أهمية العقيدة القتالية في المواجهة والصراع
الكاتب أ . تحسين يحيى أبو عاصي – كاتب فلسطيني مستقل
يقول المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه : يبدو أن الأفكار تُسيّر العالم .( انتهى )
وفي خطاب ألقته كونداريزا رايس أثناء حفلة تخرّج في الجامعة الوطنيّة للدفاع (NDU) قالت فيه : نحن بحاجة إلى مفاهيم وأفكار جديدة لخوض الحرب على الإرهاب ( وفق تسميتها ) ، وشدّدت أيضا في خطابها على أهميّة الفكر والعقل والابتكار ، عندما أعطت مثالا على ألمانيا إبان الحرب الثانية ، فألمانيا استطاعت أن تحقّق انتصارات عديدة بسبب ابتكارها لمبدأ دمج الدبابة والطائرة والراديو، الأمر الذي أوصل إلى مفهوم الحرب الصاعقة الخاطفة (Blietzkrieg) ، وذلك في الوقت الذي كان أعداؤها يخططون للحرب المستقبلية بعقلية الماضي .
لا شك أن الصراع بين البشر بدون إعداد وتعبئة ، يكون مثله مثل صراع ومناطحة الثيران الهائجة ، و إن الفهم الدقيق لأشكال وآليات التعبئة والإعداد ونمط التربية والثقافة ، يساعد الحركة أو التنظيم أو الدولة إلى حد كبير على حسم النزاعات أو الخلافات .
وكثير من الحركات والتنظيمات والجيوش لحقت بها خسائر فادحة وهزيمة نكراء ؛ بسبب سوء التخطيط والإدارة وهشاشة الإعداد والتعبئة ، مما يعني عدم الصمود والانهيار السريع أمام التحديات الجسام ، كما حدث في انهيار الجيوش العربية في حروب 1948 – 1956 - 1967 م ، وعندما اجتاحت جيوش الحلفاء العراق وسقوط بغداد المدوي والسريع ، وانهيار السلطة الفلسطينية في غزة .
ومن الأخطاء الكبيرة التي يقع بها قادة الجيوش والتنظيمات ، أنهم ينفقون ملايين الدولارات في شراء السلاح وجمعه من هنا وهناك ، وفي إخضاع عناصرهم وكوادرهم وحتى قادتهم لدورات عسكرية ، و يقومون بإرسال البعثات التعليمية العسكرية ، ويعملون على إنشاء وتحصين المواقع ، ثم تكون النتيجة الانهيار السريع والمفاجئ .
فهل يؤتمن مثل هؤلاء القادة على قيادة شعوبهم ؟ وهل يحافظون على تراث وهوية ووطن ؟
إن غياب العقيدة القتالية هو الذي دفع بقادتنا إلى الانهيار السريع ، بل والأخطر من ذلك هو تلك التصريحات والشعارات التي يرفعونها ، والتي ما تلبث أن تنهار سريعا أمام الوقائع المؤلمة ، وغياب العقيدة القتالية أو ضعفها هو الذي يدفع إلى الاعتراف السريع في أقبية التحقيق وإفشاء كل الأسرار ، وهو الذي يدفع إلى التنازل والتفريط ، وهو الذي يدفع إلى اليأس والإحباط والإفلاس السياسي ؛ لأنه لا يملك ما يقدم لشعبه بعد سقوط وانهيار خطه السياسي ، كما سقطوا وانهاروا سريعا منذ الساعات الأولى من ميادين المواجهة .
العقيدة القالية الراسخة هي التي تدفع المقاتلين إلى المقاومة والاستبسال في الدفاع والقتال ، حتى لو تغيبت عوامل الصمود ، وحتى لو قُطعت كل خطوط الإمداد ، والعقيدة القتالية هي التي تحطم كل المعايير التي تتحكم في نظريات وقوانين الصراع ، فتجعل من المقاتل الواحد وكأنه مائة مقاتل ، ومن النفر القليل جيشا كبيرا ، وتجبر الأعداء على مواجهة حساباتهم الأمنية ونظرياتهم الاستراتيحية ، والعقيدة القتالية هي التي تدب الخوف والذعر في الأعداء، لذلك فهم يحسبون ألف حساب عند المواجهة المسلحة ؛ لأن عقيدتهم القتالية سر قوتهم .
لقد تجرأت إسرائيل في فترات سابقة على القوى الوطنية والثورة الفلسطينية في لبنان ، وتجرأت على الساحة الأردنية ، وعلى ساحة الضفة وغزة ، وعربدت في كل المنطقة من شرقها إلى غربها ، ولكنها اليوم تحسب ألف حساب لحزب الله مثلا .
الذي خضع فجأة لعملية قلب واكتشف انه كان لا يأكل بطريقة صحية ولا يهت
ذكرت صحيفة هآرتس : الخلل في حرب تموز(يوليو)كان في العقيدة القتالية لا في الإعدادالعسكري.
ووصفمراسل صحيفة “هآرتس” تجربة حرب تموز بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي بأنها أشبهبالشخص مبسلامة جسده كما ينبغي .
كما نشرت الصحيفة نفسها مقالا كتبه يسرائيل هرئيل ، قال فيه انالخلل الذي حصل خلال “حرب لبنان الثانية” لم يكن على صعيد الإعداد العسكري كما يروجله، وإنما على صعيد الروحية والعقيدة القتالية.
ففي حرب لبنان الثانية فشل ضباط كبار معظمهم خريجي أكاديمياتعسكرية إسرائيلية وأميركية في مواجهة مجموعة من الضباط المقاتلين لدى حزب اللهالذين تعلموا في إيران قيادة ما لا يتعدى اللواء. ( انتهى )
لقد أحبرت العقيدة القتالية لحزب الله قادة الكيان على إعادة النظر في كل نظرياتهم الأمنية ، وحطمت مفاهيمهم العسكرية والإستراتيجية ، وضربت في الصميم منطلقات العقل العسكري الإسرائيلي .
كما أنه من الواضح أن العقيدة القتالية هي من وراء صمود حركة طالبان رغم الضربات القوية والمتلاحقة ضدها ، وهي من وراء صمود فتح الإسلام في بقعة صغيرة من مخيم نهر البارد شمال لبنان ، وصمود دول أمريكا اللاتينية أمام الغطرسة ألأمريكية وكذلك كوبا وكوريا ، وهي من وراء سقوط الشاه عام 1979 .
والعقيدة القتالية كانت وراء هروب القوات الروسية من أفغانستان ، وخروج الاستعمار الفرنسي ثم الأمريكي من فيتنام ، حتى إن الضباط الأمريكان الذين شاركوا في حرب فيتنام حذروا حكومتهم من اتخاذ قرار بشن حرب جديدة .
إن غياب العقيدة القتالية هو وراء الانهيار السريع للجيش العراقي ، يقولالمحلل العسكري ماركوس كوربن الباحث في مركز الإعلام العسكري في واشنطن : إن إستراتيجية الصدمة والترويع التي تبنتها القيادة العسكريةالأمريكية في بداية الحرب ضد العراق من خلال شن هجوم جوي واسع ومكثف ، ساعد القواتالبرية الأمريكية في التقدم سريعا نحو العاصمة العراقية بغداد لتحسم معركة الغزو فيأقل من ثلاثة أسابيع .
أما عندما تتوفر العقيدة القتالية فيقول ضابط بحري أمريكي لاري سيكويست : إن الدروس الحقيقيةمن حرب العراق هي أن طبيعة الصراع تغيرت وأن جيشنا لم يتمكن من الأداء بصورة جيدةفي ظل الظروف الجديدة وذلك بفعل العقيدة القتالية التي يملكها الإرهابيون (حسب وصفه ).
وللعقيدة القتالية علاقة مباشرة بالقائد الذي تتجه الأنظار في المعارك دائما إليه؛ لأنه يحتل بشخصيته موقعا مرموقا في عقول وقلوب أنصاره ، بما يحققه من إنجازات على الأرض ، ولا يحدث ذلك إلا من خلال التواصل بين القاعدة والقمة ، فتصبح شخصية القائد هي أشبه بالعقيدة القتالية ، يستعد المقاتلون للموت من أجلها ؛ لأنهم رأوا به رجلا قويا وقائدا فذا ، كما تلعب شخصية القائد دورا كبيرا في اجتذاب محبة المقاتلين وولائهم ، وبالتالي تدفعهم إلى تنفيذ الأوامر الموجّهة إليهم ، بدافع الانتماء العقائدي .
فالقائد عند جنوده ليس شخصاً عادياً ، فهو لا يستمد قوته من القيادة بل يمنحها القوة وهو الذي يُضحّي بوقته ويخلص في عمله بعيداً عن مصلحته الشخصية.
إنه القائد العادل الخلوق الذي لم يغرق في الفساد حتى أذنيه ، مما يجعله مسموعا مطاعا يتفانى الجميع من أجل خدمته وتنفيذ أوامره بكل ثقة وإيمان .
إن حب القائد يمتزج من الناحية النفسية بحب التضحية والاستماتة في سبيل العقيدة القتالية التي يتجنّد المحارب من أجلها. وعندما ينغرس الحب للقائد وللمؤسسة في العقول والقلوب ، تنغرس عقيدة الولاء للوطن الواحد بشكل لا تَقدر المؤثرات الهدامة على التأثير عليها .
ووفقا لرأي علماء علم النفس ، فإن الذي يقاتل من أجل عقيدة يؤمن بها ، يختلف عن الذي يُدفع إلى القتال رغماً عنه ، كونه موظفاً يتقاضى في نهاية كل شهر أجراً ، لأن هناك فرق كبير بين الانتماء العقائدي من جهة ، وهو الانتماء الذي يتمثل في الفكرة التي تنتهجها المؤسسة العسكرية ، والتي تعمل على صهر العقول المنتمية إليها في بوتقة وحدة العقيدة الواحدة ، عبر تقنيات مدروسة تعمّق هذا الوعي والانتماء ، عن طريق إثارة الدوافع لدى المقاتلين ، وبين الانتماء للوظيفة أو للمصلحة من جهة أخرى .
الدكتور مارڤين زوكيرمين وهو باحث أميركي معروف في الحقل النفسي يقول : إن الانصهار في الفكر القتالي الموحّد يستدعي إثارة العوامل الفطرية التي رافقت وجود الإنسان، وفي مقدمـتها السعي إلى الدفاع عن النفس أو إرضاء غريزة البقاء ضمن مجتمع ننتمي إليه.
وهنا يتجلى الدور المؤسساتي الرسمي في استئصال فكرة الانتماء القبلي والفئوي الضيّق ، وغرس الانتماء الوطني في وجدان المقاتل .
ويقول زوكيرمين، عندما تنغرس هذه الفكرة وتطغى على ما عداها، تبرز عندها أهمية إثارة التفاعل الكيميائي الدماغي عن طريق الشحن النفسي والعقائدي .
الجيش اللبناني استقبل الجيش الإسرائيلي بالقهوة والبسكويت في حرب تموز الأخيرة ، فعلى أي أساس قامت عقيدته القتالية ؟
وهل اعتبر الجيش اللبناني إسرائيل العدو الأول للبنانيين والفلسطينيين وكل العرب ؟
من أجل ذلك تجتهد الإدارة الأميركية في وضع خطة لتخليص جيوش النظام العربي الرسمي من أي عقيدة قتالية تعتبر إسرائيل عدوة للعرب ، وهي تربط مساعداتها بشروط عدة تضمن على الأمد البعيد عدم أداء أي جيش عربي دورا يهدد حليفتها الإستراتيجية إسرائيل .
نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في الرابع عشر من أيلول 2006 : إن واشنطن أعدت خطة لتسليح الجيش اللبناني وتدريبه ، وافقت عليها الحكومة الإسرائيلية ، وربطت واشنطن تقديم مساعدات إلى الجيش اللبناني بوجود قيادات عسكرية موثوقة بها ، عبر طلب إحالة أسماء عسكرية معينة إلى مواقع ، وطلب إبعاد بعض الضباط عن مواقع حساسة ونافذة في أجهزة المخابرات ، الحديث دوما عن مهمات كبرى تنتظر الجيش اللبناني مستقبلاً . ( انتهى )
إن غياب العقيدة القتالية عند العرب وخاصة الفلسطينيين ، هي من وراء كل هزيمة وهروب للوراء ، وإنني أذكر وبحزن كبير تلك الأعداد الكبيرة من المقاتلين الفلسطينيين الذين فروا هروباً عبر مياه نهر الأردن ؛ ليسلموا أنفسهم إلى قوات الاحتلال أثناء المواجهة مع النظام الأردني ، وبالمقابل تماما أتذكر الممارسات المسلكية الخاطئة التي ارتكبتها الثورة الفلسطينية على الساحة الأردنية واللبنانية وبدون الدخول في التفاصيل ، و كذلك هروب المقاتلين الفلسطينيين بما فيهم كبار القادة من غزة إلى الكيان المسخ وإلى مصر، وكل ذلك يرجع إلى غياب الوعي في العقيدة القتالية .
وكذلك أيضاً انسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان وتشتتها في السودان وتونس وغيرها من الأصقاع ، وتراجع المشروع الوطني الفلسطيني إلى حد الفشل يرجع أيضا إلى غياب العقيدة القتالية .
لا بد من عقيدة قتالية نربي عليها رجالنا من خلال مشروع مقاوم يجمع تحت لوائها جميع القوى العاملة على الساحة الفلسطينية الإسلامية منها والوطنية ، فذلك هو الطريق الأقصر والأقرب لتحقيق المصلحة الوطنية العليا لشعبنا ، وخير سبيل إلى ذلك هي العقيدة القتالية الإيمانية ، والتي تُعتبر محاولات القضاء عليها كمحاولات الكتابة على الماء ، هذا ما أثبتته التجارب والأحداث .
————————
كاتب فلسطيني مستقل