الحلفاء منذ بداية تلك الحرب أن الدولة العثمانية ستنتهي بالتقسيم، وأن الأجدر فعله أن يتفق الحلفاء على رسم الخطوط الأولية، وأن توزَّع الأنصبة في كعكة الشرق الأوسط إبان تلك الحرب، ضمن ما عُرف باتفاقية "سايكس – بيكو" عام 1916.
انتهت الحرب نهاية كارثية، وأدرك العثمانيون بقيادة الثلاثي "طلعت – أنور – جمال" أنهم لم يخسروا الأقطار العربية التابعة للدولة العثمانية في العراق والشام ومصر والحجاز والجزيرة العربية فحسب، بل وأصبحت أراضي الأناضول والرومللي والعاصمة إسطنبول تحت مرمى مدافع الحلفاء وطائراتهم، وهنا ابتدأت مرحلة جديدة في تاريخ الأناضول التي تعرَّضت أقسام شاسعة منها في الشرق والغرب والجنوب إلى الاحتلال الأرمني والروسي والفرنسي والبريطاني واليوناني والإيطالي، مرحلة عُرفت في التاريخ التركي الحديث بـ"حرب الاستقلال". ولم يبزغ في تلك الحرب نشاط مصطفى كمال (أتاتورك) قائد لواء هذه الحرب ورفاقه العسكريين فقط، بل شاركه فيها، وربما تقدَّم عليه في أغلبها، أبناء الأناضول من الحرفيين والصُّناع والزراع والأئمة والموظفين والصوفيين وغيرهم، وقد كتبوا في كل زاوية من زواياها قصة ملهمة.
كانت قصة مدينة مرعش في جنوب وسط الأناضول واحدة من هذه القصص الثورية الملهمة في تاريخ مقاومة الأتراك للاحتلال الفرنسي، إذ بزغ نجم رجالات المقاومة في تلك المدينة وعلى رأسهم رجل اسمه "سوتشو إمام"، الذي ثار على الإهانة الفرنسية لحُرمات الأتراك ومقدساتهم، فكيف إذن دخل الفرنسيون إلى مدينة مرعش والبستان؟ وكيف انتفض سوتشو ورجاله؟ وإلى ماذا انتهت ثورتهم؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
إهانة مودروس
توفي السلطان محمد رشاد في 3 يوليو/تموز 1918، وقد تولى من بعده السلطان الأخير من سلاطين العثمانيين (1918-1922)، محمد وحيد الدين الذي سادت النكسات والبلايا في عهده، فقد رأى بأم عينيه طائرات العدو تُحلِّق في سماء إسطنبول وتُلقي عليها القنابل، وسقطت جبهات فلسطين وسوريا والعراق، فسيطر البريطانيون على بغداد في مارس/آذار 1917، والقدس في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، ودمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1918، كما سيطر الفرنسيون على بيروت وطرابلس الشام والإسكندرونة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1917[3].
أمام هذه المصائب انسحب الثلاثي الحاكم زعماء تركيا الفتاة طلعت وأنور وجمال، وهربوا إلى وجهات مختلفة، وانتهت مع رحيلهم سيطرة جمعية الاتحاد والترقي، وتقلَّد وزارة الدولة العثمانية أحمد عزت باشا الذي لم يكن مؤيدا لدخول الحرب العالمية الأولى، لذا فإنه أرسل وفدا إلى البريطانيين الذين اتخذوا من اليونان وجزر بحر إيجه قواعد أمامية متقدِّمة لمهاجمة العثمانيين في الجبهة الغربية بصحبة حلفائهم اليونان، والتقى الجانبان على ظهر إحدى القطع البحرية قُرب جزيرة "مودروس" اليونانية ليُطلع البريطانيون العثمانيين على الشروط الأربعة والعشرين للهدنة.
ولما رأى "رؤوف بِك" وزير البحرية ورئيس الوفد العثماني أن ليس أمامه بديل للتعديل أو المساومة لضعف موقفه، وحصار عاصمته، وتشتُّت قواته؛ فإنه وقَّع مُجبرا مساء 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918 على "اتفاقية مُندروس" التي نصَّت على توقُّف الأعمال الحربية بدءا من ظهر اليوم التالي. يقول "ديفيد فرومكين" في كتابه "سلام ما بعده سلام": "كانت الهدنة في واقع الأمر استسلاما يسمح للحلفاء باحتلال مواقع إستراتيجية في الإمبراطورية العثمانية إذا ما تعرَّض أمنهم للخطر، عمليا كانت للحلفاء حرية احتلال أية منطقة يريدون احتلالها. ولدى عودة رؤوف بك وأعضاء وفده إلى إسطنبول ادَّعوا أن الهدنة لا تُشكِّل استسلاما وصوَّروا شروطها وكأنها أرحم مما هي فعلا، وبذلك بذروا بذور الخيبة والسخط"[4].
وقد أيقن الأتراك هذه الحقيقة المؤلمة، فكما يقول المؤرخ كمال بَيديللي: "لم يعنِ تطبيق أحكام هدنة مودروس إلا تسليم البلاد بقضها وقضيضها للغالبين؛ إذ سُرِّح الضباط والجنود الألمان (المنضمون للجيش العثماني)، وسُلِّمت المواقع الاستحكامية كافة، وسُرِّحت الجيوش، وسلَّم ليمان فون ساندرز (القائد والمستشار العسكري للدولة العثمانية) مجموعة الفيالق السريعة التي كان يتولى قيادتها إلى مصطفى كمال باشا"، وقد أجبر الحلفاء العثمانيين على إلغاء "مجموعة الفيالق السبعة" العسكرية.
وفي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 رسى أسطول الحلفاء الضخم أمام قصر "دولمه بَهتشِه" محتلا إسطنبول، وبعد أشهر قليلة في يناير/كانون الثاني 1919، ولمدة عام كامل، عُقد مؤتمر باريس للسلام للاتفاق بين المنتصرين، وفي هذا المؤتمر كما يقول فرومكين: "كانت الشعوب والولايات موضع مقايضة لتنتقل من سيادة دولة إلى سيادة دولة أخرى وكأنها سلع أو بيادق في لعبة، ولم يكن ما حدث هو أن كل تسوية تحقَّقت لمصلحة وخير السكان ذوي الصلة، بل كان الأمر عكس ذلك، إذ إن هذه التسويات تحقَّقت من أجل تهيئة التوفيق بين مطالب دول متنافسة تسعى وراء النفوذ الخارجي والسيطرة"[5].
أدى احتلال اليونانيين لإزمير واعتداؤهم على غرب الأناضول إلى إلهاب الشعور الوطني بالغضب العارملم تقبل قطاعات واسعة من الأتراك، مدنيين وعسكريين، هذه الهزائم المُذِلَّة التي منوا بها في الحرب العالمية الأولى، والشروط المجحفة التي سلَّمت أراضي العثمانيين بما فيها الأناضول إلى الحلفاء، فقاد مصطفى كمال أتاتورك تنظيم المقاومة الوطنية في الأناضول، وجرى ترتيب مؤتمر أرضروم في يوليو/تموز 1919، ومؤتمر سيواس في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، الذي أُعلن فيه عن مبدأ وحدة الوطن ورفض تجزئته، وحق الأمة في المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، والنهوض لتشكيل حكومة مؤقتة في الأناضول في حالة عجز الحكومة المركزية. وقد أتت هذه الخطوات السريعة عقب احتلال الأرمن لقارص على الحدود مع إيران، واحتلال الإيطاليين لأنطاليا، واحتلال فرنسا وإنجلترا مناطق أورفا وعنتاب وأضنة، قبل أن يؤدي احتلال اليونانيين لإزمير واعتداؤهم على غرب الأناضول إلى إلهاب الشعور الوطني بالغضب العارم، وكان لموقف الحلفاء الذي أجاز الاعتداء اليوناني أثر سريع، إذ أشعل "ثورة الأناضول" و"حرب الاستقلال"[6].
طبقا لاتفاقية مودروس الموقَّعة بين العثمانيين والإنجليز؛ فإن قوات البريطانيين المؤلَّفة من أربعة آلاف جندي هندي تمكَّنت من احتلال أضنة والمناطق المحيطة بها جنوب تركيا، وبحجة حماية وجودها في هذه المناطق توسَّعت القوات الإنجليزية شمالا وشرقا، واستطاعت احتلال مدينة مرعش في فبراير/شباط 1919، ولكن بسبب اتفاقية سايكس – بيكو التي حدَّدت مناطق السيطرة والنفوذ والأراضي العثمانية المقسَّمة بين الإنجليز والفرنسيين منذ عام 1916، انسحب البريطانيون في أغسطس/آب من العام نفسه، وسلَّموا هذه المناطق إلى الفرنسيين.
جمعيات الدفاع الوطني
لمواجهة هذا العدوان الإنجليزي، وقُبيل دخول الفرنسيين والقوات الأرمنية المعاونة لهم، اتفق السكان المحليون على تنظيم نشاط المقاومة الأهلية تحت إشراف جمعية الدفاع عن الحقوق، التي أسَّست أفرعا لها في كل مناطق ولاية مرعش والبستان، وعُيِّن زعماؤها بالانتخاب من الأهالي ليتوَّلوا مسؤولية قيادة المقاومة ضد الفرنسيين عند مجيئهم إلى المدينة بعد انسحاب الإنجليز.
كان التأسيس قائما على خطة مُعدَّة سلفا من ناحية الهيكل الإداري للجمعية وتنظيماتها المسلحة، وأقسامها المسؤولة عن تأمين اللوجستيات والمؤن وحتى الغذاء، وقد جُمِعَت الأسلحة والذخائر والعتاد والغذاء وحتى الأموال في مخازن مُخصَّصة بعيدة عن أعين الإنجليز والفرنسيين، وسارع أهل مرعش غنيهم وفقيرهم في تقديم العون والفداء والتبرع، وعلى رأسهم "جوكادار زاده محمد أفندي المرعشلي" الذي تبرع بـ 500 قطعة ذهبية كانت عونا مهما في أثناء عملية التأسيس والتنظيم المسلح[7].
والأهم من عملية تجميع الأسلحة والعتاد والمؤن كان إرسال المنشورات أو القوانين التي وضعتها الهيئة المركزية لجمعية الدفاع عن الحقوق والعدالة في مرعش فنشرتها في المراكز والأقضية التابعة لها كافة، وقد كشفت عن وعي كبير بآليات وديناميات مقاومة المحتل الفرنسي، وكان من جملتها أنه يجب ألا يهرب أي أحد من أمام العدو وألا يترك بيته مهاجرا تحت أي ظرف أو شرط؛ لأن تخلية البيوت للعدو سيؤثر بالسلب على المقاومة والمقاومين، وكل مَن يخالف قرارات لجنة الدفاع عن المدينة سيتعرَّض لأقصى أشكال العقوبة الممكنة.
كما أصدرت الجمعية قرارات تُلزم فيها المسؤولين عن الأمن من رجال الشرطة والدرك والجيش بقراراتها وقوانينها وتبعيتهم لها، مؤكِّدة أن كل مَن لن يشترك في القتال والمدافعة عن المدينة من رجال الأمن هؤلاء سيكون عُرضة للاعتقال وسحب السلاح والطرد خارج المدينة، وكل مَن سيستغل حالة الفوضى للسلب والنهب في المدينة سيتعرَّض لأقصى أنواع العقوبة وأشدها نكالا[8].
سرعان ما انضم أرمن جنوب الأناضول إلى الاحتلال الفرنسي، فكوَّن الفرنسيون منهم قوات مسلحة مدربة، وبالتزامن مع ذلك، بدأت أعمال المقاومة المسلحة الشعبية التركية ضد تقدُّم القوات الفرنسية – الأرمنية القادمة من نواحي عنتاب وأضنة إلى مرعش، وقد تولَّى أبناء مرعش ممَّن عُرفت عنهم السمعة الحسنة والجسارة قيادة عمليات الدفاع خارج المدينة وداخلها، على سبيل المثال ترأس معلم الرياضيات "خير الله بك المرعشلي" قيادة الدفاع والمقاومة ضد العدو في المناطق الواقعة بين مرعش وأضنة، وفي 7 يناير/كانون الثاني 1920، ومع تقدُّم مفرزة فرنسية قادمة من أضنة لدعم القوة الفرنسية المتمركزة في مرعش، وفي إحدى الطرق الجبلية الضيقة، تمركز "خير الله بك" وقوته من رجالات المدينة وانقضوا على الفرنسيين، فاستطاعوا قتل 40 جنديا فرنسيا وجرح 100 آخرين[9].
ثلاثة أسابيع من القتال
أما مركز مدينة مرعش فسرعان ما شهد أكثر الأحداث سخونة واضطرابا، التي كانت السبب الأبرز في طرد الفرنسيين والأرمن خاسرين في نهاية المطاف بعد مقاومة شرسة دون انقطاع على مدار عدة أسابيع. وقد كان البطل الرئيسي في هذه الأحداث هو الإمام "سوتشو"، وتعني بالعربية الإمام "بائع اللبن"، الذي عمل إماما متطوعا في مسجد أوزونولُق (Uzunoluk) في مدينة مرعش بلا راتب من الدولة، وفي الأوقات البينية بين الصلوات كان يبيع الألبان في دكان صغير أسفل الجامع. فمع دخول الفرنسيين والقوات الأرمنية التي انضمت لهم إلى المدينة، وبينما امرأة من مسلمي مرعش تخرج من الحمَّام الملاصق للجامع؛ همَّ عسكري أرمني بنزع ملابسها ومزَّقها وصاح علانية: "لم يعد هذا المكان بعد الآن ملكا للأتراك، لن يُسمح بالنقاب أو الحجاب في بلاد الفرنسيين".
صاحت المرأة بصوت عالٍ تطلب الغوث، ورأى أهل المدينة ما وقع لحُرماتهم علانية أمام أعينهم، وبدأ بعض الشباب بالاشتباك مع العساكر الأرمن، وحين رأى "سوتشو إمام" هذه الجريمة أمام عينيه أحضر سلاحه بلا تردُّد، وأطلق النار على رأس العسكري الأرمني فأرداه قتيلا، والتهبت الأحداث، وهربت الدورية الفرنسية من مكان الحادثة، وأرسل قائد القوات الفرنسية يطلب مددا من القوات المتمركزة في عنتاب وأضنة وغيرها[10].
بدأت المقاومة الشعبية والمسلحة تتصاعد وتأخذ منحى آخر مع دخول القائد العام الفرنسي الجنرال "بريموند"، الذي استطاع بقواته الصعود إلى قلعة مرعش وإنزال العلم التركي ورفع العلم الفرنسي في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1919، وفي يوم الجمعة التالية، وفي الجامع الكبير الملاصق للقلعة، وبينما يتجه الأهالي إلى صلاة الجمعة رأوا العلم الفرنسي مكان علم بلادهم، فارتفعت الأصوات بالاستهجان، إذ كيف تجرَّأ الفرنسيون على إنزال العلم التركي دون مقاومة أو حساب، وعلى الفور اتجه الجميع وصعدوا إلى القلعة وتمكَّنوا من السيطرة عليها وإنزال العلم الفرنسي ورفع العلم التركي مجددا[11].
راح الفرنسيون يستخدمون القوة في اعتقال السكان وكل مَن شارك في واقعتَيْ الإمام سوتشو وحادثة العلَم، وحين وصلت الأخبار إلى تنظيمات الدفاع خارج مركز المدينة فإنها بدأت في التجهيز لدخولها. ولكن حين عرف الفرنسيون أن هناك أخبارا بوقوع هجوم مسلح قريب على قواتهم المتمركزة في المدينة، بدأوا في إطلاق سراح المعتقلين، لكن الأرمن لم يقبلوا بهذا الأمر وبدأوا في أعمال اعتداء وقتل للعديد من مشاهير المدينة وشبابها، واستمرت عمليات الانتقام الفردية المتبادلة بين الجانبين طوال شهر ديسمبر/كانون الأول وحتى منتصف يناير/كانون الثاني عام 1920.
أدرك سكان المدينة وجمعية الدفاع الوطني فيها أن مقاومة مسلحة شاملة وشعبية هي الحل الناجع للخلاص من الفرنسيين والأرمن وداعميهم من الإيطاليين والإنجليز على السواء، وفي يناير/كانون الثاني بدأت "معركة مرعش" بإطلاق الرصاص على كل فرنسي وأرمني من فوق أسطح المنازل وفي الطرقات والأزقة وفي القلعة والمؤسسات الإدارية والحكومية، بينما استغل الفرنسيون والقوات الأرمنية تمركزهم في المناطق المرتفعة المُطِلَّة على المدينة وراحوا يضربونها بالمدافع والرشاشات، فانسحقت العديد من المنازل، واستشهد العشرات من أبناء مرعش العثمانية[12].
لم يترك أبناء الأقضية والمناطق المحيطة بمدينة مرعش إخوانهم في هذه الحرب وحدهم، ومن ثم أتى المدد والعون في صور شتى، على رأسها هجوم القائد "تُرك أوغلو مصطفى" من جنوب المدينة على القوات الفرنسية الأرمنية المتمركزة في مرتفع "مَِرجيمَك"، حيث استطاع القضاء على هذه المفرزة بكاملها. كما تمكَّن أحد أبناء المدينة من المقاومين واسمه "أوليا أفندي" مع مجموعة من المتطوعين المنضمين له أن يهجموا على الفرنسيين والأرمن الذين تخفوا في أكبر كنائس المدينة وقضوا عليهم تماما، ثم تمكَّنت هذه المجموعات التركية المسلحة من الالتحام والتوحُّد، واتجهوا صوب مناطق مركز مدينة مرعش الجنوبية واستطاعوا القضاء على 400 من القوات المسلحة الفرنسية والأرمنية بعد معركة دامية[13].
طوال 22 يوما حارب فيها أبناء مرعش صغيرهم وكبيرهم حربا يمكن وصفها بحرب "العصابات المنظمة"، وبعد سقوط المئات من الفرنسيين والأرمن، وتقدُّم الأتراك من المناطق الجنوبية والشمالية، أدرك المحتلون أن بقاءهم في المدينة بات مستحيلا، وأُرغموا على توقيع اتفاقية تسليم وانسحاب، وتمت عملية الانسحاب بإنزال العلم الفرنسي من المعسكر الرئيسي لهم في فبراير/شباط 1920، وذلك بعد هزيمة ثقيلة لم يتوقَّعها الفرنسيون من أبناء هذه المدينة الباسلة.
__________________________________________________ __________________
المصادر:
الدولة العثمانية تاريخ وحضارة 1/136.
A.N. Kurat, Türkiye ve Rusya, s.579.
كمال بَيديللي: السابق 1/139.
فرومكين: سلام ما بعده سلام ص415.
سلام ما بعده سلام ص434.
S.Selek, Anadolu İhtilali
Hüsamettin Karadağ, İstiklal Savaşında Maraş, s23.
Ali Sezay Bey’in Yayınlanmamış Notlar, s12.
Ahmet Eyicil, Maraş savaşı, s54.
Ali Sezay Bey’in Yayınlanmamış Notlar, s2-3
Sait Zarifoğlu, “Vezir Hocayla Röportaj”, Edik Dergisi (12 Şubat 1962), 14.
The 22 days of Marash s67.
Maraş savunması, s66.
المصدر : الجزيرة نت - محمود خالد