عرض مشاركة واحدة

قديم 16-01-22, 07:15 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «3»
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■
عرّجنا سريعًا في الجزءين المنصرمين، من هذا الملف الشائك، على عناوين جانبية، غايةً في الأهمية، والتي على هديها تجلَّت أمام ناظرينا حقيقة أن الحراك الذي أسقط بتاريخ 12 يناير 1964م، سلطنة زنجبار، لم يكن ثورة اجتماعية؛ وذلك بالنظر إلى أن الأداة التي استخدمت فعليًا في الإسقاط والتغيير، لم تتمثل في الشعب؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لا يمكن بحالٍ من الأحوال عدّه انقلابًا، وذلك بالنظر إلى أن الأداة المستخدمة لم تتمثل في قوةٍ مسلحةٍ وطنية. وبما أنه ثبت لدينا بالدليل القاطع، والبرهان الساطع أن السقوط والتغيير كان بفعل قوى أجنية خارجية، كما ألمحنا فيما تقدّم، وسنقف على تفصيلات ذلك في الجزء القادم؛ فإننا إذًا، أمام وضعٍ يحتم بنا أجمعين إطراح المصطلحين الدارجين بين العامة “ثورة /‏ إنقلاب”، ونعتمد بدلًا منهما مصطلح “الغزو الخارجي، أو الإجتياح، أو الإنقضاض على الشرعية”؛ فالأمر لا يختلف عما حدث في غزو الكويت.
كما خلُصنا، من واقع اللقاءات المتكررة، التي أجريتها شخصيًا مع نائب مُفوض الشرطة، سليمان بن سعيد الخروصي؛ وكذا مع وزير خارجية الحكومة المنكوبة، الشيخ علي بن محسن البرواني، أن القوة الغوغائية المرتزقة ما كان في مقدورها البتة الإطاحة بالحكومة؛ لولا الخيانة الواضحة من بعض قادة الشرطة الإنجليز، وهو الأمر الذي مَكَّنَ المرتزقة من وضع اليد على مخزن سلاح الشرطة؛ ليتحقق لها الإطاحة بالحكومة، بأسلحة الحكومة. سلطنا الضوء أيضًا، في الجزء الثاني، على شهادة وزير الدفاع التنجانيقي، أوسكار كامبونا، الذي أكّدَ شخصيًا للبرواني، بعد الإفراج عن الأخير من المعتقل، الذي امتدّ أمده لعشر سنوات؛ أنه، وبناءً على توجيهات الرئيس التنجانيقي جوليوس نيريري، عمل على تحويل السّلاح الذي استحصل عليه بالخديعة من الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، إلى زنجبار، تنفيذًا لمخطط الرئيس للإطاحة بالنظام؛ وهو الأمر الذي يعزز ما أشرت إليه، فيما سلف، من أن ما حدث لم يكن ثورة اجتماعية، كما أنه لم يكن انقلابًا عسكريًا؛ وإنما غزوٌ خارجي.
تناولنا أيضًا تساؤلًا محوريًا، مُؤدّاه: إلى أيّ مدى يمكن القول بتورّط بريطانيا في الإطاحة بالنظام؛ وأشرنا إلى قرائنٍ سبع مُعززة للفرضية؛ كانت القرينة السابعة بعنوان (موقف بريطانيا الرافض للتدخل).
وفي العدد الماثل نورد المسوّغ البريطاني لرفض التدخل؛ ثم نورد قرائن أخرى: ولماذا ترفض بريطانيا التّدخُّل؟
قبل الخوض في سبب الامتناع البريطاني عن نجدة حكومة شرعية منتخبة جماهيريًا، عن السقوط؛ ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن العذر المتمثل في عدم رغبة بريطانيا في التدخل في الشأن الداخلي الزنجباري، يُكذبه التدخل البريطاني لنجدة بعض حكومات دول الجوار.
فالحكومة التنجانيقية، تعرَّضت لفعلٍ مماثل، بعد الانقضاض على زنجبار بأسبوعٍ واحدٍ فقط، وذلك بأن أطاح الجيش بحكومة الرئيس جوليوس نيريري؛ فتدخلت القوات البريطانية فورًا وأعادت الرئيس إلى سدَّة الحكم.

أزمة مماثلة حدثت في كلٍّ من كينيا ثم أوغندا، في الفترةِ ذاتها.


لم يكن لمصطلح التدخُّل في الشأن الداخلي، في هذه الدول الثلاث وجودٌ بالمرّة، كما كان في قضية زنجبار.
يؤكد أنتوني كلايتون في الصفحة 83 من كتابه (ثورة زنجبار، وآثارها الكارثية)، أنه تأكّد، في وقتٍ لاحقٍ، أن البحريَّة البريطانية وكذا الأمريكية كانت متواجدةً في المياه الإقليمية الزنجبارية، إلّا أنها آثرت عدم التدخل، واتخذت بدلًا من ذلك موقف المراقِب لسقوط الشرعية. كما ثبت بأن تلك القِطع البحرية، وضِعت على أُهبةِ الاستعداد للتدخل العسكري، حال حدوث أيّ مكروهٍ، أو مجرد تعرُّضٍ لمواطنيها؛ ومع ذلك، فلقد عملت على تزويد الجاليات الأوروبية بالمواد الغذائية اللازمة خلال تلك الفترة.

السِّر وراء تلك الوقفة البريطانية، واضحٌ لكلِّ ذي عقلٍ وبصيرة؛ فهو ليس بأكثر من ردةِ فعلٍ تجاه موقف الحزب الوطني، وحزب الشعب – ائتلاف الحكومة الشرعية – الملح على الاستقلال. فلاشك أن الاستقلال يتعارَض ومصالح المستعمِر “دولة الحماية”. فزنجبار كانت لُقمةً سائغةً للإنجليز، ولم يكُن بالأمر الهيِّن عليها تقبُّل نزع تلك اللقمة من فمِها – تحت أيٍّ من المسمَّيات الحضارية، كالاستقلال – لتقف موقف المتسامِح الحريص على مصالح شعب الدولة المحميَّة.


أكد لي السفير سالم بن حكيم الخصيبي، في اللقاء الذي أجريته معه: أن بساطة شعب زنجبار، جعلته يعتقدُ خطأً أن نيلهم للاستقلال – الذي كان حقًا انتصارا سياسيّا – يُجيزُ لهم الضرب بكرامة رموز سلطة الحماية؛ موضِّحًا ذلك بالإشارة إلى أن بعض المسؤولين الذين خرجوا من زنجبار عقبَ الاستقلال، كانت الجماهير المحتشدة تودِّعهم بتوجيه شتى صنوف السِّباب والعبارات المهينة؛ بل وبالقذف بالبيض وغيره. وفي تأكيدٍ لهذا المعنى، يقول النقيب سالم بن حمد البرواني: أنه اختير ليكون مرافقًا عسكريًا للمقيم البريطاني، جورج مورينج، في مراسم توديعه، وأنه سمع تلك السباب، كما أن المقيم البريطاني سمعها أيضًا، وتظاهر بعدم فطنته لها، وسأل البرواني عمَّا يهتفون، فردَّ عليه أنهم يتمنَّون لكم سفرًا سعيدًا سيدي. لذلك، يقول أنتوني كلايتون: أن مشاعر كبار السّن اختلفت عن مشاعر الشباب لحظات رحيل المقيم البريطاني وكذا كبير الوزراء، حيث ودعمهما الكبار بالدّموع، خوفًا من المصير المرتقب (ص 62، حاشية 25).


ثامنًا: ثبوت علمهم بالواقعة
الثابت يشير إلى أن بعض المسئولين الإنجليز كانوا على علمٍ تام، ليس باحتمالية وقوع أعمال شغب تستهدف الإطاحة بالنظام فحسب، وإنما بموعدها الأكيد أيضا. فيقول المستشار القانوني للجنة الانتخابية، الأستاذ محمد بن سالم الريامي، والذي عمل عن قرب مع المشرفين الإنجليز على سير العملية الانتخابية، وارتبط مع أحدهم (المستر تايلور) بصداقةٍ حميمة: إن هذا المشرف أسرّ له بالفوضى المرتقبة وبموعدها، وذلك بالقول إن المؤشّرات جميعها تشيرُ إلى أن ائتلاف الحزب الوطني وحزب الشعب سيفوز في الانتخابات، وإذا ما تحقّق ذلك فعلًا، فإن الحكومة الشرعية التي سيشكّلها هذا الائتلاف ستُسقط عقب تشكيلها بشهر واحدٍ على أبعد التقديرات. وأردف قائلاً: إن كانت لديك أية ترتيباتٍ خاصة، فلتبدأ في إعدادِها من الآن. نقل المستشار القانوني هذا الكلام إلى البرواني، وزير الخارجية، فردّ عليه قائلاً: هذا كلامٌ معروفٌ لدينا، وسمعناه كثيرًا، ومررناه إلى مُفوض الشرطة، لعمل اللازم.


تاسعًا : شخصية القائد المزعوم
تؤكد دراسة بعنوان (زنجبار: ثورة المائة يوم)، التي أعدتها وكالة الاستخبارات الأمريكية، في سنة 1966م، ورفع عنها التصنيف في سنة 2007م، إن المتأمّل في شخصيةِ جون أُكيلّو، يصلُ إلى قناعةٍ حتمية مؤداها أنه من الصعوبةِ بمكان، إن لم يكن من المحال، أن تكون عملية الإطاحة بالحكومة، والمساندة الفاعلة التي لاقتها من البر الأفريقي، من صُنعِ يدِ هذا الشخص البسيط، بل والساذج في تفكيرهِ وتصرفاته؛ ويُرشِده، بالتالي، عقلهُ وتفكيره السليمين؛ وكذا، منطقهُ الوجيه، إلى نتيجةٍ قاطعة، لا تخرج في مضمونها عن أن يكون وراء ذلك الرجل، قوة خفية خطّطت للعملية بِرمتها؛ وهذا بالفعل ما لاحظه أعضاء مجلس قيادة “الإنقضاض”، حينما قدَّم إليهم، ذلك “الهمجيّ الغوغائيّ”، جون أوكيلو – حسبما جاء في الدراسة – قدم دراسةً أمنية مُفصَّلة لتشكيل الجيش الزنجباري. أدرك رئيس حزب الأمة، عبدالرحمن بابو، من أولِ وهلةٍ، استحالة أن تكون تلك الدراسة من إعداده. اتضح فيما بعد أن المهندس الفعلي لتلك الدراسة، هو أحد الخبراء الإنجليز، في الحكومة المطاح بها، هنري هوكر (Hawker).

تملك أعضاء مجلس قيادة “الإنقضاض”، إحساسٌ قوي بأن جون أُكيلّو ليس بأكثرِ من أداةٍ في أيدي بعض المسؤولين الإنجليز، وهو الأمر الذي دفعهم – تبعًا لذلك – إلى التخلُّص منه عقِبَ توليهم مقاليد الحكم بثلاثةِ أشهرٍ فقط، وتحديدًا في شهر مارس من عام 1964م. تمثل هذا الأمر، في القرار الذي صدر من السلطة المختصة، في تلك الحكومة، باعتباره “شخصًا غير مرغوب فيه”. هذا ولقد صدر قرار مماثل في كلٍّ من تنجانيقا وكينيا؛ وهو الأمر الذي دفع بجون أُكيلّو إلى العودةِ إلى مسقطِ رأسهِ، أوغندا، واختفى هناك حيث المجهول.
عاشرًا: تعيين أفراد شرطة من الأجانب
قبل انتقال الحكومة المنتخبة إلى إدارة الحكم الذاتي، وبسنواتٍ طويلة، عكفت الإدارة الإنجليزية على تعيين أفراد الشرطة من البر الأفريقي، وتحديدًا من تنجانيقا وكينيا، دون أن يعطوا الأولوية لمواطني زنجبار. الغالبية العظمى من هؤلاء الأفراد كانوا، بطبيعة الحال، من مؤيدي حزب المعارضة، الأفروشيرازي.


وما مصلحة الإنجليز في سقوط الحكومة؟
إذا كانت الأدلة الظرفية المتقدمة تدعم التكهنات المثارة حول التدخل الإنجليزي في الإطاحة بالنظام، فمن حقّ القارئ أن يتساءل عن المصلحة، أو الدافع إلى مثل هذا التدخل. يمكن أن نُلَخّص ذلك في التالي بيانه:


أولاً: التوافق مع عبد الناصر
الواضح يُشيرُ إلى أن بريطانيا وجدت من التوافق الحميمي الذي ربط الحكومة الزنجبارية المنتخبة بالنظام المصري، وتحديدًا بشخص الرئيس جمال عبد الناصر، سيجعل من زنجبار امتدادًا طبيعيًا لسياسات عبد الناصر (العدو اللدود للإنجليز)؛ وبالتبعية، ستصبح المنطقة برمّتها (شرق ووسط أفريقيا) كتلةً ناصرية.
ظهر هذا التوافق جليًا إبان، وعلى أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956م، حيث أظهر شعب زنجبار تعاطفًا مع الشعب المصري، فارتفعت أبواق المساجد، ليس في زنجبار فحسب، وإنّما في كثير من دول شرق أفريقيا، تتضرع إلى المولى عزّ وجل لنصرة مصر على العدوان؛ كما خرجت الجماهير في مُظاهرات مُعادية للإدارة الإنجليزية في شوارع زنجبار مُعربةً عن سُخطها على ما حدث، ومُندّدةً بالعدوان الجائر على مصر.
كما انضم، عددٌ ليس بيسير، من شباب زنجبار إلى صفوف المقاتلين في مصر. يقول سليمان بن شحبل: إن تأييد زنجبار لمصر، عَدَّه الإنجليز من الكبائر التي لا تُغتفر (ص 142).

بلغ أوج هذا التأييد – حسب تأكيد اللواء المكرم محمد بن عبدالله الريامي، في اللقاءات الكثيرة التي أجريتها معه، إلى تمجيد شعب زنجبار للثقافة المصرية؛ كترديده للنشيد الوطني المصري، في كثيرٍ من المناسباتِ العامةِ والخاصة؛ فكان يُسمع الأطفال قبل الرّجال والنساء يردّدون: “بلادي بلادي بلادي، لكِ حُبّي وفؤادي”؛ كذلك، ترديدهم لبعض الأناشيد الحماسيّة، التي كانت تُغنّى في مصر زمن الحرب، مثل: “الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر فوق كيدِ المعتدي .. والله للمظلوم خير مُؤيّدِ .. أنا باليقينِ وبالسّلاح سأفتدي، بلدي ونور الحق يسطع في يدي..، إلخ”. هنا أخذت بعض الصُّحُف تتحدَّث عن أن عبد الناصر يُخطِّط لفرضِ نُفوذه على زنجبار، آخذين في الاعتبار، سبق تدخله في الصومال، في مطلع الستينيات لدعم الحكومة المستقلة في تأسيس الجيش.


وقد يكون من المفيد أن يعلم القارئ، في هذا السّياق، أنه قلَّما كان يخلو بيت عربيّ في زنجبار، من صورة الرئيس عبد الناصر؛ وكثير من النساء كنّ يحملن مناديل طُبع عليها صورته (دراسة وكالة الاستخبارات الأمريكية، آنفة البيان، ص 10).

تدخل عبد الناصر في شؤونِ زنجبار، كان يعني التمهيد للتغلغُل في دول الجوار. هذا التغلغُل، وذاك النفوذ، تضَمَّنا تهديدًا للسيطرة على باب المندب؛ وبالتالي، على الملاحة العالمية. شعر الإنجليز أنه ينبغي التعامل مع زنجبار كعدوٍّ جديد؛ نظرًا لثبوت صداقتها الحميمة للزعيم عبد الناصر؛ إعمالاً للمقولة: “صديق العدو، عدو”. من لقاءاتي مع الشيخ سعيد بن محمد الريامي.


تأكيدًا للسّياقِ المتقَدِّم، يستشهِدُ علي بن محسن البرواني في كتابه بواقعةٍ، تُشير بالبرهانِ الدَّامِغ إلى عدمِ ارتياح الإنجليز للتقارُب الذي كان قد تأسَّس مع عبدالناصر. فيقول: إن هذا التَّقارب، وسَّع الفجوة بينهم (الحزب الوطني) واللوبي المناوئ للناصرية في بريطانيا. واحدٌ من أشدّ المؤيدين لقضية استقلال زنجبار أمام البرلمان الإنجليزي، كان العضو الممثل لحزبِ العمال جيمس جونسون؛ إلاَّ أن هذا العضو غضب منهم كثيرًا، وانقلب عليهم بمقدار مائة وثمانين درجة، على أعقاب الزيارة التي أجراها البرواني للرئيس جمال عبدالناصر في عام 1957م. نُقل عنه يقول: “ولكن، لماذا يذهبون إلى مصر؟ جميع الشعوب الأفريقية تلجأ إلى بريطانيا”. يضيف البرواني قائلاً: أن عضو البرلمان هذا زار نيروبي وزنجبار للتباحث مع القادة السياسيين في المسائل ذات الصلة بالاستقلال، وبينما كان في مطار نيروبي، وقبل أن يقلع إلى زنجبار، صرَّح في مؤتمرٍ صحفي: “إن زنجبار يجب أن تُحكم بمعرفة الأفارقة وليس العرب.” (البرواني، زنجبار: الصراعات والوئام، ص ص 112 – 113). وفي السياق نفسه، يؤكد سليمان بن شحبل في كتابه: أن هذا السياسي وصل زنجبار بدعوة من حزب المعارضة الأفروشيرازي، وألقى كلمةً أمام حشدٍ كبيرٍ من مؤيدي هذا الحزب، الذين كانوا يُندّدون بالناصريّة؛ فما كان منه إلاّ أن طمأنَ المحتشدين بالقول: إنه ما أتى إلى زنجبار إلاّ لتقييم التهديد الناصري (بن شحبل، ص 224).


لماذا لم يتدخل عبد الناصر إذًا ؟
توقَّع عرب زنجبار، أن عبدالناصر – وعلى غِرار وقفته مع الكثير من شعوبِ المنطقة – لن يدَّخر مالاً ولا قوةً لمساندتهم؛ وأنه حتمًا سيتدخَّل، إذا ما تعرضوا لأي هجوم خارجي. يقول البرواني في اللقاء الذي أجريته معه، إن هذه النظرة لم تأتِ من فراغ، فلقد كان هناك بالفعل اتفاقٌ مبدئيٌ مع مصر على المساندة في تأسيس جيش زنجبار – مثلما حدث في الصومال – وأنه كان من المقرَّر أن يتجه وزير المالية، جمعة علاي الأبروي، إلى مصر للتباحث حول الترتيبات الخاصة لهذا الأمر، إلاَّ أن الرّياح هبّت بما لا تشتهي السفن (راجع في المعنى نفسه، تقرير مفوض الشرطة، جاك سوليفان، الذي أعده بتاريخ 17 يناير 1964م). ولهذا، فإن الاعتراف السَّريع للحكومة الناصرية بنظام الطُّغيان الجديد، خَيَّبَ فأل عرب زنجبار. فكيف حدث ذلك؟

الكثيرُ من اللَّغَط، قيل حول موقف عبد الناصر؛ ومن جُملة ما قيل: إن عبد الناصر اشتهر بكونه مُفجِّر الثورات في إفريقيا؛ ناهيك عن أنه كان ممّن أزال الملَكيّة في مصر؛ فكيف يُتصوَّر منه، والحال كذلك، العمل على ما من شأنِه حماية نظام سُلطانيّ ملكيّ إقطاعيّ من الإقصاء؟ ومن جانبنا نرى بأن عدم التَّدخُّل، قد يُعزى – إلى جانب أسباب أُخرى _ إلى ما يمكن وصفه بالتحليل الخاطيء لطبيعة الأعمال التي أطلقت عليها “ثورة”، وفق البيان التالي.


يصفُ محمد فائق، مدير مكتب الرّئيس عبدالناصر للشؤون الإفريقية، المشورة التي قدَّمها للأخير في قضية زنجبار على اعتبارها أهم المشورات على الإطلاق، فيوضح ذلك في صحيفة البيان الإماراتية، بتاريخ 24/‏7/‏2002م، فيقول:

“عندما قامت الثورة في زنجبار، كان هناك تصوُّر بأن هذا بمثابةِ مقتل دولة عربية، وكانت هناك بالفعل مجزرة وذبح. طلبني الرَّئيس وسألني: هل سنتفرَّج على مقتل دولة عربية؟ فقلت له: ما يحدث ليس مقتل دولة عربية، وإنّما هو وضع مُتعلِّق بالأوضاع الاجتماعية فيها، …..”
وقبل جلوسي مع معالي المستشار محمد فايق؛ جلست مع المستشار حلمي الشعراوي، الذي كان يعمل في رئاسة الجمهورية آنئذٍ، فأوضح لي المحاولة الحثيثة التي بذلها سفير سلطنة زنجبار في القاهرة، للحصول على موافقة الرئيس عبدالناصر بالتدخل العسكري. وفي بيانه لذلك، أوضح التالي:


أحمد اللمكي يستغيث:
وحول إمكانية تدخّل الإدارة الناصرية لإنقاذ الحكومة الشرعية من السّقوط، يقول الشعراوي: في يوم “الثورة”، وفق المصطلح الذي استخدمه، وبينما كانت عقارب السّاعة تشير إلى الثانية من بعد انتصاف الليل، أو بعد ذلك بقليل، تلقّى زيارةً غير مُتوقّعة في بيته، من السفير أحمد بن محمد اللمكي، مُعربًا له، والاضطراب يعلو وجهه، عن رغبته الملحّة في مُقابلة الرّئيس عبد الناصر فورًا. عبارات الاستفهام التي استخدمها الشعراوي، قابلها بيانٌ مُقتضبٌ من اللّمكي حول ما كان يحدث آنئذٍ في زنجبار، وأنه بذلك يرغب في تقديمِ استغاثةٍ إلى الرّئيس شخصيًّا، لانقاذ حكومة زنجبار من السّقوط؛ ولو بالتدخّل العسكري.


الشعراوي، بدوره، اصطحب اللّمكي إلى منزل المستشار محمّد فايق؛ إلّا أن الأخير، وعلى ما يبدو، وجد من غير الحكمة التعامل مع الموقف بالسّرعة التي أرادها اللمكي؛ ولعلّه أراد بذلك الوقوف على تفصيلات الموقف، من وزارة الخارجية، قبل عرضه على الرّئيس. عرَضَ اللمكي على فايق، من جملة ما عرض، في تلك اللحظات العصيبة، فكرة توجيه بعضٍ من القوات المصرية المرابطة في اليمن إلى زنجبار، لإنقاذ الموقف؛ إلّا أن فايق، وجد أن هذا الرّأي غير قابل للتنفيذ، لكثيرٍ من الاعتبارات، في مُقدّمتها، ذلك الوضع شديد الحرج الذي كانت تواجهه القوات المصرية في اليمن، والتي كانت في وضعٍ لا يسمح لها بالدخول في مُستنقعٍ جديد، بعد أن خسرت في اليمن أكثر من (35) ألف شهيد؛ وكانت الحرب تكلفهم مليون جنيه مصري يوميًا، في وقتٍ كانت العملة المصرية أقوى من الإسترليني.

وفي اللقاء الذي أجريته مع معالي المستشار محمد فايق في بيته في القاهرة، في سنة 2008م، نقلت له صراحةً لسان حال شعبَي عُمان وكذا زنجبار؛ بل، ولسان مقالهم أيضًا، الذي لطالما ردّد عبارة: أن الرئيس عبدالناصر كان يميل إلى التدخل العسكري، لولا المشورة الخاطئة من مستشاره للشؤون الأفريقية، التي صوّرت له أن ما كان يحدث هو ثورة اجتماعية. فقال معاليه: أنّ خبر الإطاحة بالحكومة الشرعية، تأكّد للقاهرة، عندما كانت جميع مفاصل الدولة الحيوية في زنجبار قد سقطت في أيدي “الثوار”، بما في ذلك المطار؛ وهو الأمر الذي جعل من بديل التدخّل العسكري، غير وارد من الناحية العمليّاتية؛ وأضاف بأن الرئيس عبدالناصر استدعاه فعلًا ، وسأله عمّا كان يحدث في زنجبار من تقتيلٍ وإبادة للعرب، وأنه رد عليه بما كان ثابت أمامه آنئذٍ من حراك شعبي جماهيري لإزاحة نظام السلطنة من قبل شباب عربي راديكالي، من أمثال “أحمد رشاد، وعبدالرحمن بابو”، هكذا ذكرهما بالاسم. يُذكر، فإن أحمد رشاد هذا، هو ابن العلامة المشهور علي باقشمر، من أصلٍ حضرمي. واسترسل فايق قائلًا: أنه اقترح على الرئيس التدخل الدبلوماسي، بدلًا من العسكري، الذي ما كانت مصر تقواه آنئذٍ، بسبب وضعها غير المحسود عليه في اليمن؛ وأن عبدالناصر أخذ بمشورته، وكانت مصر من أوائل الدول التي اعترفت بالنظام الجديد؛ وهو ما أجاز لها التدخل الدبلوماسي.
يؤكّد فايق أن اعتراف عبد الناصر السّريع بالنظام الجديد، جاء من مُنطلق رغبته في إيقاف المذبحة العرقية؛ فتقرر إيفاده على رأس وفد مصري لمقابلة القادة الجدد والتفاوض معهم بشأن حماية الأرواح.
في حلقة الغد، سنستعرض الجهود التي بذلها الوفد المصري لوقف حمام الدم العربي؛ كما سنعرج على السبب الثاني المجسد لمصلحة الإنجليز في إسقاط الحكومة الشرعية في زنجبار، والمتمثل في وقف انتشار الإسلام؛ ثم الدور الإسرائيلي في الإسقاط؛ ثم كيف أعلنت الحكومة استسلامها بشكلٍ رسمي في الإذاعة، وغيرها من الأحداث المتصلة.

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس