على امتداد القرن العشرين، مثّلت القواعد الجوية مراكز ثقل في العقائد العسكرية للقوى العظمى. فمن مطارات بيرل هاربر الأميركية -التي فجّرت الحرب في
المحيط الهادي ودفعت
واشنطن لخوض الحرب العالمية الثانية، إلى قواعد
الناتو المحصّنة في أوروبا الغربية- كانت القواعد الجوية دوماً محاور ارتكاز تعزز القدرة على المبادرة، ونقل الحرب إلى أراضي الخصوم، وردعهم قبل أن يقتربوا من أراضي الدولة المدافعة.
وقد أسهمت الثورة في الشؤون العسكرية منذ تسعينيات القرن الماضي، بما فيها الدقة العالية والتفوق الجوي للقوى الكبرى، في جعل القواعد الجوية من الأصول التي تُبنى حولها الإستراتيجية وليس مجرد كونها أدوات لوجستية لخدمة العمليات.
ولكن مع دخول الحروب المعاصرة في طور اللامركزية واللا تناظر، أصبحت القواعد الجوية أهدافًا مكشوفة على مدار الساعة، تحت تهديد مستمر من مسيّرات صغيرة ورخيصة قادرة على إحراج إمبراطوريات دفاعية تتكلف مليارات الدولارات.
ودفع هذا التحول مراكز التفكير العسكري، وعلى رأسها مركز راند التابع للقوات الجوية الأميركية، إلى دراسة احتماليات انهيار الدفاعات الجوية التقليدية، والتحديات الكامنة في الدفاع عن القواعد الجوية عبر دراسة نقاط ضعفها، وإعادة التفكير في تموضعها وهيكليتها وتوزيعها.
وتبرز خلاصة مكثفة تُجمع عليها دراسات راند العديدة التي تناولت الموضوع، وهي أن الاعتماد على قواعد جوية مركزية وكبيرة وثابتة يمثل مخاطرة إستراتيجية. فهذه القواعد، رغم قدرتها على تشغيل عدد كبير من الطائرات وتوفير لوجستيات عالية الكفاءة، تتحول إلى أهداف مثالية لهجوم من الأعداء يستخدم وسائل دقيقة أو يصعب رصدها، مثل المسيّرات الصغيرة أو الصواريخ منخفضة التوقيع الراداري.
وإحدى أكثر الطروحات إثارة في دراسات راند تتمثل في التحذير من التهديدات "من الداخل" سواء أكانت عبر نشر
طائرات مسيرة في مناطق قريبة من القواعد الجوية، أو من خلال استخدام مدنيين أو مقاتلين غير نظاميين لإطلاق هجمات مباغتة.
ففي تقرير بعنوان "الدفاع عن القواعد الجوية في عصر الطائرات المسيّرة الصغيرة" صدر عام 2021، حذر الخبراء من أن صغر حجم الطائرات المسيرة وانخفاض تكلفتها يجعلها أداة مثالية للهجوم داخل العمق، لا سيما إذا جرى إطلاقها من مسافات قريبة يصعب على الدفاعات التقليدية التعامل معها.
وفي تقرير آخر صدر عام 2020 بعنوان "الدفاع عن القواعد الجوية: إعادة التفكير في بيئة التهديدات" يحذّر مركز راند من أن منطق "الكتلة الفعّالة" الذي لطالما حكم تشغيل القواعد الجوية الكبرى لم يعد ملائمًا في بيئة قتالية باتت مشبعة بأنظمة الاستشعار الدقيقة والقدرات الهجومية بعيدة المدى.
ففي زمن يمكن فيه لصاروخ واحد أن يشلّ مدرجًا أو يدمّر حظيرة طائرات رئيسية داخل قاعدة مترامية، تتحول وفرة الإمكانات إلى مكمن هشاشة، ويغدو الاعتماد على قاعدة واحدة ضخمة نقطة ضعف إستراتيجية فادحة، لا مصدرًا للقوة.
وبالتالي دعا التقرير إلى المزج بين الدفاع النشط بواسطة أنظمة الدفاع الجوي، والدفاع السلبي بواسطة إخفاء الطائرات، وتوزيعها، واستخدام منشآت مموهة، وهو ما لم تفعله روسيا حسب المقاطع المصورة التي تظهر الهجوم الأوكراني، حيث تظهر الطائرات الروسية جاثمة على مدارج الطيران دون حماية أو تمويه.
وكل ما قيل في أدبيات راند بدا وكأنه توقع نظري بعيد، حتى جاء الهجوم الأوكراني الأخير ليثبت -على نحو صادم- أن أكثر التهديدات احتمالا لم يعد افتراضًا أكاديميًا، بل أصبح واقعًا ميدانيًا يعيد تشكيل خرائط القوة في الحرب المعاصرة.
لم يكن الهجوم الأوكراني في يونيو/حزيران 2025 على 5 قواعد جوية تعتبر أعمدة أساسية في منظومة الردع والقدرة الجوية الروسية، مجرد تصعيد تكتيكي، بل يمكن اعتباره تحولا نوعيا في نمط الحرب التي تخوضها أوكرانيا ضد روسيا منذ عام 2022. إذ شكّل هذا الهجوم أول محاولة متكاملة لتقويض الردع الجوي الروسي داخل العمق الإستراتيجي، باستخدام وسائل غير تقليدية، في استعراض بالغ الجرأة والتخطيط المحكم.
واعتمد الهجوم الأوكراني على مزيج متقن من الطائرات المسيّرة صغيرة الحجم التي تم تهريبها إلى داخل روسيا، وإطلاقها بواسطة شاحنات مموهة من مسافات قريبة للغاية من محيط القواعد المستهدفة، وضمن موجات هجوم متزامنة لإرباك الدفاعات الجوية الروسية.
ورغم الجدل حول حجم الإصابات: هل هي 41 طائرة روسية كما تقول الاستخبارات العسكرية أوكرانية؟ أم الأمر يقتصر على 13 طائرة وفق ما أوردته
واشنطن بوست نقلا عن صور أقمار صناعية ومقاطع فيديو؟ فقد أرسلت
أوكرانيا عدة رسائل بواسطة الهجوم المذكور، من أبرزها أن المعركة لم تعد حدودية، بل دخلت عمق روسيا، حيث يُفترض أن تكون المناطق الأكثر تحصينًا، كما أثبتت أنه في الحرب يمكن موازنة تفوق الخصم عبر تكتيكات مرنة تُبطل معادلات التوازن القديمة.
وربما كانت الخسارة الأهم هي النفسية والسياسية، فقد اهتزت صورة السماء المحمية التي روّجت لها موسكو، لا أمام أوكرانيا فقط، بل أمام
حلف الناتو وكذلك الدول الصديقة التي تراقب قدرة روسيا على الدفاع عن نفسها.
وتلك المعاني أكدت عليها دراسة نشرها مركز راند عام 2022 بعنوان "القوة الجوية تحت الحصار" حيث ركزت على أن ضرب القواعد الجوية لا يُقصد به فقط تدمير الطائرات، بل أيضًا هزّ معنويات الخصم، وتفكيك ثقته في سيطرته الجوية، وتقويض ثقة الجنود والقادة في قدرة الدولة على حمايتهم، وهو ما فعلته أوكرانيا بمهارة. فقد تداولت وسائل الإعلام مشاهد الحريق داخل الأراضي الروسية، وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع الانفجارات، مما حول العملية من إنجاز عسكري إلى صفعة مدوية لهيبة الردع الروسي.
ولقد أثبت الهجوم الأوكراني أن الحماية لا تكمن فقط في العمق الجغرافي أو في كثافة الدفاعات، بل في المرونة والتفكير غير النمطي. ولعلّ هذا ما يجعل الهجوم يُقرأ، لا كعملية عسكرية وأمنية ناجحة فحسب، بل كإعادة تشكيل عميقة لعقيدة الردع في زمن الحرب اللامتناظرة.