عوالم أخرى.. نُظُم دولية أخرى

(مواقع التواصل)
قد يتجادل الباحثون حول دقة أحد التفاسير التي تتناول الماضي، لكن التصورات الشائعة للماضي غالبا ما تُشكِّل العلاقات الدولية الحديثة. وحسبما ترجِّح زراكول، يحتاج الباحثون إلى النقاش حول الفترة الزمنية التي تناولتها في كتابها، وأن يسألوا عن "المنطلقات المنطقية التي طُبِّقت في تلك الحقبة وما زالت تُطبَّق في عصرنا". ففي الفصل الأخير من كتابها تستطلع زراكول مفهوم الأوراسية، وهي حركة ثقافية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كشفت سوابق غير أوروبية في تأسيس أنظمة عالمية امتدت بين أوروبا وآسيا، ولا سيما طريقة فهم المثقفين في اليابان وروسيا وتركيا لآثار حكم المغول على المدى الطويل على مجتمعاتهم ذاتها.
يُعَدُّ هذا الاهتمام بمفهوم النظام العالمي في الخيال غير الأوروبي ملائما في توقيته. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، تجادل الباحثون الروس، مثل "نيكولاي تروبِتزكوي" و"جورج فِرنادسكي" و"ليف غوميلوف" فيما بينهم حول تأثير الحكم المغولي طيلة قرنين من الزمان في روسيا الحديثة. كما أنهم دعوا القادة المعاصرين للاقتداء بجنكيز خان وتوحيد الروس حتى يتمكَّنوا من بناء إمبراطورية جديدة تمتد بين أوروبا وآسيا. ولقي مثل هذا الفكر شعبية هائلة منذ انهيار الشيوعية والاتحاد السوفيتي، فكثيرا ما يُقارَن بوتين بجنكيز خان، ولا تُثير الدقة التاريخية بالطبع قلق مستشاري بوتين في هذا الصدد. وفي معرض دفاعهم عن الأوراسية وكيف ستُقوِّي روسيا، تذرَّع هؤلاء بتقاليد لا علاقة لها بمعاهدة وستفاليا، ولذا أصابت زراكول في رؤيتها بأن التاريخ الذي تقوم على أساسه الأوراسية يساعدنا في فهم الأحداث التي تجري في المنطقة التي حكمها المغول ذات يوم.
على غرار أي كتاب رائد في مجاله، يغطي كتاب "ما قبل الغرب" مساحة جديدة شاسعة جدا بما يجعله قاصرا عن ضبط الحقائق بكل تفاصيلها، (لا سيما تضخيمه لمركزية إمبراطورية المغول). ومع ذلك، قدمت زراكول خدمة مهمة بإثباتها مدى ما أسهم به تاريخ مناطق مختلفة من العالم قبل عام 1500 في حاضر النظام الدولي ومستقبله، بيد أنها بابتدائها من عام 1206 تجازف بإغفال أهمية أحداث سبقت هذا التاريخ نفسه، مثل اعتناق الأمير فلاديمير الأول "الأرثوذكسية الشرقية" نحو عام 988 في عاصمته كييف، لا سيما أن رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تأسيس إمبراطورية أوراسية تشمل سعيه لضم معقل الأرثوذكسية الروسية التي تشكَّلت في السنوات الأخيرة من الألفية الأولى (على أراضي أوكرانيا اليوم)*.

الأمير فلاديمير الأول (مواقع التواصل)
هذه هي تماما وجهة نظر زراكول، إن دراسة المجتمعات غير الأوروبية التي طمحت إلى تأسيس أنظمة عالمية قبل عام 1500 تكشف لنا الكثير عن عالمنا الحديث، والأنظمة العالمية التي أسسها حكام أقدم خارج أوروبا تظل ذات أهمية بالغة، نظرا لأن الناس الذين يعيشون في تلك المناطق اليوم يستعيدون تلك المآثر والأنظمة العتيقة، محاولين أحيانا إعادة تأسيسها. وينتج عن الاهتمام بالممارسات الدبلوماسية التي ابتكرها الحكام الأقدم توازن يعادل كفة التركيز الحصري على نظام وستفاليا.
في العالم متعدد الأقطاب الذي نحيا فيه اليوم، بات القادة الأميركيون يقضون فترة رئاستهم في النظر في الخطوات التالية لنظرائهم في كلٍّ من أنقرة وبكين وموسكو ونيودلهي وطوكيو، لكنهم نادرا ما ينظرون في تاريخ تلك الأجزاء من العالم. لقد حان الوقت ليحذو المزيد من الناس حذو زراكول ويدرسوا ماضي الكثير من المراكز السياسية والاقتصادية خارج أوروبا.
—————————————————————
هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs
ترجمة: هدير عبد العظيم.
المصدر : الجزيرة نت