الوباء كأداة للهيمنة.. كيف استغله الاستعمار لإخضاع الشعوب؟
الوباء كأداة للهيمنة.. كيف استغله الاستعمار لإخضاع الشعوب؟
5/5/2021
"أنا أؤمن أنه على العِرق الأبيض أن يستعمر العالم"
(باتريك مانسون، طبيب إنجليزي، مؤسس طب المناطق الحارة وصاحب أول مرجع ضخم في هذا النطاق)
مع تفشي فيروس كورونا في الهند لأول مرة في مارس/آذار 2020، أعلنت الحكومة عن حزمة (1) من الإجراءات القانونية التي سمحت بتعامل أكثر مرونة وحزما مع الوضع الوبائي في البلاد، بداية من غلق المدارس وإلزام الناس بيوتهم وتغريمهم ووصولا إلى اعتبار التعرُّض للأطباء جريمة تضع المواطن تحت طائلة القانون، لكن هذه القوانين في الحقيقة ليست جديدة، بل هي صورة مُعدَّلة من "قانون الأمراض الوبائية" الصادر بواسطة الاستعمار البريطاني سنة 1897 لمواجهة الطاعون الذي انتشر في عدة مناطق هندية.
تمكَّن الاستعمار الإنجليزي بالفعل من احتواء المرض، لكن على مدى سنوات طويلة كان ينظر إلى أشياء مثل هذا القانون على أنها إنجازات للاستعمار في بلاد الجهل. في الواقع، فإن فلسفة الاستعمار نفسها، ونقصد تلك الأفكار الجوهرية القابعة في خلفية كل فعل استعماري بوصفها مُبرِّرا للإقدام عليه، كانت قائمة على قيادة هذه الشعوب التي وُصِفت بالجاهلة إلى نور العلم والمعرفة والحضارة، لكن ذلك -وخاصة في حالة الأوبئة- كان أبعد ما يكون عن الحقيقة.
على سبيل المثال (2)، كان أحد أكثر ملامح التدخل الطبي بالبلاد الخاضعة للاستعمار هو ارتباطه بالجوانب العسكرية، ليس فقط لأن الكثيرين من المديرين الأطباء لتلك السياسات الطبية كانوا عسكريين، أو أن أجهزة العمل الوحيدة التي شاركت في طب المناطق الحارة كانت عسكرية، لكن السياسة الاستعمارية الواضحة -بحسب ديفيد أرنولد في كتابه "الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية"- كانت أن علاج أمر المعركة الصحية هو عملية عسكرية، في أثناء ذلك سُمح للجيوش بتخطي الحدود، واستغلت الأوبئة لقمع حركات الرفض والمعارضة.
في الهند تحديدا كان يمكن أن تلاحظ بسهولة أن تقديم التطعيم للأوبئة في نهاية القرن التاسع عشر كان قائما بالأساس على سياسة "الحزام الصحي"، بمعنى أن الأقرب للتطعيم من الهنود كان فقط الأقرب في المسافة للإنجليز، فيأتي العمال في مصانعهم والخدم وموظفو الرعاية الصحية الهنود المشاركون في الفِرَق الطبية والمتعاملون مباشرة مع الأطباء الإنجليز على رأس القائمة، بعد ذلك يأتي الأقرب لهؤلاء، ثم يستمر تقديم التطعيم بحيث يكون الإنجليز مركزه.
في الواقع، فإن ذلك قد دفع بالهنود أنفسهم للتشكيك في نيّات الإنجليز، للوهلة الأولى قد تظن أن شعبا يرفض اللقاح لوباء يقتله هو شعب جاهل يؤيد فكرة المستعمِر عنه، لكن ضع نفسك مكانهم، من وجهة نظرهم فإن هذا المحتل يقدم دواء ما يدّعي أنه علاج للمرض، لكن ماذا لو كان يرغب -عبر الدواء- في تخفيض درجة خصوبتي أو فقط حثّي على العمل كالحمار واستخدم ذلك حجَّةً؟ هناك العديد من الدلائل التي تُشير إلى أن موقف الهنود من اللقاح كان منطقيا، منها مثلا أن اللقاح كان يتعرَّض للتلف أثناء رحلته في المحيط ولا يقي من المرض، ما أكّد للهنود رؤيتهم.
أضف إلى ذلك أن اهتمام طب المناطق الحارة (3)، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كان قائما على الأمراض التي يمكن أن تُسبِّب العدوى للمستعمِر، وأهمل الباحثون والأطباء أمراضا أخرى تتعلَّق بسكان تلك المناطق أنفسهم، مثل السل والسيلان والدوسنتريا والالتهاب الرئوي، استمرت هذه الأمراض بلا علاج لفترات طويلة وأكلت من أجساد السكان الأصليين وزادتهم جهلا وفقرا وضعفا، لكن الأسوأ من ذلك هو ما أحدثه المستعمِر من تغيير في بلادهم.
حيث ساهمت التغيرات البيئية التي أحدثها المستعمِرون، سواء عبر بناء المصانع والمناجم والطرق والسكك الحديدية بقارة أفريقيا على سبيل المثال، في انتشار الأوبئة بوتيرة أكبر، لأنها تدفع بعناصر الإصابة -كالبعوض- من بيئتها إلى المدن والقرى القريبة، الأمر الذي كان السكان الأصليون غير مستعدين له، أضف إلى ذلك أن الاستعمار ساهم في انتشار الأمراض عبر تحريك المواطنين، عمالا وعبيدا، من منطقة لأخرى فساهموا في نشر الأوبئة، لكن الأهم من ذلك كله هو أنه -في كثير من الأحيان- جلب الاستعمار أمراضا جديدة لأرض لم تتفشَّ بها من قبل، نتحدث هنا عن أوبئة بقوة الجدري والطاعون والإنفلوانزا الإسبانية.
يمكن تحديدا أن نُلقي نظرة أكثر تفحُّصا (4) على انتشار الإنفلونزا الإسبانية، سنة 1918 في روديسيا الجنوبية التي تُعرف الآن باسم زيمبابوي، فقد عملت إدارة الاحتلال الإنجليزي -أول ما عملت- على تخفيف الخبر الذي انتشر بين الناس قائلا إن الوباء القاتل الجديد الذي لا يترك قرية إلا وأكل من سكانها حتى شبع سببه البريطانيون القادمون من أوروبا المصابة بالوباء في تلك الفترة. تسبَّبت الإنفلونزا الإسبانية في قتل 3% من سكان بعض المناطق، ومع فقر وسوء تغذية مناطق أخرى قتل منها 10% من السكان.
في الواقع، فإنه في تلك الفترة التي تقع بين 1890 والحرب العالمية الأولى احتضنت أفريقيا أعظم الكوارث الوبائية في تاريخها، سواء بسبب تعديل الاحتلال لبيئتها، أو بسبب حالة تنقل المواطنين عبيدا أو عمالا، أو بسبب قدوم الأوبئة من أوروبا إليها، خاصة تلك التي تعوَّد عليها الأوروبيون وطوَّروا مقاومة لها مع الزمن بينما كانت جديدة على الأفارقة.
من جهة أخرى، وبحسب شيلدون واتس في كتابه "الأوبئة والتاريخ.. المرض والقوة الإمبريالية"، يمكن أن تلاحظ بسهولة أن نشأة طب المناطق الحارة لم يهدف فقط إلى خدمة فلسفة الاستعمار، بل أيضا إلى البحث عما إذا كانت تلك المناطق الآسيوية والأفريقية مناسبة لوجود الموظفين الأوروبيين، قبل الاستعمار كان الطب قائما على تصوُّر واحد للإنسان وآخر للمرض بغض النظر عن البيئة المحيطة، لكن مع ظهور أوبئة مثل الحمى الصفراء والملاريا في المستعمرات الأفريقية مثلا كانت هناك حاجة إلى تعديل هذا النموذج.
الأفارقة كانوا قد تعوَّدوا على هذه الأمراض، لكنّ الأوروبيين لم يفعلوا، أدَّى ذلك إلى نشوء تصوُّر، أو موقف (5)، عنصري بين الأطباء من دول الاستعمار يقول إن "السود يقعون في منزلة أدنى من البيض" بسبب تلك الاختلافات، إنه تصوُّر بنى نفسه على أن هؤلاء لهم أمراضهم التي تختلف عن "الأمراض المعتادة"، وأنهم مصدر لأوبئة قاسية "غير طبيعية" تُعَدُّ تهديدا لحياة لبيض، وذلك بسبب جهلهم وتخلُّفهم، وهو أمر استُغِلَّ ثقافيا لتبرير ضرورة الاستعمار في العموم، ولا يزال إلى الآن يُستخدم من قِبَل الكثير من السياسيين في حروبهم السياسية ضد أفريقيا وآسيا ودول أميركا الجنوبية، يمكن مثلا أن تتأمل رد الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق على صحافية ذات عِرق آسيوي سألته عن الوباء قائلا: "اسألي الصين".
في الواقع، فإن السبب في ازدهار مدارس طب المناطق الحارة في أوروبا وأميركا، تحديدا مدرستَيْ لندن وليفربول، كان الاهتمامات السياسية والاقتصادية لتلك الدول في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، أحد أشهر الأمثلة التي تنال اهتماما بحثيا (6) معاصرا هو العلاقة بين نشأة وازدهار قسم طب المناطق الحارة في جامعة هارفارد والاهتمامات الأميركية بدولة ليبيريا بقارة أفريقيا، تحديدا لأجل إقامة شركة "فايرستون" للمطاط الطبيعي سنة 1926، أكبر شركة في هذا النطاق على مستوى العالم، التي أُنشئت رد فعل على التضييقات التي مارستها دول الاستعمار الأخرى على الولايات المتحدة في الأمر الخاص بالمطاط، فتوجَّهت إلى ليبيريا.
يصنع الطب ما لا يصنعه السلاح، فهو يُهيئ للعالم أن المستعمِر يحمل رسالة سلام لا استهلاك، ويود أن يُخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الحضارة، وفي حالة الأوبئة فإنه يمكن أن تستخدم قدراتك على التحكُّم بالمرض في إخضاع الشعوب، ويمكن أن تقمع أي معارضة في سكون تام، يمكن أن ترى ذلك حاليا -ولكن بصورة مختلفة- في حالة كورونا المستجد، هناك مخاوف من اضطراب الدول الديمقراطية بسبب سهولة مساومة الناس على صحتهم مقابل الاستغناء عن الخصوصية.
لكن الاستعمار لم يُقدِّم الحضارة لسكان العالم الذي نسميه الآن "الثالث"، لقد ترك تلك البلاد متجهزة للقلاقل الصحية، والسياسية بالتبعية، ولم يُنتبه للأمر إلا في السبعينيات من القرن الفائت حينما قرَّرت منظمة الصحة العالمية اتباع منظومة طب مناطق حارة تهتم اهتماما حقيقيا بمصالح سكان تلك المناطق، وتنطلق من بيئتهم وأمراضهم، لكن ما تركه الاستعمار ما زال إلى الآن بقايا كارثة ممتدة.
على مدى قرون، كانت الأوبئة أقرب ما تكون إلى سلاح بيولوجي يستخدمه البعض تجاه البعض الآخر الأكثر ضعفا، وهو أمر سابق لما تحدَّثنا عنه في نهايات القرن التاسع عشر، في الواقع استُخدمت الأوبئة استخداما مُتعمَّدا لإخضاع السكان الأصليين في الأميركتين لقوات الاستعمار الأوروبي، أحد أشهر الأمثلة في هذا النطاق كان أثناء تمرُّد بونتياك سنة 1763، حيث اتَّحدت للحرب مجموعة من قبائل الأميركيين الأصليين الذين كانوا مستائين من السياسات البريطانية.
في تلك الأثناء، ورد عن وليام ترينت (7)، زعيم القوة العسكرية المحلية، أنه كتب في خطاب لقائده: "أعطيناهم مجموعة بطانيات ومناديل من مستشفى الجدري، أتمنى أن يُحدث ذلك التأثير المطلوب"، تفشَّى الجدري بين السكان الأصليين، وهناك دلائل على أنه كان له دور قوي في إنهاء ذلك التمرُّد، لكن بحسب جاريد دايموند، العالم الأميركي مُتعدِّد التخصصات، في كتابه "أسلحة وجراثيم وفولاذ"، فإن الأمر كان أكبر من مجرد بطانية ومنديل، لقد كان سبب سقوط حضارتين عريقتين للأبد.
يرى دايموند أن التفوُّق الغربي على حضارات الأزتك والإنكا، في القرن السادس عشر، لا يتعلَّق بذكاء متفرد وإنما بظرف جغرافي عاشه المستعمِر على مدى سنين طوال، فيما يؤكد أستاذ الجغرافيا والفيسيولوجيا أن الجراثيم تحديدا كانت أحد أهم الأسباب في فناء الغالبية العظمى من شعبَيْ الأزتك والإنكا، فبجانب السلاح المُتقدِّم، انتقلت بعض الفيروسات بسهولة من الإسبان إلى سكان الأميركتين الأصليين وأبادتهم.
بحسب فرضية (8) دايموند، فإن البشر قد تمكَّنوا -على مدى تاريخهم- من استئناس نحو 15 حيوانا، الغالبية العظمى منها موجودة في الهلال الخصيب، ويقصد المنطقة التي تبدأ عبر الأنهار من العراق، ثم سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، وشمال مصر.
انتقلت خبرات استئناس تلك الحيوانات بعد ذلك إلى شرق وغرب الهلال الخصيب عبر آلاف السنين، من الصين شرقا إلى إسبانيا غربا. عاش سكان تلك المناطق على مدى آلاف السنين إلى جانب الكثير من الحيوانات، بعضها نقل إليهم فيروسات شديدة العدوى تسبَّبت قديما في مقتل الملايين منهم، لكن مع الوقت تكوَّنت لديهم مناعة من تلك الأمراض وبقيت ساكنة فيهم مع الزمن، ومع اللقاء الأول بين الأوروبيين وسكان الأميركتين، مرَّت تلك الأوبئة لهم، وتسبَّبت في إبادتهم، في بعض الأحيان عن غير قصد، وفي أحيان أخرى كان نقل الأوبئة مقصودا.
في أثناء معركتنا مع الوباء عبر تاريخنا، لم تكن المأساة مقصورة فقط على أفعال الوباء بنا، لكن عما فعلناه ببعضنا بعضا مُستغلِّين الوباء، حتّى الطب لم يسلم من الاستغلال، بل أصبح أداة في يد العنصرية تُحرِّكها كيف شاءت، ويمكن أن نلمس ذلك واضحا -على سبيل المثال- في اقتباس شهير لباتريك مانسون، الطبيب الإنجليزي، مؤسس طب المناطق الحارة وصاحب أول وأهم مرجع ضخم في هذا النطاق، حينما قال: "أنا أؤمن أنه على العِرق الأبيض أن يستعمر العالم".
هل سنفعل ذلك الآن؟ هل سيستغل بعضنا الوباء لإخضاع الآخر؟ ما نراه الآن من صراع بين عدة دول كبرى لا يُنبئ بخير، وربما تتكرَّر الدورة نفسها: الوباء يقتل البعض، والبعض يبحث عما يمكن أن يُحقِّقه من مصالح سياسية واقتصادية على حساب هؤلاء القتلى.
__________________________________________________ _________________________
المصادر:
يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية