عرض مشاركة واحدة

قديم 03-11-20, 05:40 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


ولم يكن أهل مصر -وأغلبيتُهم لم تُسْلم بعدُ- ليكتفوا بالتفرج على ذلك؛ فحاولوا إقناع عمرو بالعدول عن مشروعه مستخدمين لغة اقتصادية سياسية ذكية، فقالوا له: "خراجُك زاجٍ (= منتظِم أمره)، وأميرُك راضٍ، وإن تمّ هذا [الحفر] انكسر (= نقَص) الخراج، فكتب إلى عمر بذلك وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها، فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجِّل..، فعالجه عمرو وهو بالقلزم (= البحر الأحمر)، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصرَ إلا رخاء، ولم يَرَ أهلُ المدينة بعد الرمادة [مجاعة] مثلها، حتى حُبس عنهم البحر مع مقتل عثمان.. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا"! فجواب عَمْرو وإصرار عُمَر واعتراض أهل مصر على فتح منافذ بحرية جديدة في بلادهم؛ يبين لنا جانبا من إدراك أطراف الصراعات المبكر لقيمة الملاحة البحرية ورفدها للأنشطة التجارية.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


ركيزة عمرانية

ومن أهم الوقائع التاريخية ذات الدلالة العميقة على اعتناء الخلفاء المسلمين بتوظيف عناصر الجغرافيا الاقتصادية قصة اختيار الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) لموقع عاصمة العباسيين بغداد؛ فقد قرر -بعد مشاورات مع خبراء الطوبوغرافيا في دولته- أن يقيمها على ضفة نهر صغير يُسمّى "الصَّرَاة" ليصلها بنهر الفرات.
وقد شرح له أحد هؤلاء الخبراء -وفق رؤية فنية جمعت أبعاد الجغرافيا الاقتصادية والسياسية- مميزاتِ الموقع المقترح، التي كان أهمها عدم إمكانية خضوع العاصمة لحصار اقتصادي، لارتباطها بأهم طرق تجارة العالم شرقا وغربا من خلال أنهارها المحيطة بها الضامنة لحركة التجارة وانسيابيتها؛ فقال هذا الخبير -طبقا للطبري- مخاطبا المنصور: إنه في هذا الموضع سوف "تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف (= تُحَف) مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها.. حتى تصل إلى [نهر] الزّاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد (= اليوم مدينة ديار بكر التركية) والجزيرة [الفراتية] والموصل في دجلة".
وكما كان توفُّر المال رافدا لقيام الدول وسببا من أسباب دوامها وتمددها؛ فإن نقصه كان أيضا عاملا حاسما في زوال أخرى، ووسيلة للإطاحة بنظم والتغلب على مدن منذ غابر الزمان، وإخضاع حكومات لرغبات من يمتلك أوراق الضغط الاقتصادي طوال القرون.

فقد أخبرنا الفيلسوف المؤرخ مِسْكوَيْه (ت 421هـ/1031م) -في ’تجارب الأمم‘- أثناء رصده للحيل التي كان يقوم بها الإسكندر المقدوني (ت 323 ق.م) في غزواته التوسعية؛ أنه "نزل على مدينة حصينة، فتحصن منه أهلها وعَرَف خبرَها، فأعلِم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم، فدسّ تجّارا متنكِّرين وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة وتقدم إليهم ببيع ما معهم وابتياع ما أمكنهم من الميرة والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم، فلم يزل التجار يشترون الميرة إلى أن حصل في أيديهم أكثرُهـ[ـا]، فلما علم الإسكندر ذلك كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا، ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة وملك المدينة".
ومن قصص تلويح الحكّام بالمقاطعة الاقتصادية ومنع تأشيرات الزيارة ما ورد في القرآن الكريم بشأن علاقة نبي الله يوسف عليه السلام بإخوته، حين منَّ الله عليه بالتمكين في مصر وأراد تحقيق رؤياه بلمّ شمل عائلته مستعينا على ذلك بظروف المجاعة التي ضربت حينها بلدهم فلسطين؛ فقد شرط على إخوانه حين وفدوا عليه إحضار أخيهم لأبيهم وشقيقه هو، وإلا فليصبروا على قطعه ميرتهم من دولته وهم في أعوام جدب؛ يقول تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُون}.
فالطبري يفسّر الآيات قائلا: "{فإن لم تأتوني به}: بأخيكم من أبيكم، {فلا كيل لكم عندي} يقول: فليس لكم عندي طعام أكيله (= أبيعه) لكم، {ولا تقربون}، يقول: ولا تقربوا بلادي"! ولم يكن تلويح يوسف بالمقاطعة الاقتصادية لإخوته إلا شوقا إلى أبويه وأخيه بعد ابتلاءات السجن. لكن نبيا آخر -جاء بعده بقرون كثيرة- اختُبِر هو وعشيرته الأقربين من أعدائه بالمقاطعة الاجتماعية والحصار الاقتصادي فثبت حتى مكنه الله تعالى، ولم يكن ذلك النبي سوى سيدنا محمد ﷺ في حصار قريش لهم في "شِعْب (= وادٍ صغير بين جبلين) أبي طالب" بمكة المكرمة.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


ثبات ووفاء

فحين بعث الله نبيه محمدا ﷺ بالهدى والحكمة؛ أعرض عن دعوته قادة قريش بل وحاولوا صده عنها بكل السبل، فبدؤوا معه ومع أصحابه بالترغيب والمغريات وعَرْض مقاليد السيادة وكنوز الأموال عليه. ولما لم يُجْدِ ذلك في نيل مطالبهم منه، حاولوا بالترهيب وفرض الحصار الاجتماعي والمقاطعة الاقتصادية، وكان قادة قريش بتجاربهم التجارية والاقتصادية الطويلة على وعي بمدى خطورة سلاح المقاطعة الاقتصادية في مجتمع تجاري ذلّل وهاد صحراء العرب وجبال جزيرتهم بالقوافل صيفا وشتاء جنوبا وشمالا.
لكن عزيمة الرسول ﷺ كانت أقوى من مراوغات قريش، وقد اختصر ثباته ومضاءه في أمر الدعوة وتحدي المقاطعة بقوله لعمه أبي طالب (ت 3ق.هـ/619م) في لحظة اشتداد الحصار: "يا عمّ! لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركتُ الأمرَ حتى يُظهره الله أو أهلك في طلبه"؛ وفقا لرواية ابن إسحق (ت 151هـ/769م) في ’السيرة’.
وفي صمود مثالي يجدر بالمسلمين اليوم أن يستحضروه فيستلهموه ويلتزموه في نصرة نبي الإسلام وهو يُستهدَف بالإساءات المتتالية من خصومه؛ يخبرنا ابن إسحق بما نال النبيَّ ﷺ وأصحابَه وقومَه الأقربين وبعضهم مشركون "من البلاء والجهد" أثناء الحصار الشديد، الذي أمهلت قريش فيه أبا طالب قبل بدء تنفيذه وفاوضوه مرارا ليسلم إليهم ابن أخيه. وقد آثر أبو طالب حماية ابن أخيه تطبيقا لأعراف الحمية العربية؛ فدعاه وخاطبه بكلمته التي ظلت ترِنّ في سمع الزمان فحفظتها أذن التاريخ الواعية: "يا ابن أخي!.. امضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا نسْلمك بشيء أبداً"!!
لم يكن أمام قريش إذن -لصيانة هيبة وعيدها- إلا أن تفرض حصارها الاقتصادي والاجتماعي الشامل الذي وثقته في ميثاق معلَّق بأشرف البقاع، و"اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا يَنكحوا إليهم، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، فكتبوا صحيفة في ذلك… وعلقوها بالكعبة، ثم عَدَوْا (= اعتدوْا) على من أسلَم [من الناس] فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً".
لم تكتف قريش بتوثيق المقاطعة وإضفاء القدسية عليها بتعليقها في جوف الكعبة؛ بل عمقوا الحصار بطرق أخرى أشد ركزت على الترصد لأي بضاعة قد تتسرب إلى داخل شِعْب المحاصَرين، أو أن ينفذ محاصَر إلى سوق فـ"آذوا النبي ﷺ وأصحابه أذى شديداً وضربوهم في كل طريق، وحصروهم في شِعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحدا من الناس يُدخِل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم، وكانوا يخرجون من الشِّعب إلى الموسم (= مواسم الحج والتجارة)، وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويُغلونها عليهم"؛ وفقا لابن إسحاق.
وقد حاول النبلاء من رجال قريش -خلال سنوات الحصار الثلاث- إنهاءه بمبادرات جماعية وفردية، فكانوا يسرِّبون حُمولات الطعام بطرق مختلفة إلى داخل الشِّعب، حتى نجحوا في فكِّ المقاطعة الاقتصادية عن النبي ﷺ وصحبه وعشيرته. وبعد بضع سنوات؛ وجد المسلمون -بعد أن توطنوا في دار هجرتهم المدينة المنورة- أنفسَهم في مواجهة التهديد بالمقاطعة الاقتصادية مجددا، ولكن هذه المرة من جماعة "المنافقين" الذين يخبرنا القرآن الكريم بأنهم رفعوا شعار: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} من حوله، إلا أن ترسّخ دعائم الإسلام في موطنه الجديد سرعان ما وضع تلك التهديدات في مهب الريح.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس