الصين من القوة الناعمة إلى بسط النفوذ

الجيش الصيني يضم نحو 975,000 مقاتل وثالث أكبر قوة طيران في العالم (غيتي)
الجزيرة نت - محمد مكرم بلعاوي
19/9/2024
تلقّت الصين في الحقبة الاستعمارية ضربات قاسية أصابت كبرياءها في الصميم، فقد احتُلت أجزاء واسعة منها وقُسمت أراضيها، وجُرت إلى دائرة التخلف العلمي والاقتصادي، وهي التي كانت تعتبر نفسها على مدى آلاف السنين مركز العالم وعاصمة التحضر والمدنية.
لذا، فإن التاريخ لعب دورا مهما في صياغة أولويات الصين ورسم السياسيات الخارجية وطريقة تعاملها مع التهديدات الإستراتيجية، والعلاقة المعقّدة مع كل من الولايات المتحدةوالغرب.
وخلافا للتاريخ الأوروبي، فإنّ السياسة الخارجية الصينية التقليدية ترتكز عادة على عدم التوسع خارج الإقليم، وتكتفي بالحصول على الولاء أكثر من الاحتلال العسكري المباشر.
كما أنّ الصين التي عانت من الاحتلال والسياسات الاستعمارية وتدرك كراهية الشعوب للهيمنة الأجنبية، تقدّم نفسها كشريك ناجح لديه ما يقدمه لدول العالم الثالث.
فرادة التجربة الصينية
كانت بعض أشهر محطات هذه المواجهات، حرب الأفيون الأولى والثانية (1839، 1856)، ثم التدخل في ثورة تايبنغ (1850-1864) التي تعتبر واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية.
تبعت ذلك الحرب مع اليابان (1894-1895م)، التي قادت إلى احتلال اليابان لإقليم منشوريا الصيني، واندلاع الحرب الأهلية بين الحزب الشيوعي وحكومة الحركة القومية (الكومينتانغ)، والتي استمرت منذ 1924-1949، وأدى ذلك إلى انفصال جزيرة تايوان وتأسيس جمهورية الصين الوطنية الموالية للغرب، ثم لاحقا المواجهة مع الغرب في كوريا عام 1951.
هذه المراحل التاريخية جعلت الصين تهتم بالحفاظ على حرية أراضيها وتعزيز قوتها على صد العدوان الخارجي، وهو أحد أهم أهداف الثورة الشيوعية في القرن العشرين، بالإضافة إلى تكريس الاستقرار الداخلي وإطلاق عجلة التنمية.
وبالاستناد إلى هذا التاريخ، يمكن فهم حساسية الصين العالية تجاه التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية، خصوصا وحدتها الترابية وكذلك دائرة نفوذها الإقليمي، وهو ما تسبب في مواجهات عسكرية دامية مع الدول المجاورة لها حتى مع أصدقائها المفترضين، كالحرب مع الهند عام 1962، والنزاع الحدودي مع الاتحاد السوفياتي عام 1969، والحرب مع فيتنام عام 1979.

جنود سوفياتيون بالقرب من جبل كامينايا على الحدود الصينية السوفياتية خلال الحرب بين روسيا والصين (غيتي)
بالإضافة إلى جهودها لحماية إقليمها من خلال مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، والسعي المستمر إلى الهيمنة على بحر جنوب الصين.
هذا التاريخ جعل الصين تشعر بأنّ هناك تهديدا دائما لبرها الرئيسي، فسعت لامتلاك الردع من خلال حصولها على السلاح النووي عام 1964 ثم الهيدروجيني عام 1967.
ولكنّها في الوقت نفسه، رفضت الدخول في حالة سباق تسلح كما حدث بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، كي لا يحصل استنزاف لاقتصادها ومواردها، واكتفت بالحد الأدنى من القوة النووية الكفيلة بتحقيق الردع.
واتجهت نحو تطوير تدريجي لقواتها المسلحة في كافة المجالات، بعيدا عن فكرة "جيش الشعب" التي كانت سائدة في الصين في المراحل المبكرة من عمر الجمهورية، والقائمة على تحقيق النصر من خلال الزج بمئات الآلاف من المقاتلين في المعركة، والذهاب نحو قوات مسلحة أكثر احترافا وأقل عددا.
كما عملت على تطوير قدراتها التكنولوجية لتواكب العصر، خاصة في حروب الفضاء والحروب السيبرانية.
وصاغت مبادئ السياسة الخارجية الصينية طمأنة المجتمع الدولي من خلال إستراتيجية النمو الهادئة، والتي كان مدخلها الشراكات الاقتصادية والتنموية، خصوصا بعد لقاء الزعيم ماو تسي تونغ مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1972.
نتج عن ذلك بناء علاقات جيدة مع الغرب في فترة الحرب الباردة، استفادت منها الصين بتجاوز المجاعات المتتالية وتطوير الاقتصاد حتى تحوّلت إلى "مصنع العالم".

ريتشارد نيكسون (يسار) وماو تسي تونغ في الصين 1972 (شترستوك)
العلاقات مع الغرب
وجد الغرب في الصين منافسا ومهددا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأراد تحجيم دورها وفك الارتباط بالاقتصاد الصيني، لكنّه لقي صعوبة بالغة في ذلك، نتيجة الارتباط العضوي بينهما، كما أن تراكم القوة الصينية والتحول النوعي الذي شهدته القوات المسلحة الصينية جعل أي مواجهة مباشرة معها خطرة جدا.
وشهدت تلك الفترة توترا كبيرا في علاقات الصين مع الولايات المتحدة والدول الغربية، خاصة خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما أدى إلى حدوث تغيرات في طبيعة العلاقات، وأصبحت تلك القوى تتعامل مع بكين بشكل أكثر ندية ورفعت وتيرة التصعيد ضدها.
وتعرضت الصين لحملة من الضغوط الغربية سواء الاقتصادية، مثل الحرب التجارية التي شنها ترامب، أو بناء تحالفات عسكرية وإستراتيجية لحصارها وعزلها، بالإضافة لمحاولة استهداف الوحدة الداخلية من خلال إثارة مواضيع مثل حقوق الانسان والإيغوروقضية تايوان، رغم اتفاق واشنطن مع بكين على سياسة "الصين الواحدة".
وعمل الرئيس الأميركي جو بايدن خلال ولايته على حشد شركاء واشنطن في معركته ضد الصين، وجعل من مواجهتها جزءا مركزيا من سياسته الخارجية.
وبهدف "خلق توازن قوى في آسيا"، قام بايدن باستضافة تحالف "كواد" (QUAD) خلال قمة عقدت في عام 2021، وهي القمة الأولى التي يشارك فيها قادة الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان مباشرة، حيث تعهدوا بالعمل من أجل الحرية في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، في إشارة للصين.
وبالإضافة إلى ذلك، شكّلت واشنطن مبادرة أمنية ثلاثية تحت مسمى "أوكوس" (AUKUS)"، بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بهدف تعميق التعاون الدبلوماسي والأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والعمل على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، في إشارة غير صريحة أيضا إلى الصين.
بالإضافة لمحاولة الإضرار بمبادرة "الحزام والطريق" والتي تعتبر عنوان النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني، وإنشاء نظام دفاعي اقتصادي وإستراتيجي ضد نفوذها الاقتصادي في المنطقة، من خلال "الممر الاقتصادي" الذي أعلن عنه بايدن خلال قمة العشرين 2023، والذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.
