تبدأ قصة محمد جواد ظريف بفصل طويل من الصمت. فالرجل الذي وُلد عام 1960 في عائلة متدينة وثرية ومحافظة سياسيا في طهران، عاش طفولته في عزلة ومداراة. كان الأب تاجرًا متدينًا من أوساط البازار، وكانت الأم من الطبقة التقليدية في المدينة.
في كتابه "السفير" يقول ظريف مازحا: "أنا ثمرة تقاطع شارعين: أحدهما شارع الجمهورية، والآخر شارع الجامعة"؛ جملة تختصر، لمن يعرف طهران، منذ البداية ذلك التوتر الخلاق الذي عاشه بين التقليد والحداثة.
في مذكراته، يرسم ظريف صورة قاتمة لطفولة معزولة عن العالم وطفل لا رفاق لديه للعب ولا رغبة في المشاركة في حفلات الزواج أو التجمعات الاجتماعية. حتى سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، يقول ظريف إنه لم يكن قد استمع للموسيقى على الإطلاق. "لو شغّل سائق سيارة الأجرة الموسيقى كنا نقول له من فضلك أطفئها"، وفي مذكراته كتب يقول إنه نشأ في منزل بلا تلفزيون ولا راديو ولا صحف.
أما والده، فقد كان رجل أعمال ناجحًا من جيل آخر، إذ كان يكبره بخمسين عامًا. كان الوالد متدينا ومحافظًا للغاية، لكنه -وهو الذي توفي عام 1983- كان معارضًا للثورة وللجمهورية الإسلامية قبل تأسيسها وحتى وفاته. غير أن علاقة ظريف بالسياسة لم تكن عن طريق والده، ولا عن طريق العائلة والأصدقاء، ولا حتى عن طريق الممارسة الفعلية للسياسة.
ففي سبعينيات القرن الماضي، تزامنت سنوات مراهقته مع المد السياسي لجيل الشباب في إيران. لكنه، على خلاف كثير من أقرانه، لم ينخرط في النشاط السياسي في الشوارع، بل انجذب أكثر إلى النقاشات الفكرية والحوار الديني، وتحديدًا إلى كتابات المفكر وعالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي، الذي ألهبت تصوراته عن الإسلام هذا الجيل من الإيرانيين.
ومن خلال هذه الكتابات، تعرّف ظريف على الثورة، واعتنق أفكارها من خلال وسيط مثالي يجردها من تجاوزات الثوار، ولذلك كان التزام ظريف بالثورة التزامًا بإطار فكري ناظم، لا استجابة لفورة شباب أو انخراطًا في حالة شعبوية عامة. في مقابلة مع فصلية الدراسات الدولية في طهران عام 2015 قال ظريف إنه أدرك في تلك السنوات أن "القوة لا تعني بالضرورة الهيمنة، بل القدرة على التأثير"؛ عبارة بسيطة لكنها أصبحت لاحقا ركيزة نظرته إلى السياسة الدولية.
في عام 1977، أي في سن السابعة عشرة، غادر ظريف هذه الحياة بفلسفتها وعزلتها إلى الولايات المتحدة. التحق بمدرسة ثانوية تحضيرية في سان فرانسيسكو قبل التسجيل في جامعة سان فرانسيسكو الحكومية، وحصل في النهاية على درجة البكالوريوس والماجستير في العلاقات الدولية.
هناك اطلع ظريف للمرة الأولى على نظريات الفكر الغربي من الواقعية إلى الليبرالية، لكنه كما قال لاحقا: "لم أرَ في أي منها حقيقة مطلقة، بل أدوات لفهم القوة". ثم أكمل بعد ذلك دراساته العليا في جامعة دنفر حيث حصل على درجة ماجستير ثانية والدكتوراه، وكانت أطروحته بعنوان "التفاعل بين الشرعية والنظام في السياسة الدولية".
كان ظريف في كاليفورنيا عندما أُطيح بالشاه وعاد آية الله روح الله الخميني إلى إيران. لكن المسافة لم تمنعه من الانخراط في الثورة الناشئة التي كان يتابع من بعيد تطوراتها عبر وسائل الإعلام. فأصبح ناشطًا في الجمعية الإسلامية لطلاب الولايات المتحدة وكندا، وشارك في النشاطات الفكرية والدعوية المؤيدة للثورة، وتولى دور ممثل المجموعة الطلابية في القنصلية الإيرانية في سان فرانسيسكو. إذ كانت مهمته التي عينها لنفسه هي أن يكون مراقبًا للتأكد من عدم انحراف ممثلي الدبلوماسية الإيرانية عن مسار الثورة الإسلامية.
بدأت مسيرة ظريف الدبلوماسية "بالصدفة" كما يقول. ففي عام 1982 كانت الجمهورية الإسلامية التي تأسست للتو في حاجة ماسة إلى موظفين لبعثتها لدى الأمم المتحدة في نيويورك.
كانت الثورة قد طهرت الخارجية الإيرانية من دبلوماسيي الشاه، الذين كانوا قد تعلموا في الغرب واحتفظوا للشاه بالدعم الدولي حتى انفجرت البلاد ضده، لكن هذا التطهير ترك فراغًا هائلًا. ولذلك كان ظريف -الذي لم يكن قد تلقى تدريبًا دبلوماسيا مخصوصا- سلعة نادرة وقيّمة بسبب لغته الإنجليزية الممتازة، ومؤهلاته الأكاديمية الغربية، والأهم، بسبب معرفته بالغرب من غير أن يذوب فيه.
تجربة ظريف في الولايات المتحدة مكّنته من الخروج بفهم عميق لآليات القوة وأدوات الهيمنة في الغرب، وإحساسٍ لا يقل عمقًا بالاغتراب الثقافي والروحي، لكنه لم ينبهر قط بذلك الغرب.
وقد لخص ذلك في مقابلة مع قناة الجزيرة عام 2015 بقوله: "تعلمت في أميركا أن الغرب قوي، لكنه ليس عصيا على الهزيمة. فكل حضارة لها نقطة عمياء، ونقطة عمى الغرب هي اعتقاده بتفوقه الأخلاقي".
في المحصلة، يمكن القول إن العقلية السياسية لظريف تشكلت من ثلاثة مصادر رئيسية: الأول، التعليم الأكاديمي الغربي الذي زوده بأدوات التحليل والنقد؛ والثاني، الخبرة الدبلوماسية في الأمم المتحدة التي عرّفته على واقع القوة في العالم؛ والثالث، الجذور الثقافية الإيرانية الإسلامية التي منحت رؤيته بعدا أخلاقيا وإنسانيا.
وربما يكون هنا مفتاح فهم شخصية جواد ظريف التي مكنته من البقاء في قلب الدبلوماسية الإيرانية ثم على رأسها لما يربو على الأربعة عقود. فقد انغمس ظريف في الغرب، لكن ثلاثين عامًا من الحياة في الولايات المتحدة بصورة مستمرة تقريبًا لم تجعله أميركيًّا، بل خبيرًا في أميركا، ودبلوماسيًّا يعرف الغرب جيدًا لكنه يفاوضه من موقع الند المكافئ، ولعل الدليل هو تأكيده مرارًا أن "نمط الحياة الغربي لا يزال غريبًا" عليه حتى بعد مرور كل تلك السنوات.
حين عاد محمد جواد ظريف إلى إيران في نهايات ثمانينيات القرن الماضي، كانت البلاد تعيش مرحلة إعادة بناء سياسية بعد الثورة، ولا تزال سياستها الخارجية تتأرجح بين المثالية الثورية والبراغماتية الواقعية. وسرعان ما التحق بوزارة الخارجية، التي كانت آنذاك منشغلة بظروف
الحرب العراقية الإيرانية وسط رؤية أمنية تسيطر على تفكير الساسة.
بدأ ظريف عمله في إدارة الشؤون الدولية بالوزارة، ثم عُيّن عضوا في بعثة إيران الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك، في وقت كانت فيه طهران تحاول إعادة ترميم صورتها في الساحة الدولية بعد الثورة. وفي مذكراته في كتاب السفير، يروي: "في نيويورك أدركت أن السياسة الخارجية لا تتعلق بالقوة فحسب، بل بالسرد أيضا؛ فمَن يروي قصته على نحو أفضل هو من ينتصر في الرأي العام".
كانت فترة ولاية ظريف الطويلة في بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في نيويورك، التي بدأت عام 1982 وشهدت ترقيته من مستشار محلي مبتدئ إلى نائب المندوب الدائم، ولاحقًا إلى مستوى سفير، بمثابة تجربة تعليمية نادرة في الإبحار في التيارات الغادرة للدبلوماسية العالمية فيما بعد الثورة.
في تلك السنوات الأولى، كان الوفد الإيراني معزولًا تمامًا. يتذكر ظريف قائلًا: "لم يكن الدبلوماسيون الآخرون مستعدين حتى لشرب الشاي معنا في الصالونات أو الممرات". ومع ذلك، نحت ظريف ببطء مكانة فريدة، ففي عام 1991 شارك في مفاوضات سرية لتأمين إطلاق سراح رهائن أميركيين احتُجزوا في لبنان، وقد نجح في ذلك ليثبت مبكرًا أنه مفاوض واع ومحاور براغماتي.
كذلك ثبّت الإيرانيون، عن طريق الدبلوماسيين مثل ظريف، سردية متعاطفة مع إيران ضد عراق صدام حسين، وهو ما أدى إلى التوصل لاتفاق مجلس الأمن الأممي لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية في يوليو/تموز 1987. وبمرور الوقت، اكتسب ظريف سمعة في واشنطن ونيويورك بأنه دبلوماسي جاد، وذكي، وسهل الوصول إليه، على النقيض من الكثيرين داخل المؤسسة الحاكمة في إيران الذين هيمنوا على الخطاب السياسي العام للبلاد.
في عام 1989، ومع تغير أجواء السياسة الخارجية وبداية مرحلة "إعادة الإعمار"، تدرج ظريف في المناصب داخل بعثة الأمم المتحدة، حتى أصبح نائب المندوب الدائم لإيران، ثم تولى لاحقا مساعد وزير الخارجية للشؤون القانونية والدولية. وخلال تلك الفترة شارك في إعداد وثائق مهمة، منها "ميثاق حقوق الإنسان الإسلامي" و"تقرير أوضاع حقوق الإنسان في إيران".
لكن الأهم من المناصب كان حضوره المتزايد في الفضاء الدولي العام، حيث انخرط في حوارات مباشرة مع كبار الدبلوماسيين من الشرق والغرب. وقد وصفه أحد الدبلوماسيين الأوروبيين بأنه "الرجل الذي جعل لغة السياسة الإيرانية قابلة للترجمة". وفي مقابلة مع قناة " PBS" الأميركية في تلك المرحلة قال ظريف: "تريد إيران أن تتحاور مع العالم، ولكنها تريد حوارا متكافئا، لا حوارا مشروطا بالتوبة".
كانت تلك السنوات بمثابة مدرسة عملية للدبلوماسية بالنسبة لظريف، تعلم فيها كيف يوازن بين الشعارات الثورية والواقع الدولي. وفي بيئة صنع القرار المعقدة داخل إيران، سعى دوما إلى تقليص الفجوة بين الرؤية الثورية واللغة الدبلوماسية العالمية. وكتب في مقال نشره في المجلة الإيرانية للشؤون الدولية (1998): "إذا أرادت السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية أن تبقى مستقرة، فعليها أن تتجاوز مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل؛ أن تمسك هي بزمام المبادرة في التفاعل العالمي".
ومع وصول محمد خاتمي إلى الرئاسة أواخر التسعينيات، أصبح ظريف نائبا للمندوب الدائم في الأمم المتحدة، وأدّى دورا محوريا في مشروع "حوار الحضارات". وقد نشر في تلك الفترة مقالا في مجلة "المراجعة الدولية
لجامعة هارفارد" بعنوان "حوار الحضارات: رؤية إيرانية" وصف فيه الدبلوماسية بأنها "فن رؤية الآخر".
لقد صاغت سنوات عمل ظريف في الأمم المتحدة شخصيته ليصبح أكثر من موظف دبلوماسي؛ بل مفكر عملي يجمع بين المرونة والصلابة. فكما وصفه زملاؤه الأجانب، كان "ليّن الخطاب، صلب المواقف"؛ يتحدث بابتسام، لكنه لا يتراجع قيد أنملة ويظل محافظًا بثبات على الخطوط الحمراء لبلاده.
بالفعل، حاز ظريف إعجاب الأميركيين بشكل متكرر، فقد وصفه السفير الأميركي السابق في أوكرانيا، ويليام ميلر، بأنه شديد الاطلاع على الولايات المتحدة وعميق المعرفة ببلاده. وبعد لقاءاته الخاصة والمتعددة بالمسؤولين الأميركيين في واشنطن ونيويورك منذ وقت مبكر، وصفه
جو بايدن حين كان عضوًا في مجلس الشيوخ بأنه "شخص عملي، لا عقائدي".