لاحظ هنا أن قناع أبي عبيدة والجهل بهويته يُصعِّب على الإعلام الغربي ما يقوم به عادة، إذ اعتاد أن يُقدِّم قادة المقاومة على أنهم يعيشون في الخارج بينما يموت الناس في غزة، لكنه لا يذكر أبدا أن أبناءهم يموتون في القطاع مثل بقية سكانه، كما يتجاهل الإعلام الغربي أيضا ذكر الأسباب الموضوعية لوجود هؤلاء القادة في الخارج.
ولكن في حالة أبي عبيدة سيكون من الصعب استغلال أنصاف معلومات لبناء سردية مضادة تَحُول بين المشاهد أو القارئ وبين فهم الطبيعة العميقة للصراع، ومن ثَمّ فمن السهل أن يتحوَّل الملثم، الذي يجهل الناس هويته أصلا، إلى رمز للبطولة في وجه الإمبريالية.
لنعُد هنا إلى الحديث عن صمود رمز أبي عبيدة طوال تلك الشهور بما فيها من آلام وليالٍ حالكة. بعد 10 أيام فقط من حرب الإبادة الجماعية التي شنها جيش الاحتلال على سكان غزة، كان حجم ما ألقته من متفجرات على القطاع يوازي ربع قنبلة نووية، وبحلول نهاية أبريل/نيسان، كان عدد ضحايا حرب الإبادة قد تعدى 35 ألفا.
ولتوضيح الأمر لنا أن نعرف أن اليابان في
الحرب العالمية الثانية، التي تزيد مساحتها على مساحة غزة بنحو ألف ضعف، استسلم نظامها الشرس بعد إلقاء قنبلتيْن نوويتيْن، أما المقاومة الشعبية في بلد محروم من السيادة الحقيقية، وفي جيب جغرافيّ صغير مُحاصر، فلا تزال صامدة رافضة للاستسلام ومدافعة عن الحق التاريخي لشعبها لا عن نظام حُكم.
لقد كان منطقيا أن يكتسب أبو عبيدة كل هذا الزخم في الشارع العربي في بداية طوفان الأقصى، فالنجاح الذي تحقق في العملية جعل القلوب ترتبط بالمقاومة، لكن الغريب أن أبا عبيدة لا يزال رمزا حتى اللحظة بعد كل التضحيات التي قدَّمها الفلسطينيون.
فلا يزال بكلمة "الأردن منا ونحن منه" قادرا على تحريك الشارع في الأردن وإعطاء زخم مختلف للمشهد السياسي، بل وقد التقطت صور في العاصمة الأردنية لحفل خطوبة توقف فيه الأهل والضيوف عن الاحتفال ليستمعوا إلى كلمة لأبي عبيدة عبر مكبرات الصوت. وفي العاصمة العُمانية مسقط التُقطت صور لشباب تجمعوا قرب مسجد السلطان قابوس ليستمعوا إلى الخطاب، فضلا عن مشاركات لا حصر لها على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي.
أصبح واضحا أن أبا عبيدة صار رمزا معبرا عن صوت المقاومة لم تكسره قوة تفجيرية تجاوزت ثلاث قنابل نووية، ولا يزال قادرا حتى بعد كل تلك التضحيات والليالي الحالكة على حشد اهتمام العالم العربي. لقد تهيأت الظروف لتجعل التواصل الإعلامي من خلال أبي عبيدة الأنجح على الإطلاق في تاريخ تواصل الجيوش مع شعوبها في العالم العربي، حتى وصل الأمر إلى تحوُّل الناطق العسكري لأيقونة في حد ذاته تمثل قيم المقاومة والكرامة والاستقلال.
لقد كانت البداية الحقيقية لقصة أبي عبيدة مع الشارع العربي في يونيو/حزيران 2006، حين أعلن عن نجاح المقاومة في تنفيذ عملية "الوهم المتبدد"، التي أدت إلى قتل جنديين من جيش الاحتلال، وجرح اثنين آخرين، وأسر الجندي جلعاد شاليط.
وقد جاء خطاب أبي عبيدة بعد أيام من المقطع المُصوَّر الذي أبكى العَرَب للطفلة هدى التي أخذت تجري بين جثث عائلتها تنادي "يا بابا يا بابا" على إثر المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في شاطئ منطقة بيت لاهيا، واستشهد جرّاءها الأب "عيسى غالية" وزوجته "رئيسة" وأبناؤهم الخمسة.
أتى صوت أبو عبيدة الحازم مُعلِنا عن نجاح عملية المقاومة أشبه بعناق مواساة للأمة العربية والإسلامية وإعلان صريح عن أن الكرامة لم تمت، وكأن خطابه يقول: "للبيت رب وللطفل أب"، وتتابعت الأحداث حتى وصلنا إلى حرب السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 التي تحوَّل معها إلى بطل الجماهير العربية، التي شعرت بأن هذا زعيمها الملهم الحقيقي الذي أرادته ولم تجده منذ سنوات بعيدة.
بمعنى آخر، فإن رمزية أبي عبيدة لا تكمن في أنه متحدث بارع يمتلك ناصية التواصل الإعلامي بقدر ما تكمن في أنه كان تجسيدا في العقل العربي للمقاومين على الأرض ولسانا فصيحا لهم. إن ما جعل أبا عبيدة يكسب كل تلك الشعبية التي لم تكتسبها بالقدر نفسه بعض الكوادر السياسية للمقاومة، هو أن الشعب العربي استشعر في خطابه أنه ليس سياسيا بقدر ما رأى فيه شاعرا يعبر بموسيقى الكلمات عن الملحمة التي يخطها المقاومون في المعارك.
وربما تظهر هنا البراعة الإدارية للمقاومة، فسرعان ما تفهمت المقاومة أن أبا عبيدة قد تحوّل إلى رمز بحد ذاته وليس ناطقا عسكريا فحسب، وقد ارتبطت به الشعوب العربية كما لم ترتبط بأحد من قبل.
ولذا احترمت المقاومة هذه المشاعر العربية فأجادت التعامل مع أيقونة أبي عبيدة، إذ حرصت من جهة على حياته حرصا كبيرا، ومن جهة أخرى حرصت على ألا يتم استهلاكه تماما حتى لا يفقد حضوره معناه، فأصبحت المقاومة تتخير اللحظة المناسبة لظهوره، بحيث يكون ظهوره نادرا فتزيد فاعليته، خاصة أن الكثير من العرب أصبحوا يعتبرونه دواءً قادرا على إشعال الأمل مهما بدت الليالي حالكة.
أصبح أبو عبيدة رمزا مؤثرا إلى حد أبعد بكثير من مجرد كونه الناطق العسكري. فهو أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لدى جيش الاحتلال، ورغم أن إعلان وزارة الخزانة الأمريكية أثناء هذه الحرب عن إصدار عقوبات بحقه قد أثار سخرية واسعة لأن العقوبات تكون متعلقة عادة بمصادرة وحظر ممتلكات الشخص أو مصالحه داخل الولايات المتحدة، وأبو عبيدة في النهاية رجل اختار أن يعيش وسط الحرب والتضحيات؛ فإن اهتمام واشنطن بإدراجه في قائمة العقوبات يعني انتباهها لأهميته.
جدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تهتم على الإطلاق بإدراج محمد سعيد الصحاف، على سبيل المثال، الذي أدار الحرب من ناحية نظام صدام حسين على المستوى الإعلامي وقت الغزو الأمريكي للعراق، في قائمة المطلوبين لديها ولم تهتم به كشخص ينبغي الانتقام منه أو تعقبه، ووفق روايته الشخصية فقد سلم نفسه للجيش الأمريكي ثم سُمح له بالمغادرة. لكن يبدو أن الأمر مع أبو عبيدة مختلفًا فهو أكثر من مجرد ناطق باسم نظام أو فصيل، وإنما بات رمزا شعبيا للمقاومة.
لا يعرف أحد معلومات وافرة دقيقة عن شخصية أبي عبيدة، فحتى القائد العام لكتائب القسام "محمد ضيف"، المطلوب الأول لجيش الاحتلال، نعرف بعض تاريخه، ويعرفه الاحتلال الذي اعتقله، وله صور قديمة نادرة. أما أبو عبيدة، فلا تتوفر حتى صور قديمة موثوقة للرجل في بداية حياته. فحين ظهر في البداية وبدأت شعبيته تتسع، تجاهلته إسرائيل، لكنه أصبح مع مرور السنوات من أهم المواضيع التي تتناولها البرامج التلفزيونية الإسرائيلية، وصارت كل خطاباته تُترجَم سريعا في وسائل إعلام الاحتلال.
ومع تزايد اهتمام حكومة الاحتلال بشخصية أبي عبيدة واعتباره أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لديها بسبب الحرب الإعلامية والنفسية التي يقودها، بدأت تل أبيب تنسج روايتها عنه وادَّعت أنها تعرف اسمه وصورته، كما زعمت أكثر من مرة في أعوام 2008 و2012 و2014 إنها قَصَفت منزله.
تذكر الرواية الإسرائيلية أيضا أن أبا عبيدة ينحدر من قرية "نعليا" التي احتلها الصهاينة عام 1948، وأن أسرته نزحت بعد النكبة إلى منطقة جباليا شمال شرقي غزة. وقالت الصحافة العبرية عام 2014 إن الرجل إلى جانب عمله القيادي في القسام يستكمل دراساته الأكاديمية في جامعة غزة، إذ يكتب رسالة الدكتوراه بعد أن ناقش رسالة الماجستير في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية تحت عنوان "الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام".
وهي كلها تفاصيل لم تثبت صحتها من أي جهة فلسطينية موثوق بها، وربما تكون جانبا من محاولة إعلام الاحتلال نسج روايات لقدرتها النافذة على الوصول إلى معلومات عن رجال المقاومة، من دون أن يكون ذلك صحيحا فعلا. وسواء صحت المعلومات المتناثرة عن أبي عبيدة أو لا، فلن يتغير تعلُّق الجماهير به، النابع من كونه صوت المقاومة الذي امتزج بوجدانهم وأحيا آمالهم في الحرية والكرامة.