فرنسا تحرض والي مصر محمد علي باشا
وكان أول ما جاء في روع الفرنسيين أن ينتقموا من الدولة العثمانية من خلال محمد علي باشا والي مصر الذي خرج من حرب اليونان غضبان يريد الانتقام؛ لأن الدولة العثمانية وعدته بحكم بلاد الشام، فنكصت عن وعدها، وسُحق أسطوله القوي الذي ظلّ يؤسسه سنوات طويلة، وكان سفير فرنسا في مصر دروفتي صديقا شخصيا لمحمد علي فرأى أن يوجهه لاحتلال الجزائر وتونس بدلا من احتلال بلاد الشام، وقبل محمد علي من صديقه السفير الفرنسي ذلك الاقتراح في مقابل دعم فرنسي سخي.
أرسل السفير الفرنسي في القاهرة دروفتي إلى رئيس وزراء حكومة فرنسا دبوليناك يُحسّن له ذلك الأمر، ويثني على الجيش المصري الذي أنشأه محمد علي، وكيف أنه تمكن من قبل من احتلال السودان والحجاز، وعقب استشعار فرنسا أن حليفها محمد علي باشا سيحقق هدفها أرسلت إلى الباب العالي مذكرة رسمية جاء فيها:
"إن داي الجزائر أهانَ الملك، فاعتزم الملك (الفرنسي) أن يثأر لشرفه، وليس في نية جلالته أن يُطلع الباب العالي على الوسائل التي سيلجأ إليها، بل يكتفي بأن يقول إن واجبه يقضي بأن يصون رعاياه عن الأخطار التي تهددهم، ويضمن لهم الأمن… فإن شاء السلطان أن يؤدب هذا العامل الشاذ فإن له في القوة العسكرية التي يملكها باشا مصر ما يضمن تنفيذ إرادته".
مفاوضة محمد علي في وضع اتفاق بشأن الحملة العسكرية، بحيث تدعمه فرنسا بقرض يبلغ عشرة ملايين فرانك تُدفع له على أقساط أثناء الحملة، ويتم سدادها فيما بعد على عشر سنوات، وتدعمه فرنسا عسكريا بتشديد الحصار البحري على شواطئ طرابلس وتونس والجزائر.
في المقابل وافق محمد علي على هذه الشروط ولكنه أضاف شروطا أدت إلى فشل المفاوضات في النهاية، وهي تقديم فرنسا بدون مقابل أربع سفن حربية كبيرة كل واحدة منها تملك أربعين مدفعًا، وأن تقرضه واحدًا وعشرين مليون فرنك سيتم سدادها خلال أربع سنوات، مع تقديم فرنسا الضباط والخبراء في المدفعية والسلاح والعتاد لابنه إبراهيم باشا الذي سيقود هذه الحملة، وأن يتعهد ملك فرنسا بحماية مصر من كل اعتداء عليها، وفي مقابل ذلك سيقيم محمد علي حكومة في شمال أفريقيا تُعطي فرنسا امتيازات اقتصادية، فضلا عن القضاء على القراصنة في البحر المتوسط.
محمد علي باشا (مكتبة الإسكندرية)
فرنسا تحتل الجزائر
عرفت بريطانيا ما كان يدور فحذرت الدولة العثمانية من عواقب هذه الحملة ومن توسّع سلطة محمد علي في شمال أفريقيا، وقد رفض السلطان محمود الثاني هذا المقترح الفرنسي، ومن جانبها رفضت فرنسا منح محمد علي أربع سفن عسكرية، ولكل هذه الأسباب اتخذت قرارها في 30 يناير/كانون الثاني 1830م بغزو الجزائر بنفسها، ويبدو أن محمد علي كانت عينه على الشام لأهميتها الإستراتيجية والاقتصادية بالنسبة لمصر، ولهذا السبب قرر غزوها في العام التالي 1831م.
كانت هناك أسباب أكثر أهمية من ثأر الحكومة الفرنسية لسفيرها المصفوع في الجزائر؛ أسباب تعود إلى أزماتها الداخلية في زمن المملكة الجديدة التي أُعيد أحياؤها بعد هزيمة نابليون، وكانت الحكومة تود إلهاء الشعب ودفعه إلى إحراز أمجاد في الخارج، وقد رأت في الجزائر غنيمة اقتصادية كبرى يمكن أن تمد فرنسا بما تحتاج إليه من أموال وخيرات تنعش خزائنها.
وبسبب هذه الخيرات التي تتمتع بها الجزائر ورد في تقرير وزير الحربية الفرنسية "كلير مون دي تونير" إلى الملك شارل العاشر الذي وجهه إليه عام 1827م أنه توجد مراسٍ عديدة على السواحل الجزائرية، وأن الاستيلاء عليها يُعتبر ذا فائدة كبيرة، كما تحتوي أراضي الجزائر على مناجم غنية بالحديد والرصاص ويتوفر فيها الملح والبارود بكميات هائلة، وتوجد في شواطئها ملاحات غنية، فضلا عن الكنوز المكدّسة في قصر الداي (الوالي)، التي قدرتها المخابرات الفرنسية بأكثر من مئة وخمسين مليون فرنك.
وقد أكد وزير الحربية التالي جيرار هذه الحقيقة حين قال في إحدى المناسبات: "إن الغزو إنما يرجعُ إلى ضرورات بالغة الأهمية متصلة أوثق الاتصال بحفظ النظام العام في فرنسا وأوروبا وتلك الضرورات، هي فتح آفاق للفائض من عدد سكانها، ومبادلة منتجات مصانعنا بمنتجات أخرى غربية عن أرضنا وعن جو بلادنا".
وقد لاحظ بعض الباحثين أن العوامل الدينية كان لها دور كبير أيضًا في احتلال الجزائر؛ إذ كانت فرنسا تشعر بأنها حامية الكاثوليكية وأن تحقيق الانتصار على الجزائر هو انتصار للمسيحية على الإسلام، وهذا ما يُفهم من التقرير الذي قدّمه وزير الحربية كليرمون دي تونير للملك الفرنسي شارل العاشر قُبيل الاحتلال، وجاء فيه: "لقد أرادت العناية الإلهية أن تُستثار جلالتكم في شخص قنصلكم بواسطة ألدّ أعداء المسيحية، ولعله لم يكن من باب المصادفة أن يُدعى ابن لويس التقي (لويس التاسع الذي قاد الحملة الصليبية السابعة على مصر) لكي ينتقم للدين وللإنسانية ولإهانته الشخصية في نفس الوقت، ولعل الزمن يُسعدنا بأن ننتهز الفرصة لكي ننشر المدنية بين السكان الأصليين ونُنصّرهم".
وعند احتلال الجزائر أقيمت صلوات قال فيها قسيس الجيش لقائد الحملة الجنرال بورمون: "لقد فتحت بابا للمسيحية في أفريقيا"، بل إن قائد الحملة بورمون نفسه في أثناء الاحتفال الذي أقيم في فناء "القصبة" الجزائرية بمناسبة الانتصار الفرنسي على الجزائر واحتلالها، قال مخاطبا ملِكه: "مولاي، لقد فتحتَ بهذا العمل بداية لازدهار الحضارة التي اندثرت في تلك البلاد".
وقد أقام الفرنسيون أقدم مركز تنصيري في العاصمة الجزائرية باسم الكاردينال لافيجري الذي سُميت المنطقة أيضًا باسمه، ولكن غُير اسم المنطقة التي أقيم فيها إلى المحمديّة نسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، بل افتتحت الجزائر على أنقاض هذا المركز أخيرًا مسجدًا يُعدّ من أكبر المساجد في العالم.
ومهما يكن من أمر؛ ففي 5 يوليو/تموز 1830 نجح الفرنسيون في احتلال الجزائر، وأبرم معهم الداي حسين مرغمًا اتفاقية تسليم، والتزم بجميع بنودها، ولكن الفرنسيين لم يلتزموا بشيء منها، إذ بمجرد أن تم التوقيع على المعاهدة قام الجيش الفرنسي بأعمال وحشية، ونهب كل السلع التي وجدها في الميناء.
وهكذا حقّق الفرنسيون أملهم باحتلال الجزائر، وبدؤوا تنفيذ خطة مَحْوِ خصائص الجزائر الحضارية، من دين ولغة ومعالم تاريخية، لتسهل -في زعمهم- إعادة الجزائر إلى المسيحية، ولم يتوقفوا عن تنفيذ تلك الخطة -ساعة من نهار- طوال وجودهم بالجزائر. ولذلك اعتبر الإمام محمد البشير الإبراهيمي احتلال فرنسا للجزائر "حلقةً من الصليبية الأولى"، وأنه "قَرْنٌ من الصليبية نَجَم، لا جيش من الفرنسيين هَجَم"، وأن هذه الصليبية لم تخف حِدَّتها، ولم يتغيّر لونها، ولم تضعف فَوْرَتُها بتعاقب السنين وتطور الأفكار، بل بقيت هي هي "تَجَمْهَرت فرنسا أو تَدَكْتَرت، أو اختلفت عليها الألوان بَياضًا وحمرة" على حد وصفه.
والحق أن هذه الأعمال الوحشية الفرنسية، والنيات الاستعمارية والصليبية الكاشفة هي التي أنبتت بذور المقاومة الجزائرية؛ إذ سرعان ما ظهرت بوادرها مع حمدان خوجه والأمير عبد القادر واستمرت طوال 130 عامًا تالية، فقدت فيها البلاد مئات الآلاف من الشهداء، وقد تمكنت بعد قهر وبطش من أن تنال استقلالها وحريتها!
المصدر : الجزيرة نت - محمد شعبان أيوب