ورغم حرص الصين على تعزيز قدرتها على التخفي، فإن ضخامتها تجعلها هدفا مغريا لأنظمة الدفاع الجوي المتطورة، مما يتطلب غالبا توفير غطاء جوي لمرافقتها وتحييد التهديدات الأرضية. كما أن أقصى ارتفاع معلن قد تصل إليه الطائرة الصينية (7 آلاف كيلومتر)، فإنها تبقى ضمن نطاق منظومات الدفاع الجوي المتطورة مثل "باتريوت باك-3" الأميركية، ومنظومة "سكاي بو 3" التايوانية، ومنظومة "إيجيس" اليابانية، كما أشار تقرير بصحيفة نيوزويك.
بالطبع، تظل تلك الإمكانات السابقة ادعاءات صينية طموحة، لم تُؤكد أو تُختبر بعد في أرض المعركة. لكن ربما النقطة الأهم هنا هي سرعة تطوير هذه الفكرة، وفرادتها في آن.
إضافة لما سبق، فإن هذا الإيقاع السريع -من التصميم إلى الاختبار خلال عامين- أمر نادر في طائرات مسيّرة بهذه الدرجة من التعقيد، وربما يعكس طموح الصين في تطوير منظومات الطائرات المسيرة، ومن ورائها المنظومات العسكرية الأخرى التي تتيح للصين قدرات مستقبلية على المناورة والتفوق في مجالات محددة.
حروب أسراب المسيّرات
ربما السؤال الذي يحتاج لإجابة هو، لماذا تسعى الصين لبناء "حاملة طائرات مسيّرة" محلّقة في السماء؟
قد يكمن جزء من الإجابة في تحوّلات مشهد الحروب المعاصرة. ففي السنوات الأخيرة، أسَرت تكتيكات أسراب الطائرات المسيّرة اهتمام الإستراتيجيين العسكريين، الذين باتوا يرون في نشر أعداد كبيرة من الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة وسيلة لمحاصرة دفاعات العدو عبر الكثرة والتنسيق، وليس بالاعتماد على قوة الأسلحة بمفردها.
مثلا، بدلا من الاعتماد على مجموعة من الطائرات التقليدية أو الصواريخ المُكلفة، صار بالإمكان إطلاق عشرات أو مئات الطائرات المسيّرة. والفكرة هنا أن تلك الأسراب لا تتمتع كل وحدة منها بقوة تدميرية هائلة، لكنها قادرة بمجموعها على إنهاك الخصم الأكثر تطورا وقوة في العتاد والأسلحة.
وفي هذا السياق العام، جاء تطوير "جيوتيان" خصيصا لخوض هذا النوع من الحروب، فهي منصة إطلاق جوية تُضاعف مدى وسرعة انتشار أسراب المسيّرات الصغيرة. تخيّل غيمة من الروبوتات الحربية تغطي السماء في لحظات؛ معادلة تُربك الحسابات الاقتصادية للحروب، إذ يُجبر المدافع على إطلاق العشرات من الصواريخ باهظة الثمن لصدّ هجوم أطلقته منصة واحدة منخفضة التكلفة نسبيا.
بالنسبة للصين وتصوراتها المستقبلية، من المنتظر أن تؤدي "جيوتيان" دورا محوريا في تحقيق التفوق الجوي، خصوصا في المناطق الإستراتيجية المتنازع عليها. ويمكن أن تُشكل إلى جانب المسيّرات الكبيرة والطائرات الحربية المقاتلة والصواريخ الباليستية حزمة عسكرية تضمن لبكين أفضلية الضغط الجوي واستدامة الهيمنة، وموفّرةً ضربات فورية ومؤثرة واستطلاعا دقيقا عند الحاجة، كما يشير تقرير آخر في موقع "أرمي ريكوجنيشن".
يرى المفكرون العسكريون الصينيون أن هذه المقاربة تتجاوز مفاهيم القوة الجوية الغربية التقليدية. فبدلاً من محاكاة الترسانة الأميركية بطائرة مقابل طائرة، تستثمر بكين في أنظمة تقلّل من أهمية تلك الطائرات وحاملاتها. وكما ورد في أحد التحليلات، فإن "جيوتيان" وأخواتها تسعى إلى "إعادة تعريف الهيمنة الجوية" عبر أصول جوية منتشرة، وقابلة للتوسع، ويصعب شلّها بضربة واحدة.
حيث يمكن لتلك الأسراب المسيّرة تغطية مساحات شاسعة دون تشكيل هدف مركزي يمكن ضربه، وبذلك فإن خسارة بعضها لا يعني انهيار المهمة، بل هو جزء من عملية الإغراق للمنظومات الدفاعية للخصم وتشتيت جهوده وإرباكه.
ففي الوقت الذي لا يمكن للطيار البشري التواجد سوى في نقطة واحدة، تستطيع منصة "جيوتيان" تنسيق عشرات المسيّرات شبه المستقلة في لحظة واحدة.
تتناغم هذه الرؤية مع نقاط القوة الصينية وطموحاتها، فقد درس جيش التحرير الشعبي الصيني الحروب المعاصرة، وخاصة الحرب في أوكرانيا التي تشتهر بأنها حرب الطائرات المسيّرة. حيث إن دروس المروحيات الرباعية التجارية (الكودكابتر) والمسيّرات الانتحارية لم تغب عن بكين، إذ أثبتت أن تلك الأدوات المنخفضة التكلفة يمكنها تدمير الدبابات، أو رصد المدفعيات، بل وتشتيت مجهودات منظومات الدفاع المتطورة عند استخدامها بكثافة.
وبعد حرب أوكرانيا، يقارن بعض القادة العسكريين الأميركيين تأثير تلك الطائرات المسيّرة بالثورات التكتيكية التي غيرت شكل ومسار الحروب تاريخيا. وكيف أن الحرب الروسية الأوكرانية، وبعدها الحرب على غزة، كشفتا أهمية القدرات الإستراتيجية للطائرات المسيّرة الرخيصة وسهلة الاستبدال، أو الطائرات التجارية التي يمكن استخدامها لأغراض عسكرية.
واللافت أن قدرات الصين في استخدام أسراب المسيّرات كانت واضحة قبل حتى تطوير منصة "جيوتيان". في عام 2020، أجرت شركة حكومية صينية بعض الاختبارات النوعية، التي أطلقت خلالها الطائرات المسيّرة من منصات إطلاق مكونة من 48 وحدة إطلاق من الشاحنات ومن طائرات هليكوبتر.
ومع تطور الذكاء الاصطناعي ونظم الاتصالات اللامركزية، بات بالإمكان التحكم في أسراب أكبر وأكثر تنسيقا. لذا، عندما ظهرت منصة "جيوتيان"، بدا من المنطقي أن تطلق الأسراب من الجو لا من الأرض، لضرب الخصم من الأعلى في مفاجأة تكتيكية.
وفي مثل هذا السياق، قد تحلق طائرة "جيوتيان" المسيّرة على ارتفاعات آمنة نسبيا، وتستطيع إطلاق أسرابها من المسيّرات الأصغر باتجاه أرض المعركة. ويمكن لتلك الأسراب أن تهاجم مواقع الرادارات، أو السفن، أو منظومات الدفاع الجوي، ممهّدة الطريق أمام قوات الجيش، برا وبحرا وجوا.
تفوق صيني
وحين نبتعد قليلا لننظر إلى الصورة الكبرى، فمسيّرة "جيوتيان" هي ثمرة طبيعية لاستثمار واسع النطاق قادته الصين في مجال المنظومات غير المأهولة (المسيّرة).
ووفقا لتحليلات وتقارير عسكرية حديثة، يوجد حاليا أكثر من 50 نموذجا من المسيّرات قيد التطوير ضمن قطاع الصناعات الدفاعية الصينية، من المروحيات الرباعية "كوادكوبتر" الصغيرة المخصصة للاستطلاع الميداني، إلى الطائرات الهجومية الشبحية ذات الأشكال الغريبة. ولكي نحاول فهم حجم هذا الجهد، يكفي أن نعلم أن المصانع الصينية تتحضّر لإنتاج ملايين من الطائرات المسيّرة الانتحارية الصغيرة بحلول عام 2026.
يرجع الفضل في زيادة الإنتاج، وتوفر هذا المخزون الكبير من الطائرات المسيّرة، إلى سيطرة الشركات الصينية على هذه السوق، التي تنتج وتبيع معظمها حول العالم. وما يزيد من المصاعب هو تخلف قطاع الطائرات المسيّرة التجارية في الولايات المتحدة عن نظيره الصيني، فالشركات الصينية تهيمن على سوق تلك التقنيات التي يمكن تطويعها للاستخدام المزدوج.
مثلا، تشتري أوكرانيا نحو 60% من إمدادات العالم من طائرات "مافيك" الرباعية المروحية التي تنتجها شركة "دي جيه آي" الصينية وفقا لأحدث الإحصاءات.
هذه الهيمنة الصينية على هذا القطاع عالميا لم تأتِ مصادفة، إذ أشار تقرير الاتحاد الدولي لأنظمة المركبات غير المأهولة إلى أن أهم أسباب نجاح الشركات الصينية في قطاع الطائرات المسيرة التجارية هو الدعم الواسع الذي تقدمه الحكومة الصينية، وذلك عبر تقديم إعانات سخية واستثمارات مباشرة ووضع تشريعات إستراتيجية، مما وضع الشركات الصينية في موقف قوة في الساحة العالمية.
ففي عام 2015، أطلقت الحكومة الصينية مبادرة "صُنع في الصين 2025″، وهي مبادرة تمتد 10 سنوات للاستثمار في الصناعات الرئيسية، خاصة في مجال التكنولوجيا، بهدف ضمان ريادة الصين وهيمنتها على الأسواق العالمية.
ساهمت تلك الإعانات الحكومية في خفض تكاليف الإنتاج، وبالتالي استطاعت الشركات الصينية أن تُقلل من أسعار المسيرات، مما سمح لها بالتفوق على نظيراتها من الشركات الأميركية، سواء من حيث السعر أو المميزات التقنية.
في النهاية، وبينما يستمر سباق الابتكار في عالم الطائرات المسيّرة، يبقى السؤال: إذا كانت الحروب التي نراها اليوم شديدة التدمير، فكيف بحروب المستقبل؟