ومن بين الجبهات المتقدمة التي فتحتها إسرائيل ترقبًا لمواجهة ما مع تركيا، تأتي جبهة قبرص. فما بدا ظاهريًا صفقة تسليح لتعزيز قدرات نيقوسيا، يتحول عبر شبكة من التدريب والاستخبارات وتبادل البيانات إلى امتداد فعّال لقدرات الرصد والإعلام الاستخباري الإسرائيلية فوق مياه وجزر لم تكن بهذه الحساسية من قبل. بهذا المعنى، تتحوّل قبرص من شريك محدود إلى شريك استراتيجي، نقطة أمامية في رؤية أوسع تهدف إلى احتواء الدور التركي وإعادة ضبط ميزان القوى لصالح إسرائيل.
ففي وقت مبكر من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، كشف مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي،
وأكدت صحّته وسائل إعلام قبرصية وعالمية، النقاب عن شاحنة مرَّت عبر ميناء ليماسول في قبرص تحمل مكونات نظام "باراك إم إكس" للدفاع الجوي إسرائيلي الصنع.
وقد أكد موقع "ريبورتر" الإخباري القبرصي تسليم النظام بالكامل لنيقوسيا، على أن يدخل الخدمة في وقت لاحق من العام الجاري.
يتمتع نظام "باراك إم إكس" بالقدرة على اعتراض الطائرات المسيّرة والطائرات القتالية والصواريخ المجنحة على مدى بعيد.
وتعكس هذه الصفقة رغبة قبرص في تعزيز قدراتها الدفاعية، لكن الأهم أنها تكشف عن علاقتها المتنامية مع إسرائيل، وهي علاقات لم تشهد مسارا ثابتا منذ بدايتها، بل تخللتها مراحل تراوحت من الفتور إلى التقارب الحَذِر إلى الشراكة الإستراتيجية.
ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، انضمت نيقوسيا إلى
حركة عدم الانحياز منذ مؤتمرها الأول في بلغراد عام 1961، وأقامت علاقات وثيقة مع مصر في عهد
جمال عبد الناصر، كما افتتحت مكتبا تمثيليا
لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1975، واعترفت بدولة فلسطين بعد أيام من إعلانها في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988.
غير أن التحولات الإقليمية دفعت قبرص لاحقا إلى إعادة رسم بوصلتها السياسية، فمع انضمامها إلى
الاتحاد الأوروبي عام 2004، وتصاعد خلافاتها مع تركيا، ثم اكتشاف الغاز في شرق المتوسط، اقتربت قبرص أكثر من تل أبيب تحت ضغط المصالح المشتركة، لكن العلاقات الأمنية ظلت محدودة حتى عام 2010، بسبب العلاقة التي جمعت بين إسرائيل وتركيا، خصم قبرص اللدود.
غير أن تدهور
العلاقات التركية الإسرائيلية في أعقاب حادثة
أسطول "مرمرة" عام 2010، مثّل منعطفا مهما دفع تل أبيب إلى البحث عن شركاء بديلين في منطقة المتوسط، إلى أن وجدت في قبرص واليونان حلفاء جددا.
منذ ذلك الحين اتخذ البلدان سلسلة خطوات عسكرية مشتركة. ففي فبراير/شباط 2014، استضافت قبرص أول مناورات جوية مع سلاح الجو الإسرائيلي تحت اسم "أونيسيلوس-جدعون"، قبل أن تتحول هذه المناورات إلى تقليد شبه سنوي.
ورغم أن الهدف المعلن كان رفع كفاءة الدفاع الجوي القبرصي، فإن البُعد الأعمق كان تعزيز جاهزية إسرائيل نفسها، خاصة أن بعض هذه التدريبات اقتصر على وحدات إسرائيلية فقط، فيما اكتفت قبرص بدور المضيف، وهو ما يعكس الطبيعة غير المتكافئة للعلاقة.
مع مرور الوقت، تجاوز التعاون الثنائي حدود المناورات. تحدث الصحفي الفرنسي جورج مالبرونو عن وجود قاعدة تابعة للموساد في الجزيرة تضم عشرات العناصر، مشيرا إلى استخدام المقاتلات الإسرائيلية للمجال الجوي القبرصي بوصفه مساحة آمنة للمناورة بعيدا عن أنظمة الرصد.
وعلى صعيد التسليح، تحولت قبرص إلى زبون للصناعات العسكرية الإسرائيلية خلال العقد الماضي، باقتناء بنادق "تافور" الهجومية ورشاشات "نيغيف" الخفيفة، إضافة إلى طائرات مسيّرة لتعزيز قدراتها الاستطلاعية، كما ظهرت تقارير عن اهتمامها بدبابات "ميركافا".
هذا التراكم تُوِّج بتسليم منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية "باراك إم إكس" إلى نيقوسيا، في تطور أعاد إلى الأذهان أزمة عام 1997، عندما حاولت قبرص إدخال صواريخ "إس-300" الروسية إلى الجزيرة، اندلعت أزمة مع أنقرة كادت أن تتحول إلى مواجهة عسكرية، قبل أن تُنقل المنظومة في النهاية إلى جزيرة كريت تفاديا للتصعيد.
لكن الأمور تبدو مختلفة اليوم، حيث جرى تسليم المنظومة الإسرائيلية إلى قبرص مع تحفز وقلق تركي مما يجري والتحذير المتحفظ من "عواقب وخيمة" على السلام في الجزيرة. وتكمن المشكلة في المنظومات على شاكلة "باراك" في المدى الراداري الواسع الذي يمنحها تغطية جغرافية واسعة تشمل أجزاء من جنوب تركيا.
وهنا يتجاوز الأمر بُعده العسكري المباشر إلى بُعد جيوسياسي أعمق: دخول إسرائيل لاعبا مباشرا في معادلة التوازن القبرصية-التركية، بما يحمله ذلك من تداعيات إستراتيجية على مستقبل الأمن في شرق المتوسط.