غير أن هذه الشكوك إزاء جدية بايدن تجاه دول الآسيان وتجاه جهود إدارته لاحتواء الصين، تبددت بصورة ملموسة بعد أيام قليلة من هذه القمة حين أجرى الرئيس الأميركي جولته الأولى إلى آسيا، وعقد خلالها في اليابان قمة قادة الحوار الرباعي (الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا)، بالإضافة إلى زيارة كوريا الجنوبية، حيث ناقش تكثيفا محتملا للتدريبات العسكرية المشتركة مع سيول.
في طوكيو، كشف بايدن أخيرا عن إطار لشراكة اقتصادية أوسع تحت اسم "الإطار الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئ (Indo-Pacific Economic Framework – IPEF)"، تشمل إلى جانب واشنطن 12 دولة، وهي: أستراليا وبروناي والهند وإندونيسيا واليابان وجمهورية كوريا وماليزيا ونيوزيلندا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام، وتمثل هذه الدول مجتمعة 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وترتكز إلى أربع ركائز: تعزيز الاقتصاد الرقمي وإرساء قواعد للتجارة العادلة، ومرونة سلسلة التوريد، والبنية التحتية والطاقة النظيفة، والضرائب ومكافحة الفساد.
تمثل هذه الخطوة محاولة لإحداث توازن في مواجهة "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، وهي اتفاقية وقّعتها الصين مع 15 دولة تشكل معا نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن المنظور الإستراتيجي، يعكس مشروع الإطار الاقتصادي الجديد أن الولايات المتحدة ستنخرط بشكل أكبر في اقتصاد المحيطين الهندي والهادئ، ويجدد مصداقية الولايات المتحدة في الاقتصاد الإقليمي بعد الفوضى التي أحدثها ترامب بقرار الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ.
خلال الزيارة، فاجأ بايدن الجميع حين قال صراحة إن الولايات المتحدة ستكون على استعداد للرد عسكريا إذا غزت الصين جزيرة تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي. لم تخفف من حدة التصريح وصراحته إعادة بايدن لاحقا التأكيد على سياسة "الصين الواحدة". وعلى الأرجح، فإن هذه الحالة لا تعكس تخبطا في الموقف الأميركي، لكنها جزء من "الغموض الإستراتيجي" المقصود الذي تنتهجه واشنطن حيال موقفها من غزو الصين المحتمل لتايوان، خاصة مع تكرار تصريحات بايدن مؤخرا عن التزام واشنطن بحماية تايوان.ورغم ذلك، فإن طريق أميركا لبناء تكتل آسيوي موحد ملتزم بمواجهة الصين ليس مفروشا بالورود، فهناك الخلافات الثنائية بين اليابان وكوريا الجنوبية والتي تحد من تطور التعاون بينهما للمستوى الذي تريده واشنطن، وهناك التناقضات داخل أطراف "الحوار الرباعي" خاصة العلاقات الراسخة بين الهند وروسيا، بالإضافة للنفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة عموما، وكلها أمور تصعب من مهمة بناء تكتل فعال قادر على تحدي مساعي الصين للهيمنة في آسيا.
من الجدير بالذكر أن التحركات الأميركية لاحتواء الصين لا تقتصر على الجوانب التجارية والاقتصادية، حيث سبق أن بدأت بالفعل في إقامة تحالفات عسكرية إستراتيجية، وهو ما تمثل في تحالف "أوكوس" مع المملكة المتحدة وأستراليا والذي ستشارك واشنطن بموجبه تكنولوجيا الغواصات النووية للمرة الأولى مع أستراليا، في خطوة تستهدف تغيير طويل الأجل لميزان القوى العسكري في المنطقة.
مواجهة محتدمة

من الواضح إذن أن المواجهة بين بكين وواشنطن في المحيط الهادئ مرشحة للاشتعال خلال الفترة القادمة. من جانبها، تهدف الصين من توسيع نطاق وجودها العسكري في منطقة المحيط الهادئ إلى تحقيق عدة أهداف حيوية في وقت واحد، تشمل تأمين خطوط الاتصال البحرية الصينية، وزيادة جمع المعلومات الاستخبارية عن القوات الأميركية وحلفائها، وإعاقة وتعقيد أي خطط أميركية لنقل ونشر القوات في المنطقة، والأهم من ذلك محاصرة أستراليا ونيوزيلندا حلفاء واشنطن الرئيسيين في جنوب المحيط الهادئ.
على الجانب الآخر، من الواضح أن الحرب الأوكرانية لم تصرف تركيز بايدن عن أولوية احتواء الصين. وفي ظل التحركات المتسارعة بين الجانبين، فإن تصاعد الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين يدفع المشهد الدولي رويدا نحو مزيد من الاصطفاف بين القطبين، في الوقت الذي يمارس كلاهما ضغوطا وإغراءات تجاه الدول الأضعف، فإن هذه الدول سوف تتعامل مع مزيج معقد من الفرص والضغوط على المدى القريب، لكن على المدى البعيد سيكون هامش الخيارات أقل إذا تفاقمت حدة المواجهة بين القطبين المتنافسين.
_______________________________________________
نُشر هذا المقال بالاتفاق مع موقع أسباب
المصدر : الجزيرة نت