ومنذ ذلك الحين بدأت الفتوحات الإسلامية على الجبهة العراقية والتي كان أغلب ساكنيها من القبائل العربية الخاضعة للحكم الفارسي الساساني، وسرعان ما ظفر خالد في العديد من المواجهات أمام الفرس أو بعض من تلك القبائل التي آثرت مواجهة المسلمين على التفاوض وقبول الصلح أو الإسلام، وفي ذلك العام 12هـ، استطاع خالد بن الوليد -رضي الله عنه- القضاء على مقاومة الفرس في منطقة "عين التمر"، وهي بلدة صغيرة تقع على طرف الصحراء غرب نهر الفرات، وحين اقتحم المسلمون حصن المنطقة وجدوا فيها أربعين غلاما أُخذوا جميعا أسرى، كان منهم نُصير والد موسى بن نصير، وسيرين والد محمد بن سيرين، وقد أسلموا، وانتقل نصير في أسرِه ذلك إلى الحجاز، ودخل في قبيلة لخم اليمنية بالولاء، وتزوج منها ورُزق ابنه موسى بن نصير وذلك في عام 19هـ/640م في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-[2].
شبَّ موسى بن نصير وقد وجد في المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية مبتغاه في دراسة الإسلام وعلوم الشريعة على يد أكابر الصحابة والتابعين، وسرعان ما اشتهر برواية الحديث عن بعض الصحابة مثل تميم الداري، فنشأ محبا للتقوى والورع وعلوم الحديث، وقد روى عنه يزيد بن مسروق اليحصبي وولده عبد العزيز بن موسى بن نصير وغيرهم[3]، كما أدرك سِير الفاتحين الكبار لا سيما خالد بن الوليد الذي يبدو أنه تأثر به للغاية؛ إذ كان السبب في هداية أبيه إلى الإسلام حين أسره وأخذه إلى الحجاز.
وإذا كان موسى بن نصير قد استمد مقومات دراساته الدينية والأدبية من أرض الحجاز، فإنه مدين بتربيته السياسية والعسكرية إلى بلاد الشام؛ إذ أصبحت دمشق منذ خلافة عثمان بن عفان قاعدة نشاط البيت الأموي الطامح إلى السلطان، ومركزا يجتذب إليه كل العناصر الصالحة لتأييده وخدمة أهدافه، وكان معاوية بن أبي سفيان رجلا على درجة عالية من الذكاء في انتقاء الرجال، فأدرك ما لدى نصير والد موسى من مهارات أمنية، فعهد إليه برئاسة حرسه، فأُتيح لموسى أن ينتقل إلى بيت معاوية الخليفة الأموي الأول، وأن يتدرب هنالك في أكبر وأعظم مدرسة للسياسة شهدتها الدولة العربية الإسلامية في صدر حياتها، كما يقول المؤرخ الدكتور إبراهيم العدوي[4].
وقد شهد موسى خروج الغزوات إلى بلاد الروم التي عُرفت "بالصوائف" التي كانت في شهور الصيف، و"الشواتي" التي كانت تخرج في شهور الخريف والشتاء، كما شارك بنفسه في نشاط البحرية الإسلامية المبكر الذي رعاه معاوية بن أبي سفيان حين شرع في غزو جزيرة قبرص ووقوع معركة "ذات الصواري" سنة 34هـ/654هـ، وقد أحرز المسلمون نصرا مهما في هذه المعركة دفعهم لتطوير قدراتهم البحرية، وتقليم أظافر أساطيل الروم في البحر المتوسط الذي كان بمنزلة بحيرة أوروبية مغلقة، فشرع موسى بن نصير في الاشتراك في هذه الحملات العسكرية البحرية منذ كان عمره 15 عاما!
على أن صعود مروان بن الحكم بعد تنازل معاوية الثاني بن يزيد إلى كرسي الخلافة، وتقريب ابنه الأكبر عبد العزيز بن مروان أخي عبد الملك بن مروان إلى موسى بن نصير لجهاده وعلمه وتاريخ أسرته الكبير في خدمة البيت الأموي كان فاتحة جديدة وبداية مهمة في مسيرة حياته العملية في ميداني السياسة والحرب؛ إذ آثر عبد العزيز أن يتخذ موسى بن نصير مستشارا ووزيرا مقربا منه أثناء ولايته على مصر منذ عام 64 من الهجرة، وحين ارتقى عبد الملك بن مروان إلى كرسي الخلافة في العام التالي أرسل إلى أخيه عبد العزيز أن يرسل موسى بن نصير وزيرا ومستشارا لأخيهم الآخر بشر بن مروان والي العراق آنذاك، وجاء في رسالته: "إني قد وليت أخاك بشرا على البصرة، فاشْخِصْ (أرسل) معه موسى بن نصير وزيرا ومُشيرا... وأعلمه بأنه المأخوذ بكل خلل وتقصير"[5].
بعد وفاة بشر بن مروان اضطر موسى بن نصير إلى العودة من العراق إلى الشام، حيث رأى الخليفة عبد الملك بن مروان تقصيرا في عمل موسى، لا سيما في ملف الخراج والضرائب، وفرضَ عليه غرامة ثقيلة، تحمل شقها الأكبر والي مصر وأخوه عبد العزيز بن مروان الذي دافع عن موسى دفاعا مستميتا، وقرر اصطحابه من جديد إلى مصر وزيرا ومستشارا، وذلك عام 75هـ، وكانت تلك هي نقطة التحول الكبرى في حياة موسى الذي بلغ من العمر حينذاك 54 عاما؛ إذ ترك منذ هذه اللحظة العمل في ميدان السياسة في المشرق ليتجه بنفسه وتجاربه الطويلة السياسية والعسكرية إلى الميدان المغربي الذي كان يواجه صعوبات ومعوقات.
كانت مصر قاعدة انطلاق العمليات العسكرية للفتوح الإسلامية صوب بلاد المغرب منذ عصر الخلفاء الراشدين زمني عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- ومن تلاهما، وقد شهدت هذه الفتوحات قبل مجيء موسى بن نصير تقدما مهما وعظيما على يد قادة عباقرة أمثال عقبة بن نافع الفهري الفاتح الشهير، الذي أسس وحدة الفتوحات الإسلامية في منطقة برقة الليبية، ومنها انطلق صوب أفريقية (تونس) فأسس بها مدينته الشهيرة القيروان لتكون قاعدة الجند والإسلام في وسط بلاد المغرب، ومن هذه القاعدة استطاع طرد القوات البيزنطية من أجزاء واسعة من كامل بلاد المغرب، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، كما بلغت حوافر خيوله مدينة طنجة على ساحل المحيط الأطلسي، وكان مؤسسا وممهّدا عظيما لكل مَن جاء بعده مثل أبي المهاجر بن دينار وحسان بن النعمان وموسى بن نصير.
لكن وفاة عقبة بن نافع سنة 62هـ واستشهاد قائد الجبهة المغربية زهير بن قيس البلوي سنة 70هـ/ 690م على أرض برقة كانت قد أطاحت بمعظم جهود هؤلاء القادة الكبار في شمال أفريقيا، وبدا أن الموقف يتطلب عملا متصلا من جديد، ولم تستطع حملة حسان بن النعمان التي خرجت من مصر سنة 76هـ/696م أن تخلق الاستقرار المنشود في الميدان المغربي، وظلت الأوضاع هناك في حاجة إلى المزيد من الجهود السياسية والعسكرية [6].
فقرر عبد العزيز بن مروان والي مصر أن يطلق يدَ صفيّه ومستشاره المقرب موسى بن نصير في هذا الملف المهم، ووضع تحت يديه كل ما في مصر ودواوينها من معلومات عن هذه الجبهة القلقة، وعقد عبد العزيز بن مروان على موسى بن نصير الآمال الكبار في استقرار الأوضاع في بلاد المغرب. ومن جانبه درس موسى بن نصير تجارب الرجال السابقين عليه، وأدرك أن المهمة الأولى تتلخص في ضرورة إنهاء الوجود الرومي البيزنطي وقواعده التي تقف عقبة أمام استمرار عمليات الفتح، لا سيما في مناطق أفريقية في تونس وغرب ليبيا اليوم[7].
كما التقى ابن نُصير بكثير من رجالات الفتح على الجبهة المغربية، وساهم بنفسه في بعض هذه التجارب في برقة وغيرها، وظل على هذا الحال حتى العام 79 هـ وقيل 85هـ حين أرسله عبد العزيز بن مروان ليتسلم قيادة الفتوحات وولاية شمال أفريقيا التي كانت عاصمتها القيروان، وحين دخلها، وقف موسى بن نصير في جنود المسلمين من العرب والبربر قائلا:
"أنا رجل كأحدكم، مَن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضّ على مثلها، ومَن رأى مني سيئة فلينكرها، فإني أخطئ كما تُخطئون، وأُصيب كما تُصيبون، وقد أمر الأمير -أكرمه الله- لكم بعطاياكم، وتضعيفها ثلاثا، فخذوها هنيئا مريئا، ومَن كانت له حاجة فليرفعها إلينا، وله عندنا قضاؤها على ما عزّ وهان، ومع المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله"[8].
استطاع موسى بن نصير وأد ثورات البربر وعقد السلام معهم واستمالة كبارهم ليضمن ألّا يُشعلوا أية ثور
وهكذا اكتسب ابن نصير ثقة جنوده بالتقرب منهم، ومضاعفة العطاء لهم، وكان موسى قد أدرك الخطأ الذي وقع فيه قادة الفتوحات قبله، حين كانوا يتوغلون في المغربين الأوسط والأقصى، أي "الجزائر" و"المغرب"، دون تطهير القاعدة العسكرية للمسلمين في أفريقية (تونس وغرب ليبيا) من الوجود الرومي، مما كان يُسهّل على البيزنطيين والقبائل البربرية المتحالفة معهم بقيادة امرأة كانت تُسمى "الكاهنة" إلى رد الهجوم المباغت على المسلمين، بل وهزيمتهم كما حدث مع القائد حسان بن النعمان، حتى أصبحت قاعدتهم في القيروان تستقبل هذه الهجمات.
بسبب ذلك، وفي هذا السياق، أصدر موسى قراره بسحق كل المقاومة البيزنطية والبربرية الموالية لها في أفريقية (تونس) أولا، من خلال تكتيك جديد يشبه تكتيكات الفتوحات الإسلامية المبكرة، وذلك بتكثير أعداد الجيوش التي تخرج في وقت واحد وتهاجم بضربات قاتلة ومؤثرة في تزامن قريب، وفوق ذلك جعل القيادة العاملة معه من العناصر التي يثق فيها ويثق فيهم كذلك جنود الجيش الإسلامي في هذه المناطق، فجعل أبناءه الأربعة؛ عبد الله، ومروان، وعبد الملك، وعبد العزيز، على رأس هؤلاء، ثم أبناء عقبة بن نافع الفهري وهم عياض وعثمان وأبو عبيدة، هذا بالإضافة إلى نفر من أهل البلاد الأصليين الذين حسُن إسلامهم، وعلى رأسهم وأشهرهم طارق بن زياد.
وسرعان ما استطاع موسى بن نصير وأد ثورات البربر وعقد السلام معهم واستمالة كبارهم ليضمن ألّا يُشعلوا أية ثورات فيما بعد، كما عمل على إنشاء دار صناعة بحرية قرب مدينة قرطاجة، وتمكّن من إنشاء أسطول قوي جعل على قيادته ابنه عبد العزيز بن موسى وقيل ابنه الآخر عبد الله، حيث تمكّن من فتح جزر البليار مثل ميورقة ومنورقة (الإسبانية اليوم)، فضلا عن هجماته المؤثرة على جزر سردانية وصقلية (الإيطالية اليوم) وذلك في عام 89 من الهجرة، وسُميت "غزوة الأشراف (حيث) كان معه أشراف الناس"[9].
وفي العام ذاته (89هـ) وصلت جيوش موسى بن نصير بمعاونة آلاف من رجالات "البربر" الأمازيغ إلى المغرب الأقصى، حتى استطاع إسقاط مدينة طنجة التي كان يحكمها البيزنطيون وغيرها من مدن، ما عدا مدينة سبتة وحصنها الذي كان يأخذ إمداده وتموينه من ملوك القوط الإسبان في الجهة المقابلة للمغرب، وبعد شهور من الفتح والجهاد قرر موسى العودة إلى القيروان، تاركا القائد البربري المسلم والشجاع طارق بن زياد على طنجة معه تسعة عشر ألفا من فرسان البربر والمسلمين وقلة من فقهاء العرب ليُعلّموهم فرائض الدين وأصوله، وعهد إليه بالعمل على إخضاع قبائل غمازة وبراغواطة القاطنة حول طنجة، فضلا عن مراقبة سبتة وانتهاز الفرصة لفتحها[10].
فتح أوروبا وليس الأندلس فقط!
حاول طارق مرارا الاستيلاء على مدينة سِبتة التي كان يحكمها القائد الروماني يوليان، وكان ملك إسبانيا "غيطشة" يمدّه ويدعمه، على أن هجمات طارق المتكررة اضطرت يوليان إلى إنشاء الصداقة وتقديم الصلح، فقبل منه طارق ذلك، وفي تلك الأثناء في نحو سنة 90هـ، توفي ملك القوط، واستولى أحد كبار قادته العسكريين رودريجو أو كما تسميه المصادر العربية "لذريق" أو "لدريق" على زمام الأمور في إسبانيا وعاصمتها آنذاك طُليطلة، وشتت لذريق شمل ورثة غيطشة الشرعيين، بل تعدى على ابنة يوليان حاكم سبتة، وكانت تتأدب بآداب الملوك في طُليطلة كما جرت العادة حينذاك، فأهدر شرفها، ولم يجد يوليان بُدًّا من الانتقام إلا بالتعاون مع المسلمين وتحريضهم على فتح إسبانيا النصرانية ومساعدتهم، وهوّن لهم من أمرها السياسي والعسكري.