عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 05:01 AM

  رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

عماد الدين زنكي وفتح الرها

مع عظمة الإنتصارات السابقة ، ومع تقدم المسلمين الواضح في قصة صراعهم مع الصليبيين ، إلا أن هذا التقدم الإسلامي كان يعيبه أمران ، وكان هذان العيبان لا يغيبان عن عماد الدين زنكي رحمه الله .

أما العيب الأول : فإن المعارك الإسلامية حتي الآن كانت في الأساس ردود أفعال ، بمعني أن الهجوم غالبًا ما يأتي من قِبَل الصليبيين أو البيزنطيين ، ثم يسرع عماد الدين زنكي بالرد بما هو مناسب .. ومع أن ردود عماد الدين زنكي كانت دائمًا قوية إلا أن هذه إستراتيجية غير آمنة ؛ حيث إن المهاجِم يباغت عدوه بما لا يتوقع ، ويختار أرض المعركة وزمانها، وقد يتعرض المسلمون حينها لظروف تمنع من الرد المناسب ، وكان عماد الدين زنكي يسعي للتغلب علي هذا العيب ، وأن يكون هو البادئ بالتخطيط والهجوم ، إلا أن هجمات الصليبيين المتوالية كانت تضيِّع عليه هذه الفرصة .

وأما العيب الثاني : فكون القوات الإسلامية تهاجم الإمارات الصليبية مجتمعة دون التركيز علي إمارة معينة ، وهذا يضع كل الإمارات في حالة إستنفار ، وفي نفس الوقت لا يُحدِث أثرًا كبيرًا ؛ حيث يشتِّت الجهود ، ويُضيِّع الطاقات ، ولا يحرِّر في النهاية إلا حصنًا أو مدينة ، بينما تبقي الإمارة صلبة مقاومة للإنهيار .

ولتلافي هذين العيبين رأي عماد الدين زنكي أن يوفر جهده فترة معينة من الزمن ، يهتم فيها بإعداد جيش قوي متماسك ومتناسق ، ويوحِّد إمارته بشكل أقوي ، ويضم إليها ما يلزم من أجزاء تسهِّل عليه مهمة جهاد الصليبيين ، وقد كانت هذه المرحلة التي تمر بها إمارة عماد الدين زنكي مناسبة لهذه الأفكار ، حيث خرج عماد الدين زنكي من الأحداث السابقة قويًّا مرهوبًا ، وبالتالي فلا يُتوقع من الإمارات الصليبية أن تغزو أو تثير غضبه .. كما أن جانب السلطان مسعود أصبح إلي حدٍّ كبير مأمونًا ، حيث أرسل التشريفات إلي عماد الدين زنكي ، وأقرَّ بإمارته وزعامته علي قطاع كبير من الدولة الإسلامية .

ولم يكن أمام عماد الدين زنكي إلا أن يحدِّد الإمارة الصليبية التي ينبغي أن يركِّز جهوده لحربها بغية إسقاطها بالكُلِّيَّة ، ثم يشرع في تمهيد الأمر لذلك ، ولو أخذ هذا الأمر عدة سنوات .

وبإستقرار الوضع الذي وصلت إليه الإمارات الصليبية المختلفة في هذا الوقت ، وجد عماد الدين زنكي أنه ينبغي أن يوجِّه جهوده ويكثِّفها لإسقاط إمارة الرها دون غيرها !

أما لماذا الرها دون بقية الإمارات ، فهذا لأسبابٍ :

أولاً : إمارة الرها هي أقرب الإمارات لقوات عماد الدين زنكي ، وبالتالي فإن حركة الجيوش الإسلامية إليها ستكون أسهل ، وإذا حدث - لا قدر الله - هزيمة للجيش الإسلامي فإنه سيجد حصونًا ومدنًا قريبة يستطيع أن يلوذ بها ، ومن ثَمَّ فإن فرصة تأمين القوات الإسلامية أعلي في حرب هذه الإمارة من غيرها .

ثانيًا : إمارة الرها هي أشد الإمارات خطورةً علي إمارة عماد الدين زنكي ، فهي قريبة جدًّا من الموصل وحلب وكل مدن إقليم الجزيرة ، وبالتالي فخروج الجيوش الإسلامية من حصونها لتهديد أمن القري والمدن الإسلامية يمثِّل إحتمالاً كبيرًا واردًا .. كما أن عماد الدين زنكي لا يستطيع أن ينطلق لحرب أنطاكية أو طرابلس ويترك خلف ظهره هذه الإمارة الصليبية الحصينة ؛ فقد تقطع عليه طريق العودة ، أو تهاجمه من ظهره ، ولا يخفي خطورة ذلك علي الجيش المسلم .

ثالثًا : إمارة الرها غير مستقرة ، حيث إن تركيبتها السكانية تجعل أحوالها مضطربة ، وكذلك تاريخها يشهد بعدم الإستقرار ؛ فإمارة الرها تعتمد علي الأرمن في حياتها .. ومع كون الأرمن نصاري مثل الصليبيين إلا أنهم كانوا يبغضونهم أشدَّ البغض ، والتاريخ يشير إلي أكثر من مذبحة إرتكبها الصليبيون الكاثوليك في حق الأرمن ؛ مما جعلهم في وجلٍ دائم من الصليبيين , وقد حدث في تاريخهم أكثر من مرة أن تراسلوا مع المسلمين ليخرجوهم من أزمتهم مع الصليبيين ؛ ولذا فأوضاع هذه الإمارة الداخلية قد تسهِّل علي عماد الدين زنكي مهمته ..

رابعًا : علي رأس إمارة الرها جوسلين الثاني ، وهو أضعف الأمراء الصليبيين الآن ، ولم يكن علي كفاءة أبيه مطلقًا ، ولم يكن يُؤثِر القتال والنزال ، ولعل الهجوم علي إمارته يكون أسهل من غيره .

خامسًا : إمارة الرها إمارة داخلية ، أي أنها بعيدة عن ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وبالتالي فإنها تفتقر إلي الإمدادات البحرية من السفن الإيطالية التي طالما نجدت الإمارات البحرية كأنطاكية ، وطرابلس ، ومملكة بيت المقدس .

سادسًا : الهجوم علي إمارة الرها لن يستثير الإمبراطورية البيزنطية لبُعدها عن حدودها ، ولقلة طمعها فيها ، بينما لو هجم عماد الدين زنكي علي إمارة أنطاكية لحرَّك ذلك جيوش الدولة البيزنطية التي تشعر أن لها حقًّا في هذه الإمارة بشكل خاص .

لهذه الأسباب فإن فرصة إسقاط المسلمين لهذه الإمارة أقرب من غيرها ، وعليه فيجب تكثيف الجهد لتحقيق هذا الهدف ، ولا مانع من الإنتظار عدة سنوات ليصبح العمل متقنًا ، وتصبح فرصة نجاحه أفضل .

ولا شك أن الإنتظار لا يعني أنها فترة سكون بلا عمل ، لكنها فترة إعداد وتجهيز ، والهدف في آخرها واضح ، وهذا الذي جعل الخطوات في هذه الفترة كلها تصبُّ في مصلحة واحدة .

ولقد رأي عماد الدين زنكي رحمه الله أن عليه أن يعمل في محورين رئيسيين :

المحور الأول : هو تمهيد أرض الجزيرة ليومٍ تُهَاجَم فيه إمارة الرها .

فأرض الجزيرة بها تجمعات تركمانية كثيرة ، والأوضاع فيها غير مستقرة ، والتعاون الذي بين عماد الدين زنكي وحسام الدين تمرتاش تعاون ضعيف غير مبنيٍّ إلا علي خوف حسام الدين تمرتاش من قوة عماد الدين زنكي أو طمعه في عطاياه ، والأحلاف التي من هذا النوع كثيرًا ما تسقط وتتهاوي عند تعارض المصالح .. كما أن ركن الدولة داود وإن كان قد وعد بالقدوم علي رأس خمسين ألفًا نجدةً لشيزر ، إلا أنه متصلب الرأي جدًّا ، وحارب عماد الدين زنكي قبل ذلك مرارًا ، وله أتباع وأعوان، ولا يستبعد أبدًا أن يُحدِث مشاكل مستقبلية .

وبالنسبة لعماد الدين زنكي فإنه لا يستطيع أن يفتح الرها بينما أحوال الجزيرة مضطربة ؛ لأنه لكي يتجه للرها لا بد أن يعبر الجزيرة ، ولو ضغط عليه الصليبيون فلا بد أن تكون له قاعدة قوية يرجع إليها آمنًا ؛ ولهذا فإستقرار الجزيرة أمرٌ حتمي لفتح الرها .

المحور الثاني : محاولة ضم مدينة دمشق .

فمدينة دمشق هي أهم مدن الشام مطلقًا ، ومن أحصنهم عسكريًّا ، ومن أكثرهم كثافة للسكان ، ومن أغناهم ثروة في المال والسلاح ، كما أنها بموقعها الإستراتيجي جدًّا تشرف علي عدة محاور في غاية الأهمية ؛ فهي قريبة جدًّا من عدة مدن إسلامية محتلة مثل بيروت وصيدا وعكا وطبرية ، كما أنها قريبة من إمارة طرابلس ، وكذلك هي في الطريق إلي بيت المقدس ، وهي تشرف علي الطريق بين بيت المقدس في الجنوب ، وإمارات الشمال طرابلس وأنطاكية والرها ؛ ولهذا فضم دمشق يعتبر خطوة كبيرة في طريق وَحْدة صلبة تهدف إلي تكوين قوة حقيقية قادرة علي دَحْر الصليبيين وطردهم من بلاد المسلمين .

كان هذان المحوران هما الشغل الشاغل لعماد الدين زنكي في هذه الفترة ، وقد وجَّه إليهما قوته في خلال السنوات الخمس التي أعقبت رحيل القوات البيزنطية عن أرض المسلمين .

وكما توقع عماد الدين زنكي فقد حدثت بعض المشاكل والإضطرابات من حسام الدين تمرتاش الذي لم يقنع بالمنح التي يعطيها له عماد الدين زنكي ، وشعر أن عماد الدين زنكي بعد إنتصاراته الكثيرة سيصبح الزعيم الأوحد ، وبذلك ستضيع أحلام حسام الدين تمرتاش في الطريق ؛ ولهذا قام حسام الدين تمرتاش بخطوة جريئة خطيرة ، وهي التراسل مع الأمير أبي بكر نائب عماد الدين زنكي علي نصيبين لتحفيزه علي الإنقلاب علي عماد الدين زنكي ، وبالفعل خرج الأمير أبو بكر علي عماد الدين زنكي مما سبَّب حرجًا بالغًا .

ولا ننسي أن نصيبين كانت من أملاك حسام الدين تمرتاش قبل أن يضمها عماد الدين زنكي لدولته سنة 524هـ ، ولكن عماد الدين زنكي إستطاع أن يسيطر علي الأمور في نصيبين ، ومع ذلك إستطاع الأمير أبو بكر أن يهرب إلي حسام الدين تمرتاش ، وهنا طلب عماد الدين زنكي تسليم الأمير أبي بكر ، فرفض حسام الدين تمرتاش ، ودارت مفاوضات طويلة ومنازعات بين الطرفين ، ومع ذلك أصرَّ حسام الدين تمرتاش علي عدم تسليم الأمير أبي بكر لعماد الدين زنكي ، فإضطر عماد الدين زنكي إلي التلويح بالحلِّ العسكري ضد الحليف حسام الدين تمرتاش ؛ فلجأ حسام الدين إلي حلٍّ وسط حيث سلَّم الأمير أبا بكر إلي السلطان مسعود علي إعتباره سلطة أعلي ، غير أن السلطان مسعود رأي أن وضع عماد الدين زنكي الآن لا يسمح بأيِّ نوع من المساومات ، وأن أي نزاع بين الطرفين قد لا يكون في مصلحة السلطان مسعود ؛ ولذلك سلَّم السلطان مسعود الأمير أبا بكر إلي عماد الدين زنكي كدليلٍ علي العلاقات الودية بين الطرفين ! وكانت هذه الأحداث في سنة 533هـ .

إنتهت مشكلة نصيبين والأمير أبي بكر ، لكن أدرك عماد الدين زنكي خطورة الوضع في بلاد الجزيرة ، ومع ذلك فإن عماد الدين زنكي لم يؤثر الإصطدام مع حسام الدين تمرتاش ، بل لجأ إلي التسكين والعتاب ، وجرت الأمور في صالحه إذ حدث أن هجم ركن الدولة داود بن سقمان علي بعض أملاك حسام الدين تمرتاش مما إضطره إلي اللجوء إلي عماد الدين زنكي ، الذي قَبِل بدوره أن يتم الصلح بينه وبين حسام الدين تمرتاش ليعود الحلف إلي سابق عهده ، ولتبقي المشكلة الرئيسية في المنطقة هي مشكلة ركن الدولة داود بن سقمان .

وفي نفس السنة هدأت الأمور بفضل الله في مدينة حرَّان ، حيث كانت قد شهدت قبل ذلك إنقلابًا هي الأخري علي يد أحد أتباع عماد الدين زنكي ، وهو سوتكين الكرجي ، إلا أنه مات فجأةً في سنة 533هـ لتعود المدينة بسلام إلي طاعة عماد الدين زنكي .

وبينما تتجه الأمور نحو الإستقرار النسبي في أرض الجزيرة ، إذا بالأحداث تتطور فجأة في دمشق !

لقد مر بنا أن عماد الدين زنكي تزوج أم حاكم دمشق شهاب الدين محمود ، التي كان لها كلمة مسموعة في بلاط دمشق ؛ ليسهل عليه ضم دمشق بعد ذلك بجهود سياسية ، إلا أن الأخبار أتت في شوال 533هـ بمقتل شهاب الدين محمود علي يد أحد رجاله ! وقد يكون وراء هذه المؤامرة معين الدولة أَنُر قائد الجيش ، وأقوي الشخصيات المؤثِّرة في دمشق .

ويؤيِّد ذلك أن معين الدين أنر نصَّب علي الحكم أخًا غير شقيق لشهاب الدين محمود ، وهو جمال الدين محمد بن بوري ، وهو من أمٍّ أخري غير صفوة الملك زمرد خاتون زوجة عماد الدين زنكي ؛ وبذلك يضمن معين الدين أنر أن الأمور كلها تكون في يده ، ويُبعِد بذلك زمرد خاتون عن التحكُّم في دمشق ، ويبعد بالتالي زوجها عماد الدين زنكي عن الوصول لأسرار الحكم في دمشق .. كما أن الزعيم الجديد الضعيف جدًّا جمال الدين محمد سيجعل كل الأمور في يد معين الدين أنر ، وبذلك تصبح له السلطة الفعلية في دمشق .

وقد حدث لمعين الدين أنر ما يتمني ، وسلَّم له جمال الدين محمد كل مقاليد الأمور في دمشق ، بل وأقطعه مدينة بعلبك المهمة ، التي تسيطر علي الطريق المؤدية إلي دمشق من شمالها ، وهي المدينة الوحيدة الآن في شمال دمشق ، والتي لم تدخل بعدُ في حكم عماد الدين زنكي ، ولو سقطت أصبح الطريق مفتوحًا إلي دمشق .

وصلت هذه الأخبار المزعجة إلي عماد الدين زنكي ، والتي قوَّضت أحلامه في السيطرة السياسية علي دمشق ، وكان عماد الدين زنكي آنذاك في الموصل ، وبعدها بقليل تسلَّم رسالة أخري من حلب من زوجته زمرد خاتون تطلب منه فيها أن يتوجه إلي دمشق ؛ لينتقم لمقتل إبنها شهاب الدين محمود ، ويقيم الحد علي قاتله .. وتزامن أيضًا مع وصول هذه الرسالة ، وصول بهرام شاه بن بوري ، وهو أخو جمال الدين محمد بن بوري زعيم دمشق الجديد ، وقد وصل إلي الموصل يطلب من عماد الدين زنكي مساعدته للوصول إلي الحكم هناك علي أن يكون مواليًا له !

جمَّع عماد الدين زنكي هذه النقاط إلي جوار بعضها البعض ، ووجد أن عليه ألا يضيِّع وقته ، فأخذ جيشه في ذي القعدة 533هـ\ يوليو 1139م وتوجه فورًا إلي دمشق ! , وجد عماد الدين زنكي وهو في طريقه إلي دمشق أن حصار دمشق دون إسقاط بعلبك سيمثِّل خطورة حقيقية علي جيشه ؛ إذ قد يُحصر بين حامية بعلبك وجيش دمشق ، وعلي ذلك فقد غيَّر عماد الدين زنكي من وجهته ، وإتجه إلي بعلبك حيث ضرب عليها الحصار إبتداءً من يوم 20 من ذي الحجة 533هـ ، ونَصَب حولها أربعة عشر منجنيقًا ، ودعا أهلها للتسليم دون قتال إلا أن أهلها رفضوا ، ومن ثَمَّ بدأت المجانيق تقصف ليلَ نهار ، وضرب الحصار المحكم حول المدينة وهي تقاوم ، وإستمر حصاره لها أكثر من أربعين يومًا متصلة ، ثم سقطت المدينة أخيرًا ، ودخلها عماد الدين زنكي في صفر 534هـ\ أكتوبر 1139م .. وبذلك إستطاع عماد الدين زنكي أن يسيطر علي كل المدن الشمالية التابعة لإمارة دمشق ، وهي مدن بعلبك وحمص وحماة وبانياس والمجدل .

ظل عماد الدين زنكي في بعلبك شهرًا كاملاً يُنظِّم أمورها الإدارية ، ويُقوِّي من تحصينها بعد القصف المتوالي الذي أصابها خلال الحصار السابق ، ثم أقطعها لنجم الدين أيوب ( والد صلاح الدين الأيوبي) .

وقبل أن يتحرك عماد الدين زنكي إلي دمشق آثر أن يحاول محاولات سلمية قبل الحصار العسكري ، فعسكر بجيشه في سهل البقاع ، ثم أرسل إلي جمال الدين محمد بن بوري زعيم دمشق يعرض عليه التفاهم والتعاون ، فيُسلِّم دمشق إلي عماد الدين زنكي في مقابل أن يعطيه عماد الدين زنكي مدينتي حمص وبعلبك ، لكن هذا العرض لم يجد قبولاً عند جمال الدين محمد ولا عند رجال حكومته ، وعلي رأسهم بالطبع معين الدولة أنر ، ومن ثَمَّ توجه عماد الدين زنكي بقوته العسكرية وحاصر دمشق في ربيع أول 534هـ\ نوفمبر 1139م .

كان الحصار حول دمشق محكمًا ، ودارت عدة إشتباكات بين الطرفين علي مدار عدة أشهر متصلة ، وكاد جمال الدين محمد يقبلُ بالتسليم لولا إصرار معين الدين أنر علي المقاومة ، وتأزم الموقف جدًّا في داخل دمشق نتيجة الحصار الطويل ، ثم حدثت مفاجأة في شعبان 534هـ\ مارس 1140م إذ تُوُفِّي جمال الدين محمد زعيم دمشق فجأةً ، وحدث صراع داخلي في دمشق بين الورثة علي الحكم ، وكانت بوادر فرصة لعماد الدين زنكي للتدخل العسكري ، إلا أن معين الدين أنر أسرع بوضع مجير الدين أبق بن محمد ، وهو إبن الحاكم المُتوفَّي جمال الدين محمد .. وهكذا إستمرت المقاومة الدمشقية العنيفة مما أرهق عماد الدين زنكي الذي ظل محاصِرًا لدمشق حتي الآن لمدة تزيد علي ستة أشهر متصلة ، ومع ذلك فإنه لم يرفع الحصار آملاً في إنهيار الحالة الاقتصادية للمدينة ، وهذا قد يدفعهم للإستسلام .

وإزاء هذا الحصار المحكم لجأ معين الدين أنر إلي وسيلة جديدة لدفع عماد الدين زنكي إلي ترك المدينة ، ورفع الحصار , وكانت هذه الوسيلة في غاية البشاعة ، وتُظهِر لنا بوضوح طبيعة هذا الرجل ، وطبيعة الحاكم مجير الدين أبق ، وكذلك طبيعة الشعب الذي تعاطف مع هذا الإجراء ! لقد أرسل معين الدين أنر إلي مملكة بيت المقدس يستعين بملكها فولك الأنجوي ، ويطلب منه القدوم بجيش صليبي كبير لحرب عماد الدين زنكي ويُحذِّره من أن عماد الدين زنكي إذا إستولي علي دمشق فإن هذا قد يُهدِّد أمن مملكة بيت المقدس !!

إنظر إلي معين الدين أنر كيف يحافظ علي أمن الصليبيين في فلسطين !

ثم إنه يشجِّع الملك فولك الأنجوي ويغريه بعدة مغريات تُسهِّل عليه قرار الحرب ! ما هذه المغريات ؟!

أولاً : سيتكفل معين الدين أنر بالنفقات الشهرية للحملة الصليبية ، والتي قدَّرها معين الدين أنر بعشرين ألف دينار ذهبية تُدفع للملك فولك الأنجوي !

ثانيًا : تشترك القوات الصليبية مع القوات الدمشقية في "تحرير" مدينة بانياس من عماد الدين زنكي ، ثم يقوم معين الدين أنر بإعطائها إلي الصليبيين علي سبيل "الهدية"!

ثالثًا : لكي يضمن الملك فولك الأنجوي أن معين الدين أنر لن يخلف وعدًا من وعوده ، فإنه علي إستعداد أن يُسلِّم الملك فولك عددًا من الأمراء المسلمين كرهائن يحتفظ بها الملك فولك لحين إنتهاء المعارك ، ورحيل عماد الدين زنكي ، وتسلُّم الهديَّة وهي مدينة بانياس !

لقد وصل المسلمون في دمشق في هذه الفترة إلي حالة مزرية جدًّا دفعتهم إلي إرتكاب موبقات كبيرة غير مفهومة ، ودفعتهم إلي المخاطرة بكل شيء في سبيل عدم التعاون مع عماد الدين زنكي ، ولو كان الثمن هو التعاون المباشر والصريح مع الصليبيين !

لقد صار البقاء في كرسيِّ الحكم هو الهدف مهما كان الثمن !

ووجد الملك فولك الأنجوي أن هذه فرصة لا تعوَّض لضرب عدة أهداف بخطوة واحدة ! فهو سينتقم لكبريائه ، ويردُّ إعتباره من عماد الدين زنكي الذي إنتصر عليه منذ ثلاث سنوات في موقعة حصن بارين .. وفي نفس الوقت فهو سيضرب القوة الإسلامية الرئيسية ، وسيساعده في ذلك جيش قوي هو الجيش الدمشقي !

وسوف يأخذ الملك فولك فوق ذلك مدينة بانياس ذات الموقع المهم جدًّا علي الطريق الساحلي غرب الشام .. ثم إن هذه بداية علاقة توادّ مهمة مع مدينة دمشق قد تسهِّل له مستقبلاً إحتلال المدينة ، أو علي الأقل تأمين الحدود الشمالية لمملكة بيت المقدس ، حيث ستصبح مدينة دمشق كالحاجز بينه وبين قوات المسلمين في حلب والموصل .

لقد كانت فرصة ذهبية لم يضيِّعها الملك فولك الأنجوي !

وجاءت الجيوش الصليبية مسرعةً ، وشعر عماد الدين زنكي بالخطر الشديد ؛ إذ إنه لو حُصِر بينها وبين الجيش الدمشقي فإنَّ هذا قد يعرِّضه لكارثة عسكرية ؛ ولهذا قرَّر عماد الدين زنكي أن يرفع الحصار بسرعة ، وأن يتَّجه بجيوشه إلي إقليم حَوْرَان ليقابل جيش الصليبيين بمفرده قبل أن يتَّحد مع الدمشقيين .

كان الملك فولك يتقدَّم في حذرٍ ، وعَلِمَ بتقدُّم عماد الدين زنكي إلي إقليم حَوْرَان ، فإنتظر الملك فولك عند بحيرة طبرية ، وخشي أن يواجه عماد الدين زنكي بمفرده ؛ فأرسل معين الدين أنر رسالة إستغاثة جديدة إلي ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، فجاء علي رأس جيشٍ لينقذ المدينة المحاصَرة دمشق !!

ووجد عماد الدين زنكي أن هذه القوَّات المجتمعة ستمثِّل خطرًا كبيرًا علي جيوشه ، فإنسحب إلي حمص ثم منها إلي الموصل .. ومن الجدير بالذكر أن معين الدين أنر أخذ فرقة من جيشه وحاصر مدينة بانياس حتي أسقطها ، وذلك بعد قتال شديد مع حاميتها التابعة لعماد الدين زنكي ، ثم بعد أن أسقطها سلَّمها لقمةً سائغةً للملك فولك الأنجوي تنفيذًا للإتفاق الذي بينهما !!

فيا عجبًا لهذا الزمن الذي يبذل فيه مسلم وقته وجهده ودمه "لتحرير" بلدمسلم من حكم المسلمين ، ثم يقوم بإهدائه لأصدقائه من الصليبيين !

وعاد عماد الدين زنكي رحمه الله بخيبة أمل كبيرة من مأساة هذا البلد الإسلامي الكبير , وواقع الأمر أن دمشق ظلَّت لفترة طويلة من الزمن - من أوَّل قصَّة الحروب الصليبية وطيلة حياة عماد الدين زنكي ، وكذلك بعده - عائقًا منيعًا لمشروع الوَحْدة الإسلامية ، ولم تُحَلّ مشكلتُهَا الإنفصالية إلاَّ مؤخَّرًا في عهد البطل الإسلامي الشهير نور الدين محمود رحمه الله .

عاد عماد الدين زنكي إلي الموصل فوجد أن هناك مشكلة أخري تفجَّرت ، وهي أن أحد القادة التركمان - وكان إسمه قفجاق بن أرسلان تاش التركماني - قد تمركز في مدينة شهرزور شرق الموصل ، وجمع حوله عددًا هائلاً من الأنصار ، وصار مهدِّدًا بصورة مباشرة لمعقل عماد الدين زنكي في الموصل .. ومما زاد من خطورته أنه كان علي عَلاقة طيبة جدًّا بالسلطان مسعود ؛ فخاف عماد الدين زنكي أن يتلقَّي أوامر سرِّيَّة من السلطان مسعود بغزو الموصل ، ومن ثَمَّ فقد إنطلق عماد الدين زنكي من فوره إلي هذه المنطقة ، وكانت واقعةً بين الجبال وفي منتهي الحصانة ، وإقتتل معهم عماد الدين قتالاً شديدًا ، ثم كتب اللهُ له النصر ، وفرَّ جنود قفجاق في كل ناحية ، وإنطلق عماد الدين زنكي لحصار القلاع والحصون في المنطقة فأسقطوها جميعًا ، وسيطر عماد الدين زنكي علي كل المحاور في هذه الجبال سيطرة تامَّة؛ ومع ذلك فقد قام عماد الدين زنكي بما لا يُتوقَّع في مثل هذه الظروف ، فقد أعطي الأمان لقفجاق ، ووعده وعدًا حسنًا إن هو عاد إليه .

وبالفعل عاد قفجاق إلي عماد الدين زنكي ، فأكرمه عماد الدين وولاَّه المناطق التي كانت معه قبل ذلك ، وجعله تابعًا له ، وقد حَفِظ قفجاق هذا الجميل لعماد الدين زنكي ولأولاده من بعده ، ودخل في خدمة آل زنكي ، وظلَّ هو وأولاده أوفياء علي العهد إلي ما بعد سنة ستمائة من الهجرة ! أي أكثر من ستين سنة بعد هذا الحدث .. فإنظر إلي جميل صُنْع عماد الدين زنكي ، وكيف رسَّخ الأمن في ربوع المنطقة بعفوٍ جميل ، وسياسة حسنة .

وفي سنة 535هـ\ 1140م قام ركن الدولة داود بن سقمان بالهجوم علي مدينة مَيَّافارقِين التابعة لحسام الدين تمرتاش ، الذي إستغاث بدوره بعماد الدين زنكي ، فأسرع عماد الدين زنكي وهجم علي بعض أملاك ركن الدولة داود في أماكن أخري ؛ وذلك لتخفيف الضغط علي مَيَّافارقِين ، وإختار عماد الدين زنكي أن يهجم علي قلعة بهمرد القريبة من حصن كيفا ، وكان هذا الإختيار ذكيًّا بارعًا ؛ حيث كان يقود القلعة قرا أرسلان بن داود ، إضافةً إلي قرب القلعة من حصن كيفا ، وهذا أزعج داود بن سقمان جدًّا ؛ لخوفه أوَّلاً علي إبنه المحاصَر في قلعة بهمرد ، ولخوفه ثانيًا علي أهمِّ معاقله وعقر داره حصن كيفا القريبة من قلعة بهمرد ، وهذا الخوف دفعه إلي رفع الحصار عن ميَّافارقين والتوجُّه إلي قلعة بهمرد ، ولكن عماد الدين زنكي كان قد حقَّق الإنتصار بالفعل، ومَلَك قلعة بهمرد المهمَّة ، وهذا أدَّي إلي إستقرار وضعه ؛ حيث خشي داود بن سقمان أن يدخل في صدام مباشر مع عماد الدين زنكي .

وفي سنة 536هـ\ 1141م إستطاع عماد الدين زنكي أن يضمَّ آمد إلي حكمه ، وأن يُدْخِل أبا منصور إيكلدي حاكمها في طاعته ، ومن ثَمَّ ترسَّخت أقدامه بشكل أكبر في ديار الجزيرة ؛ ولكن هذه السيطرة أقلقت حسام الدين تمرتاش من جديد ، فأظهر التمرُّد ، ومدَّ خطوط التفاهم مع خصمه ركن الدولة داود بن سقمان ؛ ليعقد حلفًا مشتركًا بعد عداء عدَّة سنوات !

لقد كانت أرض الجزيرة فعلاً تموج بالفتن والأهواء !

لجأ عماد الدين زنكي إلي الطرق السياسيَّة لتفتيت هذا الحلف المعادي ، فتراسل مع ركن الدولة داود بن سقمان ، وعرض عليه أن يتحالف معه هو ويترك حسام الدين تمرتاش ، وقد فكَّر داود في الأمر ، فوجد أن عماد الدين زنكي أقوي كثيرًا من حسام الدين تمرتاش ، وأن البلاد ستئُول إليه بالقوَّة إن أصرَّ علي الصدام ، وأن عماد الدين زنكي لم يغدر في حلفه السابق مع حسام الدين تمرتاش ، بل أعطاه عدَّة قلاع وحصون كهدايا وهبات ، وأن الغدر أتي من حسام الدين تمرتاش في حقِّ عماد الدين زنكي ، وقد يأتي منه مرَّةً أخري في حقِّ داود نفسه .. وهكذا إجتمعت العوامل في ذهن داود بن سقمان علي الموافقة علي فكِّ تحالفه مع حسام الدين تمرتاش ، والتحالفِ مع عماد الدين زنكي !

وهكذا إزدادت قوَّة عماد الدين زنكي بينما وجد حسام الدين تمرتاش نفسه وحيدًا في أرض الجزيرة !! ولم يكتفِ عماد الدين زنكي بذلك بل توسَّع جنوبًا وضمَّ مدينة الحَدِيثَة ثم عانة ، وبذلك صارت سيطرته علي منطقة الجزيرة أقوي وأعظم .

إستغلَّ عماد الدين زنكي إستقرار الأوضاع وقوَّة مركزه ، فأسرع في سنة 537هـ\ 1142م بإنفاذ حملة واسعة تهدف إلي السيطرة علي عدَّة حصون في أقاصي ديار بكر وفي أعالي الجزيرة ، فسيطر علي أماكنَ لم يَصِلْ إليها قبل ذلك أحدٌ من السلاجقة أو غيرهم ، فضمَّ طَنْزَة وأسعرد وحِيزَان ، وكذلك ضمَّ عدَّة حصون مثل : الدوق ، ومطليس ، وبانسبة ، وذي القرنين ،وترك في هذه المدن والحصون مَنْ يحفظها من رجاله ، وبذلك وصل الإستقرار في منطقة الجزيرة إلي درجة لم يَصِلْ إليها قبل ذلك .. ويمكن القول أن الطريق الآن أصبح مفتوحًا بشكل آمن إلي إمارة الرها ، اللهم إلا من بلاد حسام الدين تمرتاش ، الذي أدرك عماد الدين زنكي أنه ضعيف ، وأن ضعفه هذا سيمنعه من إعتراض طريق عماد الدين زنكي إذا أراد غزو الرها .

ولم تكن هذه التحرُّكات الثابتة في أرض الجزيرة لتُلْهِيَ عماد الدين زنكي عن متابعة الأمن في إمارته الواسعة ، فكان بالمرصاد لكل محاولة تهدف إلي إثارة الفتنة أو زعزعة الأمن ؛ فمن ذلك صرامته في التعامل مع ثورة قامت عليه في مناطق الأكراد الهكارية شرق الموصل ، وذلك حين مات زعيمهم أبو الهيجاء الهكاري الذي كان مواليًا لعماد الدين زنكي ، فقام من بعده نائبه باو ألارجي ، وأحدث صراعًا في المنطقة يخرج به عن سيطرة عماد الدين زنكي ، فعاد إليه عماد الدين زنكي مسرعًا ، وإصطدم معه ، وإنتصر عليه ، وملك مركزهم الرئيسي ، وهو قلعة آشب ، وضمَّ إليها عدَّة قلاع أخري في المنطقة .

ومن مظاهر يقظته كذلك أنه تعرَّض لهجوم صليبي في بعض المناطق القريبة من حلب ، فقامت الحامية الحلبية بالتصدِّي لهذا الهجوم ، وقتلتْ من الصليبيين سبعمائة ، وظفرت بالكثير من الغنائم .

وعندما ظهرت بعض الإضطرابات في مناطق الأكراد المهرانية - وهم يقطنون في عدد من القلاع في المنطقة الجبلية المتاخمة لجزيرة إبن عمر ، وأهمها قلعة كواشي - تصدَّي لهم عماد الدين زنكي ، وأخضعهم بكل حسم ، ومن ثَمَّ عاد الأمن والأمان لربوع دولته كلها .

وهكذا في نهاية سنة 537هـ وبداية سنة 538هـ كانت أمور عماد الدين زنكي قد إستقرَّت كثيرًا ، وصار من الممكن له أن يقوم بخطوات عملية ، وبخطَّة واضحة تهدف إلي غزو الإمارة العتيدة : الرها !

لقد مرَّت حتي الآن خمس سنوات - منذ سنة 533 وإلي سنة 538هـ - لم يحدث فيها صدام يُذكر مع الصليبيين ، ولكنها لم تكن سنواتٍ خاملةً ، بل كان فيها إعداد متَّصل ، وتنظيم مستمرٌّ ، وما غابت قضية جهاد الصليبيين عن ذهن عماد الدين زنكي أبدًا ، بل لم تغبْ قضية إمارة الرها بالذات عن تفكير البطل الجليل عماد الدين زنكي ، فكان الأمر كما ذكر إبن القلانسيّ رحمه الله في كتابه (ذيل تاريخ دمشق) : "فكان ذِكْر هذه المدينة جائلاً في خلده ، وأمرها ماثلاً في خاطره وقلبه" .

وبدأ عماد الدين زنكي يرتِّب أوراقه ، ويُعِدُّ عُدَّته ، ويرسم خطَّته ؛ لينظِّم هجومًا شاملاً علي إمارة الرها ، وبينما هو في هذا الإعداد إذ بالأحداث تتكاثف في سنة 538هـ\ 1143م لتُمَهِّد الطريق لعماد الدين زنكي لينفِّذ خطَّته !

ولا يقولنَّ أحدٌ أن هذه مصادفة عجيبة! فإن الأمور تجري بالمقادير ، ولقد رأي اللهُ الإخلاصَ في قلب عماد الدين زنكي ، والإتقان في عمله ، فساعده في أحواله ، ويسَّر له أمور ه، خاصَّةً وهو يكافِح من أجل قضية إسلامية ، ومهمة شرعية ، هي من أعظم المهامِّ مطلقًا ، وهي مهمَّة تحرير بلاد المسلمين من الأعداء العاصبين .

وتعالَوْا نرصد بعض الحوادث التي تمَّت في سنة 538هـ وأوائل سنة 539هـ (1143- 1144م) ، والتي فتحت طريق عماد الدين زنكي إلي الرها !

أولاً : تُوُفِّيَ في سنة 538هـ\ 1143م الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، وتولَّي من بعده ابنه مانويل كومنين. ولا شكَّ أن الأزمة التي حدثت بوفاة يوحنا كومنين - الذي حكم إمبراطوريته خمسة وعشرين عامًا كاملة - كانت أزمة كبيرة ، وإضطر مانويل أن يصرف كل جهوده لتنظيم الأمور الداخلية في الإمبراطورية ؛ وهذا أخرج الإمبراطورية الكبيرة من معادلة الصراع ، فلم يكن عندها الوقت أو القوَّة للتدخُّل لصالح إمارة الرها ، وكانت هذه نقطة مهمَّة ؛ لأننا رأينا قبل ذلك تحالفًا بيزنطيًّا صليبيًّا في سنة 532هـ ، أي منذ ستِّ سنوات فقط ، وكان جوسلين الثاني أمير الرها مشارِكًا في هذا التحالف ، ولا شكَّ أن تحالفًا كهذا كان من الممكن أن يُعَطِّل خطط عماد الدين زنكي لغزو الرها، لكنَّ الله سلَّم .

ثانيًا : نتيجة وفاة الإمبراطور يوحنا كومنين طمع ريموند بواتييه أمير أنطاكية في إقليم قليقية ، والذي سيطرت عليه الإمبراطورية البيزنطية أثناء حملتها علي المنطقة سنة 532هـ ، وبالتالي تقدَّم ريموند بواتييه بقوَّاته وإحتلَّ إقليم قليقية .. وهذا - لا شكَّ - أغضب الإمبراطورية البيزنطية ؛ لينشأ بينها وبين أمير أنطاكية صراع ونزاع حول هذا الإقليم ، وهذا النزاع الخطير صرف ذهن ريموند بواتييه تمامًا عن إمارة الرها ، وبالتالي فَقَدت إمارة الرها مناصرة أقرب الإمارات الصليبية إليها .

ثالثًا : تُوُفِّيَ فجأةً الملك فولك الأنجوي ملك بيت المقدس علي إثر جراحة أُصيب بها في رحلة صيد ! وترك ولدين صغيرين هما : بلدوين الثالث وكان عمره ثلاثة عشر عامًا ، وعموري أو إيموري وكان عمره سبع سنوات فقط .. وهكذا وُضِع الطفل بلدوين الثالث علي كرسيِّ المملكة ، وتولَّت أمُّه ميلزاند بنت بلدوين الثاني - وهي الزوجة الخائنة التي تحدَّثنا عنها قبل ذلك - منصبَ الوصاية علي الحكم !

وبذلك صارت الأمور في يد هذه المرأة ، وهي تحكم باسم الطفل بلدوين الثالث .. ولا شكَّ أن هذا الإضطراب أضعف كثيرًا من هيبة مملكة بيت المقدس ، وتفرَّق شمل الإمارات الصليبية ؛ حيث كان من المعتاد أن يقوم ملك بيت المقدس بتجميع جهودهم ، وفكِّ نزاعاتهم وحلِّها ، أمَّا الآن فالزعماء العسكريُّون أمثال ريموند بواتييه وجوسلين الثاني لن يستمعوا لقول امرأة ، ولا لحُكْم طفلٍ !

رابعًا : نشب صراع معلن بين الأمير جوسلين الثاني أمير الرها والأمير ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، واللذان كانا علي درجة كبيرة من العداء والكراهية والغيرة ، وكان التنافس بينهما شديدًا علي أملاك المسلمين المتوسطة بينهما ، وكان الذي يكتم هذا الصراع وينهيه وجود الملك فولك كسلطة أعلي لكلِّ الصليبيين في بلاد المسلمين ، أمَّا عند وفاة الملك فولك فلم يعد هناك مَنْ يفكُّ إشتباك الأميرين ، ومن ثَمَّ أصبح الاختلاف بينهما صريحًا معلنًا .

خامسًا : تُوُفِّيَ فجأة أيضًا ركن الدولة داود بن سقمان ، الزعيم الأرتقي الخطير ، وهو وإن كان محالفًا لعماد الدين زنكي في أيامه الأخيرة إلاَّ أنه شخصيَّة غير مأمونة ، وبالتالي فقد ينقلب علي عماد الدين زنكي في أية لحظة ، وقد يضرب عماد الدين زنكي في ظهره ، ولم يكن يمانع في التحالف مع الصليبيين إذا لزم الأمر للدفاع عن أملاكه وحصونه .. وقد تولَّي من بعده إبنه قرا أرسلان بن داود ، وكان علي خلافِ أبيه تمامًا ، فكان مفتقرًا للحكمة السياسية ، والقدرة القتالية التي كان يتمتع بها أبوه ، بل إنه وفي أيام حكمه الأولي قرَّر التحالف مع جوسلين الثاني أمير الرها ، وهذا وإن كان يبدو خطيرًا إلاَّ أنه كشف أوراقه مبكِّرًا ، وأعطي عماد الدين زنكي المبرِّر الكافي لضربه ، وللهجوم علي بلاده ، وكان هذا أمرًا سهلاً بالنسبة لعماد الدين زنكي ؛ وذلك لقلَّة خبرة قرا أرسلان ، وضعف تأثيره علي جنوده .

وهكذا تضافرت هذه الأحداث مجتمعة علي عزل إمارة الرها ؛ حيث إنها فقدت العون من إمارة أنطاكية ومن مملكة بيت المقدس ، كما فقدته من الإمبراطورية البيزنطية ، وإضافةً إلي ذلك فقد فَقَدت أرض الجزيرة شخصيَّة عنيدة ، هي شخصية ركن الدولة داود بن سقمان ، وبذلك خارت قوَّتها أمام البطل عماد الدين زنكي !!

وها قد صار الطريق إلي الرها مفتوحًا !

نظر عماد الدين زنكي نظرة عسكرية إلي إمارة الرها فوجد أنها قد قُطِّعَت أوصالها من الأعوان نتيجة وفاة الإمبراطور يوحنا كومنين والملك فولك الأنجوي ، ونتيجة صراعها مع إمارة أنطاكية ، ولم يبقَ لها من اتِّصال إلاَّ مع الأراتقة في أرض الجزيرة عن طريق أميرهم الجديد قرا أرسلان ابن داود ، فأراد عماد الدين زنكي أن يقطع هذا الاتصال ليعزل إمارة الرها نهائيًّا عن العالم المحيط ؛ وبالتالي يسهل عليه ضربها بعد ذلك .. ولهذا قام عماد الدين زنكي في نفس السنة في 538هـ\ 1143م بحملة عسكرية تهدف إلي إسقاط الحصون الصليبية الواقعة في إقليم شبختان - وهو من أقاليم الجزيرة ، وهو الإقليم الفاصل بين حدود إمارة الرها وبين أملاك قرا أرسلان - وبذلك يعزل الحليفين عن بعضهما البعض .. وبالفعل نجح عماد الدين زنكي في إسقاط عدَّة حصون صليبية في هذا الإقليم ، منها : جملين ، والموزر ، وتل موزن ، وغيرها ؛ وبذلك حقَّق ما يريد ، وصارت إمارة الرها معزولة عُزْلَة تامَّة ، ولم يَعُدْ أمام عماد الدين زنكي إلاَّ أن يتوجَّه إليها بجيشه .

وبينما هو في هذا التوقيت يجهِّز نفسه للمهمَّة الكبري إذ جاءته الأخبار بمفاجأة مفزعة كادت تغيِّر كل خططه ، وتفسد عليه كل إعداده !

لقد جاءت الأخبار من بغداد أن السلطان مسعودًا السلجوقي يتجهَّز لغزو عماد الدين زنكي وإنتزاع الإمارة منه !

في هذا التوقيت يُريد السلطان مسعود أن يقاتل عماد الدين زنكي !! إنه - ولا شكَّ - مصابٌ بعدَّة أمراض نفسيَّة وأخلاقيَّة ! إنه مصاب بمرض الحَوَل السياسي ؛ فلا يعرف إلي أين يجب أن يوجِّه حربه ، وإلي أي طريقٍ ينبغي أن يسير بجيوشه !

وهو - في نفس الوقت - مصاب بضعف شديد في الدين ، فلا يمانِع من أن يفكَّ وَحْدة المسلمين في هذا التوقيت العصيب ، ولا يتردَّد في إرتكاب أمر يُشفِي غليل الصليبيين ، ويُتعِس المسلمين !

وهو أيضًا مصاب بإنهيار في الأخلاق فيُقبِل علي ضرب مجاهد في ظهره ، ويُسرِع في نصب كمين لجيوش المؤمنين !

إنها كارثة بكلِّ المقاييس !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي إزاء هذا الموقف الرهيب ؟!

هل يتجاهل أمره ويتَّجه إلي الرها بعد أن أصبح مسرح العمليات جاهزًا ، أم أن هذا سيجعل ظهره مكشوفًا للسلطان مسعود ؛ فيهجم عليه ويضيع كل شيء ؟

أم هل يقاتل السلطانَ مسعودًا ، ويُضيِّع فرصة فتح الرها التي ظلَّ يُعِدُّ لها من أول أيام حكمه (أي منذ ثمانية عشر عامًا)؟!

لقد وضعه السلطان مسعود في مأزق خطير !

ولماذا فعل ذلك السلطان مسعود ؟!

لقد شعر السلطان مسعود أن الأرض تتناقص من حوله ، وشعر أيضًا أن هيبته قد قلَّت ، وصارت كلها لعماد الدين زنكي ، وأحسَّ أن أمراء الأطراف الذين يتبعونه قد بدءوا يثورون عليه ، ويخرجون عن طوعه ، وتوقَّع أن خروجهم هذا بتحريض من عماد الدين زنكي ليُضعِف من قوَّة السلطان .

وإزاء تمسُّك السلطان مسعود بحكمه وأملاكه وسلطته نسي قضية الصليبيين ، وتجاهل هموم المسلمين ، وسعي لأمرٍ لا يُسعِد أحدًا إلاَّ هو والصليبيين والشيطان ! فكانت هذه الكارثة !
وفكَّر عماد الدين رحمه الله ، وفكَّر ..

ثم وصل إلي ما ينبغي عمله في هذا الموقف !

إن الحلَّ الأمثل هو شراء رضا السلطان مسعود بأيِّ ثمن ، ولو كان التواضع له ، وإظهار الإمتثال الكامل لسلطانه ، مع أن الجميع يري أن عماد الدين زنكي أقوي ألف مرَّة من السلطان مسعود ، لكن عماد الدين زنكي ليس عنده وقت يضيِّعه في معاركَ جانبيةٍ ، كما أنه لا يسعي للقبٍ أو تشريف ، إنما يريد جهاد الصليبيين لله ? ، ولا يريد أن يشغله عن ذلك شاغل ، أيًّا كان هذا الشاغل .

لقد جاءت الأخبار إلي عماد الدين زنكي بهذا الأمر ، ثم ما لبث سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي أن جاء من بغداد هاربًا ؛ ليبلغ أباه بالأخبار الجديدة ، وكان عماد الدين زنكي قد ترك ولده الأكبر سيف الدين غازي في خدمة السلطان مسعود طيلة السنوات السابقة ، وكان هذا أمرًا سياسيًّا حكيمًا منه ؛ إذ به يتقرَّب إلي السلطان ليأمن شرَّه ، وهو في نفس الوقت ينقل الأخبار إلي أبيه عماد الدين زنكي .. فلمَّا عَلِمَ سيف الدين غازي بهذه التطورات هرب من السلطان ، وأسرع إلي أبيه بالموصل ليحذِّره ، ولكن عماد الدين زنكي فعل أمرًا عجيبًا ! إذ رفض أن يقابل إبنه ، وردَّه إلي السلطان ، وأرسل معه رسولاً من قِبَلِه يقول للسلطان : " إن ولدي هرب خوفًا من السلطان ، لمَّا رأي تغيُّره عليَّ ، وقد أعدْتُه إلي الخدمة ، ولم أجتمع به ؛ فإنه مملوكك ، والبلاد لك" !!

فكما يقول إبن الأثير : " فحلَّ ذلك من السلطان محلاًّ عظيمًا !" .

لقد تأثَّر السلطان تأثُّرًا بالغًا بهذا الموقف ، وسواء فَقِهَ الموقف علي أنه رضوخ حقيقي للسلطان ، أو فهمه علي أنه خدعة سياسية ، فإنه ما كان يستطيع إزاء هذا الموقف أن يستمرَّ في عزمه علي القتال ، خاصَّةً وهو يعلم قوَّة عماد الدين زنكي وسلطته ، إضافةً إلي أن ردَّ فعل عموم المسلمين لن يرحم السلطان مسعودًا ؛ لأنه فَقَدَ مُبَرِّر القتال بإظهار عماد الدين زنكي طاعته له !

وهكذا توقف السلطان مسعود عن مخطَّطه ، ونجا عماد الدين زنكي من هذه الكارثة ، ومن ثَمَّ يَمَّم وجهه شطر الرها !

كان عماد الدين زنكي واقعيًّا ، ويعلم أن حصون الرها منيعة جدًّا ، ويعلم أيضًا أن جوسلين الثاني وجيشه قادرون علي صدِّ هجمته إن تحصنوا بهذه الحصون المحكمة ، والتجارب السابقة للزعماء المسلمين علي مدار الخمسين سنة السابقة تؤكِّد ذلك ؛ وعليه فكانت خطة عماد الدين زنكي تهدف في الأساس إلي مباغتة الرها في الوقت الذي تخلو فيه المدينة من قائدها وجيشه .. لكن هل ينتظر عماد الدين زنكي إلي أن تأتي مثل هذه الفرصة ؟! إن هذا قد يتطلب وقتًا طويلاً ، وهو لا يدري ماذا تحمل له الأيام القادمة ! إن عليه أن يدفع جوسلين الثاني للخروج من حصونه ، ولكن دون أن يستفزه ؛ لأنه لا يميل للقتال أصلاً ، بل يؤثر الرفاهية والأمان .

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!

لقد قرر عماد الدين زنكي أن يتظاهر بأنه سيهاجم بعض حصون قرا أرسلان بن داود ، الذي يحالف جوسلين الثاني في هذا الوقت ، وسيتوجه بجيشه إلي هذه المنطقة القريبة من الرها ، وسيشيع في الأجواء أن هناك فرقًا مساعدة له ستأتي من حلب ؛ ليشجِّع جوسلين الثاني لأن يخرج من حصونه لقطع الطريق علي المعونة الحلبية ، فإذا خرج جوسلين الثاني من الرها ، وإبتعد عنها ، غيَّر عماد الدين زنكي من وجهته ، وترك مناطق الأراتقة وإتجه مباشرة إلي الرها فضرب حولها الحصار ، وعندها قد تكون هناك فرصة لإسقاط المدينة !

كان هذا هو الجهد البشري الذي بذله عماد الدين زنكي ، وكان من الممكن أن يوجد له ألف عائق يعوقه ، ويمنعه من النجاح !! كان من الممكن أن يشك جوسلين الثاني في الأمر فلا يخرج ، وكان من الممكن أن يتجاهل نصرة حليفه عمدًا ، وكان من الممكن لقرا أرسلان أن يعطِّل سير عماد الدين زنكي فلا يصل إلي الرها في الوقت المناسب ، وكان من الممكن أشياء أخري كثيرة ؛ لكنَّ الله لم يُرِدْ لكل هذه العوائق أن تحدث ، إنما أراد الله للنصر أن ينزل علي المؤمنين ، فدبَّر المواقف التي تقود إليه ، وأزال العوائق التي تمنع من الوصول إليه ؛ لتسير الأمور كلها نحو وجهة يريدها ، ونحو هدفٍ يرضي عنه .

إنه تدبيرُ ربِّ العالمين : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس