الطريق إلى عكا والهزيمة الثقيلة

خريطة أرشيفية توضح موقع مدينة عكا وحيفا ويافا وغزة (مواقع التواصل)
حين أمَّن نابليون ظهره أمر على الفور بمغادرة غزة يوم 28 فبراير/شباط 1799م لاستكمال باقي غزوته، فنزل على مدينة الرملة وتمكن من احتلالها، وكذلك مدينة يافا بعد صراع شديد مع حاميتها العثمانية والعربية التي كانت تبلغ 12 ألف مقاتل، ولكنه سلَّط عليها مدافعه الثقيلة. وفي هذه المعركة سقط في يديه عدد كبير من الأسرى "وكان عددهم يزيد على ثلاثة آلاف حنق عليهم، وزعم أنهم لا يراعون ذمة، ولا يحترمون الشرف العسكري، فأمر جنوده بإطلاق النار عليهم"[7].
كتب نابليون في تقريره لحكومته في باريس عن هذه المعركة ومجزرته فيها قائلا: "إنه لم تتصور له فظائع الحرب من قبل مثلما ظهرت له في يافا"، الأمر الذي دفع الشيخ الدحداح فيما ترجمه عن تاريخ فرنسا، وكان من المتعاطفين مع الفرنسيين، أن يكتب قائلا: "إن شدَّة الحر وعتاد المحصورين أضرَّا بالفرنسيين وحمَّلاهم أثقالا شديدة؛ ولذلك لما دخلوا المدينة حدث فيها ما تقشعرُّ الأبدان من ذكره، فإن القتال الذي جرى في أسواق يافا كان قتالا لا يسوغ أن نسميه بشريا، فإن الشياطين لا تقدر أن تقوم بشرٍّ أعظم"[8].
عقب هذه المجزرة، وسيطرة نابليون وقواته على يافا، ظنَّ الجميعُ أن مقصده سيكون إلى القدس، إذ أمست الطريق إليها مفتوحة أمامه، لكنه أدرك أن القوة العسكرية العثمانية والعربية والمعاقل الحربية مثل القلاع والذخائر كلها كانت على الساحل الفلسطيني، وأن التوغل إلى الجنوب سيكون مخاطرة كبيرة. وبالفعل تقدَّم نابليون صوب ما يمكن اعتباره وقتذاك عاصمة فلسطين، ومركز السياسة والقوة العسكرية فيها مدينة عكَّا حتى بلغها في مارس/آذار 1799م، فحاصرها، وكان الجزار باشا وقواته مرابطين فيها، مستعدين بالمؤن والعتاد لنابليون وجيوشه. ولم تهدأ القوات الفرنسية طوال ستين يوما حاولت خلاها هدم سور المدينة الحصين أو مخامرة القوات العثمانية والعربية الحامية لأسوار وأبراج المدينة. وقد تتبع المؤرخون ردة فعل أهل فلسطين إزاء محاولات نابليون تحييدهم وإبعادهم عن المقاومة العثمانية، وهي محاولات باءت بفشل ذريع.
لقد لبَّى الفلسطينيون نداء الجهاد ضد الغزاة الفرنسيين، على سبيل المثال يذكر الخالدي في كتابه "أهل العلم بين مصر وفلسطين" أن أحد أعيان أهل بيت المقدس، وهو القاضي الشيخ موسى الخالدي الذي درس في الأزهر وكان يشغل قاضي عسكر الأناضول وقتذاك في إسطنبول، أرسل إلى أهالي بيت المقدس وفلسطين عامة رسالة يحثُّهم فيها على مقاتلة نابليون ومواجهته، وإزاء مثل هذه الخطابات والفتاوى انصاع الناس للقاضي الخالدي، وشرع المقيمون في أعالي جبال فلسطين في هذه المواجهة، لا سيَّما في نواحي قاقون وعزون وجبال نابلس ومرج بني عامر[9].
لقد حاول هؤلاء السكان الفلسطينيون قطعَ الطريق على فرقة الجنرال الفرنسي كليبر التي كانت في طريقها إلى حيفا، فهاجموها وكبَّدوها ثلاثين قتيلا وعربة مدفع. وعاد المقاتلون من منطقة جبل نابلس فهاجموا الفِرق الفرنسية عند قرية طور زيتا، لكنهم اضطروا إلى الانسحاب أمام قصف المدافع الثقيلة، وكانت بعض الفرق الفرنسية في فترة حصار عكا قد أُرسلت لاحتلال الحصون والقلاع في الجليل كي تقطع الطريق على الإمدادات والمعونات من دمشق إلى عكا. وقد حضرت قوات عثمانية بقيادة عبد الله باشا والي الشام إلى الجليل، فالتقى الطرفان عند جبل طابور وقرية الفولة في مرج بني عامر، وفي القتال الذي جرى في أبريل/نيسان 1799م كاد جيش الجنرال كليبر أن يُهزم لولا أن نجده نابليون بسرعة، فهُزمت القوات العثمانية الأكثر عددا بفضل المدافع الفرنسية الأشد قوة وخطورة، وبفضل هذا النصر استولى نابليون على ذخائر ومؤن كثيرة، كما تمكن من احتلال مدن صفد وطبرية وجنين، وفيما بعد عادت قواته لمساندة القوات المحاصرة لعكا[10].
ولكن مع هذه المقاومة الشرسة من أهل فلسطين والشام، ومع ظهور الطاعون في جيش نابليون أمام أسوار عكا، حيث كان ينهش فيهم نهشا حتى سقط منهم عدة آلاف، بالإضافة إلى طول المقام الذي استمر لستين يوما رأى فيها مقاومة أهل عكا وجيشها؛ أدرك نابليون ألا مقام له في فلسطين، وأن مهمته شبه مستحيلة، وحينها أصدر قراره بالانسحاب والرجوع بقواته إلى مصر في مايو/أيار 1799م.