ساعدت على إيجاد وحش جيوسياسي.. هكذا غيرت رحلة كيسنجر السرّية إلى الصين الحرب الباردة
براندز: انفتاح كيسنجر ونيكسون على الصين تذكير بأن ألد الأعداء يتصالحون من حين إلى آخر ، حتى لو استغرق الأمر سنوات عديدة وتخلله كثير من الاضطرابات حتى يتم.
اجتماع نيكسون (يمين) وماو تسي تونغ عام 1972 كان دليلا على تحول كبير في العلاقة بين البلدين (غيتي)
19/7/2021
لئن كانت الصين احتفلت الشهر الحالي بالذكرى المئوية لميلاد الحزب الشيوعي الصيني وحذّرت أعداءها من أنهم إنما "يضربون رؤوسهم بسور من الفولاذ"، فإن هذا الشهر يصادف كذلك الذكرى الـ50 للحظة أكثر تفاؤلًا في العلاقات الصينية الأميركية: رحلة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر السرّية إلى بكين في عام 1971.
هذا ما يراه الكاتب بموقع "بلومبيرغ" (Bloomberg) والخبير في العلوم السياسية هال براندز في مقال له أوضح في بدايته أن اجتماعات كيسنجر الذي كان آنذاك مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون مع رئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي وضعت حدا لعقود من العداء بين البلدين ومهدت الطريق لشراكة إستراتيجية تاريخية.
واليوم وبينما تسير الصين والولايات المتحدة نحو المواجهة، وفقا للكاتب، "من المغري النظر إلى الانفتاح على بكين على أنه بداية ما يقرب من 50 عامًا من الانخراط الخطأ إلى جانب قوة، هي في الأساس معادية، وإن كان من المهم التذكير بأن الافتتاح بدأ كسياسة ذكية ومتشددة ساعدت على الانتصار في الحرب الباردة وغيرت علاقة الصين بالعالم".
وأبرز براندز أن التقارب بين الولايات المتحدة والصين في تلك المرحلة كان وظل مدة طويلة بعد ذلك أمرا مخالفا للتوقعات، مذكرا بأن الصين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت، لدى بقية دول العالم، دولة مارقة بما في الكلمة من معنى، إذ كانت أكثر تطرفا بكثير من حليفها الشيوعي الاتحاد السوفياتي.
ولفت في هذا الصدد إلى أن سياسات الزعيم الصيني ماو تسي تونغ أدّت إلى مقتل عشرات الملايين من شعبه في ما عرف بحملة "القفزة العظيمة إلى الأمام" والثورة الثقافية. كما خاضت بكين حربين غير معلنتين ضد الولايات المتحدة، في كوريا وفيتنام، فضلا عن تشجيعها التمرد والثورة في العالم النامي.
وذكر براندز، وهو أستاذ متخصص في هنري كيسنجر بجامعة جونز هوبكنز، أن الولايات المتحدة قررت اللعب على وتر التوتر بين بكين وموسكو اللتين كادتا أن تدخلا في مواجهة عسكرية مع نهاية الستينيات، وذلك جعل ماو الذي كان يعاني عزلة تامة بعد جنون الثورة الثقافية يقتنع بأن عليه استخدام "الهمجيين البعيدين" (الأميركيين) لإبعاد "الهمجيين القريبين" (السوفيات).
تحتفل الصين بمرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني الحاكم (رويترز)
والنتيجة، حسب براندز، هي ما ذكره في كتابه الجديد "نضال الشفق" (The Twilight Struggle) أن رقصة دبلوماسية خفية أدّت إلى رحلة كيسنجر إلى بكين، تلتها زيارة نيكسون في العام التالي، ليتوّج ذلك بظهور تحالف ضمني غيّر الحرب الباردة.
وبما أنه كان على الاتحاد السوفياتي وقتئذ احتواء خصمين قويين يعملان على مواجهته، فإن ذلك كان مصدر قلق لموسكو، إذ أصبحت مضطرة إلى الوقوف في وجه خصمين لدودين، حلف شمال الأطلسي والصين، وفقا لبراندز. لا يوجد أمل في تحسن العلاقات الأميركية الصينية على المدى القريب، وقد يكون البحث عن اختراق دبلوماسي كبير أمرًا خطِرًا في الواقع إذا صُرف انتباه واشنطن عن الإجراءات العاجلة لتعزيز دفاعاتها في المجالات العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية للمنافسة.
ويؤكد الكاتب أن هذه الشراكة الجديدة سهّلت الإصلاحات الاقتصادية التي دفعت الصين نحو الازدهار الرأسمالي بعد وفاة ماو، فمثّل ذلك خنجرا أيديولوجيا في قلب نموذج موسكو الاشتراكي الراكد.
وكسرت بذلك الصين، حسب الكاتب، عزلتها الدولية، وتمكنت من الوصول إلى المؤسسات العالمية والاقتصاد العالمي، وشرعت في تلقي معلومات استخباراتية وتكنولوجيا وسلع عسكرية قيّمة من الولايات المتحدة، فضلًا عن المساعدات والتجارة والاستثمار من حلفاء أميركا المقربين مثل اليابان، وهذا يعني من نواح كثيرة أن الانفتاح الذي صاغه كيسنجر هيأ الظروف العالمية لنهوض الصين.
وبعد 50 عامًا، يقول براندز إن هذا قد يبدو خطأ فادحًا، إذ إن الولايات المتحدة أوجدت وحشًا جيوسياسيًا، وتفترض بسذاجة أن هذا الوحش سيصبح مع الزمن لين الجانب، ومع ذلك، كان كيسنجر ونيكسون واقعيين في البداية، وفقا للكاتب.
لقد أدركت الإدارة الأميركية آنذاك، حسب الكاتب، أن إعادة العلاقات تتطلب بعض التنازلات الأخلاقية البغيضة، مثل التخلي عن تايوان، أحد أكثر حلفاء أميركا ولاءً لها، وإغواء لماو، وذلك يعني أن الثمن الأخلاقي للمصالحة كان باهظًا لكنه لم يكن أعلى من الفوائد الأخلاقية والإستراتيجية التي جلبها التفوق لموسكو والانتصار في الحرب الباردة، وفقا للكاتب.
ويرى براندز أن المشكلة الحقيقية جاءت في وقت لاحق، إذ كان من المفترض أن تؤدي حملة ساحة تيانانمن في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي بعد ذلك بعامين إلى تعزيز إعادة تقييم أساسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه بكين ووضع حد لتزاوج المصالح الجيوسياسية الذي دُشّن عام 1971.
وبدلًا من ذلك، يقول الكاتب إن واشنطن ضاعفت انخراطها مع الصين 3 مرات، على أمل أن تؤدي قوى العولمة والليبرالية في النهاية إلى تغيير نظام وحشي عنيد، وقد أدى الجمود في تلك السياسة، فضلا عن إدمان الولايات المتحدة التجارة مع الصين، إلى استمرارها مدة عقد على الأقل.
وفي الوقت الحالي، كما يرى براندز، لا يوجد أمل في تحسن العلاقات الأميركية الصينية على المدى القريب، وقد يكون البحث عن اختراق دبلوماسي كبير أمرًا خطِرًا في الواقع إذا صُرف انتباه واشنطن عن الإجراءات العاجلة لتعزيز دفاعاتها في المجالات العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية للمنافسة. ولكن انفتاح كيسنجر ونيكسون على الصين تذكير بأن ألد الأعداء يتصالحون من حين إلى آخر، حتى لو استغرق الأمر سنوات عديدة وتخلله كثير من الاضطرابات حتى يتم.
المصدر : بلومبيرغ