مسودة قانون لتجنيد الحريديم في الجيش يثير الجدل بإسرائيل (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي - عضو مجلس السيادة الانتقالي في السودان (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 1 - عددالزوار : 7 )           »          مقال في "نيويورك تايمز": ترامب فوق القانون (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الجنرال محمد إدريس ديبي - رئيس المجلس الانتقالي في تشاد (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 5 - عددالزوار : 2404 )           »          الجيش الأحمر.. قصة منظمة زرعت الرعب في ألمانيا واغتالت شخصيات هامة (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          البنتاغون: إسرائيل ستشارك في تأمين الميناء المؤقت بغزة (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          جرائم الحرب (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          جرائم ضد الإنسانية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          التطهير العرقي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          تنظيم الدولة يتبنى هجوم موسكو وسط إدانات دولية ونفي أوكراني بالضلوع فيه (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 2 - عددالزوار : 63 )           »          احتكاك عسكري بين روسيا وأميركا في القطب الشمالي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          صحيفة روسية: الناتو مستعد للحرب ضد روسيا منذ 10 سنوات (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          ولاية ألاسكا.. تنازلت عنها الإمبراطورية الروسية واشترتها أميركا (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 5 - عددالزوار : 60 )           »          حزب الله يستهدف موقع رادار ومنصتين للقبة الحديدية الإسرائيلية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          بعد عامين من إنشائه.. ما هو حال قراصنة "جيش أوكرانيا الإلكتروني"؟ (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »         



 
العودة   ..[ البســـالة ].. > جـناح التــاريخ العسكــري و القيادة > قســـــم التــاريخ العـســــكــري
التعليمـــات قائمة الأعضاء وسام التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة
 


حرب العصابات

قســـــم التــاريخ العـســــكــري


إضافة رد
 
أدوات الموضوع

قديم 30-04-09, 08:29 AM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي حرب العصابات



 



إهداء
نهدي هذا الكتاب إلى ذكرى كاميلو سيانفويغوس[1]. كان مفروضاً أن يعيد قراءته ويُجري فيه التصحيحات اللازمة، إلا أن القدر لم يتح له ذلك. ويمكن اعتبار هذه السطور تكريماً من الجيش الثائر[2] إلى رائده الكبير، إلى أعظم قائد مغاور[3] أنجنبته هذه الثورة، إلى الثوري الناصع، إلى الصديق الأخ.
كان كاميلو رفيق مئة قتال، كان موضع ثقة فيدل في اللحظات العصبية من الحرب، كان المناضل المفعم نكراناً للذات، الذي أتخذ الفداء دوماً أداة لإسقاط طبعه وتصليب طباع الجنود. أعتقد أنه كان قميناً أن يوافق على هذا الكتاب الوجيز الذي جمعت فيه تجاربنا في حرب الغوار[4]، لأنها نتاج الحياة ذاتها. إلا أنه كان خليقاً أن يرفد هذه الصفحات بالحيوية العميقة التي يفيض بها خلقه وذكاؤه وإقدامه، تلك الصفات التي لا تبلغ مثل هذا الكمال إلا في نفر من شخصيات التاريخ.
بيد أنه لا ينبغي للمرء أن يتصور كاميلو كبطل أسطوري، يحقق مآثر خارقة بحافز من عبقريته وحدها. يجب النظر إليه كفيض من الشعب الذي صنعه، على نحو ما يصنع أبطاله وشهداءه وقادته، في الأصطفاء العظيم إبان النضال وظروفه القاسية.
لا ادري هل كان كاميلو يعرف قولة دانتون بصدد الحركات الثورية: "الإقدام، ثم الإقدام، الإقدام أبداً!". على أية حال، كان كاميلو قد مارسها في أعماله بعد أن قرنها بالضرورات الخاصة بالمغاور، وهي تحليل الوضع بدقة وسرعة، وملكة التنبؤ بالمسائل التي يطرحها المستقبل.
وإذا كانت هذه السطور بمثابة تكريم شخصي وتكريم شعب بأسره لبطلنا في آن، فهي لا تستهدف أن تروي سيرته وتقص مآثره، إلا أنني أقول إن كاميلو كان رجل ألف مأثرة، كان يرسلها بصورة طبيعية، إذ كان، إلى جرأته واحترامه للشعب، يجمع شخصيته الخاصة، ذلك العنصر الذي كثيراً ما يُنسى ويُنكر شأنه، والذي كان كاميلو يطبع به كل ما يخصه. إنها الاصالة الثمينة التي قلما تجد رجالاً يدمغون بها كل عمل من أعمالهم. لقد قالها فيدل مرة: لم تأته ثقافته من الكتب، بل كان له ذكاء الشعب الفطري، فاختاره الشعب بين ألف رجل ليرفعه إلى المكانة الممتازة التي تبوّأها بفضل إقدام وصلابة وذكاء واجتهاد لا مثيل لها.
كان كاميلو يمارس الصدق ديناً، وقد نذر نفسه له: الصدق تجاه فيدل الذي يجسد بشخصه إرادة الشعب، والصدق تجاه الشعب ذاته. كانت هاتان العاطفتان لا تنفصمان لدى هذا المغاور الغلاّب، تتلاحمان تلاحم فيدل والشعب.
حرّي بنا أن نتساءل: من الذي أزال كيانه الجسماني من الوجود؟ لأن حياة أمثاله تتمادى في الشعب ولا تنتهي إلا عندما يقرر الشعب ذلك.
إن العدو هو الذي قتله، لأنه كان يبغي موته، لأنه ليس ثمة طائرات مضمونة، لأن ملاحيها لا يستطيعون اكتساب كل الخبرة اللازمة، ولأنه وهو مثقل بالأعمال، كان يريد الوصول إلى لا هابانا[5] بأسرع وقت... وإن ما قتله هو طبعه أيضاً، لم يكن كاميلو يرزن الخطر، كان يستخدمه اللإلهاء، يداعبه، ويثيره كما تثار ثيران الحلبة، يجتذبه ويداوره. ففي عقليته الغوارية لم تكن هناك عثرة تستطيع إيقاف أو تشويه الخط الذي ارتسمه لنفسه.
ذهب عندما كان شعب بأسره قد عرفه وأعجب به وأحبه. كان من الممكن أن يحدث ذلك في وقت أبكر وكانت سيرته عندئذ لن تعدو سيرة أي قائد مغاور. قال فيدل: سوف يجيء كثير من مثال كاميلو، ويمكنني الإضافة أنه ظهر كثير من مثل كاميلو، وقد انتهت حياتهم قبل أن يتموا ذات الدورة الرائعة التي أدخلتهم في التاريخ. إن كاميلو، والكاميلويين الآخرين (الذين لم يحققوا أنفسهم، والقادمين)، هم البرهان على قوة الشعب، والتعبير الأسمى عما يمكن أن تنجبه أمة شاكية السلاح دفاعاً عن أصفى مثلها العليا وعن إيمانها في إنجاز أنبل غاياتها.
لن نثبِّته لنحبسه في قالب، ففي ذلك قتله. لندعه هكذا، على هيئة ملامح، دون تحديد دقيق لفكرانه[6] الاجتماعي والاقتصادي الذي لم يكن محدداً تماماً. ولنتذكر فقط أنه لم يوجد في هذه الحرب التحررية جندي يضارع كاميلو. ثوري مكتمل، رجل شعبي، صنّاع في هذه الثورة التي صنعتها الأمة الكوبية لنفسها، لم يكن عقله ليتصور أقل هنة من الإعياء أو القنوط. إن كاميلو المغاور هو موضوع دائم للتخيل كل يوم. إنه الذي فعل هذا أو ذاك من الأعمال، "شيئاً من كاميلو"، إنه الذي طبع الثورة الكوبية بسمته الدقيقة التي لا تَمحي، والذي يبقى حاضراً في قلوب كل من لم يحققوا أنفسهم والقادمين.
إن كاميلو، في تجدده المستمر الخالد، هو صورة الشعب.

- تشي غيفارا -







مدخل
إنقضى عام على كتابة هذه المقدمة. ومن نافلة القول إنه لو قدر لي أن أكتبها اليوم لفعلت بشكل آخر. فموت تشي غيفارا في الظروف المثيرة التي نعرف، يكاد يضفي على كل شيء معنى جديداً كل الجدة، وبالتالي على بعض هذه السطور البائسة. وأولها، مثلاً، لحظة، أتصوره فيها يقرأ هذه الصفحات بانتقاده اللاذع الذي عرف عنه عل الدوام، أو السطور التي تتحدث عن رحيله عن كوبا، وقد كتبت عندما كان الأعداء ينشرون عن هذا الرحيل الإشاعات المتجنية، واليوم نعرف أنه في تشرين الثاني 1966 بدأ يكتب يوميّته الأخيرة، في الغوار البولفي. لقد سمع العالم، في ربيع 1967، رسالته الرائعة إلى مؤتمر القارات الثلاث التي سحقت، في جملة ما سحقت، تلك الافتراءات، وأكدت بعد نظرته، وعمق فكره وتلاحمه وشجاعته العجيبة.


 

 


 

   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:31 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 


تشرين الأول 1967
"إن الأساس الأول الذي يجب أن تبنى عليه الحركة (حركة الغوار) هو الكتمان المطلق، وإنعدام تسرب المعلومات إلى العدو"، هذا ما كتبه في حرب الغوار الذي ظهر عام 1960، المقدم أرنستو غيفارا، الذي ندعوه في كوبا تشي، للسبب ذاته الذي حملنا على أن ندعو أنتونيوميلا A. Mella الشيكو عندما كان منفياً في المكسيك. إن ما يمنع تشي من أن يرتِّب بنفسه هذه الأوراق ويقدِّم المنشود واقعة أنه انقطع منذ عام لمهمة ثورية جديدة يرافقها، حسب نصيحته هو، "كتمان مطلق" و "انعدام في تسرب المعلومات إلى العدو".
وإذا كان هذا التفسير يبرر هنا غياب اسمه، فلا شيء يبرر، بالمقابل، وجود اسمي، ويؤسفني ألا يكون التواضع التاكتيكي المعتاد في حالات مماثلة هو الذي يحملني على هذا القول. يجب علي، لأسباب سأوضحها في الحال، أن أضع الورقة على الطاولة ولو أدى ذلك إلى ملل القارىء. فإذا كنت قد قبلت دعوة الناشرين لكتابة هذه المقدمة فلأني عوَّلت منذ زمن طويل على المساهمة في نشر فكر العالم الثالث (عدا عن السرور الساذج لأن أرى اسمي يقترن بصورة ما باسم رجل أكن له أكبر الإعجاب)؛ لأن هذا النشر يجب أن يتم في الوقت الذي ندُل فيه على أصالة هذا الفكر، وأخيراً، لأني اقترحت نشر هذه النصوص إذ وجدت نشرها نافعاً، مما أجبرني بصورة من الصور على كتابة هذه الكلمات. إن للقارىء ملء الحق أن يتساءل عن سبب هذه التصريحات. وها إني أقدم له ورقتي الأخيرة. لقد كتبتها على الأخص للمقدم غيفارا، ليرى، عندما يصله هذا الكتاب، أني نبشت أوراقه، فتخيرت منها ما تخيرت وطرحت ماطرحت، بل وقدمت بعض الكلمات. وإني أتخيل بسهولة ابتسامتك وتعليقك. وأسمح لنفسي، أيها المقدم، بأن أجيبك أنَّ ما فعلته كان يجب أن يفغله غيري، وأنك على أية حال ستستاء من هذا الفعل، وأنك، إذا أسفت لغياب نص أو بدا لك غيره عديم الجدوى، فلدي من الأسباب ما يكفي لتبرير هذا الانتقاء. لم أسترسل في هذا العمل بدافع من رأيي وحده، رغم أن هذا الرأي كان، في نهاية المطاف أكثر الآراء مسؤولية: فقد استشرت أصدقاء أفضل مراناً مني في المسائل السياسية (وبعضهم يعرفونك)، حتى انتهى بنا الأمر إلى الإبقاء على هذا الانتقاء. أعدت قراءتها دفعة واحدة فبدت لي جيدة، وبدت لي مجدية.
والآن يجب علي أن أتوجه إلى القارىء: ولد أرنستو غيفارا في بوينوس ايرس، عام 1928، في أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. كان أبوه مهندساً. فثقفه الثقافة المتناسبة مع وضعه: تعلّم لغة ثانية (اللغة الفرنسية) ومهنته رفيعة: الطب، هذه المهنة التي يقول عنها الناس جميعاً ويؤمن البعض إنها كهنوت. قرأ كثيراً، الأدب والسياسة وهو في القناصة، كما قرأ سبنغلر وفرويد. وقد يكون فرويد هو الذي وجهه نحو الطب. كان يرتاد الجماعات الطلابية المتمردة دون أن يناضل في أي اتجاه خاص. وكان قد شعر، حتى قبل أن ينهي دروسه بأن شيئاً آخر يجذبه إليه. مارس الطب في مستشفى للبرص في سانتياغو ديل أستيرو. وأراد أن يتعرف إلى القارة فانطلق لاستكشافها، على دراجة نارية، مع أحد الأصدقاء، وقطعها من الأرجنتين إلى فنزويلا وتوقف في ميامي حيث أعيد إلى الأرجنتين في طائرة كانت تنقل خيول سباق. والأرجح أنه تجلى له في ذلك الوقت ما تجلى لمارتي Marti في زمنه: وحدة بلادنا وحدة عميقة لا تتحطم، وحدة تتجاوز الحدود المصطنعة. والأرجح أنه بدأ في تلك اللحظة يشعر بأميركيته – اللاتينية. وفي البيرو، وغواتيمالا، والمكسيك – ثم في كوبا على الأخص – سيتثبت مما طرحت هذه الأسفار أمام ناظريه: البؤس، والعري والهوية العميقة لأرضنا الهجين.
وإذا كان الوضع الخاص للبلاد التي ولد فيها يبدو له مبهماً وبدفعه للبحث عن سماوات أخرى (كان ذلك أيام البيرونية)، فإن هذه السماوات ستتبناه وستحوله. والغريب أن الذين كانوا يتحدثون إليه، كانوا يجدون أن لهجته ليست أرجنتينية، ولا مكسيكية، ولا كوبية. دون أن تكون بطبيعة الحال، تلك اللهجة الإسبانية المجردة الشاحبة، لهجة بعض أستاذة اللغة في بلاد أجنبية: إنها في الواقع، ما كان أدنامونو يقترح، بالنسبة لقارتنا، في مجال اللغة: فوق الكاستيلانية. فكل واحد منا يعترف بها لغة له رغم أن لديه في الوقت ذاته شيئاً ما من مكان آخر. وهذا المكان الثاني قد لا يكون شيئاً آخر سوى الشمول ذاته، سوى أميركتنا بمجموعها. ألا نستطيع التخمين بأن لغة مارتي الإسبانية يجب أن تكون كذلك؟ لغة لا تصطبغ بالصبغة الكوبية قدر صبغتها الإسبانية – الأميركية؟ (حتى لو كان التأثير الكوبي سائداً. إذ تحدث أوربينا عن لهجته الساحلية).
توقفت عند هذه النقطة لأني أعتقد أن هذه دلالة إضافية على أن "تشي"، كمارتي، يفكر، بل ويشعر أيضاً أنه أميركي – لاتيني ويتكلم كأميركي – لاتيني تماماً كما يشعر غيره أنه ينتمي إلى بلد من البلدان أو حتى إلى منطقة من هذه البلاد. لم يكن لديه أي صلف قومي، بل نوع من المرارة القارية المسؤولة: فكل ما يفرقنا كان يبدو له عبثاً حيال المشكلات الواقعية والمشتركة التي يجب أن نعقد العزم على مجابهتها مجابهة واقعية ومشتركة.
في عام 1954 كان أرنستو غيفارا في غواتيمالا. جذبته إليها الإمكانيات الثورية التي كانت تعيشها تلك البلاد. هذه الإمكانيات حصدتها بقسوة جيوش كاستيلو آرماس، أجيرة حكومة أميركا الشمالية. وكانت هذه الحكومة قد تعاونت مع أجرائها في كاراكاس على القضاء على نظام لم يكن (كما نراه اليوم) سوى نظام خجول في تقدميته. كان غيفارا بين أولئك الذين اجتازوا الحدود المكسيكية بعد أن انتظروا عبثاً وصول الأسلحة ليقاتلوا، وبعد أن شعروا في لحمهم بغلظة حكومة لاتدين بمبدأ: هذه الحكومة هي التي قدر لها بعد سبع سنوات أن ترسل مرتزقة آخرين ضد كوبا، وأن تُنزل مباشرة بعد ستع سنين جيوشها في سان دومينيك.. وفي المكسيك كان غيفارا يكسب عيشه من أعمال تافهة، فعمل، مثلاً، مصوراً متجولاً. وفي ذلك الوقت التقى بفيدل كاسترو. وقد روى مقابلته معه كما يلي:
(... إن كاتب هذه السطور، الذي تقاذفته أمواج الحركات الاجتماعية التي تهز أميركا اللاتينية، قد أُتيحت له فرصة الالتقاء، لهذه الأسباب ذاتها بمنفي أميركي آخر: هو فيدل كاسترو.
"تعرفت إليه في أحدى الليالي الأميركية الباردة وأذكر أن حديثنا الأول دار حول السياسة الدولية: ففي ساعات الصباح الأولى، كنت واحداً من الغزاة المستقليين". (ذكريات من الحرب الثورية).
وقال أيضاً: "كان الأمر يستحق أن أموت على شاطىء أجنبي في سبيل مثل أعلى طاهر كهذا المثل" أما بقية حياة تشي فهي من شأن مؤرخي القارة أكثر مما هي من شأن كاتبي السير الشخصية. وبعد أن تدرب تشي في المكسيك رحل إلى كوبا في أواخر عام 1956. فكان واحداً من الـ 82 رجلاً الذين نزلوا في غرانما. ولحسن حظنا أنه لم يكن واحداً من أبرز الشخصيات في تلك المأثرة فحسب، بل كان مؤرخها الأول، وهو أمر يجعل من العبث أن أذكر هنا تلك اللحظات التي وصفها وصفاً مدهشاً. أضف إلى هذا، أن لحظة النزول ذاتها كانت مادة لعمل أدبي عظيم: قصة جوليو كورتازار "اجتماع" التي أخذها عن رواية تشي، "أليغريا دي بيو Alegria de pio وعندما انتصرت الثورة في أول كانون الثاني 1959، برز تشي كأحد أوائل الزعماء، رغم إصابته بالربو المزمن، والمسؤول الذي قاد (مع كاميلو سيانفويغوس) غزو كوبا حسب أوامر فيدل كاسترو.
يجب أن ألفت الانتباه إلى بعض الأسفار التي قام بها تشي بعد انتصار الثورة. كان يعرف – كما قال هو نفسه عام 1961 في جامعة مونتيفيديو – جميع بلدان أميركا اللاتينية تقريباً. في عام 1959 زار بلداناً أخرى: ليرى مشكلاتنا "من الشرفة الآسيوية – الأفريقية": الجمهورية العربية المتحدة، وأندونيسيا، والهند

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:31 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

لقد انفتح عالمه، وصار بإمكانه أن يثبت من تماثل المشكلات لا في بلدان قارتنا فحسب، بل في القارات الثلاث النامية أيضاً. بيد أن الثورة الكوبية أسرع في مسيرتها وأعمق من ثورات هذه البلدان الأخرى: فقد تحولت عام 1960 إلى ثورة اشتراكية. وسافر تشي، في نهاية العام، إلى البلدان الاشتراكية. وتأكد فيها من قيام رابطة جديدة مع البلدان التي تبني الاشتراكية كبلادنا، وخاصة تلك التي تنطلق، مثل كوريا، من شروط التخلف الصناعي واضطرت لأن تدفع ثمناً رهيباً للاعتداءات. وعندما عاد بين سنتي 1964 و 1965 إلى البلدان النامية (إلى أفريقيا على وجه التحديد) عاد ممثلاً لثورة من ثورات العالم الثالث: ثورة يذوب فيها الخطان الكبيران لتجديد هذا العصر: ثورة ترتبط بالكفاح ضد الاستعمار وتصدر عن ثورة أوكتوبر وبديهي أن هذه الأسفار كانت أكثر من مجرد تنقلات: إنها علامات مرئية لفكر سيشرحه تشي شيئاً فشيئاً وبوضوح كبير.
ولقد بدأ هذا الفكر يعبَّر عن نفسه علناً منذ الأيام الأولى، في خطابه بتاريخ 28 / 1 / 1959، مثلاً، الذي نشر تحت عنوان "الدور الاجتماعي للجيش المتمرد".
في هذا الخطاب، يشرح لنا تشي كيف بدأت في الجيش المتمرد، انطلاقاً من فشل إضراب نيسان 1958، الجهود الأولى لإعطاء الثورة عقيدة ونظرية. بيد أن هذه الاهتمامات، بطبيعة الحال، لا تتضمن أبداً أن يكون تشي باحثاً نظرياً محضاً. فهو يقول في هذا الخطاب ذاته إن من أكبر صفات الثورة التي استولت لتوها على الحكم هو أنها "حطمت جميع نظريات الصالونات". ولا ينوي مطلقاً إعاداتها إلى ما كانت عليه. إن هدفه يختلف عن هذا اختلافاً تاماً، فيكتب في الصفحات الأولى من حرب الغوار (1960): رسالتنا الحالية أن نجعل من الواقعات نظرية، وأن نبني هذه التجربة ونعممها ليستفيد منها الآخرون" هذا التعريف لا بديل له فكومة الواقعات الثورية، بالنسبة للمراقب الذي تعوزه الدقة، حتى لو كان نصيراً مندفعاً، تحتاج لأن تكون لها بنية وأن تعمَّم. إنهما مهمتان نظريتان، تصلحان لما دعاه التوسر Althusser وبحق الممارسة النظرية: يجب أن نفكر في المعطيات لنستخلص منها صورة، ويجب أيضاً أن نميز الحادث الموضعي عن التجربة القابلة للتعميم. والأعداء يعون ذلك بطبيعة الحال: فهم يقترحون بسرعة على الثورات وجهاً خالياً تماماً من الجاذبية، زاعمين أنهم يعممون الأوجه المحلية السلبية بينما يتظاهرون بأنهم لا يرون في النجاحات الجوهرية سوى واقعات عارضة أو ثانوية. إن عمل تشي، إذاً، رسالة مكافحة لا تستسلم لنظريات الصالونات بل تتجه نحو النتائج العملية وتنطلق من مادة بناء هي أيضاً عملية وعاجلة وكانت الثورة الكوبية قد أثبتت، عام 1959، وجود طريق لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية في المستعمرات الخفية الأميركية اللاتينية. وكان من ضروري شرح مضمون هذا الطريق وتقديم نتائج مثل هذه التجربة للمحاربين القادمين: ذلك هو الأمر الذي كرس له تشي جزءاً كبيراً من جهوده خلال تلك السنة الحافلة بالعمل على وجه خاص، وكان نتاجها حرب الغوار الذي أعلن عن نفسه في مقال شباط 1959، "من هو المغاور؟". وفي السنوات التالية رأى ضرورياً أن يُجعل ذلك الكتاب من شؤون الساعة. فأدخل أفكاراً جديدة إلى كتابه "حرب الغوار، طريقة". وكان يريد أن يعيد كتابته إذ كان يضم تجارب أحدث عهداً. ومع ذلك فإن هذه الكتابة "يجب أن تنتظر بالتأكيد زمناً طويلاً"، كما ذكر لينين في نهاية كتابه الدولة والثورة، لأن تشي ارتأى هو أيضاً "أن من الأفضل والأجدى أن يعيش تجربة الثورة بدلاً من أن يكتب عنها".
إن القصد الذي يدفع تشي إلى التساؤل عن نظرية الثورة في تنميتها ليس أقل قيمة عملية. لكن قبل أن نتحدث عنه، يحسن بنا أن نشير هنا إلى كتاب آخر يتعلق بحرب الغوار من جهة أخرى: هو كتاب "ذكريات عن الحرب الثورية". لم تكن الاعتبارات الفكرية وحدها هي التي دفعت تشي إلى كتابته بذلك الأسلوب النثري العجيب الذي عرف عنه، الأسلوب الجامع المألوف، بل يجب القول أيضاً إنه الفنان الذي يكتب. ونحن هنا لا "نعمم"، بل نضع اليد، والذاكرة على شيء ملموس. وإذا كان الكتاب السابق دليلاً للعمل وهيكله العظمي، فإن الذكريات هي الجسم ذاته لذلك العمل، مع كائنات بشرية بطولية أو مترددة، سامية أو حقيرة – حقيقية في أية حال. إنه أكثر الكتب التي نشرت في كوبا في هذه السنوات الأخيرة، وقعاً في النفس.
إن الكتابين اللذين يعالجان الحرب الثورية – نظريتها وممارستها، إذا صح القول – هما الكتابان الوحيدان اللذان كتبهما تشي بصفتهما كتابين بنائين. لكنهما لم يكونا كل ما كتب تشي – وقال. بالعكس: اهتم منذ البداية بالأوجه الأخرى للثورة، وعبر عن هذه الاهتمامات سواء بشكل خطب، أو بشكل مقالات أو محاولات. وعالج، في كتبه، مسائل تتعلق بالتمرد، أي بالثورة قبل أن تستلم الحكم، في أول كانون الثاني 1959، وتصدى في خطبه ومقالاته، بصورة عامة، للمشكلات التي كانت تعترض الثورة بعد تسلمها الحكم. ولم تكن هذه المشكلات، من وجهة نظر فكرية، أقل تعقيداً من سابقاتها، ويحق لنا أن نعتقد أنها أكثر تعقيداً وتتطلب من القادة دأباً كبيراً في التخمين النظري وفي التطبيق العملي المناسب. وكان هؤلاء القادة، من جهة أخرى، قد وصلوا إلى السلطة في ريعان الشباب. فلم يكن فيدل كاسترو نفسه، عام 1959 يتجاوز الثلاثين من العمر إلا قليلاًُ. وسيقدم لنا هؤلاء الرجال مشهداً غير معتاد: فبدلاً من أن يعيش هؤلاء الشباب طي الكتمان تطوراً فكرياً قلما يكون غيرهم مطلعاً عليه لحظة العمل التاريخي، سيتطورون على مرأى ومسمع من الجميع. وسينهون تكوينهم عراة الجذور. لا لأنهم وصلوا إلى السلطة دون صفات كافية – للتثبت من الصلابة التي انطلقوا بها إلى القتال. نعيد إلى الذاكرة فقط الدفاع الرائع الذي ألقاه فيدل كاسترو عام 1952. "سينصفني التاريخ"- ، بل إن هذه الصفات ستنضج في الحكم، بمجابهة المشكلات الجديدة الهائلة. وسط واقع معقد، دولي وقومي على السواء، سيكون من الواجب جلاء غوامضه واحدا بعد الآخر. فكان السؤال الأول الذي وجب إذاً أن يطرحوه على أنفسهم هو ما هي الثورة. ما هي النظرية الثورية لهذا العمل الثوري؟
قال فيدل كاسترو، عام 1953، إن المسؤول المثقف عن الهجوم على ثكنة مونكادا - وبالتالي عن الأحداث التي سيثيرها هذا الهجوم في السنوات التي أعقبته – كان جوزيه مارتي. وقال تشي غيفارا الذي كان يعلم عام 1959 أن هذه الثورة تنقش في إطار مكافحة الاستعمار المعاصرة، في خط البلدان النامية، قال في بداية 1960، في 28 كانون الثاني:
"كان مارتي المرشد المباشر لثورتنا، الرجل الذي كان يجب على الدوام أن نرجع إلى كلامه لتفسير الظاهرات التي نحياها تفسيراً صحيحاً. لأن جوزيه مارتي أكثر من كوبي: إنه أميركي. إنه ملك البلدان العشرين كلها التي تضمها قارتنا.. ويعود لنا الشرف بإحياء كلمات جوزيه مارتي، في وطنه، حيثما ولد". كان تشي يخمن دون شك بأن مارتي هو أول مفكر في العالم الثالث ويصح هذا التصريح، إذ يؤكد ما قاله كاسترو قبل ذلك بست سنوات، لثورة من ثورات البلدان النامية. بيد أن ثمة أمراً آخر في هذه الكلمات يستحق أن نعيره انتباهنا هو استخدام الماضي. قال تشي: كان مارتي مرشدنا وكان يجب الرجوع إلى كلامه.. لا لأنه أنكر هذا الكلام، بل بالعكس. وكلامه، كان يجب أن نتذكر أنه نصحنا هو ذاته بأن نفعل "في كل لحظة ما هو ضروري في كل لحظة". وكان الواقع، أخيراً، قد طرح على ثورتنا التي كانت قد وصلت إلى الحكم مشكلات لا يمكن أن تكون بالضبط هي ذاتها المشكلات التي طرحت على مارتي، يوم لم يكن قد توصل إلى أن يرى بلاده حرة سياسياً. كانت هذه المشكلات المختلفة تتطلب منا أن نتصدى لها تصدياً أصيلاً. وكانت، بالتالي تقتضي منا إضفاء النظرية على هذه المقاربة التي لم تعد تلك التي عرفها مارتي. فمنذ استلامها السلطة كانت الثورة تتأصل في تبادل مأساوي للأعمال التأديبية الأميركية الشمالية والردود الكوبية. وقد استطاع تشي أن يقول إن القانون الأول للإصلاح الزراعي كان على الأرجح التدبير الوحيد الذي اتخذ مباشرة دون أن يكون جواباً على عدوان أميركي – شمالي. وفيما بعد، بدءاً من المقاومة العنيدة التي وجهتها الولايات المتحدة لهذا القانون الذي كانت كوبا تمارس به سيادتها – والذي يكاد يكون فاتحة أعمالها - ، ستكون القرارت الكبرى التي اتخذتها الحكومة الثورية هجمات كوبية مضادة للاعتداءات الأميركية، وقد بدأت هذه الاعتداءات بشكل حملة صحفية شعواء تبعتها تصريحات رسمية حتى وصلت إلى العدوان المادي وإلى الحصار، مروراً بما سبقه من وقف مشتريات السكر ورفض تكرير النفط الذي تشتريه كوبا من خارج الدائرة الأميركية الشمالية. وفي هذه الأثناء، وجدت الثورة الكوبية في الاتحاد السوفياتي سوقاً لسكّرها، ولقيت المساندة الحازمة من الطبقات الشعبية كما لقيت في البداية التباعد المطرد ثم العداء المكشوف مما كان يدعى البرجوازية الوطنية التي ارتبط مصيرها بمصير الولايات المتحدة. ليس ثمة أي شك بأن الثورة الكوبية، إذ وُضعت أمام أحد أمرين: أن تهلك بيدي الولايات المتحدة أو أن تتأصل بسرعة، قد اختارت هذه الإمكانية الثانية. وارتفعت أصوات الناقدين الكبار في العالم أجمع أنهم كانوا يعلمون بأن الثورة شيوعية. لقد كانوا يرون، في الواقع. ما لو توفر للعالم الاجتماعي روبرت ك. مرتون لاستخدمه مثالاً على "النبوءة المنجزة ذاتياً". وعندما نتجت بفعل الولايات المتحدة قضية شراء السكر الكوبي ورفض تكرير البترول السوفياتي في كوبا، وعمدت كوبا من جانبها إلى تأميمات مصافي التكرير الأميركية الشمالية في الأرض الكوبية، قال تشي، بتاريخ 28 تموز 1960، في مؤتمر الشبيبة المنعقد في هافانا:
"... إذا سئلت ما إذا كانت هذه الثورة التي ترون ثورة شيوعية... فسأقول إن هذه الثورة، إذا ما صارت ماركسية – وأقول ماركسية – فلأنها اكتشفت أيضاً، بأساليبها الخاصة، الطرق التي أشار إليها ماركس".
إثر هذا الاكتشاف، وجواباً للإدانة التي فرضتها على كوبا منظمة الدول الأميركية، في سان جوزيه، قرأ فيدل كاسترو على الشعب الذي اجتمع في تلك المناسبة في ساحة الثورة بتاريخ 2 ايلول 1960 ما وجب أن يصير تصريح هافانا الأول. وقد عبر هذا التصريح تعبيراً مضمراً عن الصفة الاشتراكية التي أخذتها الثورة على عاتقها. بعد ذلك بما ينوف عن الشهر، في 8 تشرين الأول، نشر تشي مذكراته بعنوان "مذكرات لدراسة إيديولوجية الثورة الكوبية"، وهي دراسة عميقة للموضوع. فهل أفسدت الصفة غير المهذبة في ظاهرها التي التصقت بالثورة المبدأ اللينيني القائل: لا حركة دون نظرية ثورية؟ ويجيب تشي متسائلاً:
"يحسن القول إن النظرية الثورية، كتعبير عن حقيقة اجتماعية، تسمو على كل بيان، وبعبارة أخرى، أن الثورة يمكن أن تتم إذا فسرنا تفسيراً صحيحاً الواقع التاريخي واستخدامنا استخداماً ملائماً القوى التي تتدخل في هذا الواقع، دون أن نعرف النظرية... يجب أن يكون المرء "ماركسياً" بالبساطة ذاتها التي يكون فيها "نيوتونياً" في الفيزياء و "باستورياً" في البيولوجيا، وبما أن الواقعات الجديدة تحدد مفاهيم جديدة، فإن ذلك لا ينزع أبداً جانب الحقيقة من المفاهيم التي أنقضت... يعني هذا، ويجب أن نشير إليه مرة أخرى، أن قوانين الماركسية حاضرة في أحداث الثورة الكوبية، بصورة مستقلة عن واقعة أن قادتها يجاهرون بهذه القوانين أو يعرفونها معرفة عميقة من الناحية النظرية

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:32 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

لقد توقفت عند هذه الإستشهادات، إلا أني أعتقد أنها تظهر بأكبر قدر من الصفاء والوضوح كيف أُعِد فكر الثورة الكوبية إعداداً تدريجياً، دون تخطيطات مبسطة قبلية، وكذلك دون خوف مما قد يلصق بها. وقد نشأت، من جهة أخرى، لدى فيدل أولاً، ولدى غيره من القادة الكبار أيضاً، إرادة إبعاد كل تضليل لغوي يدفعهم إلى رفض العبارة النمطية الجامدة لمصلحة الاقتراب من الواقعة عن طريق الشرح، ويمضي حتى يرتدي شكل الخطاب التعليمي الطويل الذي يلقيه فيدل كاسترو والذي تحدث عنه سارتر. إن القول أن كوبا تمضي في طريقها لإقامة ديكتاتورية مثلاً لن يفيد شيئاً كثيراً بل قد يزعج المراقب قليل الحذر. فالأفضل أن نشرح ما يجري فيها. وعندما تتلقى هذه الواقعة، بصورة لاحقة، اسماً، فسيكون هذا الاسم غنياً في مغزاه بدلاً من أن يكون صيغة جوفاء رنانة أو يحدث ارتكاسات انفعالية متأصلة الجذور تستطيع الممارسة وحدها توضيحها. وهكذا لم نقم بالثورة الاشتراكية إلا بعد أن اتخذت الثورة الكوبية تدابير اشتراكية، عام 1960، خاص في نصف الثاني منها، مدفوعة بالواقعات ذاتها، حتى بعد أن قوبلت بحماس عدالة هذه التدابير لدى صدور تصريح هافانا الثاني، والتي أكدها فيدل كاسترو، عشية الغزو، في 16 نيسان 1961. في تلك الفترة شرح تشي في نص جوهري ("كوبا، شذوذ تاريخي، أم طليعة الكفاح ضد الاستعمار"، (نشر بتاريخ 9 نيسان 1961)، أصالة الثورة الكوبية، الحركة التي اتبعت، رغم أنها "مارقة إلى حد كبير بأشكالها وبمظاهرها – ولم يكن بمقدورها إلا أن تتبع – الخط العام لجميع أحداث القرن التاريخية الكبرى، المتميزة بالنضالات المعادية للاستعمار وبالانتقال نحو الاشتراكية". ويعترف تشي بالعوامل الاستثنائية النادرة لثورتنا ("من بينها العامل الأول، والأهم، وربما الأكثر أصالة، تلك القوة الطبيعية المسماة فيدل كاسترو روز"؛ ومنها أيضاً "أن الإمبريالية الأميركية الشمالية قد ضللت ولم تستطع قط أن تقدر الأبعاد الحقيقية للثورة الكوبية") لكنه يشير بخاصة إلى "أن الجذور الدائمة لجميع الظاهرات الاجتماعية في أميركا، والتناقضات التي تنضج في داخل المجتمعات الراهنة، تثير تحويلات يمكن أن تبلغ مدى ثورة كالثورة الكوبية". في هذا النص يبلغ الفكر السياسي لدى تشي غيفارا درجة النضج. وانطلاقاً من هذه اللحظة، سنراه يتحدث في خطبه الدولية الكبرى، خطبه في بونتاديل إيسته، وجنيف، والأمم المتحدة، أو الجزائر، كناطق فوق العادي باسم العالم الثالث. إن الثورة الكوبية لم تكِّون فكراً دون أن تكِّونه في الوقت نفسه للبدان الأخرى التي تجتاز ظروفاً مماثلة لتلك التي تمر فيها كوبا: وفي طليعتها بلدان أميركتنا، وكذلك بلدان قارتين أخريين ناميتين.
وإذا كانت الثورة الكوبية قد وجدت بمساعيها هي فكراً أصيلاً، فإن ذلك الأمر يقتضي منا أن نجابه بهذا الفكر جملة من المشكلات، ستحمل بدورها هذا الفكر على الأغتناء. وسيكون تشي الممثل والشاهد الاستثنائي لهذا التفاعل في بناء الاشتراكية اليومي في بلد نام.
هذا الطبيب التائه الذي أقنعه فيدل كاسترو، في ليلة باردة من ليالي المكسيك، بأن يرافقه لتحرير بلاده، هذا المغاور الذي كلفه فيدل بشن الحرب الثورية من أول الجزيرة إلى آخرها، هذا المحول الذكي الذي حول الممارسة العملية إلى نظرية، هو الذي سيوكل إليه فيدل بعد تسلم السلطة مراكز رئيسية في الحكومة. أولاً رئاسة البنك الوطني، لإدخال الاستقرار على الوضع الخطير للقطع النادر، ثم وزارة الصناعة المكلفة بتنسيق وتكبير الصناعة التي أممت فجأة في بلد قليل التنمية، والذي قُطع، بالإضافة إلى هذا، قطعاً فظاً عن المصدر الذي يكاد يكون المصدر الوحيد للمنتوجات المصنوعة. كانت القضية أن تظل الأمة واقفة على قدميها وأن تكون في حالة تمكنها من العمل.
كان على تشي أن يتصدى لمشكلات اقتصادية ملموسة في سبيل إنجاز هذه المهام الجديدة التي سيخرج منها أيضاً ظافراً. فالثورية، بطبيعة الحال، لا تأتي جاهزة: أنها على الدوام سلسلة من المهام التي يجب على الناس تحقيقها، تحقيقاً حسناً أو سيئاً. ولا توجد صيغ يجب تطبيقها بصورة آلية. إن الثورة تثبت، بمعنى مختلف عن المعنى الذي فكر به كروتشه Croce، أن التاريخ هو فعلاً "مأثرة من مآثر الحرية". فأمام كل مشكلة جديدة تنبجس المسألة اللينينية: ما العمل؟ ولا جدوى من البحث عن الجواب في أي كتاب. بل يجب أن يأتي الجواب، كما نصح لينين بالذات، من "التحليل الملموس للأوضاع الملموسة". فتشي يجد نفسه إذاً مرغماً على أن يأخذ بعين الاعتبار وقائع مثل طبيعة التخطيط الاشتراكي، تبعاً لوضع كوبا الملموس، وحسب الصلة الديناميكية لهذا الوضع مع العالم أجمع، ويستنتج من هذا التحليل مميزات نظام التمويل في الميزانية على الحساب الاقتصادي، وهذا يجره إلى مهاترات سياسية مع شارل بيتلهايم ذاته. وللأسباب ذاتها يصر على أولوية الحافز الأخلاقي على الحافز المادي إذا أردنا حقاً بناء مجتمع اشتراكي، لكنه طبعاً لا يقول بالحافز الأخلاقي حصراً: فنحن لا نرى كيف يمكن التوصل إلى هذا المجتمع الاشتراكي إذا حرضنا لدى الناس الشهوات التي تقوم عليها الرأسمالية. وليس هذا ما يقترحه تشي: "لا ننكر الضرورة الموضوعية للحافز المادي، لكننا نرفض فعلاً أن نستخدمه كدافع أساسي" ("حول نظام الميزانية..."). وبالمقابل، ليس من الخيال في تشي، بل لا بد منه لهذا البناء الجديد أن نحفز الإنسان إلى اتخاذ موقف جديد تجاه العمل")، موقف يتيح تطمين شاعر تشي المفضل، ليون فيليبه L. Felipe، الذي رأى بقلق تعارض العمل واللعب. فهل من الضروري أن نصر على الانفعال الذي نعانيه ونحن نرى هذا الرجل، هذا تشي يبدأ خطاباً في عمال مثاليين وينشد أبياتاً للشاعر الإسباني الكبير؟ إن ما لم ينسه تشي أبداً، وهو غارق في عمله، أو في نظرياته، هو الغائية الحقيقية لثورة ما: خلق كائن بشري أفضل، "إنسان جديد"، حسب تعبيره هو. وإذا كان تشي يناقش قانون القيمة، وخطر البيروقراطية، والإطار الثوري، وصفات الشيوعي الشاب، وبناء الحزب، فهذه الفكرة هي التي تجوب شواغله كلها. ما أهمية عنف العمل أو ضحالة الفكرة، فهذه أو ذاك، لدى الثوري، مسخّران لخدمة الإنسان. وإذا كان الأعداء يستطيعون طمس هذه الحقيقة، فإن واجب الثوريين، أن يرددوها ويشرحوها.
"إن وزن هذا البناء، بناء العقل الإنساني ] كتاب رأس المال[ يبلغ حداً يجعلنا ننسى في الغالب الصفة الإنسانية (بالمعنى الأفضل للكلمة) لقلقه... فالإنسان هو الذي يهمنا الآن... كان ماركس يفكر بتحرير الإنسان، وكان يرى الشيوعية حلاً للتناقضات التي أنتجت انحطاطه..."
وقد بلغ هذا الموقف الذي وقفه تشي تعبيره الأصفى والأوضح في النص الأخير الذي كتبه قبل رحيله عن كوبا في الرسالة الرائعة التي وجهها إلى كارلوس كويجانو، مدير الصحيفة الأسبوعية مارشا، والتي نشرت تحت عنوان "الاشتراكية والإنسان في كوبا": لقد كانت، بمقدار ما، تلخيصاً، وحصيلة. وعندما نشر هذا النص في كوبا (وأذيع على نطاق واسع جداً) كان تشي قد غادر البلاد.
يستحيل أن نتجنب في هذه الصفحات المسألة التي يطرحها كثير من الناس في العالم أجمع والمتعلقة بتشي: لماذا غادر كوبا؟ أعتقد أن على هذه المسألة أن تدخل في حسابها أموراً عديدة: هي أن تشي فعلاً أميركي – لاتيني، مثل الفنزويلي سيمون بوليفار،والأرجنتيني جوزيه دوسان مارتان، والدومينيكي ماكسيمو غوميز – أو المارتينيكي فرانتز فانون الذي كان تشي يحبه كثيراً – الذين ناضلوا كلهم في سبيل بلاد أخرى غير تلك التي ولدوا فيها، وغالباً في سبيل عدة بلدان، وأن كوبا هي واحدة من بلدان عديدة في أميركا اللاتينية التي عاش فيها تشي، وأن الثورة الكوبية هي إحدى ثورتين أمركيتين – لاتينيتين اشترك فيهما تشي (الثورة الثانية هي الثورة الغواتيمالية)، وأنه ما يزال في أميركا اللاتينية – وفي العالم النامي بصورة عامة – كثير من الثورات تنتظر التفجير. وأن هذه الثورات الجديدة التي تطالب الشعوب بها بإلحاح هي كالثورة الكوبية فصول لثورة واحدة. وفي عام 1959، عندما نزل الجيش المتمرد من الجبال كان الناس البسطاء في كوبا مقتنعين أن تشي سينطلق بين لحظة وأخرى للاشتراك في تحرير بلد آخر مستبعد. بيد أن الثورة الكوبية التي بدأت لتوها كانت بحاجة إليه لتوطيد كيانها. وكان آنذاك مثالاً للعامل المتفاني، وبطل البناء. وبعد ست سنوات، عندما خاضت هذه الثورة معركتها الأولى، وعندما عرفت جيرون، وتطهير إيسكامبري، وأزمة تشرين أول، عندما نظمت معاملها وأريافها على أساس الإنتاج من أجل الشعب، اعتبر تشي أن هنالك "أراضي أخرى في العالم" بحاجة أمس إليه.
إن أولئك الذين يتهمون الثوريين بأنهم تقييديون بشكل أعمى هم أول من يرفض عنصر الحرية. والجدة، والإبداع في التاريخ. فما أن رأوا تشي يغادر كوبا حتى نبشوا من القبر أزواجاً شهيرة زعموا استخدامها لتجنب التفكير في ظاهرة لم يتوقعوها وفهم هذه الظاهرة، فالعاطفيون أخذوا يتحدثون عن بوليفار وسان مارتان، وسيِّئو النية اقترحوا أسماء أخرى.. الحقيقة أن التاريخ يمتلك الآن تشاركاً جديراً لا تستطيع التشاركات السابقة تفسيره بأي شكل ولا تستطيع رده إلى تبسيطات سابقة: إنه فيدل كاسترو وأرنستو غيفارا. وإنه لأمر رائع أن نرى كم يكمل هذان الرجلان أحدهما الآخر: فمن جهة الهزة البركانية للرجل الذي يعتبره تشي ذاته "تلك القوة من قوى الطبيعة المسماة كاسترو روز" ومن جهة أخرى تلك الرغبة الجامحة لدى تشي في صنع المفاهيم. إن اللحظة التي تتداخل فيها هاتان الوظيفتان – واللحظة التي نعيشها واحدة منهما – ليست أقل ما في هذا الحوار من جمال: فنحن نرى فيدل يثبت فكره ( وهذا يقوده إلى الدخول في مهاترات من أجل توضيح فكره) لأنه على وجه الضبط الزعيم الأول للثورة ونرى تشي يندفع في العمل، ليكون مرة أخرى، أميناً لنظريته. وهكذا يسعد الثورة الأميركية – اللاتينية الحالية أن يكون على رأسها رجلان يختفي لديهما التفرع الثنائي القديم الرأس المفكر – والذراع المسلح، ويذوب في واقع جديد ملتهب. فلماذا قرر أحد الرجلين، ذاك الذي لم يولد في كوبا لكنه خدمها خدمة لم يؤدها إلا القلة من الكوبيين، أن يعود من جديد إلى القتال، في سبيل حرية أرض أخرى هذه المرة؟ إن القراء لا يملكون كما لا أملك أنا معطيات كافية للإجابة. بيد أن الرجل الذي يستطيع التحدث عن هذا الموضوع، في الوقت الأنسب: فيدل كاسترو، قال في ختام مؤتمر القارات الثلاث الذي يجسداً تجسيداً رائعاً المثل الأعلى لفيدل وتشي على السواء:
"إنضم إلينا الرفيق غيفارا عندما كنا منفيين في المكسيك. ومنذ اليوم الأول لم تكن تفارقه الفكرة التي عبر عنها بوضوح، وهي أنه عندما ينتهي الكفاح في كوبا، فإن عليه واجبات أخرى يجب أن يقوم بها في أمكنة أخرى، ولقد قطعنا له على أنفسنا وعداً بأننا لن نطلب منه البقاء في بلادنا، من أجل أية مصلحة للدولة، وأية مصلحة قومية، وأي ظرف، ولن نمنعه من تحقيق هذه الرغبة أو هذه الدعوة. وقد وفينا وفاء تاماً مخلصاً بهذا الوعد الذي قطعناه. للرفيق غيفارا."


 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:33 AM

  رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

روبرتو فرناندزريتامار
لاهافانا، تشرين الأول 1966





مقدمة المترجم
لا، لم يمت غيفارا

مات غيفارا...
حين حملت أمواج الأثير هذا النبأ الأليم رفض الناس الطيبون في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في تلك البلدان حيث يحتدم الصراع ضد الاستعمار بمختلف الأشكال، تارة بالحديد والنار كما في فيتنام أو الشرق الأوسط أو بعض أقطار أميركا اللاتينية، وتارة أخرى بمختلف الوسائل المتراوحة بين النضال الشرعي والنعف المتفاوت الشدة كما في كثير من البلدان الآسيوية والأفريقية، رفض الناس الطيبون أن يصدقوا، لا، لم يمت غيفارا، ولا يمكن أن يموت... إن غيفارا أكبر من ذلك، أكبر من الموت، أكبر من أن يصرعه الرصاص الغادر يطلقه أعداء الشعوب، أكبر من أن يسقط والرسالة العظيمة التي نذر لها نفسه لّما تتحقق...
وكانت الأنباء قد تواترت مرات عديدة قبل ذلك، تبثها مكاتب الاستخبارات الاستعمارية والعميلة، عن مصرع الثوري الكبير، لكنه سرعان ما يفتضح كذبها وبطلانها خلال ساعات معدودة أو أيام قلائل... ما يمنع أن يكون الخبر كاذباً هذه المرة، رغماً عن تكاثر الدلائل على صحته؟ لكنه حين أعلن فيدل كاسترو، زعيم رفيق البطل الثائر الراحل وبل أقرب الرفاق إليه في النضال، من راديو هافانا وتلفزيونها، ليلة الخامس عشر من تشرين الأول 1967، أن النبأ الفاجع صحيح بصورة أليمة، كان لابدّ للناس الذين يؤمنون بالحقيقة الواقعة أن يصدقوا، رغماً عن كل ما يثيره هذا التصديق في قلوبهم من مرارة ولوعة وحزن. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يتألمون فيها لفقدان رفيق بطل، كما أنها لن تكون المرة الأخيرة.
لم يكن غيفارا بطلاً لأنه قارع الظلم بشجاعة فحسب، لأنه جابه أعداء الشعب ببسالة، وبعزيمة لا ترهب الموت ولا تهاب التضحية مهما غلت، بل كان بطلاً لأنه كان قبل كل شيء مثال الثوري الكامل. كان مخلصاً لمثله الأعلى حتى النهاية مقداماً لا يعرف التراجع، ذكياً يحذق سياسة الأمور، متواضعاً لا يتسرب الخلل أو الهوى إلى نفسه، وكانت كبرياؤه الوحيدة هي الكبرياء الثورية، هذه التي تجعله قاسياً لا يرجم حيال أعداء الثورة وأعداء الإنسان، وحيال جميع الأشياء أو الأهواء التي تعارض الثورة أو تسيء إليها، لكنه في الوقت نفسه رفيق طيب ودود لجميع أولئك الذين يشاركون في الثورة، أو يتوقون إليها، أو يتعرضون للظلم والاضطهاد من أية جهة كانت. ولعل هذا هو السبب في أن غيفارا كبر جداً في عيون الثوريين والأنصار، في كوبا نفسها وفي جميع البلدان الأخرى، كبر حتى حَسِبَ بعض الناس أنه أضحى أسطورة، أو وهماً يزعمون أن الثورة تنغذى به، وأنها لا تستطيع بدونه أن تستمر في البقاء. لا، إن غيفارا كبير لأنَّ إخلاصه لمبادىء الثورة كان كبيراً، إن غيفارا كبير لأن إيمانه كان كبيراً بالثورة التي لا حدود لها ولا وطن، الثورة التي ليست هي وقفاً على هذا البلد أو ذاك، وليست هي محصورة ضمن حدود هذا القطر أو ذاك، بل هي ثورة قائمة أبداً، متصلة دون انقطاع، ولن ينطفىء لها لهيب حتى تطهر هذه الكرة الأرضية من كل رجس، وتطهر نفس الإنسان من كل دنس، فتكون بذلك قد قضت قضاء مبرماً على العالم القديم والإنسان القديم، ووضعت الأسس المتينة الصلبة من اجل بناء العالم الجديد والإنسان الجديد. ولقد آمن غيفارا بهذه الثورة منذ تفتح وعيه على العالم، وظل وفياً لها حتى أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة، وأنكر من أجلها طبقته وماضيه والحياة الهانئة التي كان يمكن أن يحياها، وخلّف ذلك كله وراء ظهره ليرتمي في حمأة المعركة، وسلاحه المادي ضعيف واهٍ. لكن سلاحه الفكري والروحي جبار لا يقاوم.
* *
كان أبوه مهندساً معمارياً أرجنتيني التبعة، أي من تلك الطبقة البرجوازية الميسورة التي يمكن أن تتوفر لها جميع مسرات الحياة العصرية. ولقد أصيب أرنستو في طفولته الأولى بمرض الربو، الأمر الذي جعله موضع العناية الصحية الفائقة، هذه العناية التي تمرد عليها حين اشتد ساعده، فجعل يمارس مختلف ضروب الرياضة، حتى أشدها ارهاقاً، في محاولة للتغلب على ذلك المرض الذي يفرض عليه بعض القيود. ولعل هذا هو السبب في تفضيله دراسة الطب على أية دراسة أخرى، لأن الطب فن يمكن أن يخلِّص الإنسان من بعض القيود القاسية التي تفرضها عليه الطبيعة المناوئة.بيد أن مطالعاته علمته في تلك الأثناء أن ثمة قيوداً أقسى من سلاسل المرض، ومن أكبال الظروف الطبيعية المناوئة، قيوداً مادية تئيد على السواد الأعظم من البشر، وقيوداً روحية تكبل نفوسهم وتنأى بهم عن الطبيعة الإنسانية الحقيقية، قيوداً، طالعته من آلاف عيون الناس البائسين الجياع، العاطلين عن العمل، الرازحين تحت نير الكبت والاضطهاد، الطامحين إلى لقمة العيش وإلى الكرامة من وراء لقمة العيش. ولقد طالعه من قرار هذه العيون اليأس كله، والخوف كله، والذل كله، وطالعته في الوقت نفسه قوة لا تغلب، قوة عاتية، جبارة، ساحقة، سوف يتحول إليها اليأس والذل والخوف ذات يوم، وعندئذ لن يعترض أحد أو مشيء سبيلها. أليس ذلك ما حدث دائماً في التاريخ، منذ أيام روما القديمة؟ أو ليس ذلك ما حدث مؤخراً في روسيا حيث انقلب الخوف واليأس والذل إلى تلك القوة الجارفة التي اكتسحت عالم القياصرة العفن، وجعلت تبني على أنقاضه عالماً جديداً يبشر بالأمل، وبالحرية، وبالكرامة وبالغد السعيد؟
وإن غيفارا ليشعر إذاً أن مكانه ليس في بيت أبيه، ولا في عيادة يستقبل فيها المرضى كل يوم، ولا حتى في وطنه الأرجنتين حيث لا يستطيع أن يعمل شيئاً في الوقت الحاضر. إن "حياته تبدأ وراء الحدود"، ومكانه هو العالم الفسيح، وموطنه هو كل موضع في هذه الدنيا تحول فيه اليأس والخوف والذل على قوة تناضل في سبيل حياة أفضل... و هذا هو في قلب المعركة، حيثما تحتدم، في تشيلي وفي كولومبيا، وفي بوليفيا وفنزويلا، وفي غواتيمالا حيث كان شعب صغير، رازح منذ مئات السنين تحت نير الاستعمار والاستعباد والاستغلال، قد صنع ثورة وهو يكافح عنها ضد قوى القارتين مجتمعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية واحتكاراتها الغاشمة.
أجل، إن في قلبه ناراً تشتعل، تدفعه لأن يكون إلى جانب المظلومين، إلى جانب البائسين، إلى جانب المعذبين في الأرض. وهذا ما يعبر عنه في رسالة إلى والديه كتبها مؤخراً: "وليس الحب الحقيقي الذي يرويني حب الوطن والزوجة والأولاد والأصدقاء، بل هو أكبر من ذلك كثيراً، فهو الشعلة التي تحترق في باطن الملايين من بؤساء العالم المحرومين، شعلة البحث عن الحرية والحق والعدالة. إني أؤمن بأن النضال المسلح هو الطريق الوحيدة أمام الشعوب السامية إلى التحرر. ويعتبرني الكثيرون مغامراً، وأنا مغامر حقاً، لكن من غير طراز أولئك المغامرين المنساقين وراء نزوات فردية عابرة. وإني أضحي بكل شيء من أجل الثورة والنضال المتصل".
وهكذا، حين سقط النظام الشعبي في غواتيمالا تحت الضربات الاستعمارية المهيأة بكل خبث، غادر غيفارا إلى المكسيك، ملجأ جميع الثوريين في أميركا اللاتينية، ومن هناك بدأت قصته مع فيدل كاسترو، واشتراكه في حملة غرانما التي نزلت على الشاطىء الكوبي، دوره في ملحمة سييرا مايسترا التي انتهت إلى اسقاط نظام باتيستا الدكتاتوري وإقامة نظام شعبي ثوري يسير بخطى حثيثة نحو الاشتراكية.
* *
يقول فيدل كاسترو في معرض حديثه عن أرنستو "تشي" غيفارا: "نحن الذين نعرف أرنستو غيفارا بصورة وثيقة – وأقول "نعرف" لأنه لا يمكن قط الحديث عن أرنستو غيفارا بصيغة الماضي – لا بد لنا أن نقول إن لدينا خبرة عظيمة بخلقه ومزاجه. ومهما يكن من الصعب أن نتصور أن مثل هذا الرجل، بمثل هذه السمعة وبمثل هذه الشخصية، قد قضى في معركة دارت بين دورية من المغاورين وقوات من الجيش النظامي، حتى إذا بدا ذلك أبعد ما يكون عن المنطق، فإننا نعرف أن ليس فيه شيء فوق عادي. ذلك أنه تميز دائماً، خلال كل الوقت الذي عرفناه فيه، ببسالة عجيبة، بازدراء مطلق للخطر، فهو يصنع في جميع الأوقات الأشد خطراً والأعظم صعوبة الأشياء الأعظم صعوبة والأشد خطراً. هكذا كان سلوكه في مناسبات عديدة أثناء نضالنا في سييرا ما يسترا، وفي لاس فيلاس، وكثيراً ما اضطررنا، بطريقة أو أخرى، إلى اتخاذ بعض التدابير من أجل حمايته، وقد عارضنا أكثر من مرة تنفيذ بعض الأعمال التي كان يريد انجازها، وذلك بقدر ما كنا نتبين فيه تلك الصفات الرائعة التي يتحلى بها المقاتل والإمكانات المتوفرة لديه من أجل خدمة الثورة في واجبات أو مهمات ذات أهمية استراتيجية أعظم، بحيث كنا نحميه من خطر السقوط في معركة ذات أهمية أقل.
"ولنعترف بأننا كنا نخاف دائماً من أن يقود هذا المزاج، هذه المبادرة الخاصة به، الحاصرة في جميع أوقات الخطر، إلى الموت في أية معركة. وما كان في قدرة أي إنسان أن يكون على يقين من أنه سيتخذ على الأقل حداً أدنى من تدابير الحماية. وكثيراً ما كان يتقدم في طليعة دورية استكشافية عادية...
"ولعله كان يفكر، وهو واع تماماً للرسالة التي أخذها على عاتقه ولأهمية النشاط الذي يقوم به، لعله كان يفكر – كما فكر على الدوام – بما للبشر من قيمة نسبية وما للقدرة من قيمة لا تدحض. كانت هذه الأشياء تشكل جزءاً من شخصيته..
"ولقد كنا نحب أكثر ما نحب أن نشاهده يتحول إلى صانع لانتصارات الشعوب الكبرى بالأحرى من أن يكون رائداً لهذه الانتصارات. لكن رجلاً له هذا المزاج، وهذه الشخصية، وهذا الخلق، وهو يملك على الدوام هذا الارتكاس حيال بعض الظروف، لمدعو من سوء الحظ لأن يكون رائداً لهذه الانتصارات بالأحرى منه صانعاً لها.. وإنه لمن المؤكد أن الرواد هم أيضاً صناع النصر، ومن كبار الصنّاع فضلاً عن ذلك: لكنه كان أقل الناس اهتماماً بذلك.
"وإنه لمنطقي أن يكون من المحال، بالنسبة إلينا جميعاً نحن الذين نكن له حباً عميقاً، أن نرضى بأن نشاهده وقد انقلب إلى رائد فحسب، إلى قدوة لا نرتاب مطلقاً في أنه سيكون لها وقع هائل. إنه لمنطقي أن يتألم كل كائن إنساني حين يتعرض مثل هذا الخلق وهذا الذكاء وهذه الاستقامة للدمار الحكمي

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:33 AM

  رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أجل، لقد كان غيفارا رائداً لانتصارات الشعوب، وكان صانعاً لهذه الانتصارات في الوقت نفسه. وإن هذا الإخلاص الذي كان ينطوي عليه لمثله الأعلى، وللهدف السامي الذي كرس نفسه من أجله، هو الذي حمله على مغادرة كوبا، بعد ما تحقق الظفر فيها للشعب، كيما يذهب مرة أخرى إلى "ما وراء الحدود" إلى ميادين جديدة للنضال يواصل الرسالة التي يحملها. ولذا كان غيفارا قدوة، قدوة للثورة في كل مكان، قدوة لطلائع الشعوب المناضلة في كل صقع من أجل حقها في الحياة، من أجل مكانها اللائق تحت الشمس، من أجل غدها المشرق السعيد...
وإن هذه القدوة الرائعة، هذه القدوة التي هي ملء الأبصار والأسماع والأفئدة، هذه القدوة التي وضعها الثوار في كل مكان، في أميركا اللاتينية وفي آسيا وإفريقيا، نصب أعينهم، هي بالضبط ما سعى المستعمرون وأجراؤهم، ولا يزالون يسعون، للقضاء عليها. فمنذ غادر غيفارا كوبا جعلت المخبرات الأميركية كلها البحث عنه والسعي للقضاء عليه، وكان العملاء في منظمة الشعوب الأميركية الخاضعة لإشرافها أدوات التنفيذ في هذه المؤامرة الإجرامية. وإذا هم نجحوا أخيراً، بفعل المصادقات والخيانة، في القضاء على جسد غيفارا، فإنهم لن ينجحوا قط في القضاء على روحه، على عمله، على القدوة التي صنعها من أجل الآخرين.
لقد كانوا يخافونه.. كانوا يخافونه حياً، وهو لا يبرحون يخافون الآن، بعدما توصلوا إلى حذف جسده. ولقد أشارت جميع الأدلة إلى أن غيفارا وقع أسيراً، بعدما أصيب بجروح بليغة، وبعدما تعطلت بندقيته من جراء إصابتها بطلق ناري، في معركة جرت بين بضعة ثوار بوليفيين وقوات نظامية تفوق الألف وخمسمائة جندي في عددها. وما كان يمكن ليغيفارا، كما يقول كاسترو، أن يستسلم حياً.. لكن رفاقه القلائل حين شاهدوه جريحاً، استماتوا في المقاومة وفي الدفاع عنه، فاستمرت المعركة بين هؤلاء الرجال الستة عشر وقوات الجيش النظامي البوليفي قرابة ست ساعات، وهو شيء لا يمكن أن يحدث في حرب الأنصار مطلقاً. لكن غيفارا جرح جروحاً بليغة بحيث لا يستطيع الانسحاب، وتعطلت بندقيته بحيث لا يستطيع أن يضع حداً لحياته بنفسه. بيد أن الحكومة الدكتاتورية في بوليفيا، التي أسرته حياً، قد أجهزت عليه، وبعدما أجهزت عليه رفضت أن تسلم جثته لأخيه، كما رفضت أن تطلع كائناً ما عليها، أو على مكان وجودها. لقد دفنوه في مكان مجهول، ولعلهم أحرقوا الجثة وذروا رمادها في الرياح، حتى يزيلوا من الوجود كل أثر له، فيما يعتقدون، فلا يتحول قبره، في المستقبل، إلى محجة للثوريين في كل مكان، إلى هيكل يقصده الناس الشرفاء من أنحاء المعمورة الأربع، كي يعبروا عن جلهم وتقديرهم واحترامهم للثائر الراحل، وعن حقدهم على القتلة وإدانتهم لهم.
إن المستعمرين وأذنابهم، هؤلاء يعرفون بغريزتهم أن التاريخ قد أصدر حكمه عليهم مسبقاً على حد تعبير فيدل كاسترو، يخافون غيفارا حتى بعد وفاته، فهم يريدون أن يحرموا الحركة الثورية – وبالخاصة في أميركا اللاتينية – من الرمز، يريدون أن يطفئوا الشعلة، ويحسبون أنهم بذلك يضربون الحركة الثورية ويزعزعونها.
ألا بئس ما يحسبون وما يخططون! إن الثوريين هم على الدوام أفضل الناس تأهباً لجميع الظروف وجميع التقلبات وجميع النكسات الممكنة. ولقد تميز تاريخ جميع الثورات وجميع الشعوب الثورية، في كل مكان وفي كل العصور، ببعض الضربات الأليمة، وبعض النكسات اليسيرة، لكن الثوريين الحقيقيين كانوا يتغلبون دائماً على هذه النكسات وتلك الضربات، ويواصلون الطريق بعزيمة أشد، وبتصميم أعظم على إحراز النصر. وإن الثوريين بالضبط هم أكثر الناس معرفة وتقديراً لقيمة المبادىء الخليقة وقيمة القدوة الحسنة، وهم بالضبط أرسخ الناس إيماناً بأعمال الرجال الحقيقيين ومبادئهم، وأعظم إدراكاً لما تتصف به حياة البشر الحكيمة من زوال وما تتصف به أفكارهم وسلوكهم وقدرتهم من خلود... ذلك أن القدوة هي التي ألهمت الشعوب طوال التاريخ وأرشدتها.
ويقول فيدل كاسترو بالنص الواحد: "من ذا يستطيع أن ينكر شدة الضربة التي تعرضت لها الحركة الثورية من جراء موت تشي، ومن جراء انعدام إمكانية الاعتماد على خبرته، وعلى إلهامه وعلى قوة سمعته التي كان الرجعيون يرتعشون منها ذعراً! إنها ضربة شديدة، ضربة بالغة القسوة. لكننا على يقين مع ذلك من أنه أشد قناعة من أي إنسان آخر بأن حياة البشر الحكمية ليست الشيء الأهم، بل إن سلوكهم هو الذي يأتي في المرتبة الأولى.. وهذا وحده هو ما يفسر ازدراءه المطلق للخطر، وهو الشيء الوحيد الذي يتلاءم مع شخصيته ومع عمله..."
ولذا فإن الحركة الثورية، انطلاقاً من هذه الحقيقة، ستعرف كيف تحول هذه القدرة إلى قوة لا تقهر، وكيف تستلهمها لتسير قدماً إلى الأمام، دونما تردد، وبصلابة أشد وعزيمة أمضى.
لا، لم يمت غيفارا، بل هو حي في أفئدة جميع الثوريين، جميع الناس الطيبين، جميع الناس الشرفاء في سائر أنحاء العالم، وإن صرخته لتدوي في أسماع الجميع، هادرة، شاحذة الهمم، وحافزة إلى العمل المستمر:
"لا يهمني أين ومتى سأموت، لكنه يهمني أن يبقى الثوار قائمين، يملأون ضجيجاً حتى لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين؟


 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:34 AM

  رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 



دمشق في 22 / 11 / 1967
الدكتور فؤاد أيوب









القسم الأول

المبادىء العامة لحرب الغوار






1 – جوهر حرب الغوار
لم يكن الظفر المسلح الذي أحرزه الشعب الكوني على طغيان باتيستا[7] لينحصر فقط في النصر الملحمي الذي سجله المراقبون في العالم أجمع، بل كان كذلك انقلاباً في العقائد القديمة حول سلوك الجماهير الشعبية في أمريكا اللاتينية. وقد برهن بشكل ملموس أن شعباً يستطيع، بالغوار، أن يتحرر من حكومة تضطهده.
ونحن نرى أن الثورة الكوبية قد رفدت الحركة الثورة في أمريكا بثلاثة إسهامات إذ أثبتت ما يلي:
أولا – تستطيع القوى الشعبية أن تكسب حرباً ضد الجيش النظامي.
ثانياً – لا ينبغي الانتظار دوماً حتى تجتمع كافة الظروف للقيام بالثورة، إذ يمكن للبؤرة الثورية أن تفجِّر هذه الظروف الثورية.
ثالثاً – ينبغي في الأنحاء المتخلفة من أمريكا، اتخاذ الريف ميداناً أساسياً للنضال المسلح.
تتعارض النقطتان الأوليان مع الموقف التريُّثي الذي يقفه ثوريون أو أشباه ثوريين ممن يتذرعون لعطالتهم بدعوى أن شيئاً لا يمكن محاولته ضد الجيش النظامي، ناهيك عن أولئك الذين ينتظرون أن يلقوا كافة الظروف الموضوعية والذاتية وقد اجتمعت بصورة آلية، دونما اهتمام بتعجيلها. إن هاتين الحقيقتين اللتين لا مجال لانكارهما قد غدتا واضحتين تماماً، إلا أنهما قد نوقشتا في كوبا في الماضي وربما هما تُناقشان الآن في أمريكا اللاتينية.
ومن الطبيعي أن الحافز الذي تشكله بؤرة الغوار لا يكفي وحده لاستجماع كافة الظروف اللازمة للثورة. بل ينبغي الاعتبار دوماً بأن إنشاء البؤرة الأولى وتوطيدها يقتضيان حداً أدنى من الظروف المؤاتية. فينبغي إذاً أن يبرهن للشعب بوضوح تعذر الاستمرار في النضال المطالبي في إطار الشرعية. إن ما يخل بالسلام هو بالضبط أن قوى الاضطهاد تحتفظ لنفسها بالسلطة ضد الحق.
وسوف يجد استياء الشعب، في مثل هذه الظروف، تعبيراً عن ذاته يزداد قوة، وسيأتي الوقت الذي تتبلور فيه المقاومة في نطفة[8] من نضال يثيرها في الأصل موقف السلطات.
عندما تصل إحدى الحكومات إلى السلطة عن طريق استشارة شعبية، مزيفة أو غير مزيفة، وتحافظ ولو في الظاهر على الشرعية الدستورية، فإن بذرة الغوار لا يمكن أن تنتش[9] لأن كافة إمكانات النضال الشرعي لما تستنفد بعد.
أما الإسهام الثالث، فهو على الصعيد الريادي[10]. ويجب اعتباره تحذيراً للذين يستندون إلى مقاييس عقيدية[11]، فيدَّعون تركيز نضال الجماهير على الحركات المدنية، ناسين تماماً مساهمة الفلاحين العظيمة في حياة كافة البلدان المتخلفة من أمريكا. ليس الأمر استصغاراً لنضال الجماهير العمالية المنظمة، إنما هو تحليل إمكانانتا تحليلاً واقعياً، في ظروف النضال المسلح الصعبة، حيث تصاب الضمانات التي ترافق دساتيرنا عادة، بالتعطيل أو التجاهل. ينبغي عندئذ أن تغدو الحركات العمالية سرية وأن تواجه دون سلاح أخطاراً هائلة في وضع عدم الشرعية. أما في الريف، فالموقف ليس على ذات القدر من الصعوبة، لأن المغاوير المسلحين يدعمون السكان، في أماكن يستحيل أن تطالها قوى القمع.
سوف نتوسع في التحليل بدقة في ما بعد. ولنلاحظ منذ الآن في مطلع هذا الكتاب، الاستنتاجات الثلاثة الآنفة، التي تؤلف في رأينا، الشيء الأساسي في مساهمتنا.
تتصف حرب الغوار، أساس النضال الشعبي، بمميزات ووجوه متباينة جداً، وإن كانت تستمد دوماً من إرادة التحرر ذاتها. من الواضح – وقد قالها النظريون جيداً – أن الحرب تستجيب إلى سلسلة معينة من القوانين العلمية، وأن من يخالفها يتحتم فشله. إن الغوار هو أحد أطوار الحرب النهجية[12]، وينبغي أن تحكمه قوانينها كافة، إلاَ أنه يشتمل إضافة، وبسبب طابعه الخاص، على قوانين لاحقة ينبغي الرضوخ لها. من الطبيعي أن تحدد الظروف الجغرافية والاجتماعية لكل بلد ما هي القوالب الخاصة التي ترتديها حرب الغوار فيه، غير أن هذه القوانين الأساسية صحيحة لكل نضال من هذا النمط.
نقصد الآن إلى إيجاد الأسس التي يقوم عليها هذا النمط من النضال، والقواعد التي ينبغي أن تتبعها الشعوب الباحثة عن تحررها. إن مقصدنا هو تحويل الممارسة إلى نظرية واتسجلاء بنية هذه التجربة وتعميمها لفائدة الآخرين.
ينبغي أن نثبت أولاً من هم المقاتلون. إنهم من جانب، النواة المضطهِِدة، وفي خدمتها الجيش النظامي، حسن التجهيز والضباطة[13]. وتستطيع هذه النواة في حالات كثيرة أن تعوّل على تأييد الأجنبي وتأييد جماعات صغيرة من الموظفين الدائرين في فلك المضطهِد. ويقف في الجانب الآخر، سكان البلد أو المنطقة المعنية. ومن المهم ملاحظة أن الغوار نضال جماهيري، نضال الشعب، وأن الغوّارة[14]، الجماعة المسلحة الصغيرة، هي طليعته المقاتلة. وتمكن قوتها في جمهور السكان. لا ينبغي اعتبار الغوّارة اضعف عددياً من الجيش النظامي الذي تقاتله، رغم أن قوَّة نارها اضعف منه. لذلك ينبغي اللجوء إلى حرب الغوار لدفع الاضطهاد، متى توفر تأييد غالبية السكان، مع كمية من الأسلحة في منته الضآلة.
تتمتع الغوارة حينئذ بالتأييد الشامل من السكان المحلين وهذا شرط لا تقوم بدونه. يبدو ذلك واضحاً إذا أخذنا مثال عصابات قطاع الطرق التي تعمل في منطقة ما. لهذه العصابات كافة مميزات جيش الغوار: التماسك، واحترام الرئيس، والشجاعة، ومعرفة الأرض، وفي أحيان كثيرة، تقدير جريء للصِيالة[15]الواجب اتباعها، ولا ينقصها إلا تأييد الشعب: فلا مفر لهذه العصابات من أن تعزلها الضابِطة أو تبيدها.
بعد أن حلَّلنا صِيالة العمليات في حرب الغوار، وشكل الكفاح فيها، وبعد أن فهمنا أن الشعب هو مستندها، بقي أن نتساءل: من أجل ماذا يناضل المغاور؟ فنصل إلى النتيجة المحتومة وهي أن المغاور مصلح اجتماعي، وأنه يحمل السلاح استجابة لاستنكار الشعب الكامن ضد مضطهِديه، وأنه يقاتل لتغيير النظام الاجتماعي الذي يبقي على إخواته العزَّل في الهوان والبؤس. إنه يهاجم المؤسسات الخاصة بعصر معين، لكي يحطم بنيانها، بكل ما تتيح له الظروف من قوة.
سوف نرى متى حللنا صِيالة حرب الغوار بعمق أكبر، أنه ينبغي للمغاور أن يعرف الأرض تمام المعرفة، وكذلك مسالك القدوم والانكفاء، وإمكانات المراوغة السريعة، وأمكنة الاختباء، والتأييد الشعبي طبعاً. يدل كل ذلك على أن المغاور سوف يمارس عمله في بيئة ريفية قليلة السكان، وفي المكان المفضل لكفاح الشعب من أجل مطاليبه، كل ذلك في تطلع يكاد ينحصر بتغيير البنيان الاجتماعي لملكية الأراضي. بعبارة أخرى، إن المغاور هو قبل كل شيء ثائر زراعي. إنه يترجم رغبة جماهير الفلاحين الكبرى في امتلاك الأرض، امتلاك وسائل إنتاجهم ودوابهم وكل ما رغبوا فيه سنوات طوالاً، وما يؤلف حياتهم كما يؤلف الأرض التي سوف يموتون فيها.
ينبغي التدقيق في أن ثمة نمطين مختلفين من حرب الغوار: أحدهما وهو حالة ذلك النضال الذي يتمم عمل الجيوش النظامية الكبرى – مثل نضال الأنصار الاوكرانيين في الاتحاد السوفياتي، ولا يتناوله تحليلنا. النمط الآخر وحده هو الذي يهمنا: إنه حالة جماعة مسلحة تتقدم في النضال ضد السلطة القائمة، سواء أكانت استعمارية أم لا، وتستقر في مأرز[16] وحيد، وتنتشر في الأوساط الريفية. ومهما كان البناء الفكري الذي يلهم النضال، فإن أمنية امتلاك الأرض هي ما يؤلف أساسه الاقتصادي.
بدأت صين ماوتسي تونغ في الجنوب بنضال نَوَى عمالية منيت بالهزيمة وأشرفت على الإبادة. إنها لم تترسخ وتشرع في سيرها الصاعد إلا بعد المسيرة الكبرى في مقاطعة يونّان، عندما استندت إلى الأرياف واعتمدت الإصلاح الزراعي أساساً لمطالبها. وكان نضال هوشي منه في الهند الصينية يستند إلى الفلاحين زارعي الأرز الذين يضطهدهم النير الاستعماري الفرنسي، وأخذ هذا النضال يتقدم بمؤازرة هذه القوى حتى هزم الاستعماريين. وفي كلا الحالين، وعلى الرغم من المعترضة التي شكلتها الحرب الوطنية ضد المعتدين اليابانيين، فإن الأساس الاقتصادي، وهو النضال من أجل الأرض، لم يختفِ. وفي حالة الجزائر، فإن استثمار مليون مستعمر فرنسي لأراضي الجزائر القابلة للزراعة كلها تقريباً، هو الملحق الاقتصادي بالفكرة العظيمة للقومية العربية. وفي بلدان أخرى مثل بورتوريكو، حيث لم تسمح الظروف الخاصة بهذه الجزيرة بنشوء حرب الغوار، فإن الروح القومي الذي يجرحه التمييز كل يوم أبلغ الجراح، يقوم على تطلع الفلاح (وإن تم استكداحه[17] في أحيان كثيرة) إلى الأرض التي سلبه إياها الغزاة اليانكي[18] وكانت هذه الفكرة المركزية ذاتها، في ظروف مختلفة، هي التي تلهب صغار المالكين، والفلاحين، والعبيد، في مزارع كوبا الشرقية، عندما تنادوا للدفاع معاً عن حقهم في امتلاك الأرض إبان حرب التحرر ذات الأعوام الثلاثين[19].
وعلى الرغم من المميزات الخاصة التي تجعل من حرب الغوار نمطاً من الحرب محدداً بدقة، فإن هذه الحرب، بالنظر إلى إمكانات تطورها وتحولها إلى حرب تحاصُنٍ[20] عن طريق تزايد الجماعة العاملة الأصلية، يمكن اعتبارها نطفة أو شكلاً بدائياً لحرب التحاصُن، وتتبع إمكانات اتساع حرب الغوار وتحويرها وتحويلها إلى حرب تحاصن، وضوحاً، إلى إمكان هزم العدو في كل معركة تُخاض وكل قتال وكل مناوشة. إنه مبدأ أساسي، إذاً لا يُخاض غمار أي معركة أو قتال أو مناوشة ما لم تكن مظفرة بالتأكيد. يقول تعريف سيىء النية إن "المغاور هو يسوعي[21] الحرب". يعني هذا أن العناصر الجوهرية في الغوار هي المفاجأة والخداع والعمل الليلي. واضح أنه نوع خاص من اليسوعية، تسببه الظروف التي ترغم المرء أحياناً أن يتبنى سلوكاً يخالف مفاهيم الرواء والمباراة الرياضية التي يريدون حملنا على الاعتقاد أن الحرب تمارس وفقها.
الحرب هي دوماً صراع يسعى كل خصم فيه لإفناء الآخر. وللوصول إلى ذلك يلجأ، إضافة إلى القوة، لكافة الأساليب، كافة الحيل الممكنة.
ولا تعدو الريادة والمهانة[22] أبداً إيضاح الأهداف التي ارتسمها كل من الخصمين لنفسه، والوسائل التي يستعملانها لبلوغ الأهداف. وتشتمل هذه الوسائل على استعمال كافة نقاط الضعف لدى العدو. فإذا ما حلَّل المرء واحدة من حروب التحاصُن لاحظ أن كل سرية فيها مأخوذة على انفراد يتميز عملها بمميزات حرب الغوار ذاتها: تأثير المفاجأة، الخداع، العمل الليلي. وإذا لم تستعمل هذه الصيالة، فمرد ذلك إلى تعذر مداهمة الأعداء الساهرين. ولما كانت الغوارة بحد ذاتها جماعة مسلحة وإن ثمة مناطق واسعة لا يراقبها العدو، فيمكن إحداث تأثير المفاجأة دوماً، ومن واجب المغاوير أن يفعلوا ذلك.
إنهم يصفون عمل المغاور ذمَّاً بقولهم: "عضّ واهرب"، وهو صحيح. عض واهرب، تريَّث، راقب، عُدْ ثانية عضّ واهرب مرة أخرى وهكذا دواليك، دون أن تترك للعدو راحة. يبدو في الظاهر أن هذه التراجعات، هذا الرفض للقتال الجبهي، تؤلف موقفاً سلبياً، إلا أنها في الواقع نتائج الريادة العامة لحرب الغوار، التي تطابق غايتها النهائية غاية كل حرب: الظفر وإفناء العدو.
من الثابت أن حرب الغوار تؤلف أحد أطوار الحرب، فلا يستطيع هذا الطور وحده أن يؤدي إلى الظفر. إنه أحد الأطوار الأولى من الحرب، وسوف يتطور حتى يكتسب الجيش الثائر، إبان نموه المستمر، مميزات جيش نظامي. يكون قد تهيأ عند ذلك لأن يكيل الضربات النهائية للعدو وأن يظفر. فإذا كان النضال في البدء من شأن غوّارة واحدة، فالظفر سيكون دائماً من شأن جيش نظامي.
ومثلما ينبغي في الحرب الحديثة، أن لا يموت اللواء قائد فرقة على رأس جنوده، ينبغي كذلك للمغاور الذي هو لواء نفسه، أن يصون حياته. إنه مستعد لعطائها، غير أن الوجه الإيجابي من حرب الغوار هو بالدقة أن كل مغاور مستعد للموت ليس دفاعاً عن مثل أعلى، بل لتحويل المثل الأعلى إلى حقيقة. هذه هي قاعدة نضال الغوار وعين جوهره: إنها المعجزة التي تجترحها جماعة صغيرة من الرجل، وهم الطليعة المسلحة للجمهرة الشعبية الكبرى التي تؤازرهم، إذ يتطلعون إلى ما وراء الهدف الصيالي المباشر، ويجهدون بثبات لتحقيق مثل أعلى، لهدم البنيان القديم، لإقامة مجتمع جديد وإحقاق العدالة الاجتماعية أخيراً.
وإذا ما نظرنا للأمر من هذه الزاوية، فإن كل ما كان مدعاة لأحكام مشوبة بالذم، يستنير بنور جديد ويجد تبريره في عظمة الغاية التي يصبو إليها المغاوير. فليس في الأمر وسائل ملتوية لبلوغها. فهذا السلوك في النضال الذي يجب أن لا يخبو لحظة، وهذه الصرامة في مواجهة المسائل الكبرى المرتبطة بالهدف النهائي، هما عظمة المغاوير.





2 – ريادة حرب الغوار
يُقصد بالريادة، في الاصطلاح العسكري، تحليل الأهداف التي يجب بلوغها،تبعاً لوضع عسكري عام، والوسائل المؤدية إلى هذه الأهداف.
ولتقدير الريادة تقديراً صحيحاً، من وجهة نظر حرب الغوار، يلزم القيام بتحليل أساسي لسلوك العدو. فإذا ما اتضح أن الهدف النهائي للجيش النظامي هو إفناء القوى المعادية له، فإن حرباً أهلية من هذا النمط تمثل الأمر لنا تمثيلاً نهجياً ينبغي للعدو أن يعمد إلى إفناء كافة أعضاء الغوارة إفناءً شاملاً. وبالمقابل ينبغي للمغاور أن يحلل الوسائل التي يعتد بها العدو لإدراك هذا الحل، الوسائل التي يستطيع العدو اعتمادها من رجال، وجؤول[23]، وتأييد شعبي، وتسلح، وحسن قيادة ينبغي ان تتكيف ريادتنا باستنتاجات هذا التحليل، دون أن تُسقِط من اعتبارها أبداً أن الهدف النهائي هو إنزال الهزيمة بالعدو.
ثمة أوجه أساسية ينبغي درساتها، مثلاً: السلاح، وكيفية استعماله، والتحليل المضبوط لدرجة فعالية دبابة أو طائرة في صراع من هذا النوع، والبحث عن معرفة أسلحة العدو وذخائرة وعاداته. فالسلاح الموجود لدى العدو هو بالضبط منبع تموين الغوار وإذا أمكن الاختيار، فيسفضل نمط السلاح الذي يستخدمه الجيش النظامي، لأن أكبر أعداء الغوار هو فقدان الذخيرة، وهو ما ينبغي تداركه من العدو ذاته.
بعد تحليل وتدريج الأهداف التي يجب بلوغها، يلزم تحديد المراحل لتحقيق الهدف النهائي، وهي مراحل يوضع توقَّع بها، إلا أنها تتعدل إبان الصراع وتتكيف بالظروف غير المتوقعة التي يحتمل نشوؤها.
الشيء الجوهري بالنسبة للمغاور، في الطور الأول، هو أن لا يدع نفسه يُبَاد. من ثم ورويداً، يزداد يُسراً لأعضاء الغوارة أو الغوارات المختلفة أن يتكيفوا بطراز الحياة هذا ويعتادوا الهروب بسهولة وتخليف القوى المرسلة في أعقابهم. بعد بلوغهم هذا الهدف، الذي يتم سوية مع اتخاذ المواقع التي تعصم المغاوير من أن تطالهم يد العدو (أو مع النجاح في تأليب[24] قوى كافية لفَلّ عزيمة العدو من أي هجوم)، ينبغي الشروع عندئذ بإضعاف العدو تدريجاً. أولاً في أقرب الأمكنة إلى مواضع المكافحة العنيفة ضد الغوار، ثم في أرض العدو، بمهاجمة مواصلاته، وإرهاق مآرِز عملياته أو مآرِزه المركزية، والإكثار من التخريب جهد المستطاع، تبعاً للوسائل المتوفرة

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:35 AM

  رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

ينبغي الضرب باستمرار. يجب عدم ترك جندي العدو يغمض جفنه في منطقة العمليات. يجب مهاجمة المخافر وتصفيتها بطريقة منهجية. يجب إعطاء العدو الانطباع بأنه مطوَّق في كل لحظة، ويتم ذلك نهاراً في الأرض الوعرة الشَجِرة، وليلاً في الأرض المنبسطة أو سهلة المسلك للدوريات. يقتضي كل ذلك تعاون السكان تعاوناً كلياً، كما يقتضي معرفة كاملة بالأرض. يتبادر هذان الشرطان إلى النظر في كل دقيقة من حياة المغاور. لذلك ينبغي إقامة مراكز دراسة لمناطق العمليات الحالية أو المستقبلة، والنهوض في الوقت ذاته بعمل جماهيري كثيف، مع شرح دواعي الثورة وغاياتها، ونشر الحقيقة التي لا مراء فيها وهي أنه يستحيل، في النهاية، الظفر على الشعب. إن من لا يشعر بهذه الحقيقة المطلقة لا يمكن أن يكون مغاوراً.
يجب في البدء أن يحمل هذا العمل محمل الكتمان. يجب أن يطلب من كل فلاح من كل فرد من المجتمع الذي نعمل فيه، أن لا يبدي أي تعليق عما يرى أو يسمع. ويتم البحث في وقت لاحق عن مساعدة السكان الذين تتوافر أمتن الضمانات عن إخلاصهم للثورة. ويُستخدمون من ثم في مهمات الارتباط ونقل البضائع أو الأسلحة، ويفيدون كأدِلاء في المناطق التي يعرفونها. ويمكن الوصول أخيراً إلى عمل جماهير سبق تنظيمها في مناطق النشاط، وتكون نتيجته النهائية الإضراب العام.
الإضراب عامل في المقام الأول من الأهمية في الحرب الأهلية. لكن الوصول إليه يستلزم سلسلة من العوامل الثانوية. وهذه العوامل ليست حاضرة دائماً ولا تتوفر بصورة عفوية إلا في حالات قليلة جداً. ينبغي استحداثها بشرح دواعي الثورة، بالتدليل على قوة الشعب الحقيقية وإمكاناته.
ويمكن الاستعانة أيضاً بجماعات معينة، شديدة التجانس. فبعد أن تكون قد أثبتت فعاليتها في أعمال أقل خطراً، تبدأ بأعمال التخريب. إنه سلاح ماض آخر في حرب الغوار: يمكن به إنزال الشلل بجيوش كاملة، والاضراب في الحياة الصناعية لإحدى المناطق، وحرمان سكان مدينة من العمل والماء والموصلات وإرغامهم على هجران الشوارع إلا في ساعات معينة.
فإذا ما تم التوصل إلى ذلك تدنت معنويات العدو أكثر فأكثر، ومعها معنويات وحداته المقاتلة، وتماثلت الثمرة إلى النضج لقطافها في اللحظة المرغوبة.
يفترض ذلك أن تكون الأرض التي أدركها نشاط الغوار قد اتسعت سابقاً، لكنه ينبغي ألاّ يبالغ أبداً في توسيعها. يجب الاحتفاظ دوماً بمأرِز عمليات قوي والاستمرار في توطيده طوال مدة الحرب. يجب تلقين سكان المنطقة، والاحتراز من أعداء الثورة الألِدَّة، واستكمال كافة الوسائل الدفاعية البحتة، داخل هذه الأرض، كالخنادق والألغام والموصلات.
ومتى بلغت الغوار قِواماً ذا شأن من سلاح ورجال، عليها أن تجنح إلى تشكيل أرتال جديدة. وعلى نحو ما يحصل في خلية النحل، حيث تنفصل ملكة جديدة في وقت معين، وتذهب في جزء من الثول، فإن الخلية الأم في الغوارة، مع أهم قائد فيها، تمكث في المنطقة الأقل خطراً، بينما تتوغل الأرتال الجديدة في مناطق عدوة أخرى، وفق النهوج[25] الذي وصفناه.
ويأتي وقت تصبح فيه الأرض التي تحتلها الأرتال المختلفة أصغر من أن تستوعبها، في حين توجه هذه الأرتال قوى عاتية إبان تقدمها نحو المناطق التي يقبض عليها العدو قبضاً شديداً. في هذه الحالة، تتألب الأرتال، وتكافح في جبهة متراصة، فإذا بها حرب تحاصن، حرب جيوش نظامية، غير أن جيش الغوار القديم لا يستطيع الانفصال عن مأرِزه. ينبغي عندئذ تشكيل أرتال غوارية جديدة وراء خطوط العدو، تنهج مثل سابقتها وتتوغل شيئاً فشيئاً في هذه المنطقة الجديدة حتى تسيطر عليها.
وبذلك نصل على مرحلة الهجوم، محاصرة المواضع، وإنزال الهزيمة بإمدادات العدو، نصل على نشاط الجماهير المتزايد شدَّةً كل يوم في سائر أرجاء الوطن، وإلى هدف الحرب النهائي: الظفر.






3 – صيالة حرب الغوار
الصيالة هي الوسيلة العملية لمتابعة الأهداف الريادية الكبرى.
إنها متمم الريادة وهي، على نحو ما، وضعها موضع التنفيذ. فالوسائل الصيالية أكثر قابلية للتحول وأكثر مرونة بكثير من الأهداف النهائية، وعليها أن تتكيف بكل واحد من ظروف الصراع. وخلال حرب واحدة، توجد ثمة أهداف صيالية ثابتة وأخرى متحولة. وينبغي قبل كل شيء مراعاة تصويب نشاط الغوّارة على نشاط العدو.
جؤول الغوارة هو مائزتها[26] الأساسية، وهو يسمح لها أن تصل بدقائق معدودة بعيداً عن مكان العمل، وإذا لزم الأمر، أن تغدو في بضع ساعات بعيدة عن منطقة العمليات، فيتيح لها ذلك أن تغير جبهتها باستمرار وتتجنب كل تطويق. وحسب أطوار الحرب المختلفة، تستطيع الغوارة أن تمارس التراجع فقط للإفلات من الطوق. التطويق هو الوسيلة الوحيدة لإرغام الغوارة على خوض معركة حاسمة تكون غير مؤاتية لها على نحو بليغ. كما يمكَّن الغوارة أيضاً أن تخوض قتالات لتضاد التطويق: يدع فريق صغير من الرجال نفسه ليطوقه العدو في الظاهر، بينما يجد العدو نفسه فجأة وقد طوقته قوى تفوقه عدّاً. أو يُستخدَم الفريق الصغير من الرجال المتحصِّن في موضع منيع، كطعم، بينما يتم تطويق وإبادة العتاد وكافة الجنود الآتين لنجدة الجيش النظامي. تسمى هذه الحرب الجائلة "مينويتو" تشبيهاً لها بالرقصة التي تحمل الاسم ذاته. يحاصر المغاوير مثلاً رتلاً عدواً إبان السير، واضعين خمسة أو ستة رجال في كل من الجهات الأربع، بعيدين عن بعضهم بعضاً بكفاية لكي لا يقعوا في التطويق. تباشر إحدى هذه الزمر القتال. فيتركز الرتل العدو عليها تلقائياً. يتراجع هؤلاء المغاوير وعندئذ، مع بقائهم في تماس بالعدو ويبدأ الهجوم ثانية من زمرة أخرى، فيجدد الجيش حركته السابقة ويتراجع المغاوير ثانية. يمكن على هذا النحو دون خطر كبير، تجميد رتل عدو وجعله يستنفد كمية كبيرة من الذخيرة وتحطيم معنوياته.
تطبق المهانة ذاتها في الليل، لكن بمزيد من الاقتراب، ومن الهجومية، لأن التطويق آنئذ أصعب. العمل الليلي هو مائزة هامة أخرى لحرب الغوار: إنه يسمح بالتقدم أقرب ما يمكن من المواضع المزمع مهاجمتها، وبالتجول في المناطق غير المعروفة جيداً حيث توجد مخاطر الوشاية. من المفهوم، نظراً لقلة العدد، أن هذه الهجمات لا بد من وقوعها دوماً بالمفاجأة، وهذا ما يهب تفوقاً عظيماً ويتيح للمغاوير إنزال الخسائر بالعدو دون مقابل في صفوفهم. ففي قتال يقف فيه مئة رجل في جانب وعشرة في الجانب الآخر، لا يمكن أن تتعادل الخسائر. خسائر العدو قابلة التعويض في كل لحظة، وهي، إذا استرسلنا في مثالنا، توافق 10 % من العدد. أما خسائر الغوارة فإن تعويضها يستلزم وقتاً أطول لأن المغاور جندي ذو تخصص عال وخسارته تعادل 10 % من مجموع العدد.
لا يُترك جندي ميت من الغوار أبداً طريحاً بسلاحه وذخيرته، وما أثمنهما في النضال. إن واجب كل مغاور، عندما يصرع أحد رفاقه، هو أن يستعيد السلاح والذخيرة. فالعناية التي تبذل للذخيرة، والمدارة التي تحاط بها، هما بالضبط مميز آخر لحرب الغوار. فيمكن في قتال بين غوارة وقوة نظامية، تحديد هوية الطرفين من طريقتيهما في إطلاق النار: تركيز كبير للنار لدى الجيش النظامي، ورمي متباعد ودقيق لدى المغاوير.
وقد حدث أن أحد أبطالنا، وهو متوفى الآن، قد استعمل رشاشه حوالي خمس دقائق دون مباعدة بين الرشَّات، فاختلط الأمر على قواتنا من جراء هذه الوهازة[27] في الرمي التي حملتهم على الظن أن ذلك الموضع المفتاح قد سقط في أيدي العدو. إنها إحدى المناسبات النادرة التي لم نحاول فيها توفير الذخيرة، نظراًً لأهمية النقطة المدافع عنها.
هناك مائزة جوهرية أخرى للمغاور، هي قابليته للتكيف بكل الظروف ولتحويل كل الحوادث العارضة إلى عناصر مؤاتية. فالمغاور، إزاء جمود طرائق القتال النهجية، يرتجل صيالته في كل لحظة من النضال ويفاجىء العدو باستمرار.
إن مواضع المغاور هي مطاطة قبل كل شيء. إنها نقاط محددة لا يستطيع العدو أن يجوزها، ونقاط إلهاء. كثيراً ما تلاحظ الدهشة تعتري العدو عندما يتبين له، من بعد تقدمه بانتظام واجتيازه المعاثر بسهولة، أنه قد أوقف فجأة وتعذر عليه السير قُدُماً. مرد ذلك إلى أن المغاوير يتخذون مواضع لا تُنَال، إذا ما أتيح لهم إجراء دراسة جدية للأرض. ليس المهم هو عدد المهاجمين، بل المهم عدد المدافعين. فإذا كان عددهم كافياً أمكنهم أن يقوموا كتيبة، والنجاح حليفهم في أغلب الأحيان، إن لم نقل دائماً. إن مهمة القادة الكبرى هي الحكمة في اختيار المكان والزمان اللذين يمكن الدفاع فيهما عن أحد المواضع حتى النهاية.
تختلف مِهانة الهجوم هي الأخرى بالنسبة للغوارة: يبدأ الهجوم مفاجئاً، حانقاً، لا يرحم، ليتجمد بغتة في سلبية مطبقة. يتماثل من بقي حياً من الأعداء إلى الاطمئنان، ظناً منهم أن العدو قد انقلع، فيرتاحون ويعودون إلى حياة منتظمة داخل الثكنة أو المدينة المحاصرة، فإذا بهجوم جديد ينفجر، في نقطة أخرى، متصفاً بالموائز عينها. هذا في حين تقبع معظم قوى الغوارة تراقب نجدات العدو المحتملة. وقد يُشن هجوم عنيف أحياناً على مخفر يحرس حياً فيسقط بين أيدي المغاوير. المفاجأة والسرعة هما الشيء الجوهري في الهجوم.
إن أعمال التخريب ذات أهمية عظيمة جداً. ينبغي التمييز بوضوح بين التخريب كوسيلة ثورية عالية النجاعة وبين الإرهاب وهو وسيلة يغلب عليها عدم النجاعة بصورة عامة وهي ذات نتائج لا يمكن التنبؤ بها، وكثيراً ما تحدث ضحايا بين الناس الأبرياء، وتكلف عدداً كبيراً من الأرواح المفيدة للثورة. يمكن اعتبار الإرهاب وسيلة مقبولة إذا استخدم لمعاقبة قائد مرموق من قوى الاضطهاد، إشتهر ببغيه وبفعاليته في القمع وعُرف أن ثمة فائدة في إزالته من الوجود. ولن يلجأ أبداً إلى إعدام أفراد قليلي الأهمية، يستتبع موتهم مزيداً من القمع.
هناك نقطة يختلف حولها كثيرون في تقدير الإرهاب. يعتبر بعضهم أن مجرد إثارة الاضطهاد المباحثي واستمضائه يعيق كل اتصال علني إلى حد ما – أو نصف سري – مع الجماهير، فيجعل إعادة تأليب الجماهير مستحيلة، من أجل اعمال تضحى ضرورية في حينها. هذا صحيح بحد ذاته. ولكنه يتفق خلال حرب أهلية، ولدى سكان معينين، أن يكون القمع قد بلغ مبلغاً من الشدة ينتفي معه في الواقع أي نوع من الأعمال الشرعية. يستحيل العمل الجماهيري عندئذ ما لم يكن مدعوماً بالسلاح. ينبغي إذاً إعارة اهتمام كبير لأختيار الوسائل التي ستتّبع، وتحليل النتائج المؤاتية التي يمكن أن تجرها هذه الوسائل على الثورة. فالتخريب، بكل حال، هو دوماً من أمضى الأسلحة إذا أُحسِن استعماله. يجب عدم استخدامه لتعطيل وسائل إنتاجية تدع قطاعاً من السكان مشلولا، أي تحدث البطالة، دون أن تشل حركة المجتمع المنتظمة. بعبارة أخرى، فمن المضحك مثلاً تخريب معمل للمرطبات[28]، بينما يكون تخريب مركز كهربائي ناجعاً ومنصوحاً به.
ففي الحالة الأولى يحصل ترحيل بضعة عمال، لكن ذلك لا يغير مجرى الحياة الصناعية في شيء. أما في الحالة الثانية، فيحصل ترحيل العمال أيضاً، إلاَّ أنه يجد تبريره الكامل في الشلل التام لحياة المنطقة. سوف نعود في ما بعد إلى مِهانة التخريب.
الطيران سلاح ذو حظوة في الجيش، لكن ليس له عمل حقيقي في الطور الأول من حرب الغوار، عندما يكون الرجال قلة مبعثرة في منطقة وعرة. يغدو الطيران ناجعاً عندما يخرب بصورة منهجية وسائل الدفاع المنظمة والمرئية، وليس هذا واقعاً في نمط حربنا. إنه ناجع أيضاً أثناء سير الأرتال، في الأرض السهلة أو رديئة الوقاية، ولكنه يمكن استبعاد هذه المسألة بسهولة بإجراء السير ليلاً. إن النقل، على الطرق أو على السكك الحديدية، هو إحدى نقاط ضعف العدو. يستحيل عملياً مراقبة طريق أو سكة حديدية متراً متراً. يمكن وضع شحنة كبيرة من المتفجرات في أي مكان، فتعطل السبيل، أو تنفجر عند مرور ناقلة[29] عليها، فتحدث بالإضافة إلى تعطيل السبيل خسارة كبيرة في الرجال والعتاد.
مصادر المتفجرات متنوعة جداً: يمكن استقدامها من الخارج، واستعمال القنابل التي أطلقها العدو ولم تنفجر، أو صناعتها في معامل خفية داخل منطقة الغوار. والمِهانات المتبعة لتفجيرها متنوعة أيضاً. وتتعلق صناعة المتفجرات كذلك بظروف الغوارة.
كنا نصنع في معاملنا البارود ونستخدمه كمتفجر، وقد اخترعنا عدة أجهزة لتفجير هذه الألغام في الوقت المرغوب. كانت أفضل النتائج تحصل من الأجهزة الكهربائية. إلاَّ أن أول لغم فجرناه كان قنبلة ألقتها طائرات العدو، وقد حشوناها بمتفجرات مختلفة. أسنِدَت هذه القنبلة ببندقية ربط بزنادها مرس. فلما مرت مدرعة عدوة شددنا المرس ففجرت الطلقة القنبلة.
يمكن إتقان هذه المِهانات إلى حد بعيد، وقد علمنا أنهم في الجزائر مثلاً يستعملون حالياً ضد الحكم الاستعماري الفرنسي، ألغاماً مسيرة عن بعد تنفجر على مسافة كبيرة من نقطة إطلاقها باللاسلكي.
إن الاختباء في الدروب لتفجير الألغام ثم إبادة من يبقى حياً هو مهانة عظيمة المردود للتمون بالسلاح والذخيرة، لأنه لا يبقى للعدو وقت لاستخدامها ولا للهروب، فيمكن بلوغ نتائج ذات شأن باستعمال ذخيرة ضئيلة جداً.
تضطر هذه الأعمال المرهقة العدو إلى تعديل صيالته. وسوف يطفق يجري تنقلاته بأرتال آلية حقيقية وليس في ناقلات منفردة. إلاَّ أنه يمكن، إذا أحسن اختيار الأرض، الوصول إلى ذات النتيجة، بتقطيع أوصال الرتل وتركيز القوى على ناقلة واحدة منه. ينبغي في هذه الحالة عدم التجاوز عن العناصر الجوهرية لصيالة حرب الغوار: المعروفة الكاملة بالأرض، ومراقبة سبل التملَّص وكافة الدروب الثانوية، ومعرفة سكان المنطقة وحيازة تأييدهم الكامل من أجل التموين والنقل وإيواء الرفاق الجرحى خفيةً، بصورة مؤقتة أو دائمة، وأخيراً، التفوق العددي في نقطة معينة، وقابلية عظيمة للجؤول، وتوفر الاحتياطات.
فإذا ما اجتمعت كل هذه الشروط، أعطى الهجوم المفاجىء على سبل مواصلات العدو نتائج ذات شأن.
يؤلف الموقف الواجب التزامه تجاه بني الإنسان كافة عنصراً جوهرياً في صيالة الغوار. إن كيفية معاملة العدو هامة بحد ذاتها: يجب أن يكون الهجوم صارماً لا هوادة فيه، ومثله الموقف إزاء كافة العناصر الحقيرة التي تتعاطى الوشاية والغيلة. إلا أنه ينبغي التوسع في الرحمة جهد المستطاع إزاء الجنود الذين يذهبون للقتال قياماً – أو ظناً منهم أنهم يقومون – بواجبهم العسكري. لا أسرى عند عدم وجود مآرِز عمليات كبيرة أو أمكنة منيعة. يجب عندئذ إعادة الحرية إلى الباقين أحياء، ومعالجة الجرحى منهم بكافة الوسائل الممكنة. يجب أن يرتكز السلوك نحو السكان المدنيين على احترام كبير لكافة تقاليد وعادات أهالي المنطقة، للتدليل العملي على تفوق المغاور أخلاقياً على الجندي المضطهِد. وفي ما عدا حالات خاصة، ينبغي عدم إجراء العدالة مجراها دون إعطاء المذنب إمكان الدفاع عن نفسه.





 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:36 AM

  رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 



4 – الحرب في الأرض المؤاتية
قلنا في ما سبق إن نضال الغوار لن يجري دائماً في الأرض الأكثر مؤاتاة لتطبيق صيالة الغوار. إلاَّ أن الصيالة العامة يجب أن تكون هي هي دائماً، قائمة على المسلّمات الأساسية لحرب الغوار، عندما يوجد الفريق المغاور في مناطق صعبة المسالك، كالجبال الشجِرة أو الوعرة، أو القفار الممتنعة على السير، أو المرازغ[30].
النقطة المهمة هي: كيف العثور على التماس بالعدو؟ كيف الأشتباك به؟ فإذا كانت المنطقة متاهة للجيش النظامي مناوئة له لدرجة أنه لا يستطيع دخولها ينبغي أن تتقدم الغوّارة حتى المناطق السالكة بالنسبة للجيش النظامي، حيث يمكن القتال.
ومتى انقضى الطور الأول، ومذ أن تؤمن الغوارة أودها، عليها أن تقاتل. عليها لهذه الغاية أن تخرج باستمرار من ملجئها، لكن ليس لزاماً أن تكون عظيمة الجؤول كما في الأرض غير المؤاتية لها. يجب أن تتكيف بظروف العدو، لكنها لا تحتاج أن تتنقل كما في الأراضي التي يستطيع العدو أن يحشد فيها سريعاً عدداً كبيراً من جنوده. ولا يتحتم أن تكون العمليات ليلية. وفي حالات كثيرة، يمكن القيام بالعمليات نهاراً، ولا سيما التنقل. يتعلق كل ذلك طبعاً بيقظة العدو، براً وجواً. ويمكن أن يطول أمد القتال، ولا سيما في الجبل. ويمكن القيام بقتالات طويلة الأمد بعناصر ضئيلة، ويُرجَّح جداً أن يُستطاع منع وصول نجدات العدو إلى ميدان العمليات.
إن مراقبة المسالك هي قاعدة لا يجوز أن ينساها المغاور أبداً. إلاَّ أن مصاعب العدو في تلقي النجدات هي بالذات ما يزيد من هجومية المغاور، إذ يستطيع أن يدنو من العدو أكثر، وأن يهاجمه بمزيد من المباشرة، وأن يقاتله جبهياً ولأمد أطول. يتعلق كل ذلك طبعاً بظروف شتَى، بكمية الذخيرة مثلاً.
وعلى الرغم مما للحرب في الأرض المؤاتية، ولا سيما في الجبل، من حسنات عديدة، ثمة محذور يعتريها هو كونها لا تسمح بالاستيلاء بعملية واحدة على كمية كبيرة من السلاح والذخيرة، لأن العدو يتخذ احتياطات في مثل هذه البقاع (ينبغي ألاَّ ينسى المغاور أبداً أن العدو هو مصدر تموينه بالسلاح والذخيرة). وبالمقابل، فإن الغوارة تستطيع أن تستقر في هذه الأرض وتتحضر بسرعة أكبر منها في الأرض غير المؤاتية، لتنشىء مأرِزاً مركزياً قادراً على الاضطلاع بحرب التحاصن. إنها تستطيع أن تقيم في هذه الأرض المنشآت الصغيرة التي تحتاج إليها، وأن تحميها بالشكل الملائم من أذى الطيران والمدفعية بعيدة المدى، كالمشافي ومراكز التعليم أو التدريب، بالإضافة إلى المخازن ووسائل النشر... إلخ.
وتستطيع الغوارة في هذه الظروف أن تزيد من قوامها وتستطيع أن تضم رجالاً لا يقاتلون، وحتى أن تسدي التدريب للذين سوف يستلمون السلاح الذي سوف يقع بين أيديها في المستقبل.
يتبع عدد الرجال في الغوارة الواحدة لمقاييس مرنة، وفقاً للمكان، وسهولة التموين، وفرار الناس المضطهَدين جماهيرياً من المناطق المجاورة، وتوفر السلاح، وحاجات المنظمة ذاتها. ورفد المقاتلين الجدد هو بكل حال مما يسهل كثيراً عملية التحضر.
يمكن أن يتسع قطر نشاط غوارة من هذا النمط بقدر ما تسمح بذلك عمليات الغوارات الأخرى في المناطق المجاورة. غير أن هذا القطر يحد منه الزمن اللازم للذهاب من مكان عملية إلى منطقة آمنة. فإذا حسبنا أن المسير لا يجوز إلاَّ ليلاً، لن تستطيع الغوارة أن تقوم بعملية على أبعد من خمس أو ست ساعات من نقطة أمانها الأدنى. وتستطيع زمر صغيرة من المغاوير أن تنتشر طبعاً، منطلقة من منطقة الأمان هذه، وتستشري تدريجياً في المنطقة المجاورة.
إن الأسلحة ذات المدى البعيد والاستهلاك القليل من الذخيرة هي المنصوح بها لهذا النمط من الحرب. وتدعم بمجموعة من الأسلحة ذاتية الحركة أو نصف ذاتية الحركة. ومن جملة البنادق والرشيشات المتوفرة في السوق الأمريكية الشمالية، تجدر التوصية بصورة خاصة بالبندقية م – 1 السماة "غاراند"، التي ينبغي أن يستعملها أناس على جانب من الخبرة، إذ من محاذيرها أنها تستهلك كثيراً من الذخيرة. ويمكن في الأرض المؤاتية استخدام أسلحة نصف ثقيلة مثل الرشاشات ذات المنصب الثلاثي، التي توفر لسدنتها مجال أمان أكبر. بَيْدَ أنه ينبغي أن تكون دائماً أسلحة للدفاع وليس للهجوم.
والأمثل، من أجل غوارة قوامها خمسة وعشرون رجلاً، هو وجود عشر إلى خمس عشرة بندقية من ذات الطلقة الواحدة، وحوالي عشرة اسلحة ذاتية الحركة، تتدرج من "الغاراند" إلى المسدسات الرشاشة، تدعمها أسلحة ذاتية الحركة خفيفة وسهلة الحمل، مثل الرشيشات "براونينغ" أو الـ"ف. أ. ل." البلجيكية والـ"م. 14" وهما أحدث نمطاً. ومن بين المسدسات الرشاشة، فإن ذات 9 مم هي المفضلة لأنها تسمح بنقل مزيد من الذخيرة. وكلما كان صنعها أبسط كلما زاد النصح بها لسهولة تبديل قطعها في هذه الحالة. وبكل حال، ينبغي أن يكون التسلح مماثلاً لتسلح العدو إذ أن الذخيرة التي يستخدمها هو، هي التي سوف نستخدمها نحن متى وقعت أسلحته في أيدينا. وتهمل على وجه العموم الأسلحة الثقيلة التي يمكن أن يستخدمها العدو فالطيران لا طائل له، لانعدام الرؤية لديه، والدبابات والمدافع لا كبير جدوى منها لصعوبة التوغل التي تعترضها في هذه المناطق.
التموين أمر عظيم الأهمية. فللمناطق الوعرة، على العموم، وبحكم وعورتها محاذير، إذ أن الفلاحين (وبالتالي التموين المباشر بالمنتجات الزراعية واللحم) فيها قليلو العدد. ولاجتناب فترات الضيق المزعج، ينبغي الاحتفاظ بطرق مواصلات مستقرة لإمكان التعويل باستمرار على حد أدنى من الزاد مخزون في أمكنة احتياطية.
وتقل عموماً في منطقة العمليات هذه إمكانات التخريب الواسعة النطاق. فهذه المنطقة، بحكم قلة مسالكها، تقل فيها الأبنية والخطوط الهاتفية وأنابيب المياه التي يمكن إلحاق الأذى بها بالعمل المباشر.
ويكون من المهم للتموين توفر بعض الدواب، وأكثرها ملاءمة هو البغل، نظراً لوعورة الأرض. (و ينبغي توفر مراع تسمح بتغذية مناسبة). يستطيع البغل أن يجتاز أراض غاية في الوعورة، حيث يتعذر المرور لأي دابة أخرى. وفي حالات الصعوبة القصوى ينبغي اللجوء على النقل على ظهور الرجال. يستطيع كل فرد أن ينقل حملاً زنته خمسة وعشرون كيلوغراماً لعدة ساعات في اليوم، ولعدة أيام.
وينبغي أن تتضمن طرق المواصلات مع الخارج سلسلة من المحطات حيث يقوم أناس حائزون الثقة الكاملة، على تخزين البضائع وخبء عمال الارتباط. كما يمكن إنشاء طرق مواصلات داخلية يتعلق اتساعها بدرجة النمو التي بلغتها الغوارة وكنا قد استطعنا في بعض المناطق، حيث أقيمت جبهات عمليات الغوار في كوبا، إنشاء طرق وخطوط هاتفية طولها عدة كيلو مترات. وكان لنا على الدوام جهاز من الرسلاء يغطي المناطق كافة، في أقصر وقت ممكن.
وثمة وسائل ارتباط أخرى لم يستخدمها الغوار في كوبا، مثل إشارات الدخان والمرايا العاكسة للشمس، الحمام الزاجل.
ينبغي أن يعنى المغاوير بصيانة الأسلحة والذخائر، وفوق كل شيء، أن تكون لهم أحذية جيدة. إنها ضرورة حيوية. وهي ما ينبغي أن تستهدفه الجهود الأولى في العمل الحرفي لديهم. لن تكون المعامل في البدء، إلاَّ منشآت لتسكيف الأحذية العتيقة. ومن ثم، إبان تنظيم العمل، يمكن إنشاء عدة ورشات تستطيع إنتاج الأحذية بمعدل يومي حسن. إن صناعة البارود بسيطة نوعاً ما، ويمكن إنتاج الكثير منه إذا وجد معمل صغير وإذا جلبت العدة اللازمة من الخارج. تؤلف الأراضي الملغومة خطراً بالغاً للعدو. فإذا ما انفجرت في آن واحد مساحات كبيرة ملغومة، أمكنها إزهاق مئات الرجال.






5 – الحرب في الأراضي المجافية
ينبغي أن تتوفر كافة الشروط الأساسية لحرب الغوار، من أجل الاحتراب في هذا النوع من الأرض، القليل الوعورة، الخالي من الغابات، وذي طرق المواصلات العديدة. وطرائق الحرب وحدها هي التي سوف تتغير. ينبغي ان يكون الجؤول فائقاً في هذا النمط من الغوار. فالضربة التي تكال، والأفضل في الليل، ينبغي أن تكون غاية في السرعة، شبه صاعقة. وليس على الغوارة أن تنسحب بسرعة فقط، بل أن تبلغ أيضاً مأرِزاً جديداً، غير مأرِز انطلاقها، وأبعد ما يكون عن مكان الاشتباك، متذكرة أنه ليس ثمة ملاذ ينأى عن قوات القمع.
يستطيع الرجل أن يقطع في ليلته بين ثلاثين وخمسين كيلو متراً ولكنه يستطيع أيضاً أن يسير في ساعات النهار الأولى، إلاَّ إذا كانت مناطق العمليات غير تابعة تماماً لحمى الغوارة وإذا كان أهل المحلة يشكلون خطراً باحتمال إفشائهم وضع الفرقة والجهة التي اتجهتها إلى الجيش المعادي. ففي هذه الحال يفضل دائماً العمل ليلاً، في صمت مرين قبل العمل وبعده، ويتم اختبار الهزيع الأول من الليل للقيام بالعمل وهنا أيضاً قد تتكشف الحسابات عن خطأ إذ يمكن وجود حالات تفضل فيها ساعات الفجر. لا يجوز بأية حال تعويد العدو على شكل محدد من الحرب، بل ينبغي تنويع الأمكنة والساعات وطرائق العمل باستمرار.
ذكرنا آنفاً أن العمل لا يمكن أن يكون طويل الأمد، بل سريعاً وبالغ الفعالية يدوم بضع دقائق، ويعقبه الانسحاب فوراً. لا تكون الأسلحة المستعملة في هذه الحالة مثلها في الأرض المؤاتية، ويفضل توفُّر أكبر عدد من الأسلحة ذاتية الحركة: ففي الهجمات الليلية ليست الدقة هي العامل الحاسم، بل تركيز الرمي. فكلما كان رمي الأسلحة ذاتية الحركة أكثب[31]، كلما ازداد احتمال القضاء على العدو.
ثم إن انفجارات الألغام في الطرقات وهدم الجسور هي عوامل رئيسية. تكون الهجمات أقصر وأقل تواتراً، ولكن يمكن أن تكون عنيفة جداً. وتستخدم أسلحة مختلفة مثل الألغام السابق وصفها وبارودة الصيد. بارودة الصيد سلاح فتاك للناقلات المكشوفة المستخدمة لنقل الجنود، أو للناقلات ذات الغشاية التي ليس لها حماية خاصة، كالشاحنات مثلاً. والبارورة ذات الفشك المحشو بالخردق الغليظ[32] فعالة للغاية. ليست سلاحاً خاصاً بالغوار، فهي تستخدم ايضاً في الحروب النهجية، وقد كان للأمريكيين سرايا من المشاة ذات بنادق رفيعة الجودة مجهزة بحراب، لتطهير ملاجىء الرشاشات.
ثمة مسألة هامة هي مسألة الذخيرة. إنها تغنم من العدو دائماً تقريباً. لا ينبغي كيل الضربات إلاَّ حيث يتم التأكد تماماً من إمكان تعويض الذخيرة المستعملة، إلا إذا توفرت مخزونات كبيرة مخبوءة في حرز أمين. بعبارة اخرى، لا يسوغ شن هجوم على جماعة من الرجال إذا كلف ذلك كل الذخيرة المتوفرة، دون إمكان تعويضها. ينبغي دائماً، في صيالة الغوار، أن يحسب الحساب للمسألة الخطيرة التي يشكلها التموين بالعتاد الحربي، وهو الجوهري لمتابعة النضال. ينبغي إذاً أن تكون الأسلحة مماثلة لأسلحة العدو، باستثناء المسدسات والبنادق التي يمكن الحصول على ذخيرتها في المدينة أو في منطقة الغوار ذاتها.
يجب ألا يتجاوز قوام غوارة من هذا النوع عشرة او خمسة عشرة رجلاً. ويكون في غاية الأهمية أن يؤخذ بالحسبان دوماً تحديد قوام الوحدة المقاتلة: فيمكن لعشرة أو أثني عشر أو خمسة عشر رجلاً أن يختبئوا في أي مكان، وهم يكافحون العدو بمقاومة فعالة متعاونين فيما بينهم. وربما كان أربعة أو خمسة غير كافين. أما إذا تجوز العدد العشرة، يتفاقم كثيراً إمكان تحديد موضعهم من جانب العدو إبان السير أو في مأرِزهم.
تذكروا أن سرعة الغوارة إبان السير تساوي سرعة أبطأ رجالها. ويصعب إيجاد وهَّازة سير واحدة لدى عشرين أو ثلاثين او أربعين رجلاً، أكثر منه لدى عشرة. وينبغي أن يكون مغاور السهل إطلاقاً، عدَّاءً سريعاً، فينبغي أن تتجلى في السهل ممارسة مبدأ "إضرب واهرب" بأكمل تعبير لها. ولغوارات السهل محذور بالغ هو إمكان تطويقها بسرعة، وافتقارها لحروز أمينة تستطيع أن تبدي منها مقاومة فعالة. فعليها بسبب ذلك أن تعيش في خفاء مطلق إبان جزء كبير من الطور الابتدائي، فلا تستطيع أن تثق بأي جار لم تختبر أمانته اختباراً تاماً. إن أعمال قمع العدو تبلغ على العموم مبلغاً من العنف والوحشية، وتصيب ليس رب الأسرة فقط، بل النساء والأطفال في أحياء كثيرة بحيث يمكن أن تحدو بهم إلى "التخاذل" وإعطاء المعلومات عن مكان وجود الغوارة وطرائق عملها، مما يسبب تطويقاً ذا نتائج مزعجة دوماً وإن لم تكن مميتة بالضرورة بالنسبة للغوارة. وينبغي أن تنشط الغوارة متى سمح التموين بالسلاح أو حالة الشعب الثورية بزيادة عدد الرجال. وتستطيع الغوارات المختلفة، إذا لزم الأمر، أن تجمتع في وقت ما لكيل ضربة هامة، لكن بحيث تعود لتوّها تنقسم إلى جماعات صغيرة من عشرة إلى خمسة عشر رجلاً تتبعثر باتجاه مناطقها المعتادة.
يمكن تنظيم جيوش حقيقية، ذات قيادة واحدة تحوز الاحترام والطاعة، دون الاضطرار إلى البقاء في جماعة واحدة. وهذا ما يولي أهمية عظمى لانتخاب قائد الغوارة، إذ ينبغي التأكد من أن هذا القائد سيكون مسؤولاً كلياً من الناحية الفكرية والشخصية، أمام أعلى قائد في المنطقة.
البازوكة هي أحد الأسلحة التي يمكن استخدمها في الغوار. إنها سلاح ثقيل، عظيم الفائدة نظراً لسهولة نقله واستعماله. ويمكن أن يستعاض عنه إذا اقتضى الأمر، بالرمانة ضد الدرع. البازوكة طبعاً سلاح يغنم من العدو: إنه سلاح أمثل للرمي على الناقلات المدرعة، والناقلات غير المدرعة المحملة بالجنود وللاستيلاء بسرعة على مراكز عسكرية صغيرة ذات حاميات قليلة. لكنه ينبغي التنويه بأنه يتعذر لرجل واحد أن يحمل أكثر من ثلاث صِمامات، إذ تشكل هذه لوحدها مجهوداً بالغاً.
وفي ما يتعلق بالأسحلة الثقيلة التي تغنم من العدو، ينبغي الاجتهاد لعدم إضاعة أي منها. بَيْدَ أن بعض هذه الأسلحة، مثل الرشاش المنصوب والرشاش من عيار 50، يمكن إذا ما غنمت، استخدامها بشيء من عدم الاكتراث لخسارتها: فلن نقاتل في ظروف مجافية لنا، ذوداً عن رشاش ثقيل أو سلاح من هذا القبيل، بل سيستخدم بكل بساطة حتى اللحظة التي يتحتم فيها تركه في موضع ما. كان التخلي عن سلاح في حربنا التحررية يشكل جنحة خطيرة ولم يصدف قط أن قُبل العذر الذي نوهنا عنه. غير أننا نلحظ ذلك، مؤكدين على هذه الحالة الفريدة التي لا يكون فيها التخلي عن السلاح مدعاة للنقد. إن سلاح المغاور في الأرض المجافية، هو سرعة رميه.
إذا كانت منطقة ما سهلة المسلك، فهي على العموم مأهولة وتصادف فيها كثافة فلاحية كثيرة. يتأتى هذا الواقع بشكل ملموس مع إمكانات التموين. فبتوفر أناس موثوقين، ذوي صلات مع مراكز توزيع المؤن، تستطيع الغوارة أن تقوم بأودها، دون تخصيص الوقت والمال لإقامة خطوط التموين الطويلة المحفوفة بالخطر. ويحسن بالمرء التذكر أنه كلما كان عدد الرجال صغيراً كلما تأمن الغذاء بسهولة. والمؤن الجوهرية، مثل شِباك النوم والبطانيات والأقمشة الكتيمة للماء والكلِل[33] والأحذية والأدوية والغذاء، متوفرة في المنطقة مباشرة ما دامت هي حاجات شائعة الاستعمال لدى السكان.
وتضحى الموصلات أسهل كثيراً إذ يمكن الاعتماد على عدد أكبر من الرجال ومن خطوط الموصلات، إلا أن الأمان الضروري لنقل الرسائل إلى نقطة بعيدة يتضاءل، إذ يلزم هذه الحالة عدد من عمال الارتباط يقتضى الوثوق بهم. ويبقى احتمال القبض على أحد هؤلاء الرسلاء الذين يجوبون المناطق العدوة باستمرار، خطراً دائماً. فإذا لم تكن الرسائل غاية في الأهمية، يفضل استخدام الصيغة الشفهية. أما إذا كانت بالغة الأهمية، فينبغي كتابتها بالرمز. وقد أثبتت التجربة أن النقل الشفهي من فم إلى أُذُن يشوه كل مخابرة تشويهاً تاماً.
ولهذه الأسباب ذاتها تفقد الصناعات من أهميتها. ولن يستطاع إنشاء معامل للأحذية أو السلاح. ويجب الاقتصار عملياً على ورشات صغيرة حسنة التمويه، حيث يمكن إعادة حشو فشك البنادق، وصنع نمط ما من الألغام وقطع من السلاح وكل ما يحتاج إليه في الحال. وبالمقابل، يمكن الاعتماد للقيام بالأعمال الضرورية، على كل الورشات الصديقة في المنطقة.
نصل إلى النتيجتين اللتين تنتجان منطقياً مما أسلفنا. النتجية الأولى هي أنه، في إطار حرب الغوار، تتناسب شروط التحضُّر عكساً مع درجة تطور المنطقة المعنية. فالمرافق تدفع الإنسان إلى التحضر، ولكن العكس هو الذي يحدث بصدد الغوار: فكلما لاقى المغاور رفاهاً أكبر أصبحت حياته أقل ثباتاً وأكبر بداوة. إن عنوان هذا الفصل هو بالضبط "الحرب في الأرض المجافية" لأن كل ما هو لحياة الإنسان وما ينتج عنه من مواصلات، ومراكز مدينة، أو نصف مدنية، وتجمعات السكان الكبرى، والأراضي التي يسهل شغلها بالآلة، كل ذلك مما يجافي وضع المغاور.
والنتجية الثانية: إذاكان الغوار يستلزم بالضرورة عملاً جماهيرياً هاماً، فإن هذا العمل يزداد أهمية في المناطق المجافية، حيث يمكن لهجوم واحد من العدو أن يسبب نكبة. ينبغي ههنا أن تكون الدعاية مستمرة لتحقيق وحدة العمال والفلاحين وسائر الطبقات الاجتماعية في المنطقة، للتوصل إلى جبهة داخلية متجانسة تماماً ومتفقة مع المغاوير. والنظر إلى هذا العمل الجماهيري الدائب بصفته العامة كعلاقات بين الغوارة وبين سكان المنطقة، لا يجيز نسيان الفردية لعدو مكابر ينبغي إزالته بلا ندم إذا ما شكَّل خطراً. وينبغي أن تكون الغوارة صارمة بهدا الصدد. فلا يمكن بقاء أعداء داخل منطقة العمليات، في أماكن غير أمنية.






6 – الحرب في المناطق المدنية
إذا ما صار الأمر في مرحلة معينة من حرب الغوار، إلى مهاجمة المدن، بعد التوغل في الريف المجاور على نحو يتيح إنشاء الغوارات فيه بشيء من الأمان، يلزم عندئذ تزويدها بتنظيم خاص.
ينبغي التنويه بأن الغواراة لا يمكن أن تنشأ عفوياً في منطقة مدنية. لن تقوم إلا بعد أن تنشأ بعض الشروط الضرورية لوجودها. يشير هذا الواقع من ذاته إلى أن الغوارة في ضاحية المدينة توضع مباشرة تحت إمرة قادة موجودين في منطقة أخرى. على أن وظيفتها لن تكون القيام بمعمل مستقل، بل على العكس، تقع في نطاق مخططات ريادية محددة سلفاً. وستكون وظيفتها هي ردف عمل جماعات أكثر أهمية في منطقة أخرى، والإسهام في نجاح فكرة صيالية معينة، دون أن تبلغ اتساع عمليات الغوارات غير المدنية. لن تستطيع غوارة في منطقة مدنية أن تختار بين تخريب المواصلات أو القيام بالاغتيالات أو مداهمة دورية جنود على طريق نائية، بل سوف تقوم بما يطلب منها بالضبط، فإذا كان دورها هو قطع الأعمدة، أو الأسلاك الكهربائية، أو الخطوط الحديدية أو أنابيب المياه، فعليها الاقتصار على تنفيذ هذه المهمات بدقة.
ينبغي ألاّ يتجاوز قوامها أربعة أو خمسة رجال. إن هذا التحديد هام لأنه ينبغي اعتبار الغوارة في ضاحية المدينة قائمة في أرضٍ تبلغ مبلغاً استثنائياً من المجافاة لها. فالعدو هنا بالغ اليقظة. وتزداد إمكانات التنكيل والوشاية إلى حد عظيم. وثمة ظرف مشدَّد لصعوبتها، إذ لا ينبغي نسيان أن الغوارة في ضاحية المدينة لا تستطيع الابتعاد عن مواضع عملياتها. فإلى سرعة عملها وتنقلها ينبغي أن يضاف الابتعاد الضئيل نسبياً عن مكان العمل. فهي غوارة ليلية بالدرجة الأولى. ولن تستطيع تعديل عملها ما لم يسمح تقدم الثورة بمحاضرة المدينة واشتراك الغوارة في الحصار كمقاتلة عاملة.
ينبغي أن تكون الصفات الجوهرية لدى هذا المغاور: مزيداً من الضباطة عما لدى المغاوير الآخرين إذا كان ذلك ممكناً بعد، والكتمان. ولن يستطيع التعويل إلاَّ على بيتين أو ثلاثة بيوت صديقة لإيوائه. إنه على مثل اليقين من أن التطويق في هذه الظروف يعدل الموت. ولن يكون السلاح مثله لدى الزمر الأخرى. سوف تكون أسلحة دفاعية فردية يمكن إخفاؤها ولا تعميق هروباً سريعاً. لن يكون لدى الزمرة إلا بندقية واحدة أو اثنتين في الحد الأقصى (أو بنادق مقصورة القناة)، ولدى أعضاء الزمرة مسدسات.
لن تتم أية محاولة هجوم إلاَّ فُجاءً، ضد فرد أو اثنين من جيش المعادي، أو ضد دائرة استخبارات. وسوف يركز العمل على التخريب المنظم.
ويسلتزم التخريب عتاداً هاماً: مناشير، ديناميت، معاول ورفوشاً وأدوات لرفع السكك، وأخيراً، تجهيزاً آلياً مناسباً للمهمات المطلوبة، مخبوءاً في حرز أمين، إلا أنه في متناول اليد عند الحاجة.
وإذا وجدت أكثر من زمرة واحدة، فسوف ترتبط جميعاً بقائد واحد، يوجه كل المهمات الضرورية بواسطة عمال ارتباط مدنيين موثوقين كل الثقة. يستطيع المغاور في بعض الحالات أن يحافظ على العمل الذي كان يزاوله زمن السلم، ولكنه أمر عسير جداً. سوف تكون الحرب في ضواحي المدن عملياً واقع فريق من الرجال قد لزموا الاختفاء، منظمين مثل الجيش، وموجودين في الظروف المجافية لهم كما وصفناها.
لقد أبخس النضال في المنطقة المدنية قدره كثيراً، إلاَّ أنه في غاية الأهمية. إن عملاً جيداً واسع النطاق يشل الحياة التجارية والصناعية في القطاع شلاً شبه تام ويضع السكان كافة في وضع من عدم الاطمئنان والقنوط والقلق بحيث يتمنون حوادث عنيفة للخروج من هذا الإنتظار. فإذا ما جرى التفكير بالمستقبل منذ ابتداء الحرب، وتم تكوين اختصاصيين لهذا النمط من القتال، فسوف يتم ضمان عمل أكثر سرعة بكثير، وبالتالي اقتصاد ثمين للأمة في الأرواح والزمن

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:37 AM

  رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

القسم الثاني

الغوار






1- المغاور مصلحاً اجتماعياً
لقد حددنا وضع المغاور في ما سبق: إنه رجل يندمج بإرادة الشعب التحررية، ومتى استنفدت الوسائل السلمية، فهو يطلق العنان للنضال فيغدو الطليعة المسلحة للسكان المقاتلين. إنه يدخل النضال وفي نيته هدم النظام الظالم، ويتطلع أيضاً، بكثير أو قليل من التأكيد، إلى استبدال النظام القديم بشيء جديد.
لقد أكدنا أن الريف في أمريكا اللاتينية وفي كافة البلدان المتخلفة تقريباً، هو الذي يشكل ميدان النضال الأمثل، في الظروف الراهنة. لذا فإن أساس المطاليب الاجتماعية التي سوف يثيرها المغاور سيكون تغيير بنية الملكية الزراعية.
سيدور النضال إذاً باستمرار تحت الإصلاح الزراعي. ويمكن في البدء ألاَّ تكون أهداف هذا الإصلاح وحدوده محددة تماماً، وأن يقف عند رغبة الفلاح، القائمة منذ قرون خلت، في امتلاك الأرض التي يشتغلها أو التي يرغب في اشتغالها.
تتعلق شروط تحقيق الإصلاح الزراعي بالشروط القائمة قبل بدء النضال وبالاتساع الاجتماعي لهذا النضال. إلاَّ أن المغاور، بصفته عنصراً واعياً من الطليعة الشعبية، ينبغي أن يكون سلوكه الأخلاقي بحيث يستوثقه خادماً حقيقياً للإصلاح الذي ينشده. فإلى الشدة الكراهية الناجمة عن شروط الحرب القاسية، ينبغي أن يضيف الشدة الناشئة عن الرقابة الصارمة على النفس، التي تقاوم كل غلواء، كل جنوح يمكن أن تستدرجه الظروف. ينبغي أن يكون المغاور ناسكاً.
أما العلاقات الاجتماعية، فسوف تتغير مع تطور الحرب. ففي البدء، لا يزال المغاوير مستجدين، فلن يستطيعوا ولن يحاولوا حتى تغيير أي شيء في البنيات الاجتماعية المحلية. أما البضائع التي لا يستطيعون تأدية قيمتها، فسوف يشترونها لقاء سندات تسدد في أول فرصة سانحة.
ينبغي أن يساعد المغاور الفلاح دوماً، مِهانياً واقتصادياً ومعنوياً وثقافياً. ومنذ لحظات الحرب الأولى سيكون حاضراً دوماً لمساعدة الفقير، مع فرض أقل قدر ممكن من الإزعاج للغني. إلاَّ أن الأمور تأخذ مجراها، وتزداد التناقضات حدة، وسوف يأتي وقت يأخذ فيه كثيرون ممن كانوا ينظرون إلى الثورة بشيء من العطف يقلبون لها ظهر المجنّ، وسوف يخطون خطوتهم الأولى في الصراع ضد القوى الشعبية. في هذه اللحظة ينبغي أن ينقلب المغاور فيغدو حامل راية قضية الشعب، ويعاقب كل خيانة. وفي منطقة القتال، تقصر الملكية الخاصة على حدود وظيفتها الاجتماعية: أي أن الأرض الفائضة والدواب غير الضرورية لعائلة غنية تنتقل إلى أيدي الشعب وتوزع بالعدل.
ويحق للمالك الذي يحل هذا المصير بأرزاقه أن يتقاضى تعويضاً وينبغي احترام هذا الحق. إلاَّ أن التسديد يتم بسندات ("سندات الأمل"، كما دعاها استاذنا اللواء بايو[34] عند الكلام عن هذا النوع من الإقرار بالدين).
وتنتقل أراضي وأملاك وصناعات أعداء الثورة البارزين والمباشرين فوراً إلى أيدي القوى الثورية، وينبغي الإفادة من مناخ الحرب، من هذه اللحظات التي تبلغ فيها الأخوة الإنسانية أسمى قيمتها، لابتعاث كل نمط من العمل التعاوني يمكن أن تتقبله ذهنية المنطقة.
لا يكتفي المغاور، المصلح الاجتماعي، بأن يضرب المثل بسلوكه، بل ينبغي أن يسدي توجيهاً فكرياً مستمراً، بفضل معارفه، وأمانيه، والتجربة التي يكتسبها خلال شهور الحرب أو سنواتها. إن هذه التجربة تفيد الثوري إذ تنير مفاهيمه بقدر ما يتأكد له بأس السلاح، وبقدر ما يعي ظروف أهالي المنطقة. يدرك الثوري عندئذ الأساس الحق والضرورة الحيوية لكثير من التغييرات التي كان يرى أهميتها النظرية فيما مضى، ولكنه غالباً ما لم يفطن لطابعها العملي الملِح.
يكثر هذا الموقف نظراً لأن بادئي حرب الغوار وقادتها ليسوا أناساً ينوءون كل يوم بفلاحة القَراح[35]، إنهم رجال يفهمون ضرورة تغيير وضع الفلاحين الاجتماعي ولكنهم لم يتألموا، في جملتهم، من شرور حالة الفلاح. فيحصل عندئذ – وأتكلم ههنا عن التجربة الكوبية – تفاعل حقيقي بين أولئك القادة الذين يعلِّمون الشعب، بالوقائع، أهمية النضال المسلح الأساسية، وبين الشعب ذاته الذي يكبر شأنه إبان النضال، ويُري القادة بدوره ما هي الضرورات العملية. ومن هذا التفاعل بين المغاور وشعبه ينشأ تجاذر[36] تدريجي يقوي الموائز الثورية للحركة شيئاً فشيئاً، ويعطيها بُعدها القومي.





2- المغاور مقاتلاً
تتطلب حياة المغاور ومميزاتها التي رسمنا معالمها باقتضاب، مجموعة من الشروط الجسمية والعقلية والأخلاقية ليتكيف المرء بهذه الحياة وينجز المهمات التي تقتضيها بنجاح.
وأول سؤال يتبادر هو الآتي: ماذا يُطلب من المغاور؟ ينبغي الإجابة أولاً أنه يُفضَّل أن يكون المغاور من أهالي المنطقة. إذ يكون له في محلته علاقات يمكنه الاتصال بها مباشرة، ويكون عارفاً بهذه المنطقة إذ هو منها. (إن معرفة الأرض هي أحد العوامل الهامة في نضال الغوار). ويستطيع أن ينجز عملاً أفضل لاعتياده مواجهة صعوبات منطقته. ويضيف إلى ذلك الحماس في الدفاع عن حِماه الخاص أو في النضال لتغيير النظام الاجتماعي الذي يُسيء إلى عالمه الشخصي.
المغاور مقاتل ليلي: نقصد بذلك أنه يجوز كافة الصفات اللازمة للعمل الليلي. ينبغي أن يكون ماكراً، وأن يسير في الوهاد والأنجاد إلى مكان القتال دون أن يشعر أحد بتنقلاته، وينقضّ على العدو باستعمال المفاجأة، فهي عنصر رئيسي في هذا النمط من الحرب. ينبغي له أن يفيد من الذعر الحاصل، فيلقي بنفسه في القتال جامحاً، لا يحتمل أدنى توان لدى رفاقه، مستفيداً من أدنى معالم الوهن لدى العدو. يصل المغاور كالإعصار، يهدم كل شيء، لا رحمة لديه إلاَّ ما تمليه الظروف، يقتل عند الاقتضاء، ويزرع الرعب بين المقاتلين الأعداء. إلاَّ أنه في آن، يعامل المهزومين العزَّل بالحسنى، ويحترم الموتى.
الجريح حرام، وينبغي معالجته على أحسن وجه ممكن – إلاَّ إذا أدانته حياته الماضية بالإعدام – فيجرى به المقتضى في هذه الحالة. إن ما لا يسوغ عمله أبداً هو أصطحاب أسير عندما لا يتوفر بعد مأرز متين يمتنع على العدو: يغدو هذا الأسير عندئذ خطراً على أمن السكان المحليين وعلى تشكيلة الغوار ذاتها، بسبب المعلومات التي يمكن أن يقدمها إذا ما عاد إلى فرقته الأصلية. فإذا لم يكن مجرماً، أطلِق سراحه بعد توبيخه.
ينبغي أن يجازف المغاور بحياته كلما لزم ذلك، وأن يكون مستعداً ليجود بها دون تردد في اللحظة المطلوبة. لكن عليه أن يكون حذراً في آن والاَّ يعرِّض نفسه بلا ضرورة. ينبغي اتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة لاجتناب النهاية غير الموفقة أو الهلاك. لذلك يهم جداً في كل قتال، أن تراقب كافة النقاط التي يمكن أن يتلقى العدو النجدات منها. ويمكن بذلك اجتناب التطويق أيضاً، فهو نكبة مادية بالغة الخطورة، إلاَّ أنه نكبة معنوية أشد خطورة، إذ يُفقد الإيمان بمستقبل النضال.
بَيْدَ أنه ينبغي أن يكون المغاور مقداماً، أن يحلِّل الخطر وإمكانات العمل ببرود، أن يكون جاهزاً دوماً لاتخاذ موقف متفائل مهما كانت الظروف، أن يجد مخرجاً موفقاً، حتى في اللحظات التي لا تترك فيها المقارنة بين العناصر المؤاتية والمجافية له غير أمل ضئيل.
ولكي يفوز المغاور بالحياة، ينبغي أن يثبت قدرة كافية على التكيف ليستطيع الاندماج بالبيئة التي يعيش فيها واستخدامها إلى الحد الأقصى حليفة له. ثم ينبغي أن يكون حادَّ الإدراك، ذا قدرة عفوية على الإبداع، تسمح له باتخاذ القرارات في غمرة العمل.
إن قدرات التكيف والإبداع هذه لدى الجيوش الشعبية تُفشل كل حسابات أمراء الحرب وتكبح جماحهم.
لا يسوغ للمغاور في أية حال أن يترك رفيقاً جريحاً إلى رحمة جنود الأعداء إذ أن مصيره شبه المؤكد هو الموت. يلزم إبعاده عن مناطق القتال مهما كلف الأمر، لنقله إلى حرز أمين، وينبغي احتمال أشد المتاعب لهذه الغاية ومعاناة أعظم المخاطر: فيجب ان يكون جندي الغوار رفيقاً لا يضارع.
وهو بالإضافة إلى ذلك، أبكم. كل ما يقال أو يجري أمامه لا يعرفه غيره. لا يسمح لنفسه أبداً بكلمة زائدة، حتى مع رفاقه في القتال، فالعدو سوف يحاول باستمرار أن يدخل رجاله إلى قلب تشكيلة الغوار، للتعرف إلى مخططاتها وإلى أماكن ووسائل الحياة التي تستخدمها.
وبالإضافة إلى الصفات الأخلاقية التي ذكرناها، ينبغي أن يتمتع بعدد من الصفات الجسمية الهامة جداً. ينبغي أن يكون غير تعوب، فيجد "نَفَساً ثانياً" عندما يبدو أنه بلغ من الإعياء مبلغاً لا يطاق. فكل حركة من حركاته بطولية تخرج من أعماق إيمانه، فترغمه على أن يخطو خطوة أخرى، لن تكون هي الأخيرة، إذ يفوز بأخرى، ثم أخرى، وأخرى، باستمرار إلى أن يبلغ المكان الذي حدده القائد.
ينبغي أن يستطيع معاناة الألم إلى أقصى حدوده، فيحتمل ليس فقط حرمان الغذاء، والماء والثياب، والمأوى، الذي يتعرض له كل آن، بل يحتمل الأمراض والجراح أيضاً. وكثيراً ما ينبغي أن تندمل الجراح دون تدخل الجرَّاح، بفعل الطبيعة وحدها، ولا بد أن يكون الأمر كذلك لأنه يغلب لمن يغادر منطقة الغوار للمعالجة، أن يغتاله العدو.
ولكي يحقق هذه الشروط ينبغي أن يتمتع المغاور أيضاً بصحة من حديد، تسمح له باحتمال كل الخطوب دون أن يصيبه مرض، كما تسمح له بالتعافي إبان حياة الوحش الطريد هذه، حتى يغدو، إذا أمكنني القول، جزءاً لا يتجزأ من الأرض التي يقاتل عليها، بفعل من التكيف الطبيعي.
تحدو بنا كل هذه الاعتبارات إلى التساؤل: ما هي السن المثلى للمرء لكي يكون مغاوراً؟ يصعب جداً تدقيق حدود السن. ثمة مائزات اجتماعية أو فردية من شتى الأنواع يمكن أن تغير منها. فسوف يكون الفلاح مثلاً أجلد كثيراً من ابن المدينة. والمدني الذي اعتاد التمارين الجسمية والحياة الصحية سيكون أفعل بكثير من رجل قضى عمره كله خلف المكتب. إلاَّ أنه يمكن القول بإيجاز إن السن القصوى للمقاتل، في مرحلة البداوة التامة من الغوار، لا ينبغي أن تتجاوز الأربعين، مع بعض استثناءات قليلة تصادف خاصة لدى الفلاحين. لقد التحق أحد أبطال نضالنا، هو المقدم كريشنثيو بيريز، بالـ"سييرا"[37] وله من العمر خمس وستون، وكان من أكثر الرجال فائدة في الجيش. ونستطيع التساؤل هل ينبغي أن ينتمي أعضاء تشكيلة مغاورة إلى فئة اجتماعية معينة. وقد قيل إنه ينبغي أن تتفق فئتهم الاجتماعية مع فئة المنطقة التي تختار مركزاً للعمليات، أعني أن تكون النواة المقاتلة فلاحية. الفلاح هو وضوحاً أفضل جندي، لكن هذا لا يعني أنه ينبغي نفي عناصر السكان الآخرين وحرمانهم من فرصة النضال في سبيل قضية عادلة. وفي هذا الصدد أيضاً ليس من قاعدة لا استثناء لها.
لم نحدد بعد السن الدنيا. نعتقد أنه لا يجوز قبول عناصر لم يبلغوا السادسة عشرة، إلاَّ في ظروف خاصة جداً هنا أيضاً. فهؤلاء المراهقون، الذين يكادون أن يكونوا أولاداً، ليسوا بعامَّتهم على ما يكفي من النمو لاحتمال المشاق والمتاعب والآلام التي سيرغمون عليها.
يمكن القول إن السن المثلى للمغاور تقع بين خمس وعشرين وخمس وثلاثين سنة. فالحياة في هذه المرحلة قد اتخذت لدى الجميع وجهتها النهائية، ومن يذهب مخلّفاً بيته وعالمه قد فكر ملياً في مسؤولياته، ويفعل ذلك وقد حزم أمره على ألاَّ يتراجع خطوة. ثمة بين الأولاد أيضاً حالات لمقاتلين غير عاديين قد بلغوا أسمى تقديرات جيشنا الثائر. إلاَّ أنها استثناءات فقط. وازاء كل مراهق أثبت صفات المقاتل الرفيعة، ثمة عشرات لزم إعادتهم إلى ديارهم وشكَّلوا لوقت طويل ثقلاً خطيراً على تشكيلة الغوار.
والمغاور، كما قلنا، جندي يحمل بيته على ظهره، مثل الحلزون. فينبغي له إذاً أن يجهز حقيبته بحيث أن أقل كمية ممكنة من المتاع تؤدي له أعظم الفائدة. لن يصطحب إلاَّ ما لا غنى عنه، لكنه سوف يحتفظ به خلال كل الظروف كأثمن ما عنده، فهو ما لا يسوغ فقده إلاَّ في حالات يائسة حقاً.
وسوف يقتصر تسلُّحه إذاً على ما يستطيع اصطحابه بنفسه حصراً. سيكون تجديد التموين بالسلاح صعباً جداً، وأصعب منه التموين بالذخيرة: فالتعليمات العسكرية هي إذاً عدم ابتلال الرصاص، وصيانته، وعدَّه واحدة واحدة لاجتناب فقدان شيء منه. أما البندقية فتبقى نظيفة دائماً، مشحمة جيداً، لامعة القناة، ومن المفيد أن يعاقب قائد كل جماعة أولئك الذين لا يسهرون على صيانة سلاحهم.
ولكي يتحلى هؤلاء الرجال بمثل هذه الصفات من إخلاص وحزم، تسمح لهم بالعمل في هذه الظروف المناوئة، ينبغي أن يكون لهم مثل أعلى. إن هذا المثل بسيط، مباشر، ليس فيه كبير ادعاء، ولا يرمي بعيداً على وجه العموم، إلاَّ أنه على قدر من الحزم والوضوح يمكن معه التضحية بالحياة في سبيله، دون تردد. إنه لدى كافة الفلاحين تقريباً، حق امتلاك قطعة أرض تخصهم لشغلها والاستمتاع بوضع اجتماعي عادل. إنه لدى العمال، الحصول على عمل وتقاضي أجر لائق، والاستمتاع أيضاً بوضع اجتماعي عادل. وتصادف لدى الطلاب وأهل المهن الحرة، أفكار أكثر تجريداً، مثل الشعور بالحرية التي يكافحون من أجلها.
يحدو بنا كل ذلك إلى التساؤل: كيف يعيش المغاور؟ إن حياته النظامية هي أن يجوب الطرق. لنأخذ مثلاً مغاوراً في الجبل في منطقة شَجِرة، يطارده العدو باستمرار. تنتقل تشكيلة غوارية في هذه الظروف نهاراً، دون أن تأخذ وقتاً للطعام. ومتى تدانى الليل تحط الرحال في فرجة من الغاب، قرب مورد ماء، وفق التنظيم المعتاد، فتجتمع كل جماعة للطعام سوية، ومتى ران الليل تشعل النيران بما يتوفر لذلك.
يأكل المغاور متى استطاع، وكل ما يستطيع. تختفي وجبات خيالية في بطون المقاتلين، ويعانون أحياناً أخرى صيام يومين أو ثلاثة دون هوادة في إجهادهم. إن سقف المغور هو السماء المكشوفة: وسوف يداخل بين السماء وبين شبكة نومه رقاً من النايلون كتيماً للماء، ويضع تحت شبكته حقيبته وبندقيته ورصاصه التي هي كنوزه. يستحسن أحياناً عدم نزع الأحذية خشية حدوث هجوم مفاجىء من العدو. الأحذية هي كنز آخر للمغاور ومن يملك زوجاً منها يضمن لنفسه حياة سعيدة في نطاق المصاعب اليومية.
هكذا يسير المغاور يوماً بعد يوم، دون اقتراب من أي مكان آهل، مجتنباً كل تماس لم يقصده هو، عائشاً في أوعر المناطق، دون طعام أحياناً وحتى دون شراب، في الحر والقر. يتفصد عرقه في المسيرات الدائبة ويجف عليه ممتزجاً بالعرق الأسبق، دون توفر النظافة بانتظام (غير أن ذلك يتعلق كما هو الأمر دائماً، بمزاج كل واحد).
حدث في الحرب الأخيرة، عندما أوشكنا على دخول بلدة "أل أوفيرو"، بعد السير ستة عشر كيلو متراً والقتال ساعتين وخمس وأربعين دقيقة في عين الشمس، وبعد عشرة أيام ونيف قضيناها في ظروف مجافية لنا، أن وُجدنا قرب البحر تحت شمس محرقة. كانت أجسامنا تفوح برائحة مميزة مؤذية إلى حد أنها تصد كل من يقترب. وكانت حاسة الشم لدينا قد تكيفت بهذا النمط من الحياة، وكانت شبكة كل مغاور تعرف عن سواها من رائحتها الخاصة.
ينبغي أن تكون المعسكرات سهلة المغادرة وألاَّ يبقى فيها أثر يشي بها، وأن تكون اليقظة في غايتها. ولكل عشرة رجال ينامون، يجب أن يكون ثمة واحد أو اثنان ساهرين. ينبغي تبديل الحرس مرات عديدة ومراقبة كافة مداخل المعسكر مراقبة وثيقة.
تعلََّم حياة الحرب كثيراً من الحيل لتهيئة الطعام ولطبخه بسرعة وتطييبه بكل ما يصادف في الجبل، أو لابتكار ألوان جديدة وتنويع أشكاله التي تتألف بصورة أساسية، في المنطقة المدارية، من النباتات الدَرَنية، والحبوب، والملح، وقليل من الزيت أو الزبدة، وفي مناسبات متباعدة جداً، من أحد صنوف اللحم

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:38 AM

  رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

المعركة هي أكثر الأحداث إثارة للاهتمام، إبان حياة القتال. وهي ما يحمل فرح الجميع إلى أوجه ويجعلهم يغِذّون السير بحماس متجدد. تشن المعركة – ذروة حياة الغوار – في اللحظة المؤاتية حيث تم تحديد موضع مخيم عدو ضعيف بكفاية للقضاء عليه، وتم التعرف إليه، أو عندما يتقدم رتل عدو حتى الأرض التي تشرف عليها القوى التحررية مباشرة. الحالتان مختلفتان. يتم العمل ضد المخيم بشكل جماهيري، ويرمي في الأساس إلى طرد الأرتال الآتية لفك الطوق. فالعدو المختبىء ليس أبداً هدفاً مفضلاً لدى المغاور.
إن العدو الجائل، النزق، الجاهل بأوصاف المنطقة، المرتاع، المفتقر إلى حماية طبيعية، هو العدو الأمثل. مهما ساء وضع عدو معتصم، فإن لديه أسلحة قوية يصد بها الهجوم، ولن يجد نفسه أبداً في ذات الظروف التي يقع فيها رتل كبير يفاجأ بالهجوم في نقطتين مختلفتين أو ثلاث، وتقطَّع أوصاله، وينسحب مهاجموه قبل صدور أي رد ضدهم إذا ما تعذر عليهم تطويق الرتل أو إبادته.
وإذا تعذر قهر المعتصمين بالجوع أو بالعطش أو بهجوم مباشر، ينبغي الانسحاب متى أتاح التطويق إنزال الخسائر بالرتل العدو. وإذا كان رتل المغاوير أضعف مما ينبغي، أو رتل الغزاة أقوى مما ينبغي، يتم تركيز الهجوم على المقدمة. فمتى تم ضرب المقدمة عدداً من المرات واقتنع الجنود بحتمية موت الذين يحتلون الصفوف الأمامية، يمكن لخشيتهم من الانخراط فيها أن تُحدث تمردات حقيقية، لذا ينبغي توجيه الضرب إليها دائماً. ولا يمنع ذلك من توجيه الضربات إلى نواح سواها أيضاً.
تتوقف طلاقة المغاور في العمل وإمكانات تكيفه بالبيئة على تجهيزه. فالمغاور وإن كان مندمجاً في زمر عاملة صغيرة، يحتفظ بموائز فردية. ينبغي أن يحوز في حقيبته كل ما يلزمه للعيش، حتى مأواه الفردي، لأنه قد يضطر للبقاء وحيداً لمدة من الزمن. وعندما نورد مساقاً بالتجهيز، نشير بصورة جوهرية إلى ما يستطيع الفرد أن يحمله وهو خاضع لظروف حرب في طورها الأول، يطارده العدو، في أرض وعرة ممطرة باردة نسبياً، أي أننا نضعه في مثل الوضع الذي حصل لدى بدء حرب التحرر الكوبية.
ينبغي التمييز في هذا التجهيز، بين ما هو جوهري وما هو متمم. نصنَّف في ما هو جوهري شبكة النوم التي تسمح بالراحة على نحو ملائم. يجد المرء دوماً شجرتين لمد الشبكة بينهما، ويمكن اتخاذها بساطاً إذا نام على اليابسة. لا بديل عن الشبكة عند هطول المطر أو عندما يوجد المرء في أرض رطبة، وهي حالة متواترة في المناطق المدارية. تتم الشبكة بقطعة من رق النايلون الكتيم للماء. يكون النايلون كبيراً بكفاية لتغطية الشبكة ويربط بأربعة أمراس مثبتة بزواياه الأربع. ويشد مرس من مركز الرق إلى الأشجار التي تحمل الشبكة فيفيد في تحديد مسال المياه ويربط الرق من زواياه بشجيرة قريبة، مشكَّلاً على هذا النحو خيمة صغيرة.
لا غنى عن البطانية، لأن البرد شديد جداً، في الجبل، متى سجا الليل. ومن الضروري أيضاً توفر قطعة لباس دافئة تسمح بمواجهة تغيرات الحرارة القصوى. يشتمل اللباس على بنطال وقميص من كتان سميك، موحد أو غير موحد. ينبغي أن تكون الأحذية على أحسن ما يمكن من الجودة، وهي من أولى الأصناف التي ينبغي حيازة احتياط منها؛ إذ بدونها يصبح السير شاقاً جداً.
ولما كان المغاور يحمل مأواه في حقيبته، فهذه الأخيرة ذاتها هامة جداً. يمكن صنع أبسط الحقائب من جيب ما، يركب له سيران من الحبل، إلاَّ أن الحقائب المصنوعة من الكتان الغليظ والمتوفرة في السوق أو تلك التي يصنعها السراَّجون، تفضلها. ينبغي أن يحمل المغاور دائماً مؤونة فردية بالإضافة إلى تموين الفرقة كلها. المواد التي لا غنى عنها هي: أولاً الزبدة أو الزيت، الضروريان لاستهلاك الجسم من الدسم، وعلب المحفوظات التي لا يجوز استعمالها إلاَّ عندما يتعذر الحصول على غذاء للطبخ، أو عندما تتوفر كثرة من العلب فيعيق ثقلها السير، ومحفوظات السمك ذات القدرة الغذائية العظيمة، والحليب المكثف وهو غذاء ممتاز سيما لكمية السكر العظيمة التي يحويها، وهو ايضاً تفكهة حقيقية. يمكن حيازة حليب مسحوق أيضاً. ثمة عنصر أساسي آخر هو السكر ومثله الملح الذي تغدو الحياة بدونه عذاباً. ولنختم فصل المواد الأساسية ببعض التوابل التي أكثرها شيوعاً البصل والثوم، ويمكن أن يوجد غيرهما، حسب المناطق. هذا هو الجوهري.
ينبغي أن يحمل المغاور في حقيبته صحناً وملعقة وسكيناً متعدد النصال. يمكن أن يكون الصحن قصعة أو كَفتاً أو علبة محفوظات. تتيح طهي قطعة لحم أو مالانغا[38] أو رأس بطاطا أو شاي أو قهوة.
يلزم لصيانة البندقية شحوم خاصة ينبغي استعمالها بعناية فائقة. وإذا لم يتوفر الزيت الخاص، فزيت آلة الخياطة. يلزم أيضاً خِرقَ لتلميع السلاح باستمرار، وقضيب لتنظيف داخله، وهو عمل ينبغي إتيانه بتواتر كافٍ. تكون جعبة الفشك من صنع نظامي أو محلي حسب الإمكان، لكنه ينبغي أن تكون جيدة بكفاية لعدم فقدان أي رصاصة. الرصاص هو أساس النضال. كل شيء سواه عبث بدونه. إنه ثمين كالذهب.
يجب أن يحمل المرء معه مَطَرة أو صفيحة ماء، إذ لا غنى عن الشرب الوافر ولا يستطيع دوماً أن يحصل على الماء في اللحظة المرغوبة. ينبغي حيازة الأدوية ذات الاستعمال العام أيضاً كالبنسلين أو أي دواء آخر مضاد للحيوية، وبصورة رئيسية ما يؤخذ منها بالفم، وكذلك مسكنات للحمى، واسبرين، وأدوية مضادة للأمراض المستوطنة الخاصة بالمنطقة. كما يمكن توفر حبوب ضد البرداء وأدوية ضد الإسهال وضد الطفيليات من كل نوع. وفي المناطق التي تعيش فيها حيوانات سامة، يسوغ وجود المصل الموافق لها. ويكون باقي التجهيز جراحياً. وينبغي بالإضافة وجود حقائب للإسعاف الأوَّلي لإجراء المعالجات الأقل أهمية.
التبغ متمم عادي، ذو أهمية خاصة في حياة المغاور. ينبغي توفر اللفائف والسيكار وتبغ الغليون، لأن التبغ رفيق عظيم للجندي المنفرد في حالة الراحة. الغليون مفيد جداً لأنه يسمح زمن العوز بالإفادة القصوى من كل التبغ وأعقاب اللفائف والسيكار. ليس الثقاب هاماً لإشعال السيكار فقط، بل لقدح النار أيضاً. فهذه من أصعب المعضلات في الجبل وقت المطر. ويستحسن بالإضافة إلى القدَّاحة توفر الثقاب الذي ينوب عنها إذا فقد وقود القداحة.
يلزم توفر الصابون ليس لنظافة الجسم بقدر ما هو لتنظيف الأواني. إذ متى بقيت هذه وسخة، لوحظ توافر في التعفنات المعوية وحدثت التهابات تسببها بقايا الطعام المتخمرة التي تستهلك مع الطعام الجديد. يستطيع المغاور، بهذا التجهيز، أن يأمن الحياة في الجبل في أي ظرف مجافٍ له، وللمدة اللازمة حتى يسيطر على الموقف مهما بلغ من السوء.
ثمة متممات قد تكون مربكة أحياناً، إلاَّ أنها ذات فائدة عظمى على وجه العموم. الحُقَّة[39] هي من هذا القبيل. تستخدم كثيراً في البدء لإحكام التوجيه، لكن معرفة الأرض تجعل هذه الأداة، شيئاً فشيئاً، غير ذات جدوى. ثم إنها صعبة الاستعمال جداً في الأرض الجبلية لأن الطريق التي تشير إليها ليست هي الفضلى بالضرورة، إذ أن الخط المستقيم تعترضه عادة عقبات لا تُجاز. قطعة إضافية من رق النايلون هي شيء مفيد آخر، لتغطية التجهيز كله وقت المطر. ينبغي التذكر أن المطر في البلدان المدارية شبه مستمر في بعض الشهور، وأن الماء عدو لكل تجهيز المغاور، من طعام وتسليح وأدوية وأوراق وملابس داخلية

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:39 AM

  رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

.
يمكن حيازة ملابس داخلية للغيار، إلاَّ أنها عامة، من أحمال الأغرار. يمكن توفر بنطال للغيار، على الأكثر، وحذف الملابس الداخلية والمناشف... الخ. فعلى المغاور، بالحياة التي يعيشها، أن يقتصد من طاقته حين يحمل متاعه. سوف يتخلى هكذا شيئاً فشيئاً عن كل ما ليس ذا قيمة جوهرية.
الأمتعة المتممة الخاصة باللياقة البدنية هي: قطعة صابون تستخدم لغسل الثياب ولنظافة الجسم، فرشاة للأسنان وسَنُون[40]. ويحسن توفر بعض الكتب يتعايرها أعضاء الغوارة: سيرة جيدة لأبطال سالفين، كتب تاريخ أو جغرافية اقتصادية، والأفضل عن البلد ذاته، وبعض الأعمال ذات الطابع العام التي ترمي إلى رفع مستوى الجنود الثقافي وتُنقص من ميلهم إلى الميسر، إذ ربما وجد وقت فراغ زائد أحياناً في حياة المغاور.
كلما بقي ثمة مكان في الحقيبة، ينبغي ملؤه بالزاد، إلاَّ في المناطق التي تحسن فيها شروط التموين. يمكن حيازة السكاكر، أو الأطعمة الأقل ضرورة، التي تشكَّل تكملة للأغذية الجوهرية. البسكويت هو من هذا القبيل، وإن كان كبير الحجم ويتكسر حتى يغدو مسحوقاً. ويفيد في الجبال ذات الإنبات المداري، حوز مُدية "ماشيته"، كما تفيد في الأمكنة الرطبة جداً، قنينة بنزين صغيرة أو خشب راتنجي، لأشعال النار عندما يكون الحطب مبلولاً.
على كل مغاور أن يحوز أيضاً مفكرة يسجل فيها المعلومات، ويكتب الرسائل ويتخاطب مع المغاوير الآخرين، وكذلك قلماً أو قلم حبر. يجب أن يكون في متناوله دائماً قطعة خيط أو نبات حبلي، ذات فوائد متعددة، وكذلك إبر وخيط وأزرار. إن المغاور الذي يمتلك هذا التجهيز يحمل على منكبيه بيتاً متيناً، كبير الوزن إلاَّ أنه كافٍ لتأمين أرفه حياة ممكنة في غمرة ظروف الحرب.





3 – تنظيم الغوارة
لا يمكن تنظيم الغوار وفق مخطط جامد. فهناك فروق لا تحصى تبعاً للبيئات التي ينبغي أن تتكيف بها. وسوف نفترض، تبسيطاً لعرضنا، أن تجربتنا الخاصة هي ذات قيمة عامة، بَيْدَ أنه ينبغي التذكير دائماً أنه يمكن تنظيم غوارة بطرق أخرى أكثر مؤاتاة لخصائص جماعة مسلحة أخرى.
إن عدد الرجال الذين يؤلفون الغوارة هو من أعسر المسائل حسماً. يتفاوت هذا العدد، ومثله بنية الفرقة ذاتها، كما شرحنا آنفاً. وإذا قبلنا أن الجماعة قوة تجول في أرض مؤاتية لها، جبلية، في شروط ليست من السوء بحيث تلوذ بفرار دائم، ولا من الجودة بحيث تتخذ لها مأرِز عمليات، ففي هذه الحالة ينبغي ألا تعد جماعة مسلحة أكثر من مئة وخمسين رجلاً في كل وحدة مقاتلة. إنه عدد مرتفع نوعاً ما. والأمثل أن تضم مئة رجل. هذا ما يشكل رتلاً يقوده مقدم، وفق تسلسل الرتب الكوبية. ويحسن التذكير بأن رتب العريف والرقيب التي كانت تعتبر مميزة للطغيان، كانت قد أُلغيت في حربنا.
يتولى إذاً مقدَّم قيادة جملة القوى التي عددها مئة إلى مئة وخمسين رجلاً. وسوف يكون عدد النقباء بعدد ما يوجد من مجموعات قوامها ثلاثون إلى أربعين رجلاً. إن دور النقيب هو قيادة مجموعته وتأليبها، وجعلها تقاتل بتماسك، وتولي توزيعها وتنظيمها العام. إن الوحدة الوظيفية في حرب الغوار هي الزمرة. قوام الزمرة حوالي ثمانية إلى اثني عشر رجلاً، وعلى رأسها ملازم يقوم من أجل زمرته بوظائف النقيب ذاتها، إلاَّّ أنه يبقى تحت إمرة الأخير.
إن ميل الغوارة إلى العمل في جماعات صغيرة يجعل من الزمرة الوحدة الحقيقية فيها. فيؤلف ثمانية رجال إلى عشرة الحد الأقصى للقتال المتماسك. تعمل هذه الزمرة تحت إمرة قائدها المباشر، الذي كثيراً ما يكون منفصلاً عن النقيب، وإن كان في جبهة واحدة معه، إلاَّ في بعض الظروف الخاصة. إن ما لا يجوز عمله أبداً هو تجزئة الوحدة. يُعين في كل فصيلة وكل زمرة خَلَف مباشر للقائد، في حالة فقدان الأخير. وينبغي أن يكون الخلف ذا تهيئة كافية لتولي مسؤولياته الجديدة مباشرة.
التغذية مسألة أساسية في هذه الفرقة حيث ينبغي أن يحظى الجميع، من آخر نفر إلى القائد، بذات المعاملة. تتخذ التغذية أهميتها القصوى ليس فقط من جراء نقص التغذية المزمن، بل لأن توزيعها يشكل الحدث اليومي الوحيد أيضاً. الفرقة شديدة الحساسية بالعدالة، فتَرْزِن الجِرَايات[41] بفكر نقاد. ينبغي عدم السماح بأية حظوة لأحد أبداً. فإذا أجرى توزيع الطعام، لسبب ما، على الرتل كله، ينبغي وضع نظام والتقيد به بصرامة، مع احترام كميَّات الطعام المقدم لكل فرد وجودته. أما توزيع الملابس، فمسألة مختلفة. هذه أمتعة ذات استعمال فردي. هناك عاملان يتقدمان في هذه الحالة: أولاً درجة احتياج الطالبين، وغالباً ما يكون عددهم أكثر من الأمتعة المعدة للتوزيع، وثانياً قِدَم كل فرد واستحقاقه. يصعب تحديد نظام القِدَم والاستحقاق، ويجب أن يضعه أحد المسؤولين، ويخضع هذا بدوره إلى رقابة قائد الرتل المباشر. ينبغي أن يتم التوزيع على ذات النحو من أجل الأشياء الأخرى الطارئة والتي ليست ذات استعمال جماعي. ينبغي توزيع التبغ والسيكار بالعدل بين الجميع.
يجب تكليف رجال خاصين بعمل التوزيع هذا. ويفضل أن يكونوا تابعين إلى القيادة مباشرة. تضطلع القيادة بالمهمات الإدارية وبالارتباطات، وهما أمران جد هامين، كما تضطلع بسائر المهمات التي تخرج على العادة. ينبغي أن يشترك بالقيادة أشد الضباط ذكاء. وينبغي أن يكون جنودهم نابهين ومفعمين بروح تضحية قصوى، إذ كثيراً ما يطلب منهم أكثر مما يطلب من سائر الفرقة. أما الطعام فلن يكون لهم فيه حق بأي معاملة خاصة.
يحمل كل مغاور تجهيزه الكامل، إلا أنه ينبغي بالإضافة، توزيع عدة أشياء هامة تخص الرتل كله توزيعاً عادلاً. توجد لذلك طريقتان. يتعلق تفضيل أحديهما بعدد الرجال الذين لا يحملون سلاحاً. تقوم الطريقة الأولى على توزيع كل الأشياء مثل الأدوية والأدوات الجراحية والسنية، والجرايات الإضافية، والملابس والأواني المختلفة الزائدة، والتسليح الثقيل، بصورة متكافئة بين الفصائل كافة، وهي التي تكون مسؤولة عندئذ عن العتاد المخصص لها. يوزع كل نقيب هذه الأشياء بين الزمر، وكل آمر زمرة بين رجاله. تستخدم الطريقة الثانية عندما لا تكون الفرقة كلها مسلحة تسليحاً كاملاً، فتقوم على تشكيل زمر أو فصائل مكلفة بالنقل بصورة خاصة: تكون هذه الطريقة عادة أحسن مردوداً إذ أن أحمال جنود هذه الزمر والفصائل أخف وزناً، ما دام العزَّل منهم خالصين من ثقل البندقية ومسؤوليتها. والعدة في هذه الحالة أكثر تمركزاً، فيقل عليها خطر الضياع. ويكون جزاء الحاملين منحهم قطعة سلاح، فتدب بينهم روح المباراة ويريدون مزيداً من الحمل ويبدون حماساً أعظم. تسير هذه الفصائل في المؤخرة، عليها ذات الواجبات ولها حق في ذات المعاملة كبقية الفرقة.
تتنوع المهمات داخل الرتل تبعاً لنشاطه. فإذا لم يبارح الرتل المعسكر، تؤلف زمرة خاصة للحراسة، ينبغي أن تتألف من جنود متمرسين بالقتال، مختصين، ينالون لهذه المهمة مكافأة خاصة، هي بصورة عامة، مزيد من الاستقلال، أو توزيع فائض من الحلوى أو التبغ. فإذا كان ثمة مئة رجل مثلاً، ومئة وخمس عشرة علبة سيكارة، يمكن توزيع هذه العلب الخمس عشرة الفائضة بين أفراد هذه الزمر. تكلف المقدمة والمؤخرة، والمتمايزتان نهاراً على مساحة متسعة، ويصعب بلوغها ليلاً. وإذا وجب المكوث فيها عدة أيام، لزم إنشاء وسائل دفاع فعالة تحسباً لحالة تعرضها للهجوم. يمكن ضرب وسائل الدفاع هذه عند انسحاب الغوارة، أو تركها إذا لم تفرض الظروف ضرورة تعفية[42] كل أثر عن مرور الرتل.
ينبغي أن تقع الأماكن المختارة للحرس على مرتفعات، تسمح بالإشراف تماماً عن بقية الفرقة بمهام الحراسة الرئيسية إلاَّ أن كل فصيلة ينبغي أن يكون لها حرَّاسها وكلما كان الحرس مبتعداً عن المعسكر، لا سيما في المنطقة المحررة، كلما ازداد أمان الجماعة.
وفي حال إقامة معسكر دائم، يلزم استكمال. جملة وسائل الدفاع باستمرار. ينبغي التذكر أن مدفع الهاون هو السلاح الثقيل الوحيد الذي يكون فعالاً في المنطقة الجبلية وعلى أرض أُحِكم اختيارها. وباستخدام سقوف مناسبة من المواد المحلية، كالخشب، والحجر... إلخ، يمكن إنشاء ملاجىء ممتازة توقف اقتراب جنود العدو وتقي شر قذائفه.
من المهم جداً في المعسكر أن يحافظ على الضباطة، التي ينبغي أن ترمي إلى أهداف تربوية: إجبار المغاوير على الهجوم والنهوض بساعات محددة، ومنعهم من ممارسة الألعاب التي لا صفة اجتماعية لها والتي تستدرج معنويات الفرقة إلى الانحلال، ومنع استهلاك المشاريب الغَوْلية[43]... إلخ. وتكلف لجنة بالنظام الداخلي، تنتخب من بين المقاتلين المتحلَّين بأعظم الجدارات الثورية: لتقوم بتحقيق هذه المهمات كافة. ويكون من مهماتها أيضاً منع إيقاد النيران في الأمكنة المكشوفة أو تصاعد الدخان قبل حلول الليل، والعناية بتنظيف المعسكر قبل مغادرته، لصون السر المطلق حول وجود الغوارة

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:40 AM

  رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

.
ينبغي الانتباه جداً إلى مواقد النار التي يستمر جمرها متقداً لمدة طويلة، فتغطى بالتراب، كما تدفن الأوراق وعلب المحفوظات والفضلات الغذائية. يجب أن يرين الصمت المطلق تماماً على الرتل إبان السير. تنتقل الأوامر إيماءً أو همساً، سارية من فم إلى أُذُنْ حتى آخر رجل. وإذا ما اجتازت الغوارة مناطق مجهولة وهي تشق طريقها أو تتبع دليلاً، تسير المقدمة على مسافة حوالي مئة أو مئتي متر إلى الأمام، تبعاً لموائز الأرض. وفي المناطق التي يحتمل فيها التيه، يُترك رجل عند كل منعطف لينتظر التالي، وهكذا حتى آخر رجل في المؤخرة. وتسير المؤخرة منفصلة هي أيضاً عن سائر الرتل، تراقب المؤخرات وتحاول محو آثار المرور قدر الإمكان. وإذا كان ثمة دروب جانبية يلوح منها خطر، يجب أن تحرسها زمرة حتى مرور آخر رجل في الفرقة عنها. ويكون من الأيسر أن تفرز هذه الزمرة من فصيلة خاصة، بيد أنه يمكن تشكيلها أيضاً من عناصر تنتمي إلى كل الفصائل. يجب أن تنتظر هذه الزمرة حتى تعقبها الزمرة التالية، قبل أن تعود إلى فصيلتها، وهكذا دواليك إلى أن يتم مرور الفرقة كلها.
لا ينبغي فقط أن يتم السير على نمط واحد بترتيب مقرر، بل أن يستمر هذا الترتيب دوماً، ليعرف أن الفصيلة رقم 1 هي المقدمة، والفصيلة رقم 2 هي التي تليها، وفي الوسط الفصيلة رقم 3 التي يمكن أن تكون فصيلة القيادة، ثم الرقم 4، ثم المؤخرة أي الفصيلة رقم 5. ينبغي الحفاظ على هذا الترتيب دوماً. ويجب في السير الليلي أن يكون الصمت أكثر إطباقاً بعد، وأن تخفض المسافة بين كل مقاتلين اثنين، لكي لا يتيه أحد ولا يضطر امرؤ إلى رفع الصوت أو اشعال ما يضيء، فالإضاءة ليلاً هي عدوة المغاور.
وإذا كان هذا السير توطئة لهجوم ما، تترك الأحمال غير اللازمة كالحقائب والقدور... إلخ في المكان المحدد كنقطة ازدلاف[44] عامة بعد بلوغ الهدف، وتتابع كل فصيلة حاملة سلاحها وتجهيزها الحربي فقط. يجب أن يقوم أناس موثوقون، سلفاً، بدراسة النقطة المزمع مهاجمتها، فيجرون الاتصالات ويرسلون تقريراً عن حرس العدو وأوصاف معسكره وعدد حماته. تقرر عندئذ خطة الهجوم النهائية، ويُوزع المقاتلون، على أن يحسب دوماً تخصيص قسم كبير من الرجال لمكافحة النجدات المحتملة.










وإذا كانت مهاجمة المعسكر ليست إلاَّ إلهاء لاستدراج قدوم النجدات (تضطر هذه النجدات أن تمر في دروب مؤاتية للكمائن)، وجب أن ينقل رجل من الكمين نتيجة الأمر بسرعة إلى القائد، مع إشعاره إذا اقتضى فك الحصار لكي لا يتعرض المحاصِرون لهجوم خلفي. وبأية حال، يجب دائماً، خلال الحصار أو الهجوم المباشر، وجود حرس على الدروب المؤدية إلى مكان القتال.
ويفضل الهجوم المباشر دائماً إذا كان الوقت ليلاً. ويمكن الاستيلاء حتى على المعسكر دون كبير خطر، إذا ما توفرت الشجاعة وسرعة الخاطر اللازمتان.
لا يبقي أثناء الحصار إلاَّ الانتظار وحفر الخنادق مع الاقتراب من العدو أكثر فأكثر ومحاولة إرهاقه بكل الوسائل وخاصة إرغامه بالنار على الخروج. إن "كوكتيل مولوتوف" سلاح ذو فعالية خارقة على مقربة من العدو. وإذا لم يتم الاقتراب بكفاية لإلقاء "كوكتيل"، أمكن استخدام بنادق ذات إياد خاص. تتألف هذه الأسلحة التي أسميناها خلال الحرب "م – 16"، من بندقية عيار16 مقصورة القناة، تسند إلى عصوين يؤلف منقار الأخمص معهما منصباً ثلاثياً. تصنع القناة زاوية قدرها حوالي 45 ْمع الأفق. تتغير الزاوية وضوحاً تبعاً لتقديم أو تأخير قائمتي المنصب الأماميتين. تلقم النبدقية بفشكة خلّب تسند إليها عصا اسطوانية الشكل قدر الإمكان، تنوف على القناة، وهي التي سوف تغدو مقذوفة. يسند إلى طرف العصا المنيف إياد من فِلِزّ[45] يحمل مُخامداً مطاطياً من جهة قاعدته، كما يحمل زجاجة البنزين. يقذف هذا الجهاز زجاجات ملتهبة إلى مئة متر وأكثر، بدقة نسبية. إنه سلاح أمثل في الحصار، وازاء الأبنية الخشبية أو ذات المواد القابلة للاشتعال، وكذلك للرمي على الدبابات في الأرض الجبلية. ومتى انتهى الحصار بالظفر أو رفع بسبب بلوغ الأهداف، تنحسب الفصائل كافة بانتظام إلى النقطة التي تركت فيها الحقائب، وتستأنف الحياة النظامية.
تولِّد حياة المغاور البدوية في هذه المرحلة حساً من الأخوة مرهفاً جداً بين الرفاق، لكنها تولد أيضاً أحياناً خصومات بين الجماعات، فإذا لم تهذب هذه الخصومات وتحوَّل إلى مباراة سليمة، مَثُلَ خطر تصدّع وحدة الرتل. ينبغي القيام بتربية المغاوير منذ بدء النضال بشرح معناه الاجتماعي وواجباتهم. ينبغي إعطاؤهم مفاهيم واضحة، وتلقينهم أخلاقاً تعرك طباعهم وتجعل من كل تجربة عوناً لهم لتجاوز أنفسهم، فلا تكون مجرد وسيلة إضافية للصراع من أجل البقاء.
إن للمَثَل قيمة تربوية كبرى، وعلى القادة أن يضربوا بأنفسهم مثل حياة لا صدع فيها وهبوها للقضية. تستند ترقية الجندي على شجاعته وكفاءاته وروح فدائه. فمن لا يوفر هذه الشروط ملياً لا يمكنه استلام المسؤوليات، لأنه سوف يتسبب، إن عاجلاً أو آجلاً، بطوارىء مؤسفة.
ما إن يقترب أحد المغاوير من بيت، إلاَّ ويقع سلوكه تحت المراقبة: فبحسب طريقته في طلب خدمة ما، أو تموين، وبحسب الأساليب التي يستخدمها للحصول عليهما، يستخلص الأهلون عن تشكيلة الغوار استنتاجاتهم، مؤاتية أو مجافية لها.
يقتضي الحذر إذاً أن يشرح القائد هذه المسائل بالتفصيل، ويوليها الأهمية التي تستأهلها. ينبغي أن يقنع الرجال أيضاً بمثاله الخاص. وإذا اتفق الدخول إلى قرية، يجب منع المشاريب الغولية مسبقاً، وتحضيض الفرقة، وإعطاؤها مثالاً ممكناً من الضباطة، ومراقبة دخول الرجال إلى القرية وخروجهم منها باستمرار.
لا بد أن تتعرض تشكيلة الغوار لمحنة التطويق لمعرفة تنظيمها وقيمتها القتالية وبطولتها وروحها، لأن التطويق أخطر وضع في الحرب. كان مغاورونا أثناء الحرب يطلقون في لغتهم "سُحْنة الحصار" على الوجه القانط لدى بعض الجنود المذعورين. كان زعماء العهد المباد يدعون حملاتهم بفخار "تطويقاً" و"إبادة". أما بالنسبة لتشكيلة غوارية خبيرة بأرضها، مرتبطة فكرياً وعضوياً بقائدها، فليست هذه مسألة عظيمة الخطر. يكفي عندها التحصُّن، ومحاولة اجتناب تقدم العدو الذي تدعمه الأسلحة الثقيلة، وانتظار الليل، حليف المغاور الطبيعي. وعند الغسق، في أشد تكتم ممكن، وبعد التعرف إلى أفضل الدروب واختياره، تتخذ أكثر وسائل الانسحاب ملاءمة، مع التزام أطبق الصمت. ويصعب للغاية في هذه الظروف الحؤول بين جماعة من الرجال وبين الإفلات من الطوق ليلاً.





4 – القتال
القتال أهم عمل في حياة الغوار. ليس القتال إلاّ فصلاً عابراً في تطور النضال، لكن هذه اللقاءات تتخذ بلا ريب أهمية خارقة، لأن كل اشتباك هو معركة أساسية بالنسبة للمقاتلين.
ذكرنا آنفاً أن الهجوم يجب أن يتم مع ضمان تام لنجاحه. علينا أن نشرح الخطوط العريضة للصيالة الواجب اتباعها، ولعمل الهجوم ذاته، مع الموائز المختلفة التي يمكن أن تتبادر في كل عملية. سوف نصف النضال في الأرض المؤاتية في المقام الأول، لأنه المثال النَمَطي[46] في حرب الغوار، ولأنه ينبغي أن تستخدم فيه مبادىء سابقة لاكتساب التجربة العملية، بغية حل بعض المسائل. (أما حرب السهل فهي دائماً نتيجة تقدم الغوَّرات بفضل اشتداد بأسها وبفضل الظروف الخاصة بالبيئة، وهذا يعني أنه أصبح لدى المغاوير تجربة غنية يمكنهم أن يفيدوا منها).
تتوغل الأرتال المعادية عميقاً في الأرض الثائرة، خلال الطور الأول من الحرب. وتبعاً لقوى هذه الأرتال، يمارس نمطان من الهجوم. يؤدي النمط الأول بصورة منهجية وعلى مدى بضعة شهور، إلى إفقاد هذه الأرتال كفاءتها الهجومية. إنه يسبق النمط الآخر زمنياً يسدد هذا الهجوم على المقدمات: فالأراضي المجافية تمنع الأرتال من التقدم مع تغطية كافية على جناحيها. لذا وجب أن تكون لها دوماً مقدمة هي التي تدخل أولاً، فتعرض حياة رجالها لتضمن بذلك سلامة بقية الرتل. فعندما لا يكون عدد المغاوير كافياً، ولا يمكن التعويل على احتياطات، ويكون العدو بالإضافة إلى ذلك قوياً، ينبغي استهداف إبادة هذا الرأس المتقدم دوماً. جملة هذا العمل بسيطة، ولا تتطلب إلاَّ قدراً من التنسيق. عندما يَذُرُّ[47] رأس المقدمة في المكان المقرر – وهو المكان الأكثر حُزونة[48] - يُسمح لقسم من المقدمة بولوج الطريق ويُصْلى ناراً فتّاكة. هذا بينما تستوقف جماعة صغيرة بقية الرتل هنيهة بحيث يُستطاع وضع اليد على الأسلحة والذخائر والتجهيزات. ينبغي أن تحضر لذهن المغاور دوماً فكرة أن منبع تموينه بالسلاح هو العدو. يجب عدم خوض المعركة إلاّ لِغَنم العتاد، عدا حالات الاستثناء.
يجري تطويق الرتل تماماً عندما تسمح قوى تشكيلة الغوار بذلك، أو يخلق هذا الانطباع على الأقل. وفي هذه الحالة الأخيرة ينبغي أن تكون مقدمة تشكيلة الغوار قوية ومتحصنة بقدر كاف لمقاومة هجمات العدو الجبهية. وعندما يتم إيقاف العدو، تَنْتََل[49] قوى المؤخرة لمهاجمة العدو من خلفه. ولما كان المكان قد اختير سلفاً بحيث لا يستطيع العدو التصرف بجناحيه، يسهل إرباض قناصين يبقون على الرتل كله في منطقة النار، ولو بلغ ثمانية إلى عشرة أضعاف عددهم. فيجب في هذه الحالة، وبفرض كفاية القوى، نصب كمائن تراقب كافة الدروب، لوقف النجدات. يُشد الطوق تدريجاً، وخاصة في الليل. ولما كان المغاور خبيراً بالمكان والعدو جاهلاً به، فإن الليل يدع قوة المغاور تزداد، ومثلها رعب العدو.
يمكن بهذه الطريقة وعلى جانب من السهولة، إبادة رتل أو تكبيده الخسائر بحيث يلزمه زمن طويل قبل أن يعاد تأليبه.
وعندما تكون قوى الغوارة ضئيلة ويراد مع ذلك تأخير تقدّم الرتل العدو أو صدّه، توزع قوى الغوارة إلى زمر قوامها اثنين إلى عشرة رماة، في الجهات الأربع، حول الرتل. يمكن الشروع مثلاً بالقتال على الميمنة. وعندما يوجه العدو عمله إلى هذا الجناح ويهجم منه، يبدأ الرمي على الميسرة، ثم في المؤخرة أو المقدمة، وهكذا. يمكن على هذا النحو جعل العدو في حالة إنذار دائمة، باستعمال ذخيرة قليلة جداً.
ينبغي أن تُكيَّف مِهانة الهجوم على قافلة أو على موضع للعدو، بظروف الأرض المختارة. وينبغي العمل بعامة، بحيث يتم أول اقتحام لأحد المواضع، في الليل، فجأة، مستهدفاً أحد المراكز الأمامية. يمكن لهجوم مفاجىء يشنه مغاوير متمرسون أن يصفي أحد المواضع بسهولة، مع احتساب التفوق الحاصل بتأثير الفجاء. ومن أجل القيام بتطويق منظَّم، يمكن مراقبة مناطق الهروب بقلة من الرجال، وحماية مسالك القدوم بكمائن تنصب بحيث أن العدو إذا مر عن أحدها، استطاع المغاوير الأنكفاء وبقي هناك كمين ثانٍ. وعندما لا يؤثر عنصر المفاجأة، يتوقف الظفر أو الهزيمة، وقت احتلال المعسكر، على كفاءة قوى التطويق في إيقاف وصول النجدات. يتوفر للعدو، عامة في هذه الحالة، دعم المدفعية ومدفعية الهاون والطيران والدبابات. الدبابة سلاح قليل الخطر في الأرض المؤاتية للغوارة: عليها أن تمر في دروب ضيقة يسهل أن تقع فيها فريسة الألغام. ثم أن كفاءة الدبابات الهجومية تفقد ههنا من قيمتها ما دامت تضطر أن تسير رتلاً أحادياً أو على الأكثر ثنائياً. اللغم هو أفضل الأسلحة وآمنها ضد الدبابات. أما في الالتحامات التي يسهل تحقيقها في الأراضي الوعرة، فيغدو "كوكتيل مولوتوف" سلاحاً ذا فعالية خارقة. ولا نتكلم عن البازوكة التي تكون سلاحاً دفاعياً جدياً لقوى الغوار، إلاَّ أنه يصعب توفيره، في بداية النضال على الأقل. أما مدفع الهاون، فيمكن اللجوء ضده إلى الخندق المسقوف. والهاون سلاح عظيم الفعالية ضد موضع مطوق، غير أن قدرته تنقص بالمقابل، إزاء مهاجمين جائلين. ليس للمدفعية دور كبير في هذا النوع من الصراع لأنه ينبغي نصبها في مواضع سهلة المنال، وهي عاجزة ضد أهداف جائلة. الطيران هو السلاح الرئيسي لقوى الاضطهاد، إلاّ أن فعاليته تتضاءل كثيراً بقدر ما تغدو أهدافه الوحيدة هي خنادق صغيرة لا ترى. سوف يرمي الطيران قنابل شديدة البأس، يكون صوتها أعظم من أذاها. ثم إنه كلما ازداد الاقتراب من خطوط دفاع العدو، كلما عسر على طيرانه مهاجمة هذه النقاط.
اللغم المسيَّر عن بعد هو أكثر أنماط الألغام فعالية، إلاَّ أنه يتطلب معلومات مِهانية لا تتوفر دائماً. غير أن الألغام ذات الضغط، وذات الفتيل، وخاصة الألغام الكهربائية، بالغة الفائدة أيضاً، وتؤلف بالنسبة للقوى الشعبية، على الدروب الجبلية، وسائل دفاع تكاد لا ترام.
الخندق المائل، المنشأ على عرض الطريق، بحيث تَلِجه الدبابة بسهولة، ولكنها لا تستطيع الخروج منه إلاَّ بصعوبة، هو وسيلة دفاع حسنة ضد المركبات المدرعة. يمكن تمويه هذه الخنادق بسهولة إبان تقدم العدو ليلاً، أو عندما تحول مقاومة الغوارة دون إرسال العدو مشاته أمام المدرعات.
الشاحنة هي وسيلة نهجية أخرى يتقدم بها العدو في الأرض السالكة. وتسبق بعض المركبات المدرعة أرتال شاحنات العدو. تستطيع تشكيلة الغوار، تبعاً لقوتها، إما تطويق الرتل بأكمله، أو الفتك به بمهاجمة بعض الشاحنات مع تفجير الألغام في آن. ينبغي العمل بسرعة في هذه الحالة، وغنم أسلحة الأعداء الصرعى، والانسحاب. وإذا سنحت الظروف، يمكن محاولة التطويق الشامل الذي شرحنا قواعده العامة آنفاً.
بارودة الصيد هي سلاح عظيم الفعالية لمهاجمة الشاحنات المكشوفة. فيمكن لخردق بارودة ذات عيار 16 أن يغطي حقلاً قدره عشرة أمتار، أي بمدى طول الشاحنة كلها، فيقتل بعض ركابها، ويجرح غيرهم، ويحدث اضطراباً شديداً. وإذا ما توافرت بعض الرمَّانات، تكون أسلحة ممتازة في هذه المناسبة

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:40 AM

  رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

إن تأثير المفاجأة هو الشيء الجوهري في هذه الهجمات كافة. وهو مائزة في المقام الأول لصيالة الغوار. ولا يمكن حدوث هذا التأثير إذا كان فلاحو المنطقة على علم بوجود الجيش الثائر. لهذا السبب ينبغي إجراء كافة التحركات ليلاً ولا يسوغ إلاَّ لرجال شديدي الكتمان ذوي إخلاص مخبور، أن يعلموا بها ويجروا الارتباطات. يجب أن تكون الحقائب مملوءة زاداً لهذه المسيرات، لكي يستطاع الصمود يومين أو ثلاثة أو حتى أربعة في مكان الكمين.
لا يجوز الوثوق كثيراً بتكتم الفلاح: أولاً لأن لديه ميلاً طبيعياً للكلام والتعليق على الحوادث مع أعضاء آخرين من أسرته أو مع الُخلَّص من معارفه، ثم لأن الوحشية التي يعامل بها جنود العدو الأهلين، عند الهزيمة، تبث الرعب وتحدو بالبعض، إنقاذاً لحياتهم، أن يتكلموا أكثر مما ينبغي، فيقدمون بذلك معلومات جوهرية. ولأجل نصب كمين، يتم اختيار مكان يبعد على العموم، ما لا يقل عن مسير يوم واحد عن مآرز الغوارة المعتادة، والتي يعرفها العدو دائماً بكثير أو قليل من التقريب.
لقد أكدنا آنفاً أن كيفية الرمي في القتال تدل على مواضع المتقاتلين، فمن جهة رمي الجندي النظامي، حامياً، سخياً، معتاداً أن تتوفر له الذخيرة كيفياً، ومن الجهة الأخرى رمي المغاور، منهجياً، منجَّماً[50]، عارفاً قيمة كل رصاصة، يستعملها بحرص ولا يرمي أبداً أكثر مما يلزم. ولما كان من غير المنطق أن يترك العدو يفلت، اقتصاداً للذخيرة، أو ألاَّ يستنجز الكمين عمله ملياً، لذا وجب توقع كمية الذخيرة التي ينبغي استعمالها في كل مناسبة، وتسيير القتال وفقاً لهذه الحسابات المسبقة.
الذخيرة هي مسألة المغاور الكبرى. يتوفر السلاح دائماً، وما يُملك منه لا يعود يفارق الغوارة. أما الذخيرة فتنفد. وإذا كان السلاح يغنم بعامة، مع ذخيرته، فلا تغنم الذخيرة وحدها أبداً إلاّ نادراً. ولا يفيد السلاح الذي يغنم مع ذخيرته في تموين أسلحة أخرى، إذ ليس ثمة سلاح فائض. لذلك يغدو المبدأ الصِيالي القائل بالاقتصاد في الرمي مبدأ أساسياً في هذا النمط من الحرب.
لا يسع القائد المغاور الذي يعتد بهذه الصفة لنفسه، أن يهمل شأن الانسحاب. ينبغي إجراء الانسحابات في الوقت المجدي، وأن تكون مرنة، وتسمح بإنقاذ كل عتاد تشكيلة الغوار، والجرحى. لا يجوز للثائر أبداً أن يفاجئه العدو أثناء الانسحاب، ولا يستطيع قط أن يسمح لنفسه بترف مطاوعة الطوق الذي يُشد حوله.
ينبغي إذاً حراسة الطريق المختارة في كافة النقاط التي يحتمل أن يُقبل العدو منها بجنوده في محاولة للتطويق. وإذا ما وقعت محاولة التطويق، وجب أن تكون هناك جملة ارتباط تتيح إشعار الرفاق سريعاً بالمحاولة.
ينبغي دائماً توفر رجال غير مسلحين، يلتقطون بنادق الرفاق الجرحى أو الصرعى، أو سلاح الأسرى، ويعنون بالأسرى، وبنقل الجرحى، بالارتباطات. ويجب أن يتوفر دائماً فريق جيد من الرسلاء لا يرقاهم الإعياء، مخبورين في جِدِّهم، وقادرين على إيصال الأوامر بعجل تام.
إن عدد هؤلاء الردفاء نسبي، لكن يمكن تحديده باثنين إلى ثلاثة في العشرة: إنهم يشهدون القتال، وينجزون المهمات المقتضاة في المؤخرة، مدافعين عن المواضع إبان الانسحاب، وقائمين على مصالح الارتباط التي ذكرناها.
عندما تمارس تشكيلة الغوار حرباً من النمط الدفاعي – أعني عندما تؤمن حماية مسالك منطقة معينة ضد رتل من الغزاة – يتحول القتال إلى حرب تحاصن. غير أنه ينبغي دائماً عند بدء الاشتباك، العناية بتأثير المفاجأة التي تكلمنا عنها آنفاً. وإذا تم حفر خنادق أو جمل دفاعية أخرى يسهل على فلاحي المنطقة تمييزها، ينبغي التأكد أن هؤلاء الفلاحين باقون خلف الخطوط. إذ أن الحكومة، في هذا النمط من الحرب، تقيم الحصار على المنطقة، ويضطر الفلاحون الذين لم يلوذوا بالفرار إلى الذهاب لمناطق بعيدة عن منطقة حمى الغوَّارة، بقصد التموين. وفي اللحظات الحرجة التي نصفها، يضحى كل رجل يغادر منطقة الغوار خطراً بالغاً، نظراً للمعلومات التي يمكن أن يسديها للعدو. وعلى الجيش الثائر، في الحرب الدفاعية، أن يتخذ صيالة الأرض المحروقة مبدأ أساسياً.
ينبغي بناء الجهاز الدفاعي كله بحيث تقع مقدمة العدو دائماً في كمين. من المهم جداً على الصعيد النفسي، أن يكون رجال المقدمة هم الذين يُصرعون، دون ريب، في كل قتال. ينبغي خلق وعي لهذا الواقع يتفاقم حدَّة كل مرة لدى جيش العدو، فيبلغ منه مبلغاً لا يبقى معه أحد يرضى أن يكون في المقدمة. ولما كان واضحاً أن رتلاً بلا مقدمة لا يستطيع التقدم، فلا بد إذاً أن يتحمل أحد هذه المسؤولية...
وإذا ما رُئي الأمر مجدياً، أمكن القيام بمراوغات للإلهاء، أو تطويقات أو هجمات جناحية، أو مجرد صد العدو جبهياً. إلاَّ أنه ينبغي في كل الحالات تقوية النقاط الخليقة أن تستهدفها هجمات العدو الجناحية.
يفترض ذلك توفر رجال وسلاح أكثر مما في القتالات الآنف وصفها، فمن الواضح أنه يلزم كثير من الرجال لرصد كافة الدروب المتواردة إلى منطقة ما. وقد تكون عديدة. ينبغي ههنا زيادة عدد الفخاخ والهجمات على الناقلات المدرعة، في آن مع ضمان أعظم سلامة ممكنة لجملة الخنادق الثابتة التي يمكن للعدو، بحكم ثباتها، أن يحدد مواضعها. وإذا كان الأمر العسكري في هذا النمط من الحرب، هو بعامة، الصمود بوسائل الدفاع حتى الموت، يجب مع ذلك أن يضمن لكل من الحماة الحد الأقصى من فرص البقاء حياً.
كلما كان الخندق مستخفياً للمراقبة عن بعد. كان أميناً. ويحسن تغطيته بسقف لإبطال تأثير مدافع الهاون. إن مدافع الهاون المستخدمة في الميدان عامة هي ذات عيار 60 أو حتى 85 مم، وهي لا تستطيع خرق سقف جيد مبني بالمواد المحلية، كالخشب أو الحجر، ومحكم التمويه. ينبغي الاحتياط دائماً بإنشاء مخرج يسمح للمرء في الحالة القصوى، أن يفلت دون تعريض حياته كثيراً. لقد أنشأنا مثل هذه الوسائل الدفاعية في سييرا ماسترا حيث كانت فعالة لوقايتنا من رمي مدافع الهاون. تشير كل هذه الاعتبارات بوضوح إلى انعدام وجود خطوط نار محددة. إن خط النار هو شيء نظري إلى حد بعيد أو قريب، يتثبت في بعض اللحظات الحرجة، إلاَّ أنه مطاط ومتنافذ بين المعسكرين. وما هو موجود إنما هو أرض سائبة[51] واسعة بينهما. إلاَّ أن الأرض السائبة تتميز في الغوار بأن ثمة سكاناً مدنيين يعيشون فيها، ويتعاونون إلى حد ما مع أحد المعسكرين. وتقف أكثرية باهرة منهم، في الواقع، إلى جانب الثورة. لا يمكن ترحيل هؤلاء السكان حشراً، إذ أن أي المتنازعين يحاول ذلك، يختلق لنفسه معضلة تموينية لا حل لها. تمر في هذه الأرض السائبة غزوات دورية، نهارية على وجه العموم لقوى القمع، وليلية لقوى الغوار. وتجد قوى الغوار في هذه الغزوات مصدراً هاماً للتموين ينبغي تداركه على الصعيد السياسي بإقامة أحسن العلاقات مع الفلاحين والتجار.
إن عمل الذين لا يقاتلون مباشرة هام جداً في هذا النمط من الحرب. لقد أشرنا آنفاً إلى بعض مميزات الارتباط في أماكن القتال، إلاَّ أن الارتباط هو مؤسسة تقوم داخل تنظيم الغوارة. وينبغي بناء الارتباطات حتى أبعد جماعة من المغاوير، بحيث تستطيع الانتقال دائماً من نقطة لأخرى بأسرع وسيلة معروفة في المنطقة، هذا حتى في الأرض المجافية لنا. لا يرد مثلاً، لغوارة تعمل في أرض مجافية، أن تدع جمل موصلات حديثة قائمة، كالبرق، والطرقات.. إلخ، عدا بعض الجمل اللاسلكية التي يتعذر تخريبها والتي لا تفيد إلاَّ حاميات عسكرية قوية تذود عنها. وهي بأية حالة، لو سقطت في أيدي الغوارة، لاحتاجت إلى تغيير الرموز والتوترات، وهو عمل على جانب من الصعوبة في بعض الأحيان.
نقول ونحن نتذكر تجربتنا الخاصة خلال حرب التحرر: إن الاختبار اليومي الأمين عن كافة نشاطات العدو يُستكمل بالاختبار الذي تؤديه ارتباطاتنا. ينبغي درس جملة المخابرات درساً كثيراً، واختيار رجالها بأكبر عناية. فلا يمكن تقدير مبلغ الأذى الذي يستطيع أن يؤتيه عميل مزدوج. وإذا لم نذهب إلى هذا الحد، فإن اختباراً مبالغاً فيه، يستعظم الخطر أو يستصغره، يمكن أن تنجم عنه متاعب جمة: ويندر أن يستصغر الخطر، إذ أن ميل الفلاح العام يحدو به إلى تضخيم الأنباء. إن الذهنية الجبتية[52] التي تستحضر أشباحاً وكائنات غيبية شتى هي ذاتها التي تختلق جيوشاً جبارة أيضاً عندما لا يعدو الأمر فصيلة أو دورية عدوة. كما ينبغي أن يبدو الجاسوس محايداً قدر الإمكان، وألاّ يظهر في عين العدو، على أية صلة بقوى التحرر. ليست هذه المهمة صعبة بقدر ما تتراءى، ويصادف أناس كثيرون، تجار أو أصحاب مهن حرة وحتى رجال دين، يستطيعون الإسهام فيها وتقديم المعلومات.
إن الفرق الشاسع بين المعلومات التي تحصل عليها القوى الثائرة ومعلومات الجيش النظامي، هو من أهم موائز حرب الغوار. يضطر الجيش النظامي أن يجوب مناطق مناوئة له إطلاقاً، لا يلقى فيها إلاَّ صمت الفلاحين المر، بينما تعتد تشكيلة الغوار بصديق في كل بيت، إن لم يكن في صفوفها أحد أعضاء الأسرة، وتتداول الأنباء باستمرار خلال جملة ارتباطاتها، حتى الأركان العامة أو مركز قيادة الغوار في المنطقة.
عندما يتوغل العدو في أرض قد جاهرت بالثورة، حيث انضوى الفلاحون كافة إلى قضية الشعب، تنشأ مسألة بالغة الخطورة. يحاول معظم الفلاحين أن يفروا مع الجيش الشعبي، مخلِّفين أطفالهم ومشاغلهم، ويحاول غيرهم اصطحاب عيالهم بقضِّها وقضيضها، وأخيراً يمكث غيرهم مكانه بانتظار الأحداث. إن أبلغ نتائج توغل العدو هو زج أُسَر كثيرة في وضع صعب، إن لم يكن يائساًً. ينبغي إسداء الحد الأقصى من الدعم لهم، لكنه ينبغي تحذيرهم أيضاً من أن الفرار صوب مناطق غير آهلة، بعيداً عن أماكن التموين المعتادة، يعرضهم بالتأكيد إلى اللِزَن[53].
لا يسوغ الحديث عن "نمط من القمع" من جانب أعداء الشعب: ففي كل مكان، يعمل أعداء الشعب تبعاً للظروف النوعية من تاريخية واجتماعية واقتصادية، على نحو يزداد أو يقل إجراماً، وإن كانت طرائق القمع العامة متماثلة على الدوام. ثمة أماكن لا يستثير فيها فرار الرجل إلى منطقة الغوار، مخلفاً أسرته في البيت، رد فعل كبير. بَيْدَ أن هذا الفرار كاف، في أماكن أخرى، لمصادرة أرزاقه وإحراقها وللتسبب بقتل الأسرة كلها. لذا فمن الطبيعي أن يتم تنظيم الفلاحين الذين سوف يتأثرون بتقدم العدو، على خير وجه، تبعاً لما يعرف عن قواعد الحرب في هذه المنطقة بالذات.
واضح أنه ينبغي التأهب لطرد العدو خارج المنطقة المصابة، بقطع خطوط مواصلاته، ومنع تمونيه بواسطة غوارات صغيرة ترغمه على أن يلقي في القتال أعداداً كبيرة جداً من الرجال.
إن استخدام الاحتياط على نحو حكيم في كل لقاء هو أهم العوامل في هذه المعارك. يندر أن يستطيع الجيش الثائر، بحكم طبيعته، أن يعتمد احتياطات، لأن عمل أبسط المشتركين فيه منظم ومستخدم ملياً في كل قتال. غير أنه يحسن أن يحتفظ الجيش الثائر برجال موزعين، يستطيعون الاستجابة لطارىء ما، أو شن هجوم معاكس، أو تثبيت وضع ما. ويمكن وفقاً لتنظيم الغوارة وتبعاً لإمكانات الساعة، أن يحتفظ بفصيلة متأهبة "صالحة لكل عمل"، تكون مهمتها هي الانتقال إلى أشد النقاط خطراً. يمكن تسميتها "الفصيلة الانتحارية"، أو أي اسم آخر. إنها تقوم جيداً في الواقع بالوظائف التي تشير هذه التسمية إليها. يجب إرسال هذه "الفصيلة الانتحارية" إلى كافة النقاط التي يحسم فيها القتال، وإلى الهجمات المفاجئة على المقدمات، وللدفاع عن الأمكنة الأشد خطورة وعرضة للإصابة، وأخيراً إلى كل مكان يهدد فيه العدو استقرار خط النار. يترك كل امرىء حراً أن ينخرط في هذه الفصيلة، التي يجب أن تغدو جائزة ينالها من يختارها. والجندي منها خليق أن يصبح على مر الزمن مثالاً لكل رتل غواري، ويتمتع المغاور الذي يتشرف بالانتساب إلى هذه القطعة بإعجاب واحترام رفاقه كافة.




 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:41 AM

  رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 



5 – ابت
داء حرب الغوار وتطورها وانتهاؤها

لقد عرّفنا بإسهاب ما هي حرب الغوار. وسوف نعيد الآن وصف تطورها الأمثل، في الأرض المؤاتية، منذ ولادتها بدءاً من نواة وحيدة، أي أننا سوف نؤلف نظريتها، اعتماداً على التجربة الكوبية.
ثمة في البدء جماعة قليلة أو كثيرة التسلح، متفاوتة التجانس، تحاول بصورة حصرية تقريباً، أن تختبىء في أماكن وعرة، لا يُهتدى إليها، في حين أنها تحافظ على صلة ضعيفة بالفلاحين. تنجح هذه الجماعة في كيل ضربة، فتبدأ شهرتها آنئذ. يأتي بعض الفلاحين الذين سُلبوا أراضيهم أو الذين يناضلون للحفاظ عليها، وبعض المثاليين الناشئين في طبقة أخرى، فيرفدون صفوفها. تكتسب الجماعة مزيداً من الإقدام للتجول في المناطق الآهلة، وصلة أوثق بأهل المنطقة، فتباشر بعض الهجمات، يليها الهروب تواً. وسرعان ما يصل بها الأمر إلى الاشتباك في قتال مع رتل فتبيد مقدمته. تستمر في تجنيد الرجال فيها، ويتضخم عددها، إلاَّ أن تنظيمها يبقى هو هو، عدا أنها تلتزم حذراً أقل وتغامر في مناطق أكثر سكاناً.
ثم تأخذ الجماعة تقيم معسكرات مؤقتة لبضعة أيام، تبارحها مذ تعلم باقتراب العدو، أو إذا حدث قصف، أو لمجرد ظنها في أحد هذه الأخطار. تتزايد الغوارة عددياً، ويقترن ذلك بالعمل الجماهيري الذي يجعل من كل فلاح نصيراً لحرب التحرر. تختار أخيراً منطقة في منأى عن يد العدو، وتبدأ الحياة الحضرية وتشرع بإقامة الصناعات الصغيرة الأولى: الأحذية، لفائف التبغ، صناعة السلاح، الخبازة، شيء من الخياطة، المشافي، الإذاعة، الطباعة... إلخ.
أصبح للغوارة تنظيم جديد، وبنية جديدة. إنها رأس حركة كبيرة تظهر فيها، على هيئة ملامح، كافة مميزات الحكومة. تقام محكمة لإدارة العدالة، وإذا أمكن، تنشر بعض القوانين، مع متابعة توعية الجماهير الفلاحية سياسياً، وكذلك الجماهير العمالية إن وجدت في المنطقة. يتم هزم هجوم من جانب العدو، فيزداد عدد البنادق، وبالتالي عدد رجال الغوارة. غير أنه يحين وقت لا يتسع فيه قطر عملها بنسبة عدد رجالها. فينفصل عندئذ رتل عن الجماعة ويذهب لخلق منطقة قتال جديدة. تعاود هذه النواة الجديدة العمل مرة أخرى، لكن بموائز مختلفة نوعاً ما، نظراً للتجربة المكتسبة ولتوغل جيوش التحرر في مناطق الحرب. وتتابع النواة المركزية استفحالها في هذه الأثناء، وقد تلقت أرفاداً هامة من التموين ومن البنادق أحياناً، من مناطق بعيدة، ويستمر قدوم الرجال إليها، وتتابع المهمات الإدارية بابرام القوانين، وتفتح مدارس تسمح بنشر الوعي السياسي بين المجندين وبتدريبهم. ويتعلم القادة بقدر ما تتطور الحرب، وتتحسن كفاءتهم القيادية في آن مع تزايد القوى كمَّا وكيفاً.
وعندما يحين الوقت، تستطيع بعض الجماعات أن تذهب لتقيم في مناطق بعيدة وتعاود الدورة ذاتها.
غير أن ثمة أرضاً معادية، أرضاً مجافية لحرب الغوار. فتتوغل فيها زمرة صغيرة لمهاجمة المواصلات وتخريب الجسور وبث الألغام وبذر عدم الاطمئنان. وتستمر الحركة تتطور مع المد والجزر الخاصين بالحرب. لا يلبث العمل الجماهيري الواسع أن يتيح للقوى بالتجول في الأراضي المجافية، فيبلغ المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الغوار في ضواحي المدن.
يزداد التخريب بشكل محسوس في المنطقة كلها. وتصاب الحياة بالشلل، فقد أصبحت قيد رقابة الغوار. يستهدف الغوار مناطق أخرى، ويقاتل العدو على جبهات محددة، وقد تم غنم أسلحة ثقيلة (حتى بعض الدبابات)، وصار النضال بين ندِّ وندّ. يتم مصرع العدو عندما يتحول تتابع الأظفار الجزئية إلى ظفر نهائي، عندما يصل الأمر بالغوار أن يحمل العدو على القتال ضمن الشروط التي يفرضها الغوار، ويتم عندها قهر العدو وإرغامه على الاستسلام.
ليس هذا إلاَّ تصوير الملامح التي تعيد إلى الأذهان مختلف مراحل حرب التحرر الكوبية، غير أن محتواه عام تقريباً، وأن تضافر العناصر – الشعب، الشروط، القائد - لا يتوفر دائماً كما حصل في حربنا. وهل يلزمنا القول إن فيدل كاسترو يجمع صفات المقاتل ورجل الدولة وإننا مدينون إلى نظرته للأمور بنزولنا إلى البر وبظفرنا؟ لا نستطيع القول إن ظفر الشعب لم يكن ليحدث بدونه، لكننا نستطيع القول إن الظفر بدونه، كان أغلى ثمناً وكان أقل اكتمالاً.









القسم الثالث

تنظيم جبهة الغوار





1 – التموين
إن تموين تشكيلة الغوار على نحو صحيح هو أمر جوهري. ينبغي أن تستطيع الجماعة إيجادها أودها من منتجات الأرض، بينما هي تمكَّن الفلاحين الذين يقدمون هذه المنتجات أن يجدوا أودهم فيها أيضاً. لا يستطيع المغاور، في النضال الشاق الذي يخوضه – ولا سيما في البدء – أن ينتج بنفسه أي شيء، خاصة إذا وجد في أرض سالكة لأرتال القمع. وبقدر ما تنمو تشكيلة الغوار، عليها أن تؤمَّن لنفسها منابع تموين بعيدة عن مناطق القتال. تعيش في البدء مما ينتجه الفلاحون فقط. قد تستطيع المِيرة[54] من بعض المراكز، ولكنها لا تستطيع أبداً أن تنشىء شبكات تموينية لأنها تفتقر بعد إلى الأرض التي تقيمها عليها. إذن تتكيف شبكة التموين ومثلها تخزين المؤن بتطور الصراع.
يجب كسب ثقة سكان المنطقة كلياً وقبل كل شيء. ويتم الفوز بها باتخاذ موقف إيجابي من مشاكلهم، بمساعدتهم وتوجيههم باستمرار، بالدفاع عن مصالحهم وبمعاقبة الذين يستغلون الفوضى لطرد الفلاحين من أراضيهم والاستيلاء على محاصيلهم وإقراضهم بالربا.
يجب أن يكون الخط المتبع مرناً وصلباً في آن. يكون مرناً بانتهاج التعاون العفوي مع كل الذين يعطفون باخلاص على الحركة الثورية. ويكون صلباً تجاه الذين يهاجمون الحركة الثورية مباشرة، مثيرين التفرقة أو ناقلين معلومات هامة إلى جيش العدو.
يتم الإشراف على المنطقة شيئاً فشيئاً ويمكن عندها اعتماد حرية حركة أكبر. يجب اتخاذ مبدأ أساسي هو دفع أثمان البضائع المأخوذة من الأصدقاء دوماً، سواء أكانت منتجات زراعية أو سلعاً تجارية. كثيراً ما تكون هذه البضائع هدايا، غير أن ظروف حياة الفلاح تحول أحياناً دون هذه الهبات. وقد تفرض ضرورات الحرب مهاجمة بعض المتاجر، دون إمكان الدفع. يجب دوماً في هذه الحالات إعطاء التاجر إيصالاً، سند إقرار بالدين، من "سندات الأمل" التي ذكرناها آنفاً. ولكنه يفضَّل استخدام هذه الوسيلة مع أناس موجودين خارج حدود المنطقة المحررة، وتسديدها في أسرع وقت ولو جزئياً.
ومتى تحسنت الظروف بكفاية لتسمح بالاحتفاظ بصورة دائمة بأرض لا يطالها جيش العدو، أمكننا أن نعمد عندئذ إلى البذار بصورة جماعية. يشتغل الفلاحون الأرض لصالح جيش الغوار، فيضمنون بذلك مصدراً ثابتاً للتموين.
وإذ كان عدد المغاوير المتطوعين يتجاوز عدد الأسلحة، وإذا كانت الظروف السياسية تحول دون نزول هؤلاء الرجال إلى المناطق الخاضعة للعدو، يمكن للجيش الثائر أن يدع رجاله وكافة المجندين فيه يشتغلون الأرض، ويجنون المنتجات التي تضمن التموين. يملأ هؤلاء المتطوعون بذلك سجلات خدمتهم التي تفيد فيما بعد لترقيتهم إلى صفوف المقاتلين. غير أنه يُفضَّل أن يتم البذار على يد الفلاحين أنفسهم، لأنهم ينجزون العمل بحماس أكبر وكفاءة أعظم. ويمكن التوصل، في مرحلة أكثر تقدماً، إلى شراء محاصيل برمتها وتخزينها لاستعمال الجيش، سواء في الهواء الطلق أو في المخازن، حسب طبيعة السلع.
وعندما يتم إنشاء هيئات مكلفة بتموين السكان الفلاحين أيضاً، يتم تجميع كل السلع لدى هذه الهيئات، لإجراء عمليات مقايضة بين الفلاحين، بوساطة الجيش الثائر.
وإذا تحسنت الظروف أكثر، أمكن تحديد الضرائب. يجب أن تكون أخف ما يمكن، لا سيما على المنتج الصغير. ويجب السهر، فوق كل شيء، على العلاقات الطيبة بين طبقة الفلاحين وبين الجيش الثائر الذي هو فيض منها.
يمكن أن تُجْبَى الضرائب نقداً أو بشكل حصص من المحصول تأتي لترفد الاحتياطات. اللحم مثلاً سلعة في المقام الأول من الضرورة، فيجب ضمان إنتاجه وحفظه. ويتم بالتعاون مع الفلاحين إنشاء مزارع لتربية الدجاج والماعز والخنازير، التي تُشْتَرى من كبار الملاك أو تُصَادر منهم، وإذا كانت المنطقة غير آمنة، يبدو الفلاحون فيها بمظهر مَن لا علاقة له بالغوارة. ومن المعتاد في مناطق الملكيات الكبرى أن تتوفر الماشية بكميات كبيرة، فتذبح وتملّح. فإذا ما حفظ اللحم بهذه الشروط، بقي صالحاً للاستهلاك مدة طويلة.
تنتج الماشية الجلد أيضاً. يمكن إقامة صناعة دباغة بدائية إلى حد ما، تسمح بتوفير المادة الأولية للأحذية، وهي لوازم لا يستغني المغاور عنها. يمكن القول، بصورة عامة، إن الأغذية التي لا غنى عنها هي: اللحم، الملح، بعض الخضار أو الأدران أو البذور. ينتج الفلاح الغذاء الأساسي دائماً، وهو المالانغا في المناطق الجبلية من مقاطعة أوريينته (كوبا)، والذرة في المناطق الجبلية من المكسيك وأمريكا الوسطى والبيرو، والبطاطا في البيرو أيضاً، وهو الماشية في بلدان أخرى كالأرجنتين، وهو القمح في سواها. يجب بأية حال ضمان تموين الفرقة بالغذاء الأساسي، وببعض المواد الدسمة الحيوانية أو النباتية التي تسمح بإغناء التغذية.
الملح حاجة لا غنى عنها. عندما نكون على مقربة من البحر ونستطيع بلوغه، ينبغي إنشاء مَجَفَّات[55] صغيرة للملح فوراً، لتكوين احتياط منه. ولا يسعنا نسيان أنه يسهل فرض الحصار على المنطقة الجبلية، التي تكاد لا تنتج شيئاً، فيؤدي الحصار إلى إفقار المنطقة على نحو بالغ. ويستحسن أن تتوقع المنظمة الفلاحية والمنظمات المدنية عامة هذا الاحتمال. يجب أن تتوفر لدى الفلاحين احتياطات غذائية ليستطيعوا البقاء خلال أشد فترات النضال قسوة. يجب الاجتهاد بسرعة لتكوين مخزونات من السلع غير التالفة كالحبوب: ذرة، قمح، ارز... إلخ، والدقيق، والملح، والسكر، والمحفوظات بكافة أنواعها، ويجب القيام بالبذار الضروري أيضاً.
سوف يأتي يوم يتم فيه حل كافة المسائل الغذائية في المنطقة، غير أن كمية كبيرة من المنتجات الأخرى تبقى ضرورية، كالجلد مثلاً للأحذية (إذا تعذر إنشاء صناعة للجلد)، والكتَّان للألبسة، ولوازم أخرى كالورق وآلات الطباعة للصحف والحبر... إلخ.
وكلما استكملت الغوارة تنظيمها، ازدادت حاجتها لأصناف تأتي من العالم الخارجي. فيصبح ضرورياً عندئذ أن تؤدي منظمة خطوط التموين عملها على وجه الكمال. تقوم هذه المنظمة بصورة أساسية بواسطة الفلاحين الأصدقاء. ويجب أن تكون بنيتها ذات قطبين، أي تكون لها نهاية في المدينة من جهة، ونهاية في جبهة الغوار من الجهة الأخرى. وتجتاز خطوط التموين، ابتداء من مناطق الغوار، كل الأرض التي يمكن أن يمر فيها العتاد. وسوف يألف الفلاحون الخطر شيئاً فشيئاً (يمكنهم إتيان العجب العجاب إذا عملوا في جماعات صغيرة)، فينقلون العتاد إلى المكان المحدد دون أن يعانوا أخطاراً بالغة. يمكن إجراء هذه التنقلات ليلاً على البغال أو أية زوامِل[56] أخرى، وحتى بسيارات الشحن في بعض المناطق، فيتم بذلك ضمان تموين منتظم. والمقصود ههنا نمط من خطوط التموين وارد من الأنحاء القريبة من أمكنة العمليات.
بيد أنه يجب أيضاً تنظيم خطوط تموين واردة من مناطق أكثر بعداً. وينبغي لهذه المناطق، بالإضافة إلى العتاد غير المتوفر في القرى أو مدن المقاطعات، أن تقدم المال اللازم للشراء.
تعيش المنظمة من هِبَات الأصدقاء المباشرة، وتعطي لقاءها إيصالات سرية، ويجب أن يكون القائمون على تعاطي هذه الأمور خاضعين لرقابة شديدة. وعندما تخرج غوارة من مأرِز عملياتها لتداهم منطقة جديدة، يمكنها تسديد مشترياتها نقداً أو بـ"سندات الأمل". وفي هذه الحالة، ليس ثمة حل غير أخذ بضائع التجار. ويتبع التسديد عندئذ إلى أمانة الغوارة أو إلى إمكاناتها المالية

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:42 AM

  رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

تحتاج كافة خطوط التموين التي تجتاز الريف إلى سلسلة من المحطات أو نهايات المراحل، المنشأة في بيوت خاصة، يمكن إخفاء المؤن فيها في النهار، حتى الليل التالي. ولا يجوز أن يعرف هذه البيوت غير أولئك المكلفين مباشرة بالتموين. ويجب أن يعرف أهل هذه البيوت أنفسهم أقل ما يمكن عن هذه النقليات وأن يكونوا طبعاً أشخاصاً يوحون للمنظمة بأكبر قدر من الثقة.
البغل أكثر الدواب ملاءمة لنقل المؤن. للبغل طاقة احتمال لا تصدق، ويستطيع التجوال في أشد المناطق وعورة، حاملاً أكثر من مئة كيلو طوال أيام وأيام. وتجعل منه قناعته وسيلة النقل المثلى. يجب أن يكون حافره حسن الأنعال وأن يَعْتَني بالبغل بَغَّالون حاذقون. يمكن على هذا النحو تجنيد جيش حقيقي عظيم الفائدة، يدبّ على أربع. وقد يحصل، رغم صبر البغل وطاقته على احتمال أصعب المراحل، أن تؤدي صعوبة أحد المسالك إلى وجوب تخفيف الأحمال عنه. ولتجنب ذلك يكلف فريق خاص بتحديد معالم الدروب الجبلية. فإذا ما اجتمعت كل هذه الظروف، وإذا توفر تنظيم متين وإذا أقام الجيش الثائر أطيب العلاقات مع الفلاحين، تم ضمان التموين بانتظام.





2 – المنظمة المدنية
إن التنظيم المدني للحركة الانتفاضية أمر بالغ الأهمية، وذلك على الجبهتين الداخلية والخارجية. وللجبهتين طبعاً، موائز ووظائف متباينة إلى حد بعيد، وإن تم تصنيف مهماتهما تحت تسمية واحدة. فجباية المال التي يمكن أن تقوم بها الجبهة الخارجية مثلاً تختلف عن جباية الجبهة الداخلية. ومثلها شأن الدعاية، أو التموين. وسوف نصف أولاً مهمات الجبهة الداخلية.
نقصد بالجبهة الداخلية منطقة واقعة ولو جزئياً تحت إشراف قوى التحرر، ومؤاتية للغوار. أما عندما ينتشر قتال الغوار في أرض مجافية له، فلا يتوطد تنظيم الغوار فيها عمقاً، بل اتساعاً، لأنه يصيب نقاطاً متزايدة العدد، ولكنه لا يستطيع تحقيق تنظيم داخلي، لأن العدو متوغل في المنطقة. ويمكن في الجبهة الداخلية توفر سلسلة من المنظمات التي تؤدي وظائف نوعية لتحسين عمل الإدارة. تعود الدعاية، بصورة عامة، مباشرة إلى الجيش، غير أنه يمكن فصلها مع بقائها تحت إشرافه (وهذه المسألة، بأية حال، هامة إلى حد يجعلني أعالجها على حدة فيما بعد). وتعود جباية الضرائب إلى المنظمة المدنية، ومثلها تنظيم الفلاحين بصورة عامة (والعمال إن وجدوا)، وينبغي أن يخضع هذان الأمران إلى إشراف محكمة.
وكما أوضحنا في الفصل السابق، يمكن تحقيق الجباية بأشكال شتى، من ضرائب مباشرة وغير مباشرة وهِبَات ومصادرات. يؤلف كل ذلك جزءاً من الفصل الهام المتعلق بتموين جيش الغوار.
ينبغي الانتباه بشدة كي لا يؤدي عمل الجيش الثائر إلى إملاق[57] المنطقة، وإن كان عمله مسؤولاً عن ذلك بصورة غير مباشرة بسبب حصار العدو. إنها حجة تستخدمها دعاية العدو باستمرار. فينبغي لهذا السبب بالضبط، عدم إثارة أي سبب مباشر للنزاع. فيجب مثلاً أن لا يكون هناك أي نظام يمنع مالك محصول في المنطقة المحررة من بيع محصوله خارج هذه المنطقة، إلاَّ في حالات قصوى وبصورة مؤقتة، مع شرح الأسباب بوضوح للفلاحين. وخلال كل عمل يقوم به الجيش الثائر، ينبغي أن يشرح قسم الدعاية دائماً أسباب هذا العمل، وسوف يفهمه الفلاح بعامة فهماً تاماً، فقد صار هذا الجيش جيشه، طالما أن له فيه إبناً أو أخاً أو قريباً. ونظراً لأهمية العلاقات مع الفلاحين يجب إنشاء هيئات تسيِّر هذه العلاقات في مجرى محدد وتنظّمها. تقوم هذه الهيئات في المناطق المحررة، ولكنها تنشىء علاقات بالمناطق المجاورة أيضاً. وتستطيع هذه الهيئات، عن طريق المناطق المجاورة بالتحديد، أن تتوغل شيئاً فشيئاً فتسمح بذلك بتوسيع جبهة الغوار. يذيع الفلاحون الدعاية الشفهية والمكتوبة، ويحكون كيف يعيش الناس في المنطقة الأخرى، والقوانين التي أُبرِمَت فيها لحماية صغار الفلاحين، وروح الفِداء لدى الجيش الثائر، فيخلقون بذلك الجو الملائم لدعم هذا الجيش.
يجب أن تكون لمنظمات الفلاحين أيضاً تفرعات تسمح للجيش الثائر، عندما يرغب في ذلك، أن ينقل بعض المنتجات لبيعها في أرض العدو، عن طريق سلسلة من الوسطاء الذين يعملون مجاناً إلى حد متفاوت. ذلك أن التاجر، إذا كان تعلقه بالقضية يدفعه إلى معاناة بعض المخاطر، فإن ثمة تعلقاً بالمال أيضاً يدفعه إلى الإفادة من المخاطر عينها لجني الربح.
أشرنا عندما تكلمنا عن التموين إلى أهمية مصلحة إنشاء الطرق. فعندما تبلغ الغوارة درجة معينة من التطور، تنشىء مآرز ثابتة إلى حد ما، ولا تعود تتيه بلا موئل في مناطق مختلفة. يجب عندئذ إنشاء سلسلة من الدروب التي تتفاوت بين درب البغَّالة والطريق المعبَّدة. ينبغي النظر طبعاً في كفاءة الجيش الثائر للتنظيم، وفي قابلية العدو الهجومية، لأنه يستطيع تدمير طرق المواصلات هذه، كما يستطيع استخدام الدروب التي أنشأها المغاوير، لبلوغ معسكراتهم بسهولة. يجب اعتماد مبدأ جوهري هو أن الدروب معدة لتسهيل تموين المواضع التي ليس لها حل آخر، وأنه لا يجوز إنشاؤها إلاَّ إذا تم التأكد تقريباً من إمكان الصمود في الموضع أمام هجوم عنيف من جانب العدو. ويمكن القبول باستثناء من أجل الدروب التي تيسِّر الاتصال بين نقطتين ولكنها ليست حيوية فلا يؤلف إنشاؤها خطراً.
بَيْدَ أن ثمة وسائل مواصلات أخرى، كالهاتف مثلاً، الذي يمكن إقامته في الجبل بسهولة أكبر بقدر ما يمكن اتخاذ الأشجار أعمدة له، وهذا ما يستحيل على مراقبة العدو الجوية أن تميزه. ولكنه واضح أن ذلك لا يجوز إلاَّ في منطقة ليس للعدو إليها سبيل.
المحكمة هي الهيئة المركزية للعدالة والإدارة والقوانين الثورية، ولا غنى عنها لجيش غوار تم بناؤه في أرض محررة. يجب أن يتبوأ مسؤولية المحكمة شخص مطلع على قوانين البلد، والأفضل منه شخص يعرف الضرورات القانونية في المنطقة ويستطيع وضع سلسلة من المراسيم والأنظمة تساعد الفلاح على نَظْم الحياة وإقامة مؤسساتها داخل المنطقة الثائرة.
لقد وضعنا، إبان حرب غوارنا الكوبية، قانون عقوبات، وقانوناً مدنياً، ونظاماً للإصلاح الزراعي، ونظاماً لتموين الفلاح، وفي ما بعد قانون الإصلاح الزراعي في سييرا ماسترا. كما تتولى المحكمة، بالإضافة لما سبق، كل محاسبة الجماعات المسلحة المختلفة، وتشرف على مشاكلها المالية كافة، فتتدخل مباشرة أحياناً حتى في مسائل تموينها.
لنلاحظ أن كل هذه التوصيات الأسياسية ليست جامدة. إنها نتاج تجربة محددة جغرافياً وتاريخياً، ويمكن تعديلها وفق الُمعْطَيَات الواقعية لبيئة أخرى.
وينبغي من جهة أخرى بذل أكبر عناية بصحة سكان المنطقة. تقدم المشافي العسكرية المركزية العناية لكل فلاح على أتم وجه ممكن. ويتعلق ذلك أيضاً بالمرحلة التي بلغتها القوى الثورية.
تتعلق المشافي المدنية وصحة السكان المدنيين، بالجيش الثائر اللذي يضطلع بمهمة مزدوجة هي إسداء المعالجة للشعب وتثقيفه في ما يخص تحسين صحته. إن الجهل التام بأكثر أمور الصحة بداهة هو ما يجعل المسائل الصحية صعبة الحل لدى السكان، وهو ما يشدد الخطورة في وضع بائس أصلاً.
وعندما تتحضر الغوارة، عليها أن تنشىء المخازن، بأحسن إدارة ممكنة، لتؤمن حداً أدنى من الرقابة على البضائع، وبخاصة، لتتيح مراقبتها لكي توزع توزيعاً عادلاً.
تختلف المهمات في الجبهة الخارجية طبيعة واتساعاً. ينبغي أن تكون الدعاية، مثلاً، قومية وتعليمية في آن. يجب أن تشرح المظافر التي حققها رفاق الغوار، وتدعو العمال والفلاحين إلى خوض نضالات جماهيرية فعلية، وتقدم المعلومات عندما يمكن ذلك، حول الأظفار التي تم إحرازها في هذه الجبهة. يجب جباية الأموال بصورة سرية تماماً، ومع أعظم الاحتراز، وإقامة الفواصل في الخط الواصل بين الجابي الأول وبين خزينة المنظمة. ويجب تقسيم هذه المنطقة إلى مناطق تتكامل لتشكل كلاً واحداً. ويمكن أن تكون هذه المناطق مقاطعات، أو مدناً أو قرى، بحسب اتساع الحركة. ويجب أن توجد لجنة مالية في كل من هذه المناطق لتوجيه استخدام الواردات. وعندما يصبح نُهوج النضال متقدماً بما فيه الكفاية، يمكن جباية الضرائب، وسوف يدفعها حتى الصناعيون، إزاء القوة التي يؤلفها الجيش الثائر. يتم تنظيم التموين وفق حاجات الغوارات، بخطوط تموين متعددة، بحيث يستطاع توفير البضائع الشائعة من الجوار، بينما تجلب البضائع النادرة من المراكز الكبرى. يجب الاجتهاد في اختصار خط التموين إلى الحد الأقصى، وأن يعرفه أقل عدد ممكن من الناس، ففي ذلك ضمان لديمومته.
يتم تنظيم أعمال التخريب من قبل المنظمة المدنية الخارجية، وتنسق مع القيادة المركزية. تفرض بعض الظروف الخاصة ضرورة اللجوء إلى الإعدام الفردي، ويحسن تحليل هذه الظروف. غير أننا نعتبره سلبياً على وجه العموم، إلاَّ إذا أزال شخصاً اشتهر بجرائمه ضد الشعب وبنجاعته في القمع. وقد بيَّنت تجربتنا في النضال الكوبي أنه كان بالإمكان توفير أرواح رفاق ذوي قيمة غالية، وقد ضُحِّي بهم لإنجاز مهمات ثانوية، وقد أتْبَع العدو بهم، على سبيل الانتقام، رفاقاً آخرين كانت خسارتهم غير متناسبة مع النتيجة الحاصلة. لا يجوز استخدام الاغتيال والإرهاب الأعمى. يفضل القيام بعمل جماهيري، وتلقين المثل الأعلى الثوري، وإنضاجه، حتى تستطيع هذه الجماهير، يدعمها الجيش الثائر، أن تتعبأ في الوقت اللازم فترجح كفة الثورة.
ويجب لهذه الغاية عدم إهمال منظمات العمال والفلاحين الثورية، فهي تنشر المثل الأعلى الثوري في صفوفها، وتُقرىء منشورات الثورة وتنشرها، وتعلِّم الحقيقة، إذ ينبغي أن تكون الحقيقة أحد موائز الدعاية الثورية. يتم الفوز بالجماهير على هذا النحو شيئاً فشيئاً، ويمكن اصطفاء الذين يؤدون أحسن عمل لتجنيدهم في الجيش الثائر أو تسليمهم مسؤولية هامة.
هذا هو مخطط التنظيم المدني، داخل وخارج الأرض التي يشرف عليها الغوار في لحظة معينة من النضال الشعبي. ويمكن استكمال هذه العناصر إلى الحد الأقصى، لأني أكرر، أن هذه ليست إلاَّ تجربتنا الكوبية التي أعبر عنها ههنا. ويمكن أن تأتي تجارب جديدة فتغير من هذه الطرائق وتحسنها. فنحن نقدم مخططاً، لا توراة.







3 – دور المرأة
تستطيع المرأة أن تقوم، إبان تطور النهوج الثوري، بدور خارق الأهمية. ويحسن التذكير بذلك، لأنه يوجد في كل بلداننا ذات الذهنية الاستعمارية استصغار واضح لشأن المرأة، يصل حتى التمييز الحقيقي.
تستطيع المرأة أن تؤدي أصعب الأعمال وأن تقاتل إلى جانب الرجال، ولا تخلق في فرقة الجنود، كما يزعمون، نزاعاً من النمط الجنسي.
والمرأة رفيقة، تأتي في حياة القتال الشاقة بالصفات الخاصة بجنسها، ولكنها مثل الرجل تستطيع العمل والقتال. إنها أضعف ولكنها ليست أقل احتمالاً وتستطيع النجاح مثل الرجل بإنجاز طائفة من المهمات القتالية. وقد شغلت المرأة في كوبا دوراً في المقام الأول في أوقات مختلفة من النضال.
النساء المقاتلات هن الأقل عدداً بطبيعة الحال. وعندما يتم إنشاء جبهة داخلية متينة ونسعى قدر الإمكان إلى استبعاد المقاتلين الذين لا تتوفر فيهم الصفات الجسمية الضرورية، يمكن توجيه المرأة إلى عدد كبير من المهمات. ومن أهمها عمل الارتباط بين القوى المقاتلة المختلفة، ولا سيما في منطقة العدو. ينبغي تسليم نقل الرسائل أو المال، والأشياء ذات الحجم الصغير والأهمية الكبرى، إلى النساء المتمتعات بثقة مطلقة. أنهن يستطعن نقلها باستعمال ألف حيلة. وإذا كان القمع وحشياً، فإن معاملة المرأة تكون على العموم أقل قسوة من معاملة الرجل وتستطيع بذلك أن تنجح أكثر منه.
تتمتع المرأة التي تؤدي وظيفة عامل ارتباط بحرية أعظم بكثير من الرجل لإنجاز مهمتها. إنها أقل مجلبة للأنظار، وأقل إيحاء بالخطر لجندي العدو. علماً بأن خشية الخطر هذه هي التي كثيراً ما تحدو بجندي العدو أن يرتكب أعماله الوحشية خوفاً من المجهول. ويمكن للنساء أن ينقلن الرسائل بين الوحدات المنعزلة، والرسائل الموجهة إلى خارج الخطوط، وحتى إلى خارج الوطن، والأشياء ذات الحجم الصغير نوعاً ما كالرصاص مثلاً، كل ذلك في أحزمة خاصة تختفي تحت التنورة.
وتستطيع المرأة إبان هذه الفترة، أن تؤدي مهماتها المعتادة، كما في حالة السلم. وكم يكون الجندي سعيداً، وهو يعاني ظروف حرب الغوار القاسية جداً، أن يتمكن من الاعتداد بغذاء لذيذ، ذي طعم واضح (إن إحدى ضرورات الحرب المزعجة هي ازدراد طبيخ بشع لزج بارد، عديم الطعم). تستطيع طاهية أن تجوِّد الطعام بشكل محسوس ويسهل إبقاؤها في وظيفتها، لأن إحدى المسائل التي ينبغي مواجهتها هي أن الرجال لا يكترثون بالأعمال المدنية كلها ويحاولون دائماً أن يتخلوا عنها للانضمام إلى القوى المقاتلة فعلاً.
ومن أهم مهمات المرأة تعليم القراءة والسياسة لفلاحي المنطقة وللجنود الثوريين أنفسهم. ويجب أن يرتكز تسيير المدارس، وهو جزء من التنظيم المدني، بصورة أساسية على النساء اللواتي يستطعن إيحاء مزيد من الحماس للأولاد ومزيد من العطف للسكان.
وعندما تكون الجبهات قد استقرت وأضحت المؤخرة أمينة، تستطيع المرأة أن تمارس وظيفة الإسعاف الاجتماعي، فتحاول تلطيف الأرزاء الاقتصادية والاجتماعية قدر الإمكان في المنطقة.
تضطلع المرأة في الميدان الصحي بدور هام كممرضة، وأحياناً كطبيبة، تؤديه بلطف فائق لا يدانيها فيه رفيق السلاح الخشن. يقدّر هذا اللطف كثيراً في اللحظات التي يقف فيها الإنسان تجاه نفسه مُعْوزاً، محروماً من الرفاه، يعاني آلاماً قد تكون شديدة، ومعرضاً للمخاطر الكثيرة الخاصة بحرب الغوار.
وإذا ما تم بلوغ مرحلة إنشاء الصناعات الصغيرة، تستطيع المرأة هنا أيضاً أن تدلي بدلوها، ولا سيما لصنع الملابس، وهو دور تقليدي للنساء في بلدان أمريكا اللاتينية. وتستطيع إتيان العجب بآلة خياطة بسيطة وبعض النماذج. هذا وتستطيع المرأة أن تقوم مقام الرجل على أكمل وجه، وإنها لفاعلة، في سائر قطاعات التتنظيم المدني، وكذلك في حال الافتقار إلى من يحمل السلاح (وإن كانت هذه الحالة شديدة الندرة في حرب الغوار). يجب إسداء التهيئة الملائمة للرجال والنساء لاجتناب كل نوع من التجاوزات التي قد تُفْسِد أخلاق التشكيلة. غير أنه يجب السماح للأشخاص الذين يتحابون وهم غير متزوجين، وبعد أداء الشكليات البسيطة التي يقتضيها قانون الغوار، أن يعقدوا قرانهم في السييرا ويعيشوا الحياة الزوجية.


 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:43 AM

  رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 


4 – الصحة
إن إحدى المسائل الخطيرة التي تواجه الغوارة هي افتقارها إلى ما تدفع به كل الطوارىء التي تنشأ إبان وجودها، ولا سيما الجراح والأمراض، وما أكثرها في حرب الغوار. يؤدي الطبيب وظيفة بالغة الأهمية، فهو لا ينقذ الأرواح وحسب (كثيراً ما لا تكون وظيفته العملية ههنا ذات بال، نظراً لضآلة العتاد الذي يتوفر له عامة)، بل يضطلع أيضاً باستنهاض معنويات المريض، ويشعره أن بجانبه من يعنى بتخفيف آلامه والسهر عليه حتى زوال الخطر.
يتعلق تنظيم المشافي بالمرحلة التي بلغها الغوار، ويمكن تعداد ثلاثة أنماط أساسية من مؤسسات الإشفاء، يوافق كل منها إحدى المراحل.
لدينا في ترتيب التطور التاريخي مرحلة بداوة أولى، حيث يتنقل الطبيب، إن وجد، مع رفاقه باستمرار. إنه رجل في عدادهم، يؤدي كافة وظائف المغاور الأخرى، بما فيها وظيفة المقاتل. ويضطلع بمهمة مضنية ومقنطة أحياناً، إذ يعالج حالات يفتقر فيها إلى الدواء الذي يسمح له بانقاذ حياة بشرية. إنها المرحلة التي يتمتع فيها الطبيب بأعظم التأثير على الفرقة، وأعظم الأهمية بالنسبة لمعنوياتها. إنه يؤدي في هذه المرحلة مِهانته أداءً كاملاً، ويحمل في حقيبته المعوزة كل العون الذي يمكن أن يقدمه للناس. فإن قرص الأسبيرين البسيط يستحوذ الأهمية لدى الإنسان المتألم، إذا ما قدمته يد الصديق الذي يتحسس آلام الرجل ويشاطره إياها. يجب أن يندمج الطبيب تماماً بالمثل العليا للثورة، في هذه المرحلة الأولى، لأن كلامه سوف ينفذ أعمق من أي فرد سواه في الفرقة.
يمكن وصف المرحلة التالية بمرحلة نصف بدوية. إنها مرحلة المعسكرات التي تعرِّج الغوارة عليها، والبيوت الصديقة، الامينة تماماً، التي يمكن ترك العتاد فيها، وحتى الرفاق. فقد أخذت الفرقة تنحو منحى التحضر. إن مهمة الطبيب في هذه المرحلة أقل مشقة. ويمكنه أن يحوز في حقيبته تجهيزاً جراحياً للمعالجة الضرورية الأولى، وأن تتوفر له حقيبة أخرى، أهم شأناً، تودع في بيت صديق، للعمليات الأقل إلحاحاً. ويمكن ترك المرضى والجرحى ليعنى بهم الفلاحون الذين يسهرون عليهم برعاية، كما يمكن تخزين مزيد من الأدوية المصنفة تصنيفاً جيداً، في حرز أمين. ويمكن في هذه المرحلة نصف البدوية، وفي المناطق التي تثبت منعتها، إقامة مشافي في بعض البيوت، ليترك فيها المرضى والجرحى.
لا يمكن بناء تنظيم مشفوي حقيقي إلاَّ في المرحلة الثالثة، عندما تحرز الغوارة أخيراً مناطق لا يستطيع العدو الدخول إليها. وفي المرحلة الأكثر تقدماً، يمكن اعتماد ثلاث فئات من المراكز، حسب الإمكانات المتوفرة. الفئة الأولى على مستوى خط القتال، تتألف من الطبيب الذي هو مقاتل أيضاً، وهو أحب الرجال إلى الفرقة، ولا يحتاج أن تكون معلوماته عميقة جداً. إني أؤكد هذه النقطة لأن عمل الطبيب في هذه اللحظات هو قبل كل شيء عمل ترويح وتهيئة نفسية للمريض أو الجريح. أما العمل الطبي الحقيقي، فيتم في المشافي القائمة في المؤخرة. لا يجوز التضحية بجرَّاح كُفء في خطوط النار.
عندما يسقط رجل في الخط الأمامي، يحمله النقَّالون – إن وجدوا – إلى أول مركز. وإلاَّ، فيتولى رفاقه ذلك بأنفسهم. ينطوي نقل الجرحى في المنطقة الجبلية على مداراة بالغة الدقة. وربما كان نقل الجريح أصعب بسبب آلامه أكثر مما هو بسبب الجرح ذاته مهما كان بليغاً. ويمكن إجراء النقل بطرق مختلفة، تبعاً لأوصاف الأرض. لا يمكن السير إلاَّ رتلاً أحادياً في الأراضي الوعرة الشَجِرة، التي هي المثلى لحرب الغوار، وأفضل نقالة تكون شبكة نوم معلقة بعصا طويلة.
وينبغي أن يتناوب الرجال كثيراً، لأن أكتافهم سوف تؤلمهم ألماً عظيماً وسرعان ما يملُّون حمل ثقل كبير وبالغ الرقة. وعندما يجتاز الجريح هذا المأزق الأول، يصل وإضبارته إلى مركز يوجد فيه جرَّاحون وأخصائيون (تبعاً لإمكانات الفرقة طبعاً) يؤمنون كل العمليات الهامة.
أمَّا الفئة الثالثة، فهي المشافي المقامة مع أجود وسائل الترفيه الممكنة، للبحث في أسباب الأمراض التي يمكن أن تصيب سكان المنطقة وفي آثارها. توافق هذه المشافي حياة تامة التحضر وهي ليست مراكز عمليات ونقاهة وحسب، لكنها أيضاً منشآت متصلة بالسكان المدنيين، يقوم فيها خبراء صحيون بدورهم التوجيهي. كما ينبغي إنشاء مستوصفات تقوم بالرقابة الطبية على كل فرد. ويمكن بحسب إمكانات تموين المنظمة المدنية، أن تتوفر لمشافي الفئة الثالثة هذه تجهيزات تتيح لها التشخيص المخبري والشعاعي.
المعاونون الطبيون مفيدون جداً، إلى جانب الطبيب. إنهم فتيان في أغلب الأحيان، وهم أصحاب رسالة إلى حد ما، وتتوفر لديهم بعض المعلومات، وقوة جسمية كافية، لكنهم غير مسلحين، إما بسبب عقيدتهم الشخصية، أو – وهذا هو الأغلب – لأن السلاح غير كاف للجميع. يتولى هؤلاء المعاونون مسؤولية الأدوية والنقَّالات والشبكات بمجموعها، وعليهم أن يعنوا بالجرحى في كل قتال.
إن عمال الارتباط المتصلون بمنظمات الصحة الموجودة في مؤخرة خطوط العدو، هم الذين يؤمَّنون الأدوية اللازمة، حتى لو أمكن الحصول عليها أحياناً بوسائل أخرى بواسطة الصليب الأحمر الدولي. بَيْدَ أنه لا يجوز التعويل على هذا الاحتمال الأخير، سيما في بدء النضال. لذا يجب تنظيم جملة قادرة على نقل الأدوية ذات الضرورة الملحة بسرعة، وعلى تلبية حاجات المشافي العسكرية والمدنية على السواء. كما ينبغي، بالإضافة، إقامة الصلات مع أطباء القصبات المجاورة، الخليقين باجراء إحدى العمليات، عندما تعوز طبيب الغوارة الوسائل أو الكفاءة لإجرائها بنفسه.
يستلزم هذا النمط من الحرب فئات مختلفة من الأطباء: الطبيب المقاتل، رفيق الرجال، وهو نموذج طبيب المرحلة الأولى. وتتضاءل وظيفته بقدر ما يغدو عمل الغوارة أكثر تعقيداً وبقدر ما يمكن بناء سلسلة من الهيئات الملحقة بها، فيغدو الجرَّاحون العامون عندئذ أفضل المجنّدين في الجيش الثائر. والأمثل وجود اختصاصي في التخدير، حتى لو كانت العمليات تجرى اعتماداً على اللارغاكتيل أو البانتوتال الصودي، اللذين هما أسهل إعطاءً للمريض من المخدرات الغازية وأسهل توفيراً وحفظاً. وبالإضافة إلى الجراحين العامين، فإن المجبَّرين مفيدون جداً، لأن طبيعة الأرض الجبلية تسبب كسوراً كثيرة. كما ينبغي للطبيب أن يعالج جماهير الفلاحين أيضاً، إذ أن أمراض جيوش المغاوير هي، بعامة، سهلة التشخيص، أما الأمراض الناجمة عن سوء التغذية، فهي أصعب علاجاً بكثير.
ويمكن في مرحلة أكثر تقدماً بكثير، أن يتاح استخدام المخَبريين، إذا ما توفرت مشاف جيدة، بغية القيام بعمل أكثر كمالاً. ينبغي استدعاء قطاعات الاختصاص كافة عند الحاجة إليها، وكثيراً ما تُلبى هذه الدعوة. ويجب استدعاء أطباء الأسنان، ويوضح لهم أن عليهم الالتحاق مزودين بأجهزة ميدان بسيطة.





5 – التخريب
التخريب سلاح لا يُقَّدر ثمنه لدى الشعوب التي تخوض حرب الغوار. يتعلق تنظيمه مباشرة بالمنظمة المدنية السرية، إذ أن التخريبات لا تتم إلاَّ خارج المناطق التي يشرف عليها الجيش الثوري. غير أنه ينبغي وضع هذه المنظمة مباشرة تحت إمرة أركان حرب الغوار، وهي المخوَّلة تحديد الصناعات والمواصلات والأهداف التي يفضل إصابتها.
لا يمت التخريب بصلة إلى الإرهاب. فالإرهاب والاغتيال الفردي طرق تختلف عن التخريب اختلافاً مطلقاً. نحن على يقين صادق من أن الإرهاب سلاح سلبي لا يعطي الآثار المرغوبة أبداً وإطلاقاً. ويمكن أن يبعد الشعب عن حركة ثورية، في حين يتسبب لدى ممارسيه بخسائر بشرية لا تتناسب مع النتائج الحاصلة. غير أنه يمكن اللجوء، بالمقابل، إلى اغتيالات فردية، ولكن في بضع حالات خاصة جداً، مثلاً لإزالة أحد رؤساء القمع. ولكنه لا يجوز في أية حال استخدام عتاد بشري متخصص لإزالة قاتل صغير يمكن أن يتسبب موته في القضاء على كل العناصر الثوريين الذين اشتركوا في مقتله، بالإضافة إلى ضحايا الانتقام اللاحق.
ثمة نمطان ضروريان من التخريب: التخريب على النطاق الوطني، ضد أهداف معينة، والتخريب على مقربة من خطوط القتال. يجب أن يستهدف التخريب على النطاق الوطني بصورة أساسية تدمير المواصلات. يمكن تدمير كل نوع من المواصلات بطريقة مختلفة، بيد أنها عرضة للإصابة كلها. يسهل تدمير أعمدة البرق والهاتف بنشرها حتى ما قبل آخرها، بحيث أنها تظهر ليلاً بمظهر سليم، ثم يسقط أحدها فجأة، فيجرّ سائرها في سقوطه، مسبباً تعطيلاً واسعاً.
كما يمكن تخريب الجسور بنسفها بالديناميت. وإذا لم يتوفر الديناميت، يمكن تدمير الجسور الحديدية بحِمْلاج اكسجيني ايدروجيني. يجب قطع الجائز الرئيسي والجائز الأعلى اللذين يحملان الجسر الحديدي. ومتى تمَّ قطع هذين الجائزين بالحملاج، يعمل مثل ذلك من الطرف الآخر أيضاً. هكذا ينقلب الجسر على جنبه، فيلتوي ثم يهوي. إنها أنجع وسيلة لتدمير جسر فلزي بلا ديناميت. يجب تدمير السكك الحديدية والطرقات أيضاً، وكذلك الكهاريز. ويمكن أحياناً بث الألغام في القطارات. يتعلق ذلك دائماً بقوة الغوارة.
كذلك يسمح عتاد ملائم بتدمير الصناعات الحيوية في كل منطقة عندما تأزف الساعة. ينبغي أن تؤلف مسألة التخريب موضوع خطة شاملة، فلا يجوز تدمير مجال عمل إلاَّ في اللحظة الحاسمة، لأن تدميراً كهذا يستتبع نزوحاً جماهيرياً بين العمال ويؤدي للمجاعة. يجب القضاء على الصناعات التي تخص شخصيات العهد، وبذل الجهد لإقناع العمال بضرورة ذلك، إلاّ إذا أدى القضاء عليها إلى عواقب اجتماعية فائقة الخطورة.
إننا نلح على أهمية تخريب طرق المواصلات. إن المواصلة السريعة هي السلاح الأكبر لدى جيش العدو ضد الثائرين، في الأرض غير الوعرة. لذا يتوجب علينا أن نحاول تدمير هذا السلاح باستمرار بنسف جسور السكك الحديدية والكهاريز والأعمدة الكهربائية والهواتف وحتى أنابيب المياه، وبكلمة، تدمير كل ما لا يستغنى عنه في الحياة الحديثة.
التخريب ضروري أيضاً قرب خطوط القتال، على النحو ذاته، لكن بإقدام وتفان وتواتر أعظم بكثير. يمكن التعويل في هذه الحالة على عون فائق القيمة، هو الذي تقدمه الدوريات الجوَّالة التابعة للغوارة، والتي يمكنها هبوط المناطق المعنية ومساعدة أعضاء المنظمة المدنية في أداء مهمتهم. وهنا أيضاً يستهدف التخريب المواصلات قبل كل شيء. ينبغي تصفية كافة المعامل ومراكز الإنتاج القمينة بتزويد العدو بما يلزمه لمتابعة هجومه على القوى الشعبية.
يجب الاستيلاء على مخزونات العدو، وقَطْع تموينه، وإذا لزم الأمر، يجب إخافة مُلاَّك الأراضي الذين يودون بيعه منتجات زراعتهم وحيواناتهم، وإحراق السيارات التي تتجول على الطرق واستخدامها لسد الطرق. ولدى كل عمل تخريبي، وفي نقاط معينة، على بعد كبير أو صغير من موضع إجراء العمل، يجب إحداث مناوشات متكررة مع العدو، باستخدام طريقة الضرب والهروب على الدوام. لا ضرورة لإبداء مقاومة كبيرة. يكفي مجرد إراءة العدو أنه حيثما يحصل تخريب، ثمة قوى غوارية على أهبة القتال، لإجباره بذلك على ألاَّ يتنقل إلاَّ متألباً محترزاً.
وهكذا يتم إنزال الشلل شيئاً فشيئاً بكل المدن القريبة من مناطق نشاط الغوار.





 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:43 AM

  رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

الصناعة الحربية
إن الصناعة الحربية، في منظور حرب الغوار، هي نتاج تطور طويل نوعاً ما، وهي تثبت أن الغوار قائم في وضع جغرافي مؤات. لقد قلنا سابقاً إنه عندما تكون ثمة مناطق محررة ويكون العدو قد بسط حصاراً شاملاً على التموين، ينبغي تنظيم صناعات مختلفة لا غنى عنها. ومن بين هذه الصناعات، ثمة اثنتان أساسيتان هما الحِذاوة[58] والسِراجة: لا تستطيع فرقة أن تسير بلا أحذية، في المناطق الشَجِرة الوعرة، المفروشة حجارة وشوكاً. يصعب جداً أن يتنقل المرء في هذه الظروف، ولا يطيق ذلك إلاَّ أبناء المحلة، وليس جميعهم. أما الآخرون، فيجب أن ينتعلوا. تنقسم هذه الصناعة إلى فرعين: صناعة الأحذية الجديدة، وتسكيف وإصلاح الأحذية المعطوبة. يستلزم إنشاء هذه الصناعة الحرفية تجهيزاً كاملاً لشغل الجلود. وتلحق بها السِراجة لصنع كل اللوازم الشائعة كجعب الفشك وحقائب الظهر، ويمكن صنعها من الكتان أو الجلد، وهي وإن كانت غير أساسية، إنما تساعد على راحة الفرقة وتعطيها انطباع الاكتفاء الذاتي.
إن السِلاحة[59] هي صناعة أساسية أخرى. ووظائفها متباينة، من مجرد إصلاح القطع المعطوبة لكافة البنادق والأسلحة الأخرى، إلى صناعة بعض أنماط أسلحة القتال التي يبدعها روح الاختراع الشعبي، إلى صنع الألغام ذات الآليات المختلفة. وإذا ما أتاحت الظروف، تستكمل بورشة مكلفة بصناعة الباردو. فإذا أمكن صنع المتفجر ذاته في المنطقة المحررة، إضافة إلى الصاعق، أمكن التوصل إلى منجزات عظيمة في هذا الصدد ذي الأهمية البالغة، إذ أن استخداماً حكيماً للألغام يسمح بشل الطرقات شلاً كاملاً.
هناك صف آخر من الصناعات الهامة، هي الحِدادة والصِفاحة. يجري في الحدادة إنعال البغال، كما يمكن أن تصنع فيها النعال ذاتها. أما في صناعة الحاجات من الصفيح، فتجري أعمال صنع الأطباق، وخاصة الصفائح. ويمكن أن يلحق بها قسم للسِباكة. فإذا تم صهر الفلزَّات الطرية، أمكن إنشاء معمل لرمَّانات اليد، يسهم بشكل رئيسي في تسليح الفرقة. كما ينبغي وجود ورشة مِهانية مختصة بالإصلاحات والإنشاءات عامة، تتولى وظائف مختلفة ومحددة تماماً، وهي ما تسمى في الثكنات "بطارية الخدمة"، غير أنها تكون هنا خالصة من روح المداونة[60]، ومكلفة بتلبية كل الحاجات على نحو فعلي.
كما ينبغي وجود مسؤول عن المواصلات. لا يكون مسؤولاً فقط عن الدعاية اللاسلكية الموجهة إلى الخارج، بل مسؤولاً أيضاً عن الهواتف والطرقات، وينبغي أن يعمل مترابطاً مع المنظمة المدنية. لا ننسَ أننا محتربون، ويمكن أن يقع علينا هجوم، وأنه كثيراً ما يتوقف حفظ أرواح كثيرة على مخابرة أُرْسِلَت في حينها.
ويَحْسُن، مرضاة للفرقة، أن توجد صناعة للسيكار أو للفائف. تُبْتَاع لهذه الغاية أوراق التبغ وتنقل إلى المنطقة المحررة حيث تحول إلى مادة صالحة للاستهلاك. الدِباغة صناعة أخرى عظيمة الشأن. هذه الصناعات كلها منشآت بسيطة يمكن تحقيقها تماماً في أي مكان مع التكيف بظروف الغوار. تستلزم الدباغة بعض الأبنية الإسمنتية الصغيرة، وهي تتطلب خاصة، كثيراً من الملح. غير أنها تسمح لصناعة الأحذية أن تتوفر لها مادتها الأولية محلياً وفي ذلك الأمر إفادة عظيمة. يجب استحضار الملح محلياً وتركيز كميات كبيرة منه، ويجب بلوغ أمكنة فيها تركيز ملحي كبير لهذه الغاية، وجعل الماء يستبخر. البحر هو بوضوح خير مصدر للملح، لكن ثمة مصادر أخرى. ولا حاجة لتخليص الملح من كل الأملاح المرافقة له، فيمكن استهلاكه على حاله، وإن كان طعمه ليس سائغاً جداً لدى الوهلة الأولى.
يجب حفظ اللحم مملحاً، وهذا ما يُسهَّل عمله ويُمكَِّن من إنقاذ أرواح كثيرة في حالات الشدة القصوى. يُمكن حفظ اللحم مدة طويلة نوعاً ما في براميل تُملأ ملحاً، ويُمكن استعماله على هذا الشكل مهما كانت الظروف.





7 – الدعاية
يجب القيام ببث الأفكار الثورية بالوسائل الملائمة وعلى أعمق نحو ممكن ويتطلب ذلك إسهام فريق كامل من المتعاملين، وإسهام منظمة تعضدهم.
وينبغي أن تتألف هذه المنظمة من قسمين متكاملين، يغطيان نطاق الوطن كله. يجب أن تتم الدعاية من الخارج، أي ضمن المنظمة المدنية الوطنية، ومن الداخل، أي في وسط الغوار. ويجب ألاَّ توجد سوى هيئة إدارية واحدة لهما، بغية تنسيق هذين العملين الدعائيين المتلازمين تلازماً وثيقاً.
يجب أن تتم الدعاية في النطاق الوطني الصادرة عن المنظمات المدنية الموجودة خارج الأرض المحررة، عن طريق الصحف والنشرات والإعلانات. تُعنى أهم الصحف بمسائل البلد العامة، وتخبر الجمهور بوضع قوى الغوار المضبوط، ولا تغفل لحظة المبدأ الأساسي القائل إن الحقيقة، في المدى البعيد، لا بد أن تؤتي الخير للشعوب. وإلى جانب هذه المنشورات ذات الطابع العام، توجه منشورات سواها، أكثر تخصصاً، إلى قطاعات السكان المختلفة. فعلى المنشورات الموجهة للفلاحين أن تحمل إلى هذه الطبقة رسالة رفاقهم في الأرض المحررة، الذين لمسوا آثار الثورة المنعشة، فتنطق على هذا النحو بأماني الفلاحين. وتتميز الجريدة العمالية بذات الطابع، ولكنها قد لا تتضمن دائماً رسالة المقاتلين من هذه الطبقة، إذ يحتمل ألاَّ توجد قبل المرحلة الأخيرة، منظمات عمالية في نطاق حرب الغوار.
يجب إيضاح الشعارات الكبرى للحركة الثورية مثل شعار الإضراب العام في الوقت المناسب، وشعار مساعدة القوى الثائرة، وشعار وحدة الصف... إلخ. ويمكن أن تشرح صحف كفاحية أخرى مثلاً مهمة سائر العناصر في البلد الذين لا يقاتلون في الغوار، ولكنهم يعنون بشتى أعمال التخريب والغيلة. ويمكن في داخل المنظمة، إصدار صحف موجهة إلى جنود العدو، تشرح لهم وقائع يجهلونها. هذا وتكون النشرات والإعلانات المتعلقة بحياة الحركة مفيدة جداً.
إن أنجع دعاية هي التي تعود إلى داخل منطقة الغوار، إذ تطال سكان المنطقة وتشرح لهم نظرية الانتفاض التي لا يعرفون منها غير وجهها العملي. ويتضمن هذا القسم، إلى جانب الإذاعة اللاسلكية، الصحيفة المركزية الناطقة باسم قوى الغوار كافة، كما يتضمن صحفاً فلاحية، ومنشورات وإعلانات.
تشرح الإذاعة اللاسلكية كافة المسائل، ومنها مسائل درء الهجمات الجوية، ومكان وجود قوى العدو، وتذكر الأسماء المألوفة. وتوزع الدعاية ذات النطاق الوطني صحفٌ مماثلة تصف الوقائع والمعارك التي تثير اهتماماً عميقاً لدى القارىء، تضاف إليها معلومات أكثر جدِّية ودقة بكثير. أما الإعلام الدولي، فينحصر أو يكاد في التعليق على الوقائع المتصلة مباشرة بنضال التحرر.
الدعاية الشفهية، باللاسلكي، تفوق كل شيء، فهي الدعاية الأكثر فعالية، التي تؤتي تأثيرها بأعظم قسط من الحرية في أرض الوطن قاطبة، وتطال عقل الشعب ومشاعره. إن للاسلكي أهمية حاسمة. ففي الوقت الذي يتلظى به سكان منطقة أو بلد على درجات مختلفة بحمَّى القتال، تأتي قوة الكلمة فتزيد الحمى ضراماً وتفرضها على المقاتلين الأعتاد جميعاً. إنها تشرح، وتعلِّم، وتحرِّض، وتحدد لدى الأصدقاء والأعداء مواقفهم المقبلة. ولكن الإذاعة ينبغي أن تخضع إلى المبدأ الأساسي في الدعاية الشعبية وهو الحقيقة. إن حقيقة صغيرة، ولو كان تأثيرها ضئيلاً، هي خير من أكذوبة كبيرة يكسوها ثوب دليص[61]. يجب أن تقدم الإذاعة على الأخص معلومات حية عن المعارك والاشتباكات من كل نوع، وعن الاغتيالات التي يرتكبها القمع. كما ينبغي إعطاء السكان المدنيين توجيهات فكرية، وتعاليم عملية، ومن وقت لآخر خطابات لقادة الثورة.
نعتقد أنه مفيدة أن تحمل الصحيفة المركزية للحركة اسماً يرمز إلى العظمة ووحدة الصف، كاسم أحد أبطال البلد مثلاً. كما ينبغي أن تشرح دائماً في مقالات رئيسية أهداف الحركة المسلحة وأن تجعل الناس يدركون القضايا الوطنية الكبرى، في حين تبقى فيها طائفة من الأركان التي تحظى من القارىء باهتمام مباشر أكبر.




















8 – الإخبار والاستخبار
"إعرف نفسك واعرف خصمك، تستطيع هكذا أن تخوض مئة معركة بلا هزيمة واحدة". تعادل هذه الحكمة الصينية بالنسبة للغوار، قيمة مزمور من التوارة. ليس للقوى المقاتلة من عون أثمن من الإخبار الصحيح. سوف يكون هذا الإخبار عفوياً، إذ يأتي سكان المنطقة إلى الجيش الصديق وإلى حلفائه، يروون لهم كل ما يحدث في كل مكان. غير أن هذا الإخبار يجب أن يكون منظماً تنظيماً كاملاً. ومثلما لا يستغنى عن البُرُد[62] والرسلاء داخل منطقة الغوار وخارجها لإقامة الاتصالات الضرورية ونقل البضائع، كذلك ينبغي أن تكون دائرة الاستخبار على تماس مباشر بجبهة العدو. ويجب أن يتسلل الرجال والنساء إلى هذه الجبهة، ولا سيما النساء، لكي يكونوا على تماس دائم بالجنود ويتحققوا من كل ما يمكن. كما ينبغي إقامة منهج من التعاون مع رجال العدو لكي يتم اجتياز الخطوط بلا صدام.
فإذا ما تم تحقيق ذلك، وتوفر العملاء الأكفَّاء، أمكن أن ينام معسكر الثوار أنعم بالاً.
كما قلتها آنفاً، سوف يكون الهدف الأساسي لمصلحة الاستخبار هو خط النار الأول بأجمعه، أو أولى معسكرات العدو المتاخمة للأرض السائبة. ويجب أن تتقدم هذه المصلحة بقدر ما يتقدم الغوار، وسوف يزداد دورها حتى يشمل توقع تحركات الوحدات الأوسع نطاقاً التي يمكن أن تحدث حتى في مؤخرة العدو. وحيثما تُشرف الغوارة أو تُغير، يكون السكان كافة عملاء إخبارها. غير أنه يَحْسُن توفر أُناس يختصون بمهمة الاستخبار، إذ لا يمكن الوثوق بكلام الفلاح الذي اعتاد أن يضخم كل شيء ولم يألف دقة اللغة العسكرية. وإذا تم الوصول إلى تخليق وتنظيم الأشكال العفوية التي يتخذها التعاون الشعبي، أمكن عندها جعل جهاز الاستخبار ليس أهم عون لنا وحسب، وهو شأنه أصلاً، بل عاملاً لهجومنا المعاكس أيضاً، بفضل "باذرات الرعب" مثلاً. فتستطيع أولئك النسوة أن تنشرن بين الجند معلومات تحطم معنوياتهم، وهنَّ، إذ يتظاهرن بالتواطؤ معهم، إنما يبذرن الرعب والقلق بين جنود العدو. ويمكن تنمية الجؤول، وهو مبدأنا الأساسي، إلى الحد الأقصى، فإذا ما عرفت المواضع التي يتأهب جيش العدو ليهاجم منها، يكون في غاية السهولة اجتنابها ومهاجمته بالمقابل من أبعد المواضع توقعاً لديه.





9 – التدريب والتثقيف السياسي
إن خير تدريب لجندي التحرر هو حياة الغوار ذاتها، والقائد الذي لم يتعلم مهنته الصعبة في ممارسة الحرب يومياً ليس قائداً حقيقياً. يمكن أن تقوم جماعة من الرفاق بتدريب هذا الجندي، فيعلمونه شيئاً من استعمال السلاح، ويلقنونه بعض مبادىء التوجيه، ويعلمونه كيف يسلك مع السكان المدنيين، وكيف يقاتل.. إلخ. غير أنه لا يجوز تبذير وقت الغوار الثمين في إعطاء تعليم منهجي. ولا يمكن عمل ذلك إلاَّ إذا توفرت منطقة محررة واسعة وإذا كانت هناك حاجة لزيادة عدد المقاتلين زيادة كبيرة. يمكن عندئذ تأسيس مدارس للمجندين الأغرار.
تؤدي هذه المدارس دوراً هاماً. إنها تخلق الجندي الجديد، الذي لما يجتز بعد حرمانات حياة القتال القاسية التي تعركه. إن معاناة الحرمانات تصطفي المرء اصطفاء حقيقياً، بعد أن تجتاز المحن العسيرة التي تسمح له بأن ينخرط في هذا الجيش الهائم الذي لا يخلِّف لمروره أثراً في أي مكان. وتكون التدريبات البدنية في مدارس المجندين على نوعين: من جهة، رياضة التليين مع تمارين المغاوير، والخفة في الهجوم والانسحاب، ومن جهة أخرى، مسيرات شاقة جداً، وحتى مضنية، تخشَِّن المجند. يجب أن يُحمل على الحياة في العراء، واحتمال الأنواء، والحياة على صلة وثيقة بالطبيعة، كما في حياة الغوار.
يجب أن تؤمَّن مدرسة المجندين تموينها بذاتها، فتكون لها حظائر ماشيتها، ومزارعها، وبساتينها، وملابنها، وكل ما تحتاجه، لكي لا تثقل ميزانية الغوارة. ويمكن أن يتناوب الطلاب أعمال السخرة. ويمكن أن يعهد بها إلى أردأ الطلاب، على سبيل العقوبة، أو إلى من يتطوع لها.
يتعلق كل ذلك بمميزات المنطقة التي تنشأ فيها المدرسة. نعتقد أنه مبدأ جيد أن يعهد بأعمال السخرة لمن يتطوع لها، وأن يُستكمَل عددهم، إذا لزم الأمر، بمن يكون سلوكهم أكثر مدعاة للأسف، أو بمن يكونون أقل استعداداً للتدريب على الحرب.
يجب أن يكون للمدرسة منظمتها الصحية الخاصة، وفيها حسب الإمكان، طبيب أو ممرض، يراقب المجندين عن كثب قدر الإمكان.
تشكل الرماية، جُلَّ التدريب. يجب أن يكون المغاور في هذا المضمار، رجلاً عظيم الدربة، إذ ينبغي استخدام أقل ما يمكن من الذخيرة. يبدأ التدريب بما يسمى الرمي على الدريئة، ويتم بأن تثبت البندقية بقوة على هيكل ما. ويسدد الأغرار، دون تحريك البندقية، هدفاً على صحيفة مُقوَّى متحركة تنتقل أمام خلفية ثابتة. فإذا أصابت الطلقات الثلاث نقطة واحدة كان الرامي ممتازاً. تكون البندقية 22 – إن توفرت – سلاح هذه الرمايات الأولى. وفي الظروف الخاصة - مثل توفر فائض من الذخيرة، أو ضرورة إجراء تدريب معجل للجنود – يتم التدريب برصاص حقيقي.
الغارات الجوية هي من أهم امتحانات مدرسة التدريب. كان طيران العدو قد تعرف تماماً إلى مدرستنا، وكان العدو يركز هجماته مرة أو اثنتين كل يوم على المعسكر. وكان تصنيف هؤلاء الفتيان عملياً كمقاتلين عتيدين يتم وفقاً للنحو الذي يقاوم به كل طالب صدمات هذا القصف المستمر.
لا يجوز أبداً أن تُهمل مدرسة المجندين التثقيف السياسي. لأن أولئك الرجال يتطوعون دون أن يكون لهم مفهوم واضح عن الأسباب التي تدفعهم. إنهم يفتقرون إلى الأسس، ويصلون إلينا بمفاهيم مشوشة جداً عن الحرية، وحرية الصحافة.. إلخ. يجب السير بهذا التثقيف إلى أبعد حد وبأعظم عناية ممكنة. ويشتمل على مفاهيم ابتدائية عن تاريخ البلد، مع إعطاء تفسيرات واضحة جداً للوقائع الاقتصادية، تلك الوقائع التي هي منطلق كل حادثة تاريخية. ويتضمن الحديث عن أبطال الوطن، وعن إرتكاساتهم[63] أمام أشكال الظلم المعينة التي كافحوها، ثم ينفتح التثقيف على تحليل الوضع الوطني أو وضع المنطقة. ويُعطى لكل أعضاء الجيش وجيز[64] مبسط يدرسونه دراسة دقيقة ويفيدهم نهجاً للمستقبل.
وبالإضافة إلى ذلك يكون للمدرَّبين مدرسة إتقان خاصة بهم، يشتركون فيها باختيار النصوص، وينسقون إسهامات كل منهم في أمور التثقيف.
يجب تشجيع المطالعة باستمرار مع محاولة اختيار كتب لا مضاعة للوقت فيها، في حين أنها تمكَِّن المجند من ولوج أبواب الثقافة والمسائل الوطنية الكبرى. قد يرغب المجند على طبيعته في مزيد من المطالعة، أو قد يدفعه وضع بيئته إلى ذلك بايقاظ وعيه إلى مسائل جديدة. وسوف تنشأ هذه الحالة الذهنية من جراء العمل، شيئاً فشيئاً، وبقدر ما تثبت مدارس المجندين تفوق طلابها على الجنود العاديين، سواء في مضمار تحليل الأوضاع، أو في مضمار الضبَاطة.
يجب أن تكون الضباطة معللة دوماً. فعندما لا تكون آلية، تعطي ساعة القتال نتائج مدهشة.



 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:44 AM

  رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 



10 – بناء جيش حركة تحررية
ينبغي للجيش الثوري الذي يمارس حرب الغوار، أن يعول كذلك حسبما أشرنا، ومهما كانت منطقة العمليات، على منظمة غير مقاتلة يكون إسنادها له أمراً رئيسياً. وتدور هذه المنظمة كلياً حول الجيش ودعمه، إذ أن النضال المسلح هو طبعاً العامل الجوهري في الظفر.
يستند التنظيم العسكري على آمر، وفي حالة التجربة الكوبية، على قائد أعلى يُعيِّن آمري المناطق المختلفين، الذين لهم سلطة تامة لحكم مناطقهم وتعيين آمري الأرتال وسائر الرتب الأدنى منهم. يمكن أن يوجد دون القائد الأعلى آمرو مناطق يقع تحت إمرتهم آمرو الأرتال الذين يتفاوت دورهم حسب الظروف. ويقع دون آمري الأرتال، النقباء، وفي تنظيمنا الغواري، يقع دون النقباء الملازمون وهم أدنى الرتب. وبعبارة أخرى، يرقى المرء من جندي إلى رتبة ملازم.
ليس هذا نمطاً يحتذى، ولكنه وصف حقيقة، إنه الطريقة التي استخدِمت في بلد سمح فيه هذا التنظيم بالتغلب على جيش لا بأس بتنظيمه وتجهيزه. وليس هذا مثالاً مطلقاً بأية حال، ولا سيما في هذا الصدد. إنما يقصد فقط إلى تبيان كيف تتسلسل الوقائع، وكيف يمكن تنظيم قوة مسلحة. أما الرتب فليس لها من أهمية في نهاية التحليل. المهم هو أن لا تمنح رتبة لا تتفق مع واقع، أو تخالف الأخلاق والعدالة، أو لا تمر خلال غربال النضال والفداء.
ينطبق الوصف الذي قدمناه على جيش ذي قوة، قادر على مواجهة معارك جدية، وليس صورة غوَّارة بدائية يستطيع قائدها أن يحمل الرتبة التي تعجبه ولكنه لا يأمر في الواقع إلاَّ جماعة صغيرة من الرجال.
العقوبة الضبَاطية هي من أهم تدابير التنظيم العسكري. يجب أن تكون الضبَاطة أحد أسس الغوار وينبغي التذكير بذلك دائماً. يجب أن تكون الضباطة قوة ناشئة عن قناعة داخلية ومعقولة، تزوَّد الفرد هكذا بضباطة داخلية. وعندما تنقطع هذه الضباطة، يجب إنزال العقوبة بالمرتكب بصرامة، مهما كانت رتبته، بتطبيق عقوبة تحدث أثراً بليغاً.
ملاحظة هامة: لا يتحسس المغاور بذات العقوبات التي تؤثر في جندي الثكنة. إن عشرة أيام في السجن مثلاً هي عقوبة للجندي ولكنها تؤلف راحة استثنائية لأحد المغاوير. إنها عشرة أيام دون سير، دون عمل، دون نوبات الحراسة المعتادة، يستطيع فيها أن يأكل وينام ملء جفونه، ويطالع ويستريح. يفهم من ذلك تماماً أن حرمان الحرية ليس عقوبة منصوحة في الغوار.
عندما تكون أخلاق المرء الثورية عالية، وشعوره بكرامته عميقاً، ثمة حالات يمكن فيها لحرمانه من حق حمل السلاح أن يسبب ارتكاساً إيجابياً يكون بمثابة عقوبة حقيقية. يكون تطبيقه إذ ذاك مناسباً.
حدث إبان الهجوم على مدينة من مقاطعة لاس فيلاس، في أواخر أيام الحرب، أن ألفينا رجلاً قد أغفى على أريكة أثناء الهجوم على مواضع في وسط المدينة. ولدى الاستجواب، أفاد أنه قد نام لأن سلاحه قد نزع منه. فقلنا له إن هذا ليس سلوكاً صحيحاً إزاء الموقف. كان قد عوقب لعدم احترازه إذ ترك طلقة تخرج عفواً، وكان عليه أن يستعيد سلاحه، لكن ليس عن طريق النوم، بل بوجوده في الخطوط الأمامية.
مرت بضعة أيام، وإبان الهجوم النهائي على مدينة سانتا كلارا، عندما كنا نزور مركز نقل الدم، مدَّ محتضر يده إلينا وذكرنا بالحادث وأردف إنه قد استرد حق حمل السلاح. وقد مات بعد قليل.
لقد حملت ممارسة النضال المسلح المستمرة قواتنا إلى هذه المرتبة من الأخلاق الثورية، بَيْدَ أنه لا يمكن إدراك هذه المرتبة منذ البدء، عندما لا يزال هناك كثير من الخوف، كثير من التيارات الذاتية، تكبح تأثير الثورة. إنما تدرك هذه المرتبة بالعمل والمثال.
يمكن لنوبات الحراسة الليلية الطويلة والمسيرات المضنية أن تشكل عقوبات أيضاً، ولكن المسيرات ليست عملية لأنها لا تفيد إلاَّ معاقبة الفرد وإعياءه في آن مع المكلفين بحراسته. أما نوبات الحراسة الليلية فمحذورها أنها تستلزم وجود جنود لمراقبة المعاقَبين الذين تكون أخلاقهم الثورية ضعيفة.
كنت قد أحدثت، في القوى الموضوعية تحت إمرتي المباشرة، من أجل الجنح الطفيفة، عقوبة التوقيف مع الحرمان من السكاكر والتبغ، ومن أجل الحالات البالغة، الصوم التام. وكانت النتائج ممتازة، رغم هول العقوبة. فلا ينبغي تطبيق هذه العقوبة إلاَّ في حالات استثنائية حقاً.








القسم الرابع

من تشكيل الغوارة الأولى إلى الدفاع عن السلطة بعد الفوز بها









1 – تنظيم الغوّارة الأصلية سراًًًًًًً
على الرغم من أن حرب الغوار تخضع لجملة من القوانين المشتقة من قوانين الحرب العامة، كما تخضع لقوانين أخرى خاصة بها، فمن الواضح، حينما يراد الشروع بالنضال المسلح بدءاً من خارج الوطن أو من مناطق نائية، أنه ينبغي حصر عمل التآمر الأصلي بنواة قليلة من المطلعين. أما إذا ولّدت حركة الغوار من النشاط العفوي لجماعة من الناس، ارتكاساً ضد بعض أساليب الاكراه، فقد يُحتمل أن يغدو التنظيم اللاحق لنواة الغوار هذه كافياً ليقيها شر الإبادة. ولكن الغالب هو أن يشرع قائد مرموق النفوذ بخوض حرب الغوار، وقد حزم أمره، من أجل خلاص شعبه، وينبغي أن يستعد هذا الرجل أولاً خارج البلد في ظروف صعبة.
لقد عانت معظم الحركات الشعبية التي قامت في الآونة الأخيرة لمناوأة الحكام الطغاة، من خطيئة أساسية هي عدم كفاية التأهب. ولا تُطبق طرق التآمر التي تقتضي عملاً دقيقاً وسرياً. وغالباً ما تعلم السلطة سلفاً، من دوائر استخباراتها، بنوايا الجماعة أو الجماعات. يحصل ذلك أحياناً بسبب عدم الاحتراز، وأحياناً بسبب مظاهرات مباشرة كما حدث في بلدنا حيث قال فيدل كاسترو: "عام 1956 سنكون أحراراً أو شهداء"، فجاهرت هذه العبارة علناً بالنزول إلى البر.
إن أول مبدأ في أساس الحركة هو السرية المطلقة، وانعدام المعلومات تماماً لدى العدو. والمبدأ الثاني هو اصطفاء العتاد البشري، وهو عظيم الأهمية أيضاً. قد يتم هذا الاصطفاء بسهولة، ولكنه قد يكون في غاية الصعوبة إذ لا يمكن الاعتماد إلاَّ على العناصر المتوفرين، أي على منفيين قدامى يتقدمون عندما يدعوهم الداعي دون التمكن من إجراء تحقيق تام عن كل منهم. وحتى لو تسلل عملاء النظام العدو، فلا يغتفر أن يستطيعوا تقديم المعلومات، إذ ينبغي قبل الشروع بالعمل، أن يتم تأليب كافة المشتركين بالحركة في أماكن سرية لا يعرفها إلاَّ شخص أو اثنان، وأن يراقب القادة المشتركين مراقبة وثيقة، ولا تكون لهؤلاء أية صلة بالعالم الخارجي. وينبغي دوماً إبعاد العناصر الجُدُد، والذين لما تكتمل معرفتهم، عن النقاط الحساسة، أثناء الاستعداد والتدريب ولدى الفرار من وجه الشرطة.
وينبغي في العمل السري أن لا يعلم أحد، لا أحد مطلقاً، بأي شيء ليست له ضرورة ماسة، وأن لا يثرثر أحد أبداً. وعند بلوغ مرحلة معينة من بناء الحركة، لا بد من مراقبة كل شيء، حتى الرسائل، بحيث تعرف تماماً علاقات كل واحد. ينبغي ألاَّ يعيش كل عضو منفرداً وألاَّ يخرج منفرداً. وينبغي منع الصلات الشخصية للعضو العتيد في جيش التحرر، مهما كان نوعها وبكل الوسائل. ثمة عامل يجب الإصرار عليه، وتأثيره في هذه المرحلة الأولى سلبي على العموم بقدر ما يغدو إيجابياً في النضال، ألا وهو المرأة. إن ضعف الرجال الشبان تجاه النساء أمر معروف، عندما يكونون بعيدين عن بيئتهم المعتادة وموجودين في أوضاع استثنائية حتى من الناحية النفسية. وكم يعرف الحكام الطغاة هذا الضعف ويحاولون استخدام جاسوساتهم. قد يسهل أحياناً كشف علاقات أولاء النسوة بمن يستخدموهن، ولكنه كثيراً ما يصعب كشف أدنى صلة. من ثم ضرورة منع العلاقات بالنساء.
على الثوري الذي يستعد في السر لخوض الحرب أن يكون ناسكاً مكتملاً، وهذا ما يسمح من جهة أخرى بالتحقق على نحو مفيد من شيمة سوف تغدو في ما بعد إحدى أسس السلطة، ألا وهي الضباطة. فإذا تجاوز رجل تكراراً أوامر رؤسائه والتقى بنساء، وعقد صداقات غير مباحة، ينبغي الانفصال عنه فوراً ليس فقط بسبب الخطر المحتمل في هذه الصلات، بل لمجرد مخالفته الضباطة الثورية.
ينبغي عدم التعويل أبداً على مساعدة غير مشروطة من إحدى الحكومات عندما يتم العمل في أرضيها، سواء أكانت حليفة أو لا مبالية فقط. يجب أن يتصرف المرء دائماً كما لو وجد معسكر معاد تماماً. يمكن طبعاً أن توجد في هذا المعسكر استثناءات، ولكنها لا تعدو أن تصدق القاعدة العامة.
لا يمكن التحدث ههنا عن عدد الرجال الذين سوف يتم إعدادهم, يتعلق هذا الأمر بعوامل تتجاوز الحصر. نستطيع أن نتحدث فقط عن العدد الأدنى من الرجال الذين يمكن شن حرب الغوار بهم. فإذا ما حسب حساب الانسحابات وحالات الوهن التي لا بد منها، رغم الاصطفاء الصارم، ينبغي بحسب رأيي، اعتماد أساس يتراوح بين ثلاثين وخمسين رجلاً. يكفي هذا العدد للشروع بنضال مسلح في أي بلد أمريكي لاتيني، إذا كانت الأرض مؤايتة، والرغبة في امتلاك الأرض متأججة لدى الفلاحين، والعدالة مبكَّتة باستمرار.
أشرنا أن الأسلحة ينبغي أن تكون من النمط ذاته الذي يستخدمه العدو. وعلى الجملة، وباعتبار أن كل حكومة تقف دائماً في البدء ضد نشاط عسكري يصدر عن أراضيها، فإن الجماعات التي تستعد ينبغي أن لا تتجاوز خمسين أو مئة رجل في كل وحدة. ليس ثمة محذور في أن يشرع بالحرب خمسمئة رجل مثلاً، ولكنه ينبغي ألاَّ يجتمع هؤلاء معاً. أولاً لأن عددهم الكبير يسترعى الانتباه، ثم لأنه في حال وقوع خيانة، تسقط الجماعة كلها. هذا في حين يصعب احتلال عدة أماكن في آن واحد.
يمكن أن تكون دار الاجتماعات المركزية معروفة إلى حد ما. يرتادها المنفيون لعقد اجتماعات من شتى الأنواع، ولكن القادة لا يظهرون فيها إلاَّ استثناءً. وينبغي ألاَّ يوجد فيها أي مُسْتَمْسَك. يجب أن يكون في تصرف القادة أكبر عدد من المنازل، مستورة قدر الإمكان. ولا تعرف مستودعات السلاح إلاَّ من شخص أو اثنين، وتوزع في أماكن متعددة.
ينبغي دائماً تسليم الأسلحة إلى الذين يستخدمونها في آخر دقيقة، إذ أن عملاً قمعياً ضد الذين يتدربون يسبب سجنهم كما يسبب أيضاً فقدان كافة الأسلحة التي يصعب الحصول عليها جداً، والتي تشكل نفقة لا يسع القوى الشعبية أن تتهاون بها.
ينبغي إيلاء أهمية عظمى لإعداد القوى من أجل النضالات القاسية القادمة: ضباطة صارمة، مستوى معنوي رفيع، تفهم كامل للمهمة المراد تحقيقها، بلا تبجج ولا أوهام خادعة ولا آمال كاذبة في ظفر سهل. سوف يكون الصراع مراً وطويلاً. سوف تعاني الفرقة من الهزائم، وقد تشارف النكبة، ولن ينقذها إلاَّ مستواها المعنوي وضباطتها وإيمانها في الظفر النهائي، والصفات الاستثنائية التي يتحلى بها قائدها. هذه هي تجربتنا الكوبية، حيث استطاع إثنا عشر رجلاً أن يخلقوا جيشاً لأنهم كانوا يحققون هذه الشروط كافة ولأن الذي كان يقودهم اسمه فيدل كاسترو.
وبالإضافة إلى الاستعداد الفكري والمعنوي، لا بد من تدريب جسمي دقيق. سوف يختار المغاوير منطقة جبلية للعمل فيها. ومهما كانت الأرض، فإن السير هو العنصر الأساسي في الغوار. فلا يسع الغوارة أن تتعثر بأناس بطيئين أو مُتْعَبين. يقوم التدريب الناجع على مسيرات مضنية نهاراً وليلاً، تُزَاد فيها المسافة كل مرة، وتصل بالرجال إلى حافة الانهيار، بينما هي تركز الجهد على السرعة. السرعة والجَلَد هما المائزتان الجسميتان لجماعة الغوار الأصلية. كما يمكن تلقين الرجال المعلومات النظرية، مثل التوجيه، وقراءة الخرائط، ومِهانات التخريب، وتُجرى إن أمكن، تدريبات رماية كثيرة ببندقية حربية، وخاصة على الدريئة، مع الإصرار على كيفية استخدام الذخيرة.
ينبغي أن تحضر في ذهن المغاور دائماً قاعدة شبه دينية ألاَّ وهي اقتصاد الذخيرة. ينبغي أن يعرف الإفادة من كل رصاصة، حتى الأخيرة. فإذا ما اتبِعَت هذه التعليمات كافة، استطاعت قوى الغوار أن تدرك هدفها بسهولة.





2 – الدفاع عن السلطة بعد الفوز بها
ما دمنا لم ننجح في تحطيم الجيش الذي كان يدعم النظام البائد تحطيماً تاماً، فمن الواضح أن الظفر لا يمكن أن يكون نهائياً. وفوق ذلك، فإنه ينبغي تصفية كافة المؤسسات التي كانت تحمي هذا النظام على نحو منهجي. غير أن هذا الكتاب لا يعدو كونه وجيزاً تعليمياً للغوار، ولذلك سوف نقتصر على تحليل الدفاع الوطني في حال وقوع عدوان على النظام الجديد.
سوف يحصل الصدام بادىء ذي بدء بالرأي العام العالمي: فسوف تشرع "الصحافة الكبرى" ووكالات الأنباء "الموضوعية" في الولايات المتحدة وسائر أوطان الاحتكارات، باعتداءات هجومية ومنهجية بقدر ما تكون القوانين الشعبية في البلد المتحرر هي الأخرى هجومية ومنهجية. لذلك يتوجب عدم الإبقاء على أية بنية من الجيش القديم. بَيْدَ أن النظام العسكري، والطاعة الآلية، ومفاهيم الواجب العسكري والأخلاق على النمط القديم لا يمكن اجتثاثها دفعة واحدة، كما أنه من الأشد استحالة جعل الظافرين الحاذقين في الحرب والمفتقرين غالباً إلى كل ثقافة عامة، يتعايشون مع العدو المغلوب ولكنه المغترّ بدرايته الحربية والحاقد بكل ما أوتي من قوة على أولئك المغاوير غير المثقفين.
واضح أن هناك حالات فردية، حيث يقطع بعض العسكريين كل صلة بماضيهم ويدخلون النظام الجديد بروح تعاون مطلق. إنهم عندئذ مفيدون على مثلين، إذ أنهم يجمعون بين الارتباط بقضية الشعب، وبين المعارف اللازمة لإقامة بناء الجيش الشعبي الجديد. ينبغي تحطيم الجيش القديم وتشتيته وذلك باستيلاء الجيش الجديد على كافة المراكز، وأن يعقب ذلك تنظيم الجيش الجديد فوراً. ويمكن تعديل بنية الغوارة القديمة المُسْتَفْرِدة[65] والتي كانت متروكة تماماً تقريباً إلى مبادرة كل قائد بلا أي تخطيط. ولكنه في غاية الأهمية أن يُعاد تنظيمها صدوراً عن مفاهيم عمليات الغوار، وذلك باضفاء بنية الغوار العضوية على الجيش الشعبي، أي باضفاء تنظيم على جيش الغوار يُفصَّل له تفصيلاً بحسب أبعاده، فيجد نفسه مرتاحاً فيه. ينبغي عدم الوقوع في الخطيئة التي وقعنا فيها خلال الشهر الأول، عندما أردنا إدخال الجيش الشعبي الجديد في أُطُر الضباطة والتنظيم العسكري القديمين. يمكن أن تنجم عن ذلك صدوع خطيرة تؤدي إلى بلبلة التنظيم تماماً.
ينبغي الشروع بالاستعداد منذ ذلك الوقت لحرب الدفاع الجديدة التي لا بد أن يخوضها جيش الشعب، وهو الذي اعتاد في نطاق النضال المشترك، حرية اجتيال[66] كبيرة كانت تترك مبادرة واسعة لكل جماعة مسلحة. يواجه هذا الجيش مسألتين مباشرتين: الأولى، إن آلافاً من ثوريي الساعة الأخيرة، الصالحين أو الطالحين، سوف ينخرطون في الجيش في موجة الظفر العارمة. ينبغي إمرارهم على صوارم حياة الغوار وإعطاؤهم دروساً عجْلى وكثيفة في التهيئة الثورية. إن التهيئة الثورية. التي تمنح جيش الشعب وحدته الفكرية التي لا بد منها، هي أساس الأمن القومي، في المدى البعيد والقريب على السواء. أما المسألة الثانية، فتطرحها صعوبة التكيُّف بالبنيات الجديدة.
ينبغي أن تضطلع هيئة خاصة يتم تشكيلها فوراً، بشرح الحقائق الثورية الجديدة في كل وحدة من وحدات الجيش: فتشرح للجنود، الفلاحين والعمال، عدالة وحقيقة كل واقعة ثورية، وأماني الثورة، لماذا يقاتلون، ولماذا قضى كل الرفاق الذين لم يروا الظفر. وبصورة موازية، تسمح دروس مستعجلة في التعليم الابتدائي بالتغلب على الأمية، لتحويل الجيش الثوري، تدريجاً، إلى أداة مِهانية متكاملة، ذات تهيئة فكرية متينة وكفاءة قتالية متقنة.
سوف تتحقق هذه الصفات الثلاث شيئاً فشيئاً مع الزمن. ويمكن من ثم استكمال الجهاز العسكري لكي يستطيع المقاتلون الحاذقون بالحرب أن يستحيلوا عسكريين محترفين، بفضل دورات خاصة، فيهيئون بدورهم كل الشعب الذي يُدْعَى إلى الخدمة عن طريق التجنيد الطوعي أو الإلزامي. يتعلق ذلك بالمميزات القومية ولا يمكن إثبات قواعد عامة له.
إننا نعبِّر بهذا الصدد وفي كل ما يلي عن رأي قيادة الجيش الثائر حول السياسة الواجب اتباعها في كوبا، في حال شخوص خطر غزو أجنبي في المرحلة الحاضرة، وهو ما حدث أواخر 1959 وأوائل 1960 [67]. ها نحن قد توقعنا عدونا، ورزناه، وننتظره بلا خوف. إننا لم نعد نضع ههنا نظرية لإفادة الجميع، قائمة على تجربتنا الخاصة الماضية، بل على العكس، فإننا نستند إلى تجربة الآخرين لتطبيقها على دفاعنا القومي.
ولما كان علينا أن نعتبر حالة كوبا، وأن نقدم فرضيتنا عنها في علاقاتها بالوقائع الأمريكية المرافقة، فنجعل الفرضية والوقائع المذكورة على وِفاق، لذلك سوف نقدم، على سبيل الخاتمة، تحليلاً للوضع الكوبي، حاضره ومستقبله.


 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:45 AM

  رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

تحليل الوضع الكوبي، حاضره ومستقبله
ها قد مضت سنة كاملة منذ هروب الطاغية[68] نتيجة نضال أهلي مسلح قام به الشعب الكوبي. إن منجزات الحكومة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتجاوز التقدير. ولربما كان ضرورياً أن نقوم بالتحليل، بإعطاء كل حد قيمته الصحيحة، ببيان أبعاد ثورتنا الكوبية بدقة إلى الشعب. إن هذه الثورة، وإن كانت زراعية في الأساس، قد كسبت مساهمة حماسية من جانب العمال والطبقة الوسطى، ونالت الآن دعم الصناعيين. إن تصميم شعبها الذي لا يتزعزع، والأهداف التي تحركه، قد منحت هذه الثورة أهمية قاريّة[69]، بل عالمية.
ليس موضوعنا هو إجراء بحث تركيبي مهما كان موجزاً، لكافة القوانين المبرمة التي هي جميعاً مفيدة للشعب ولا ريب. سوف يكفينا أن نشدد الإشارة على بعض هذه القوانين، مبينين التسلسل المنطقي الذي يقودنا من أولها إلى آخرها، بمسيرة ذات خطى متتابعة ولازمة، مظهرين الاهتمام الذي توليه الدولة لحاجات الشعب الكوبي.
لقد لزمت الحكومة بادىء ذي بدء أن تحطم آمال الطبقات الطفيلية في البلد، فرسمت بخطى سريعة، قانون الإيجارات، وتخفيض أسعار الكهرباء وتعرفة الهاتف. وما لبث الذين كانوا يريدون أن يروا في فيدل كاسترو وصحبه القائمين بهذه الثورة، بعض السياسيين على النمط القديم أو بعض البُلهاء الذين تسهل مداورتهم، إشارتهم المائزة الوحيدة هي اللحى في ذقونهم، ما لبثوا حتى اعتراهم الظن بأن شيئاً أعمق كان يتفجر من صميم الشعب الكوبي ذاته، وأن امتيازاتهم قد أحاق بها خطر الزوال. بدأت كلمة شيوعيين ترتسم حول القادة، حول المغاوير الظافرين، وأخذت كلمة معاداة الشيوعية، بالمقابل، تؤلب الذين قد جُرِّدوا من امتيازاتهم الجائرة.
وجاء قانون الأراضي البور، وقانون البيع لنسيئة[70]، فألحقا شعور انزعاج لدى رؤوس الأموال المرابية. ولكن الرجعية ما كانت لتعاني بعد إلاَّ مناوشات، وكان كل شيء لما يزل ممكناً. كان بعد باستطاعة أمثال دوبوا أو بورتر أن ينصحوا "هذا الطفل المجنون" فيدل كاسترو ويُهْدُوه إلى الطرق "الديمقراطية" الجيدة. كان الوثوق بالمستقبل لما يزل ممكناً.
جاء قانون الإصلاح الزراعي صدمة بالغة، وانجلت الأمور واضحة لكل الذين مسَّهم القانون.
لقد كان غاستون باكويرو، الناطق بلسان الرجعية، قد توقع بدقة قبل هؤلاء ماذا كان يحدث، وانسحب إلى مياه الطغيان في اسبانيا، هي أكثر هدوءاً. كان بعضهم ما زال يحدث نفسه قائلاً: "القانون ما هو إلاَّ قانون"، وإن حكومات أخرى قد أصدرت قوانين سواها، حسنة للشعب نظرياً، غير أن إنفاذها كان شأناً آخر. وأخذوا في البدء ينظرون إلى هذا الطفل الصاخب المعقد، الذي لم يكن وجوده ليعرف إلاَّ من شارته "اينرا"[71]، نظرة أبوية ممجوجة ومُشْفِقة، من أعالي أسوار علم المذاهب الاجتماعية المفاض[72] والنظريات الجليلة في المالية العامة، التي لا تدانيها عقول المغاوير غير المثقفة. ولكن الاينرا أخذت تتقدم مثل الجرارة، أو كالدبابة، لأنها دبابة وجرارة في آن، محطمة بطريقها حواجز الملكيات الكبرى، وخالقة علاقات اجتماعية جديدة لملكية الأرض. لقد أجمل هذا الإصلاح الزراعي الكوبي عدداً من المميزات الهامة بالنسبة لأمريكا. كان معادياً للإقطاع إذ أنه، بالإضافة إلى إزالة الملكيات الكبرى (هذا في ظروف كوبا)، قد ألغى كافة العقود التي تجبر على دفع الريع العقاري نقداً، وصفّى علاقات القنانة التي ما برحت قائمة في منتجاتنا الزراعية الرئيسية، ولا سيما في مزارع البن والتبغ عندنا. غير أنه كان أيضاً إصلاحاً زراعياً يتم في النظام الرأسمالي ليحطم ضغط الاحتكارات التي تمنع الفلاحين، المنعزلين أو المتألبين، من أن يشتغلوا في أرضهم بإخلاص وينتجوا دون خوف من المرابي أو المالك. فقد أخذ الإصلاح الزراعي منذ البدء يؤمن للفلاحين والعمال الزراعيين ملكية الأرض، والدعم المِهاني الضروري، بتوفير العاملين الأكفَّاء، والعتاد، والدعم المالي، بفضل تسليفات الاينرا ومصارف الدولة و"رابطة متاجر الشعب". لقد انتشرت هذه الأخيرة انتشاراً قوياً في مقاطعة أوريينته وأخذت تنتشر في مقاطعات أخرى، حيث تحل متاجر الدولة، محل المرابي القديم، فتدفع قيمة المحاصيل بسعر عادل، معطية بذلك تعويضاً عادلاً عن الاستثمار.
وأهم الموائز التي تميزه عن الإصلاحات الزراعية الأخرى الثلاثة في أمريكا (مكسيك، غواتيمالا، بوليفيا)، هي الإرادة في السير به حتى النهاية، دون مساومة من أي نوع. لا يحترم هذا الإصلاح الزراعي الكامل إلاَّ حق الشعب، ولا يقف لا ضد طبقة ولا ضد قومية خاصة: يقع القانون بنحو واحد على "يونايتد فروت كومباني"[73] و"كينغ رننش" مثلما يقع على كبار الملاك المولَّدين[74].
أخذت منتجات البلد مثل الأرز والبذور الزيتية والقطن، تزداد بشدة في هذه الظروف، فتصبح هي مركز نهوج التخطيط. غير أن الأمة لما ترض بعد. إنها مُزْمِعَة أن تستعيد ثرواتها كافة. وقد تم عملياً، بقانون النفط، إسترداد باطن أرضها التريف، ميدان الصراع بين الاحتكارات وموضوع نهمها. يستجيب هذا القانون، شأن كافة القوانين التي أملتها الثورة، إلى ضرورات لا يمكن مراوغتها، إلى عواجل لم يعد في مُكْنَة الشعب أن يُرجِئها وقد عزم أن يكون حراً، سيداً على اقتصاده، وأن يزدهر ويبلغ تطوراً اجتماعياً متصاعداً في الرقي. إن قانون النفط هو، من هذا القبيل، مثال للقارة بأسرها تحذره الاحتكارات النفطية. إن كوبا لا تعيق الاحتكارات النفطية مباشرة وبشكل جوهري، إذ ليس ثمة ما يدعو لاعتبارها مركزاً هاماً جداً للوقود الثمين، وإن كان هناك أمل في إمكان الوصول إلى كفاية الحاجات الداخلية. غير أنها تضرب المثل، بقانونها، إلى الشعوب الشقيقة في أمريكا، بأنه يمكن إجراء ذلك في أمريكا، في حين وقع كثير من هذه الشعوب فريسة تلك الاحتكارات، ودُفع نفر آخر منها دفعاً إلى الحروب مع بعضه بعضاً، مرضاة لحاجات أو نهماً لاحتكارات متنازعة. إنه يبين في الوقت ذاته في أية لحظة ينبغي إجراء ذلك. لقد أخذت الاحتكارات الكبرى هي الأخرى تميل بأبصارها القلقة إلى كوبا: لم يجرؤ القوم في جزيرة الكاريبي[75] الصغيرة أن يصفُّوا التركة الجَبَّارة التي خلفها السيد فوستر دالز إلى ورثته، وهي "يونايتد فروت كومباني"، بل إن الثورة الشعبية في كوبا قد ضربت أيضاً سلطان "روكفلر" ومجموعة "رويال دتش"[76].
هذا القانون، مثله مثل قانون المناجم، هو جواب الشعب على أولئك الذين يدَّعون إذلاله، بتظاهرات القوة، والغزوات الجوية، والعقوبات المختلفة. يؤكد بعضهم أن قانون المناجم لا يقل أهمية عن قانون الإصلاح الزراعي. إننا لا نعتقد، بعامة، أنه يبلغ هذه الأهمية في اقتصاد البلد. غير أن ثمة ظاهرة جديدة: فالضرائب بنسبة 25% على إجمال المنتجات المصدرة، التي أجبرت الشركات التي تصدر معادننا إلى الخارج على دفعها (فأخذت تخلِّف الآن شيئاً غير الخواء في أراضينا)، لا تسهم في رفاه كوبا وحسب، بل أعطت الاحتكارات الكَنَدية منفعة في صراعها مع مستثمري النيكل الحاليين عندنا. وبذلك أخذت الثورة الكوبية، التي تصفَِّي الملكيات الكبرى، تحدد أيضاً أرباح الاحتكارات والوسطاء الأجانب، وتطلق في أمريكا سياسة جديدة إذ جرؤت على شق النظام الاحتكاري الذي أقامته حاكرات[77] المناجم. في هذا لفت جديد لانتباه جيراننا في بلد هو من أكبر أوطان الاحتكارات، ولكن للأمر رجعاً عميقاً أيضاً في أمريكا كلها. لقد أخذت الثورة الكوبية تحطم حواجز منشآت الإعلام كافة، وتذيع حقيقتها مثل نثار البارود بين الجماهير الأمريكية اللاتينية المتعطشة إلى حياة أفضل. كوبا هي رمز القومية الجديدة، وفيدل كاسترو رمز التحرر.
تضطلع الجزيرة الصغيرة التي مساحتها 114000 كم² وسكانها 6.5 مليوناً، بقيادة النضال المعادي للاستعمار في أمريكا، حيث تركت لها الثغرات البليغة في هذا النضال أن تقوم بدور الطليعة، الذي ملؤه البطولة والمجد والخطر. وراحت الأمم الأضعف اقتصادياً في أمريكا المستعمرة، الآخذة بتطوير رأسماليتها الوطنية متلمسة الطريق وسط صراع دائب وأحياناً عنيف ضد الاحتكارات الأجنبية، راحت تخلي الساحة شيئاً فشيئاً أمام بطل الحرية الجديد، لأن حكوماتها تعوزها القوة اللازمة للمضي بنضالها إلى غايته. فليس هذا النضال بسيطاً أو خالياً من المصاعب والمخاطر، ويلزمه تأييد الشعب قاطبة، كما يلزمه كثير من المثالية وروح الفداء للظفر به في ظروف العزلة التي نعانيها في أمريكا. لقد حاولت بلدان صغيرة أن تخوض هذا النضال في ما مضى: غواتيمالا، غواتيمالا الكويتزال[78]، ذلك الطائر الذي يموت إذا أُدخل القفص، ومثلها بوليفيا، بوليفيا موريلُّو، أول شهداء الاستقلال الأمريكي، الذي تداعى من وطأة القتال الهائلة، بعد أن ضرب ثلاثة من الأمثلة التي قدمت للثورة الكوبية إرشادات ثمينة وهي: ضرورة إزالة الجيش، وضرورة الإصلاح الزراعي، وتأميم المناجم، منبع أعظم الثروات وأعظم المآسي.
تعرف كوبا أمثلة الماضي، تعرف المصاعب والهزائم، ولكنها تعرف أيضاً أنها عند فجر عصر جديد. لقد عصفت نهضة النضالات القومية والشعبية في آسيا وأفريقيا بمعاقل الاستعمار. ولم تعد وحدة هذه الشعوب من شأن الدين والتقاليد والأطماع والأُلفة أو التمايز العرقيين، فلحمتها تشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية، والرغبة الواحدة في التقدم. لقد تصافحت آسيا وأفريقيا في باندونغ، وهنا في لاهايانا، من خلال كوبا، هاهما آسيا وأفريقيا تصافحان أمريكا اللاتينية والهندية[79].
ومن جهة أخرى، فقد تراجعت الدول الاستعمارية الكبرى أمام الشعوب المناضلة. لم تعد بلجيكا وهولندا إمبراطوريتين إلاَ سخرية. وفقدت ألمانيا وإيطاليا مستعمراتهما. وتتخبط فرنسا في مرارة حرب تحققت خسارتها منذ الآن[80]. وأخذت إنكلترا ماكرة، تصفِّي السلطة السياسية للإبقاء على العلاقات الاقتصادية.
تحل الرأسمالية الأمريكية الشمالية محل بعض الرأسماليات الاستعمارية القديمة في البلدان التي بدأت فيها الحياة المستقلة، ولكنها لا تجهل أن هذا أمر موقوت وأنه لن يكون ثمة توسع حقيقي لمضارباتها المالية في هذا الميدان. سوف تقدر الولايات المتحدة أن تمتص مصّ الأخطبوط، لكن دون أن تستطيع إطباق محاجمها بالثبات ذاته. لقد كلّت مخالب النسر الامبراطوري. مات الاستعمار في أنحاء العالم كافة، أو هو على وشك أن يموت ميتته الطبيعية.
أما أمريكا، فلها شأن آخر. لقد سحب الأسد الإنكليزي خطمه الشره من أمريكتنا منذ زمن بعيد، وأنشأ الرأسماليون الشبَّان المحبَّّبون، اليانكي، صيغتهم "الديمقراطية" من النوادي الإنكليزية، وفرضوا سلطانهم على كل واحدة من الجمهوريات العشرين[81].
هذه الجمهوريات هي الإقطاع الاستعماري لاحتكار أمريكا الشمالية، إنها "الباحة الخلفية لبيته الخاص"، إنها سبب بقائه وسبيل عيشه. فلو كانت الشعوب الأمريكية اللاتينية كافة، تعزز مثل كوبا كرامتها، لارتعدت فرائص الاحتكارات واضطرت إلى التكيف بوضع سياسي واقتصادي جديد وبتقلُّص أرباحها. غير أن الاحتكارات لا يعجبها قط أن ترى أرباحها في نكوص، هذا بينما أخذ مَثَل كوبا - هذا "المثل السيء" في الكرامة الوطنية والدولية – يستشري بين بلدان أمريكا اللاتينية. فكلما أطلق شعب صيحة تحرّره، يَشْكون كوبا، وكوبا هي مسؤولة حقاً، على نحو معين، إذ أنها أهدت إلى السبيل، سبيل النضال الشعبي المسلح ضد جيوش زعموا أنها لا تقهر، سبيل حرب الغوار، وبكلمة، سبيل الكرامة.
إن المثل الكوبي سيء، وما أسوأه! لا يسع الاحتكارات أن يغمض لها جفن ما دام هذا المثل قائماً، يكافح الأخطار ويسير نحو المستقبل. لقد أعلن الناطقون باسم الاحتكارات: يجب تدمير هذا المثل. وقال سَدَنة الاحتكارات المتنكرون كممثلين في المجلس النيابي: ينبغي التدخل في هذا المعقل "الشيوعي". وغمغم أمكر المدافعين عن الحاكرات: إن الوضع الكوبي يقلقنا كثيراً، وكلنا يفهم أنهم يعنون: "ينبغي تدمير كوبا".
لنتساءل بعد هذا العرض، ما هي إمكانات العدوان، لتدمير هذا المثل السيء؟ ثمة إمكان اقتصادي بحت: تضييق الاعتمادات المصرفية واعتمادات المصدَّرين في أمريكا الشمالية لكل ما هو كوبي، بما في ذلك مصرف كوبا الوطني. ويمكن أن يمتد هذا التضييق، بفضل الشركاء، إلى بلدان أوروبا الغربية كافة. أما الانفراد بالتضييق، فليس كافياً

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:47 AM

  رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

من شأن رفض منح الاعتمادات أن يسدد ضربة أولى شديدة القسوة إلى اقتصاد البلد، ولكن هذا الاقتصاد لا يلبث أن يعيد إحكام ذاته ويعود الميزان التجاري إلى الاعتدال عندما يعتاد البلد أن يعيش يوماً بيوم. يجب إبقاء الضغط. يدخل حلبة الرقص ههنا نظام التحصيص المفروض على السكر: نعم، لا، لا، نعم. تشير الآلات الحاسبة لدى وكالات الاحتكار، على عجل، أن تخفيض حصة كوبا أمر جد خطير، وأن إلغاء هذه الحصة أمر محال. لماذا خطير جداً؟ لأنه بالإضافة إلى الخطأ السياسي الذي يشكله، فهو سوف يشحذ نَهَمَ عشرة أو خمسة عشرة بلداً منتجاً، يحدث بينها انزعاجاً عميقاً، إذ يعتبر كل منها نفسه هو صاحب الحق في المزيد. كما يستحيل التخلي عن الحصة الكوبية لأن كوبا هي أجود وأرخص مورِّدي السكر إلى الولايات المتحدة، ولأن 60% من المصالح المرتبطة مباشرة بإنتاج السكر والاتجار به تخصُّ الولايات المتحدة. ثم إن الميزان يميل لصالح الولايات المتحدة. وإن من لا يبيع لا يمكنه الشراء، وإنه لمثل سيء حقاً أن يتخلى المرء عن معاهدة. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد: إن الهدية الأمريكية الشمالية المزعومة، التي قوامها أنهم يدفعون سعراً أعلى بثلاث سنتافوات[82] من سعر السوق ليست إلاَّ نتيجة عجزهم عن إنتاج السكر بسعر منخفض. فمستوى الأجور المرتفع وإنتاجية الأرض الضعيفة في الدولة الكبرى يمنعانها من إنتاج السكر بالسعر الكوبي. إنهم يتسترون وراء السعر المرتفع الذي يدفعون لهذا المنتوج، لكي يفرضوا اتفاقات باهظة ليس على كوبا فقط، بل على جميع المستفيدين. محال عليهم أن يلغوا الحصة الكوبية.
لن نتوقف جدياً عند إمكان لجوء الاحتكارات إلى ما يدَّعون من قصف حقول القصب بالقنابل وإحراقها لخلق قحط في المحصول. تبدو هذه الدعوى في الغالب وسيلة لبث المخاوف في صفوف الحكومة الثورية (غير أن جثة المرتزق الأمريكي الشمالي الممزقة تلطخ بالدم أكثر من دار كوبية[83]، إنها تلطخ سياسة برمتها. فما بالك بالانفجار الهائل الحادث في الأسلحة المرسلة إلى الجيش الثائر)[84].
ثمة نقاط حساسة أخرى يمكن ضرب الاقتصاد الكوبي منها، مثلاً مشترياته من المواد الأولية، كالقطن. ولكنه لا يخفى أن في العالم إنتاجاً مفرطاً من القطن، فلن تكون صعوبة من هذا القبيل إلاَّ موقوتة. وماذا عن الوقود؟ إن نفاده قمين بإنزال الشلل في البلد، وكوبا لا تنتج من النفط إلاَّ القليل. ثمة بعض صنوف القطران يمكن أن تغذي مراجلها، وبعض الغول يمكن في النهاية، أن يسيِّر عرباتها. ثم إن في العالم نفطاً كثيراً. فمصر، والاتحاد السوفياتي يمكنهما أن يبيعا منه، وربما العراق قريباً. لذلك يمكن الاكتفاء بتطبيق ريادة اقتصادية بسيطة.
وإلى جانب سلوكهم الفارقة الاقتصادية الآنفة، إذا ما أضفنا إلى مسالك العدوان الممكنة، تدخلات "دولة" من دول الجيب، مثل سانتو دومينكو، فسوف يغدو الأمر أكثر إزعاجاً بقليل، ولكن الأمم المتحدة سوف تضطر للتدخل في النهاية، ولن يؤدي الأمر إلى شيء ملموس.
إن السبل الجديدة التي أخذت منظمة الدول الأمريكية تتبعها، تخلق سابقة خطيرة في موضوع التدخل، وكأن في الأمر صدفة. إنتحلت الاحتكارات حجة تروخيلُّو[85]، لكي تهيىء اعتداءات أخرى. لقد أحرجتنا ديمقراطية فنزويلا في هذه القضية آسفين لأن نقاوم مبدأ التدخل ضد تروخيلُّو. يا لها من خدمة أسدوها إلى قراصنة هذه القارة!
ومن بين الإمكانات الجديدة، ثمة إزالة وجود ذلك الذي كانوا يدعونه "الشاب المجنون" فيدل كاسترو، والذي أضحى هدف غضبات الاحتكارات. ينبغي طبعاً اتخاذ الإجراءات كذلك ضد "العميلين الدوليين" الخطيرين الآخرين: راؤول كاسترو وكاتب هذه الأسطر، اللذين ينبغي إزالتهما من الوجود أيضاً. إنه حل مرغوب فيه ومُجْزٍ للرجعية، لو كان يعطي نتائج مرضية في عمل مثلث الوجهات في آن، أو لو كان يصيب الرأس القائد على الأقل. (ولكن أيها السادة الاحتكاريون، وأيها السادة الأجراء في الداخل، لا تنسوا الشعب، الشعب القادر على كل شيء، الذي لو واجه مثل هذه الجريمة، لسحق كل ضالع على نحو مباشر أو غير مباشر في الاعتداء على قادة الثورة، دون أن يستطيع أي شيء أو أي أحد أن يوقفه).
وأمامهم شكل جديد من الفارقة التي سلكوها في غواتيمالا[86]، وهو القيام بالضغط على مورِّدي الأسلحة إلى كوبا، لإجبار بلدنا على شراء الأسلحة من البلدان الشيوعية، فتغدو الاتهامات الموجهة إثر ذلك أكثر صرامة. لكن أحد أعضاء حكومتنا قد قال "يحتمل أن يهاجمونا بحجة أننا شيوعيون، ولكنهم لن يزيلونا من الوجود نتيجة كوننا بُلَهَاء".
سوف ترتسم عندها للاحتكارات ضرورة عدوان مباشر (وسوف يتناجزون عدة إمكانات ويتدارسونها بكل التفاصيل على آلات أي. بي. أم. الحاسبة). ولكنه يتبادر إلى ذهننا أنهم يستطيعون استخدام الفارقة الاسبانية[87]: يتخذون المبعدين حجة للابتداء، ويدعمونهم بمتطوعين ليسوا طبعاً إلاّ مرتزقة، أو جنود دولة أجنبية تدعمهم البحرية والطيران دعماً قوياً. ويمكن أن يكون الأمر أيضاً عدواناً مباشراً من دول مثل سانتو دومينكو، ترسل بعض رجالها، إخوتنا، مع مرتزقة كثيرين، للموت على شواطئنا، بغية خلق حالة واقعة ترغم أوطان الاحتكار المباركة على التصريح بأنها لا تريد التدخل في هذا الصراع "الكارث" بين الإخوة، وأنها سوف تكتفي بإيقافه عند حد، فتجعل بوارجها وطرّاداتها ونسَّافاتها وغوّاصاتها وحاملات طائراتها وطيرانها تسهر على بحار وسماء ذلك الجزء من أمريكا. ولا يستحيل أن يمنع هؤلاء الحراس الغيورون على السلم في القارة، مرور أية سفينة تفيد كوبا، في حين تنخدع يقظتهم "الحديدية" إزاء جميع أو أكثر الذين يناصرون وطن تروخيلو المنكود. ويمكنهم التدخل كذلك بوساطة إحدى المنظمات "المجيدة" القائمة بين الدول الأمريكية، لإنهاء "الحرب الجنوبية" التي أطلقتها "الشيوعية" من عقالها في جزيرتنا، أو حتى أن يتدخلوا مباشرة باسم هذه المنظمة لإعادة السلم وحماية مصالح رعاياهم، فينهجون بذلك فارقة من سلوكهم في كوريا.
قد لا توجه الضربة الأولى إلينا، بل إلى حكومة فينزويلا الدستورية، لتصفية آخر مستند لنا في القارة[88]. وإذا ما حدث ذلك، فيمكن أن لا تعود كوبا هي مركز النضال ضد الاستعمار، بل يغدو وطن بوليفار[89] الكبير هو ذلك المركز. وسوف يهبّ شعب فنزويلا ذائداً عن حرياته. يحفزه حماس الذين يعلمون أنهم يخوضون معركة حاسمة، فمع الهزيمة يرين عليهم أظلم ألوان الطغيان، ومع الظفر يشرق عليهم أخيراً مستقبل أمريكتنا، حيث تستطيع هبَّة من النضالات الشعبية أن تشق صمت المقابر الاستعمارية التي استحالت إليها الجمهوريات الشقيقة المستعبدة.
يمكن إتيان أسباب كثيرة ضد احتمال تغلُّب العدو، ولكن ثمة سببين رئيسيين: أحدهما خارجي، وهو أننا عام 1960، عام الشعوب المتخلفة النمو، الشعوب الحرة، العام الذي سوف تفرض فيه احترامها أخيراً وإلى الأبد، أصوات ملايين الكائنات التي لم يعد مصيرها أن يحكمها أصحاب وسائل القمع والثراء. ولكنه أيضاً – وهذا سبب داخلي أعظم قوة من الأول – العام الذي سوف يتنكَّب فيه السلاح جيش قوامه ستة ملايين كوبي، يقفون كالرجل الواحد، ذوداً عن أراضيهم وثورتهم. لن يكون الجيش الثائر في أرض الوغى إلاَّ جزءاً من شعب شاكي السلاح، يقاتل في كل أرجاء البلد. سوف يستميت العمال أمام مصانعهم في المدن. وفي الريف، سوف يبذر الفلاحون الموت في صفوف الغزاة، خلف كل شجرة، وفي كل قرح شَقَّته المحاريث الجديدة التي زودتهم بها الثورة.
وفي أرجاء العالم، سوف يخلق التضامن الأُممي حاجزاً قوامه مئات ملايين الصدور التي تستنكر العدوان. وسوف ترى الاحتكارات كيف تصطك دعائمها النخرة، وكيف تعصف نفخة ريح واحدة بنسيج العنكبوت الذي حاكته وكالات الأنباء من أكاذيبها. ولنفترض مع ذلك أنهم لن يقيموا حساباً للإستنكار الشعبي الأممي: فماذا يحدث ههنا في الداخل؟
إن أول عنصر يبرز للعيان، تبعاً لوضعنا كجزيرة صغيرة سهلة الإصابة، تعوزها الأسلحة الثقيلة، وذات طيران وبحرية ضعيفين جداً، هو تطبيق مفهوم الغوار على نضال الدفاع الوطني.
سوف تقاتل وحداتنا البرية بالعزيمة والحماس والحميَّة التي يستطيعها أولاد الثورة الكوبية في هذه السنوات المجيدة من تاريخها. ولكننا في أسوأ الأحوال، وبعد تحطيم بنية جيشنا في جبهة القتال، سوف نبقى مستعدين لمتابعة النضال في وحدات مقاتلة. وبعبارة أخرى، إذا ما نجح التركيز الكبير لقوى العدو في تحطيم قوتنا، سوف ينقلب جيشنا فوراً إلى جيش غوار، عظيم الجؤول، وتغدو سلطة قادته غير محدودة في مستوى الرتل، في حين تعطي القيادة العامة الأوامر المناسبة من نقطة ما في البلد وتحدد الريادة العامة. وتغدو الجبال آخر معاقل الجيش الثائر، وهو طليعة الشعب المنظمة، في حين يتابع جيش المؤخرة العظيم وهو الشعب بأسره، النضال في كل بيت قروي وكل درب وكل فَلْذَة من أرض الوطن.
ولما كانت وحدات مشاتنا تعوزها الأسلحة الثقيلة، فسوف يتركز عملها على الدفاع ضد المدرعات وضد الطيران. وسوف تغدو الأسلحة الوحيدة ذات القدرة المرموقة هي الألغام بكثرة، والبازوكة أو الرمَّانات ضد الدرع، والمدافع المضادة للطيران، الجوّالة جداً، دون إغفال بعض مدافع الهاون. وسوف يعرف قُدامى المشاة المزودون بالأسلحة الذاتية الحركة، قيمة الذخيرة، ويعنون بها عناية كبيرة. وترافق كل وحدة من جيشنا منشأة خاصة لإعادة حشو الفشك، فتحافظ على احتياط الذخيرة في أشد الظروف حراجة.
سوف يصاب طيراننا، على الأرجح، بعطب بالغ منذ اللحظات الأولى في غزو من هذا القبيل، تشنه دولة أجنبية كبرى، أو يشنه مرتزقة أية دولة صغرى تدعمها الدولة الكبرى سراً أو علانية. سوف يغدو الطيران الوطني إذاً محطماً أو يكاد، وربما استطاعت طائرات الاستكشاف أن تتابع العمل، ومثلها طائرات الارتباط، ولا سيما الطائرات العمودية.
سوف يعاد بناء البحرية أيضاً تبعاً لهذه الريادة الجائلة: الزوارق الصغيرة هي التي تبدي للعدو أصغر سطح وأعظم اجتيال. وسوف يكون أشد مداعي اليأس لدى العدو في هذه الحالة، كما في الحالات السابقة كلها، أنه لا يلاقي شيئاً صلباً يقاتله. لن يكون هناك غير كتلة رخوة، جائلة، لا نفاذ فيها، تتراجع ولا تكافح بجبهة صلبة، في حين هي تسدد الضربات من كل صوب.
فحتى لو هزم جيش الشعب في معركة جبهية، لن يكون من السهل أن تراه يولي الإدبار. يقف عنصران هامان من السكان إلى جانبه: الفلاحون والعمال. لقد دلّل الفلاحون على فعاليتهم عندما ألقوا القبض على العصابة التي كانت تحوم حول بينار دل ريو. سوف يتم تدريبهم محلياً، غير أن آمري الفصائل والرتب الأعلى سوف يُدَرَّبون كما يجري الآن، في قواعدنا العسكرية. ومن هنا سوف يوزعون على مناطق الإنماء الزراعي الثلاثين التي قُسِّمَ البلد إليها، لكي يشكلوا عدداً مماثلاً من مراكز النضال الريفي. سوف يذود الفلاحون عن أراضيهم ومكاسبهم الاجتماعية ودورهم الجديدة وأقنيتهم وسدودهم ومحاصيلهم الزاهرة، أي عن استقلالهم، وبكلمة، عن حقهم في الحياة.
سوف يكافحون تقدم العدو بمقاومة حازمة فورية. أما إذا كان تقدمه فائق القوة، فسوف يتبعثرون ويغدو كل فلاح مزارعاً مسالماً في النهار، ومغاوراً فعالاً، تخشى قوى الأعداء بأسه ليلاً. ويكرر العمال هذا النهوج ذاته. سوف يتم تدريب خيرتهم لكي يتسنَّموا[90] من بعد قيادة رفاقهم فيتولوا تلقينهم معلومات الدفاع التي تلقوها. سوف تتولى كل فئة اجتماعية ولا ريب مهمات مختلفة: يقوم الفلاح بنضال المغاور النهجي، وينبغي أن يتعلم إتقان الرماية والإفادة من وعورة الأرض والاختفاء دون قتال جبهي أبداً. أما العامل، فله حظ الوجود داخل القلعة الهائلة التي تشكلها مدينة حديثة، ولكنه عديم الجؤول: فسوف يتعلم تتريس الشوارع على نحو رشيد، واستخدام كل حِواء[91] قلعة، متواصلة من الداخل بثغرات تفتح في الجدران، واستخدام سلاح "كوكتيل مولوتوف" الدفاعي الرهيب، وتنسيق الرمي الصادر عن النوافد التي لا حصر لها والتي توفرها أبنية مدينة حديثة.
سوف تشكل جماهير العمال، تدعمهم الشرطة الوطنية والقوى المسلحة المكلفة بالدفاع عن المدن، جيشاً جبَّاراً ولكنه سوف يصاب بأذى بالغ. لا يعدل النضال في المدن نضال الريف سهولة ومرونة. سوف يسقطون – أو سوف نُسْقِط – كثيرين في هذا النضال الشعبي. سوف يستخدم العدو دبابات سرعان ما تُدَمَّر عندما يتعلم الشعب ألاَّ يخشاها ويتعرف إلى مقاتلها. ولكن الشعب سوف يخلِّف قبل ذلك قسطه من الضحايا.
تنضم منظمات أخرى أيضاً إلى منظمات العمال والفلاحين. وفي الصف الأول، جواند[92] الطلاب، التي ينسقها ويقودها الجيش الثائر، والتي تضم خيرة الشباب الطلابي، ثم منظمات الشباب عامة، التي تشارك في القتال، ومنظمات النساء التي تقدم حافزاً هاماً هو وجود المرأة. سوف تُعنى منظمات النساء بأعمال عظيمة الشأن في مؤازرة رفاق القتال، مثل الطهي، والعناية بالجرحى، ومؤاساة المحتضرين. وغسل الثياب. سوف يثبتن لرفاقهن في السلاح أن حضورهن لا يخيب أبداً في الساعات العصيبة من الثورة. هذا كله نتيجة عمل تنظيمي واسع للجماهير، ونتيجة تربيتهم المتأنية الكاملة. تستند هذه التربية إلى المعلومات الابتدائية. لكن ينبغي تركيزها على شرح وقائع الثورة شرحاً عاقلاً صحيحاً.
ينبغي دراسة القوانين الثورية وشرحها والتعليق عليها في كل اجتماع، وكل مجلس وكل مكان يلتقي فيه المسؤولون عن الثورة. وينبغي، لتوجيه الجماهير، قراءة خطابات القادة باستمرار والتعليق عليها ومناقشتها، وبالنسبة إلينا بصورة أخص، خطابات القائد الذي لا منازع له. ينبغي الاجتماع في الريف، للاستماع من الإذاعة أو للنظر في التلفزيون، إلى هذه الدروس الشعبية التي اعتاد رئيس وزارئنا أن يلقيها.
ينبغي أن يكون تماس الشعب بالسياسة مستمراً، فإنه يعني تماس الشعب بأعز رغباته، بعد أن تم التعبير عنها، فاستحالت قوانين ومراسيم ومقررات. ينبغي أن تكون اليقظة الثورية دائبة إزاء كل تظاهرة معادية للثورة. ويجب أن تكون يقظة المرء إزاء موقفه الخاص، وسط الجماهير الثوريين، أشد صرامة بعد من اليقظة المطبقة إزاء اللاثوري أو اللامبالي. فأياً كانت مكانة الثوري وأياً كانت مفاهيمه، لا يمكن السماح، لمجرد كونه ثورياً، بالصفح عن أخطاء بالغة قد ارتكبها ضد الشرف أو الأخلاق، وذلك بطائلة انحدار الثورة في طريق الانتهاز الخطرة. قد يؤدي واقع الرجل إلى السماح بتخفيف العقوبة، وسوف تؤخذ مناقبه الماضية بالحسبان، غير أنه لا بد من معاقبة الارتكاب بحد ذاته دائماً.
ينبغي

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:47 AM

  رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

العمل، ولا سيما العمل الجماعي ذي المقاصد الجماعية. ينبغي إسداء تنشيط عظيم لكتائب المتطوعين الذين يبنون الطرق والجسور والأرصفة والسدود والمجمَّعات المدرسية، ويوطدون روحهم الألبي باستمرار، مبرهنين بالأعمال عن حبهم للثورة.
إن جيشاً على مثل هذا الوفاق مع الشعب، يتحسس فيه المرء مثل هذا الوثوق بالفلاحين والعمال الذي هو فيض منهم، ويعرف فضلاً عن ذلك المِهانة الخاصة بحربه معرفة كلية، وقد تهيأ نفسياً لأسوأ الاحتمالات، إن هذا الجيش لا يقهر. وسوف يزداد منعة كلما تبلورت قولة خالدنا كاميلو سيانفويغوس: "الجيش هو الشعب في البزَّة العسكرية"، فازدادت تجسيداً في الجيش واستوطنت فيه. وبفضل كل ذلك، ورغم حاجة الاحتكارات إلى إزالة "المثل السيء" الكوبي، فإن مستقبلنا هو أكثر إشراقاً منه في أي وقت مضى.




-1-
ما هو المغاور؟
من المؤكد أنه ليس في العالم بلد واحد لا تشكل فيه كلمة "المغاور" عند الشعب رمزاً للرغبة في الحرية. وكانت كوبا البلد الوحيد الذي تملك فيه هذه الكلمة معنى منفراً. وان ثورتنا، التي تملك فعلاً محرراً في جميع امتداداتها، قد ردت الاعتبار إلى هذه الكلمة. ونحن نعرف جميعاً أن أولئك الذين تعاطفوا مع النظام العبودي الاسباني وحملوا السلاح كي يدافعوا عن التاج الاسباني قد كانوا مغاوير؛ ومنذ ذلك الحين، هذه الكلمة تشكل في كوبا رمزاً لجميع الأشياء الرديئة والمتخلفة والمتعفنة في البلاد. ومع ذلك، فليس ذلك هو المغاور، بل الأمر على النقيض من ذلك، إذ أن المغاور هو المقاتل الأفضل من أجل الحرية، هو المختار من قبل الشعب، هو الطليعة المقاتلة لهذا الشعب في نضاله التحرري. وليست حرب الغوار، على النقيض مما يعتقد الكثيرون، حرباً هزيلة، حرب جماعة قليلة ضد جيش قوي، لا، أن حرب الغوار هي حرب الشعب بأسره ضد السيطرة الاستعبادية وإن المغاور هو طليعتها المسلحة؛ وأما الجيش، فإنه يتألف من جميع أهالي منطقة معينة أو بلد بأكمله، وهذا هو السبب في قوتها، وفي ظفرها بعد أمد طويل أو قصير على جميع القوى التي تحاول اضطهاد الشعب؛ وبكلام آخر، فإن أساس حرب الغوار وقاعدتها موجودان في الشعب.
وأنه من غير المعقول أن تتمكن جماعات مسلحة صغيرة، مهما تكن قدرتها على الحركة ومعرفتها بالأرض، من الاستمرار بدون هذا الدعم القوي في البقاء في وجه القمع المنظم الذي يمارسه جيش حسن التنظيم. وإن البرهان على ذلك هو أن جميع الأشقياء، جميع عصابات المجرمين تغلب على أمرها أخيراً من قبل السلطة المركزية. ولا تنسوا أن هؤلاء المجرمين يمثلون شيئاً آخر بالنسبة إلى أهالي المنطقة. انهم يمثلون نضالاً من أجل الحرية، حتى لو كان في شكل كاريكاتوري.
ويجب على جيش الغوار، هذا الجيش الشعبي على أفضل صورة، أن يملك على الصعيد الفردي أفضل الفضائل لأفضل جندي في العالم. ويجب أن يقوم على أساس الانضباط الصارم. وإذا كانت شكليات الحياة العسكرية لا تتكيف مع حرب الغوار، فليس هناك وقوف بوضعية الاستعداد ولا تحية متصلبة، ولا تقديم الإيضاحات إلى الرئيس، فهذا لا يعني انعدام الانضباط. أن انضباط المغاور انضباط باطن وهو يأتي عن قناعة الفرد العميقة بضرورة طاعة الرئيس من أجل تأمين فعالية هذه العضوية المسلحة التي يشكل جزءاً منها، وفي الوقت نفسه من أجل الدفاع عن عضويته الخاصة. وفي الجيش النظامي يكون أدنى إهمال من قبل أي جندي خاضعاً لرقابة رفيقه الأقرب إليه. أما في حرب الغوار، حيث يشكل كل جندي على حدة وحدة وجماعة، فأن كل خطيئة تكون قاضية، فلا يمكن لأي إنسان أن يتهاون بأي إهمال، كما لا يمكن لأي أمرىء أن يخطو خطوة فاسدة، لأن ذلك قد يؤدي بحياته وحياة رفاقه.
وغالباً ما لا يلاحظ الناس هذا الانضباط المجرد عن الشكليات. ذلك أن المراقبين قليلي الاطلاع قد يتوهمون أن الجندي النظامي، الذي يتمسك بكل مظاهر الرتب المتدرجة، هو أكثر انضباطاً من المغاور الذي يطيع تعليمات رئيسه باحترام بسيط وعاطفي. ومع ذلك فقد كان جيش التحرير جيشاً خالصاً من أكثر الاغراءات البشرية ابتذالاً، وذلك من دون أن يكون هنالك جهاز للقمع، ومن دون مكتب للمخابرات يفرض رقابته على الفرد أمام الاغراء. ان هذا الفرد يراقب نفسه بنفسه، ووعيه الشديد بالواجب والانضباط هو الرقيب عليه.
وأن الجندي المغاور، بوصفه جندياً انضباطياً، هو في الوقت نفسه جندي عظيم الرشاقة، حكمياً وذهنياً على حد سواء. أن حرباً غوارية جامدة هي شيء لا يمكن تصوره. أن الأشياء جميعاً تجري في الليل. فالمغاوير، بفضل معرفتهم الجيدة بالأرض، يسيرون في الليل ويتخذون مواقعهم، ويهاجمون العدو وينسحبون. وليس من الضروري أن ينسحبوا بعيداً عن مسرح العمليات، بل كل ما يلزم هو أن ينسحبوا بسرعة كبيرة.
وسوف يركز العدو في الحال جميع وحداته الزجرية على النقطة التي تعرضت للهجوم، ويذهب الطيران ليقصفها، وتتقدم الوحدات الآلية لتطويقها، ويمضي الجنود وهم عاقدو العزم جيداً على احتلال موقع وهمي.
ويكتفي المغاور بأن يوجه جبهة واحدة إلى العدو. وحين ينسحب قليلاً، وحين ينتظر العدو، وحين يخوض غمار معركة جديدة، وحين ينسحب من جديد، فأنه ينفذ مهمته المخصوصة. وهكذا يمكن للجيش أن ينهك قواه خلال ساعات أو أيام كاملة. أن المغاور الشعبي ينتظر في مواقعه التي يراقب منها ويهاجم العدو في اللحظة المناسبة.
ويشتمل تكتيك حرب الغوار على مبادىء أساسية أخرى، معرفة الأرض يجب أن تكون تامة وكاملة. فليس في مقدور المغاور أن يجهل المكان الذي سيهاجمه، كما يجب عليه أن يعرف سائر دروب التراجع وجميع مداخل الطرقات في الجوار، والمنازل الصديقة والعدوة، والأماكن حيث يمكن إقامة معسكر مؤقت، وباختصار يجب عليه أن يعرف مسرح العمليات معرفته بجيبه. وأنه ليتوصل إلى هذه المعرفة لأن الشعب، الذي هو قلب جيش الغوار، يقف من وراء كل عملية.
إن أهالي المحلة يسهمون في أعمال النقل ويحملون الأخبار ويبذلون العناية، وأنهم ليزودون الجيش بالمقاتلين: أنهم يشكلون العناصر المكملة البالغة الأهمية لطليعتهم المسلحة.
أمام هذه التفاصيل جميعاً، أمام هذا التراكم للضرورات التكتيكية عند المغاور، لا بد أن نتساءل "لماذا يناضل"؟ وإليكم الجواب العظيم: "أن المغاور مصلح اجتماعي. أن المغاور يمسك بالسلاح كي يمثل الاحتجاجات العنيفة للشعب ضد مضطهديه، وهو يناضل كي يغير النظام الاجتماعي الذي يفرض على جميع أخوته المجردين من السلاح أن يبقوا في حالة الذل والبؤس. أنه يقاتل ضد الشروط المخصوصة للمؤسسات القائمة في لحظة معينة، ويكرس نفسه كي يحطم قوالب هذه المؤسسات بكل القوة التي تسمح له الظروف بها".
أننا نلمس هنا نقطة هامة؛ فقد قلنا أنه يجب على المغاور، على الصعيد التكتيكي، أن يعرف الأرض بمداخلها ومخارجها، وأن يناور بسرعة وأن يحصل على تأييد الشعب، وأن يعرف أين يختبىء. وهذا يعني أن المغاور سيمارس عمله في مناطق متوحشة وقليلة السكان. وفي هذه المناطق يتركز النضال الشعبي بصورة مفضلة، بل بصورة قاطعة تقريباً، على التحول الذي يجب أن يحدث في التركيب الاجتماعي لملكية الأرض. وبكلام آخر، فأن المغاور قبل كل شيء ثوري زراعي.
أنه الناطق بمطامح الجماهير الفلاحية الغفيرة التي تريد أن تكون سيدة على الأرض، سيدة على وسائل الإنتاج، وحيواناتها، وكل الأشياء التي ناضلت من أجلها طوال سنوات، كل ما يصنع حياتها وما سوف يكون قبرها أيضاً.
وهذا هو السبب في أن أفراد الجيش الجديد الذي يمشي حالياً في كوبا إلى النصر من جبال المقاطعة الشرقية وايسكامبري، وسهول المقاطعة الشرقية وكاماغوي، نحو جميع أرجاء البلاد، يحمل معه الإصلاح الزراعي بوصفه رايته الخفاقة.
وذلك نضال من المرجح أن يطول بقدر إنشاء الملكية الفردية، نضال خاضه الفلاحون بشيء من النجاح يزيد أو ينقص في سياق التاريخ، لكنه استنهض على الدوام الحمية الشعبية. وليس هو بملكية موقوفة على الثورة. أن الثورة قد تناولت هذه الراية من بين الجماهير الشعبية وجعلت منها رايتها الخاصة. لكننا إذا عدنا إلى ما قبل ذلك بزمن طويل، فمنذ انتفاضة المزارعين في هافانا، ومنذ حاول السود الحصول على الحق في الأرض في حرب التحرير الكبرى التي استمرت ثلاثين عاماً، ومنذ استولى الفلاحون ثورياً على ما يسمى ريالنغو18 [93]، كانت الأرض مركز الصراع من أجل حياة أفضل.
وأن هذا الإصلاح الزراعي ليتحقق شيئاً فشيئاً؛ لقد بدأ بصورة حية في سييرا ماسترا، وانتقل إلى الجبهة الشرقية الثانية إلى سلسلة ايكامبري. ومن بعد طواه النسيان بعض الوقت في الأدراج الوزارية وعاد فانبثق بصورة حازمة مع قرار فيدل كاسترو النهائي. وأن هذا الإصلاح الزراعي – وهذا ما يجب أن نكرره – هو الذي سيمنح حركة السادس والعشرين من تموز تعريفها التاريخي.
ان هذه الحركة لم تخترع الإصلاح الزراعي، لكنها ستحققه: ولسوف تحققه بصورة كاملة، حتى لا يبقى فلاح واحد بدون أرض ولا تبقى قطعة أرض واحدة بائرة. ولعل الحركة في ذلك الحين تفقد كل مبرر لوجودها، لكنها تكون قد قامت برسالتها التاريخية. وأن واجبنا هو أنْ نصل إلى هذه النتيجة، ومن ثم يقول المستقبل ما إذا كان ثمة أعمال أخرى ينبغي القيام بها.


 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:48 AM

  رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 


الثورة،
19 شباط 1959




-2-
حرب الغوار: وسيلة[94]
لقد استخدمت حرب الغوار عدداً لا يحصى من المرات، في ظروف تاريخية مختلفة، لنيل أهداف شتى. وقد استخدمت في حروب التحرر الشعبية في السنوات الأخيرة، إذ سلكت الطلائع الشعبية في حروبها التحررية طريق استخدام النضال المسلح غير النظامي لمقارعة عدو متفوق عليها عسكرياً. كانت آسيا وأفريقيا وأمريكا دائماً مسرح حروب الغوار، حيثما يسعى الشعب لتولي سلطة الدولة في نضاله ضد استغلال الاقطاع والاستعمار القديم والحديث. وفي أوروبا، تعتبر الجيوش الوطنية النظامية وجيوش حلفائها حرب الغوار وسيلة متممة.
لقد شُنّت حرب الغوار في أمريكا في ظروف مختلفة. كان سيزار أوغستو ساندينو[95] مثالاً أخيراً، غير مباشر عنها، عندما قاتل حملة جيش الولايات المتحدة في سيكوفيا من نيكاراغوا. وكانت حرب كوبا الثورية آخر الأمثلة، فأصبحت حرب الغوار منذ ذلك الحين موضوعاً للنقاش النظري في صفوف الأحزاب السياسية التقدمية في هذه القارة. وقد أصبحت معرفة ما إذا كان استخدام حرب الغوار ممكناً ومؤاتياً موضوعاً يحتدم له النقاش.
وسوف أحاول في هذا المقال أن أعرض أراءنا عن حرب الغوار وأن أشرح كيف يستخدم هذا التكتيك استخداماً صحيحاً.

ثلاث مجلوبات أساسية:
يجب أن نوضح في المقام الأول أن هذا الشكل من النضال هو وسيلة، وسيلة تستخدم لبلوغ هدف هو تولي سلطة الدولة. أنه هدف ضروري ولا مناص منه للثوريين كافة. لذا يجب علينا، عندما نحلل الظروف الملموسة في بلدان مختلفة من أمريكا، أن نقتصر على المعنى الضيق لعبارة "حرب الغوار"، أعني على اعتبارها وسيلة للفوز بسلطة الدولة.
قد يثار هذا السؤال فوراً: هل حرب الغوار هي الشكل الوحيد لتولي سلطة الدولة في أمريكا؟ هل هي الشكل الرئيسي، أم هل هي مجرد شكل من أشكال النضال؟ وسوف يسأل بعضهم أخيراً: هل يمكن تطبيق المثال الذي ضربته كوبا، على الحقائق القائمة في جهات أخرى من هذه القارة؟ كثيراً ما يكال بعض النقد، إبَّان النقاش، إلى الذين يؤيدون حرب الغوار، فيؤخذ عليهم أنهم نسوا النضال الجماهيري، وكأن نضال الجماهير وحرب الغوار شكلان متضادان. أننا نرفض ما في هذا التأكيد من دس. أن حرب الغوار هي نوع من الحرب الشعبية، نوع من النضال الجماهيري. ولا تعني محاولة المضي في هذا الشكل من الحرب دون تأييد السكان المحليين إلاَّ الهزيمة المؤكدة. المغاورون هم طلائع الشعب المسلحة، المقاتلة، العاملة في منطقة معينة من بلد معين. أنهم يستهدفون شن سلسلة من الأعمال القتالية، في سبيل – الهدف الاستراتيجي الوحيد الممكن – الاستيلاء على سلطة الدولة. أنهم يحظون بتأييد جماهير العمال والفلاحين في المنطقة التي يعملون فيها، أو حتى في البلد قاطبة ولا يمكن شن أية حرب غوار بدون توفر هذه الشروط المسبقة.
"أننا نرى، في الوضع الراهن في أمريكا، أن الثورة الكوبية قد رفدت الحركة الثورية فيها بثلاثة اسهامات أساسية، وهي:
أولاً: ان القوى الشعبية تستطيع أن تنتصر على الجيش الرجعي.
ثانياً: أنه لا ينبغي لنا الانتظار حتى تنضج الظروف الثورية كافة، إذ يمكن للبؤرة الثورية أن تفجر هذه الظروف الثورية.
ثالثاً: "إن ميدان النضال المسلح، في الأنحاء المتخلفة من أمريكا، ينبغي له على العموم، أن يكون في الريف". (من كتاب "حرب الغوار" لغيفارا).
تلك هي اسهامات الثورة الكوبية في تطوير النضال الثوري في أمريكا، وهي يمكن أن يبلغها أي بلد في القارة إذا ما أمكن خوض حرب الغوار فيه.

قيادة الطبقة العاملة عامل ضروري:
لقد أشار بيان هافانا الثاني إلى ما يلي: "يتضافر في بلداننا ظرفان هما الصناعة المتخلفة والنظام الزراعي ذو الطابع الاقطاعي. لذا فمهما كانت ظروف العمال المعايشة في المدن قاسية، فإن سكان الأرياف يعانون ظروفاً أشد هولاً واضطهاداً واستغلالاً منها. غير أنهم، ما عدا استثناءات قليلة، يشكلون الأكثرية المطلقة، وأحياناً أكثر من 70% من السكان في أمريكا اللاتينية.
"وإذا ما استُثني مُلاَّك الأرض الذين كثيراً ما يقطنون المدن، فأن سائر هذه الكتلة الكبيرة تكسب عيشها بالعمل كأجراء[96] في المزارع لقاء أضأل الأجور، أو أنها تزرع الأرض بشروط استغلال لا تتميز عن شروط القرون الوسطى.
"تلك هي الظروف التي حتمت أن يؤلف سكان الريف الفقراء قوة ثورية كامنة هائلة.
"إن الجيوش قد انشئت وجهزت لتقوم بالحرب النظامية. وهي القوة التي تعتمدها الطبقات المستغلة لتثبيت سلطتها. فإذا ما واجهت هذه الجيوش حرباً غير نظامية يخوضها الفلاحون مستندين إلى الأرض التي يقطنونها، أضحت عاجزة عجزاً مطلقاً، وفقدان 10 رجال لقاء كل مجاهد ثوري يصرع. ويستفحل في صفوفها انهيار الروح المعنوية عندما يقض مضاجعها جيش غير مرئي لا يغلب، ولا يترك لها فرصة استخدام خططها التكتيكية العسكرية الأكاديمية وجعجعتها الحربية، هذه الأمور التي طالما فاخرت بها في قمع العمال والطلاب في المدن.
"تأتي قوى جديدة باستمرار لترفد النضال الأصلي الذي شنته وحدات مقاتلة صغيرة، وتطفق الحركة الجماهيرية تزداد جرأة، وينهار النظام القديم شيئاً فشيئاً شر انهيار. وتلك هي الساعة التي تحسم فيها الطبقة العاملة والجماهير المدنية المعركة.
"ما الذي يجعل هذه الوحدات لا تغلب، منذ لحظة القتال الأولى، ومهما أوتي أعداؤها من تعداد وقوة وموارد؟ أنه تأييد الشعب، فبوسعها أن تعول على تأييد جماهيري متزايد أبداً.
"غير أن الفلاحين يشكلون طبقة تحتاج إلى القيادة الثورية السياسية من جانب الطبقة العاملة والمثقفين الثوريين، نظراً للجهل الذي أبقيت فيه والعزلة التي تعيش فيها. ولا تستطيع هذه الطبقة أن تشن النضال وتظفر بدون ذلك.
"لا تستطيع البرجوازية الوطنية، في الظروف التاريخية الراهنة في أمريكا اللاتينية، أن تقود النضال ضد الإقطاع وضد البروليتاريا. وقد أثبتت التجربة أن هذه الطبقة في بلداننا -حتى عندما اصطدمت مصالحها بمصالح البروليتاريا اليانكي- لم تستطع مكافحة الاستعمار، وقد انتابها الشلل خوفاً من الثورة الاجتماعية، وأرعبها صخب الجماهير المستثمَرة". (من بيان هافانا الثاني).

الثورة في أمريكا لا مفر منها:
تمثل هذه الموضوعات جوهر هذا البيان الثوري الخاص بأمريكا. وثمة ما يكملها في فقرات أخرى من البيان: "بوسع الظروف الذاتية في كل بلد، أي عوامل الوعي، والتنظيم، والقيادة، أن تسارع أو تؤجل الثورة، تبعاً لحالة نمو هذه العوامل. ومع نضوج الظروف الموضوعية عاجلاً أو آجلاً، في كل حقبة تاريخية، يتم اكتساب الوعي، وبلوغ التنظيم، وبزوغ القيادة، وانبلاج الثورة.
"لا يتوقف على الثوريين أن يحدث ذلك سليماً أو أن يولد بعد مخاض أليم. انه أمر يتعلق بالقوى الرجعية في المجتمع القديم. أنه يتعلق بمقاومتها مولد المجتمع الجديد الذي تنتجه تناقضات المجتمع القديم. دور الثورة في التاريخ كدور الطبيب الذي يساعد في مولد الحياة الجديدة. لا تستخدم الثورة العنف إلاَّ عند الضرورة، ولكنها تستخدمه بلا تردد كما اقتضاها المخاض ذلك. أنه المخاض الذي يحمل، إلى الجماهير المستعبدة والمستثمَرة الأمل في حياة أفضل.
"لا مناص من الثورة في بلدان عديدة من أمريكا اللاتينية. لم تحتم ارادة أحد هذا الواقع. لقد حتمته ظروف الاستغلال المرعبة التي يعانيها الإنسان في أمريكا، ويحتمه نمو الوعي الثوري لدى الجماهير، وأزمة البروليتاريا العالمية، وحركة النضال الشاملة للشعوب المستعبدة في العالم". (من بيان هافانا الثاني).
سوف نحلل مسألة حرب الغوار في أمريكا من هذه الزاوية.
أننا نرى أن حرب الغوار هي شكل من أشكال النضال لبلوغ هدف معين. المسألة الأولى في هذا الصدد هي تحليل وايجاد ما إذا كان الاستيلاء على سلطة الدولة ممكناً في قارتنا الأمريكية بوسائل غير النضال المسلح.

التاريخ لا يقبل الأخطاء:
يمكن خوض النضالات السلمية عن طريق الحركات الجماهيرية. وفي الظروف الخاصة حيث تكون هناك أزمة، تستطيع هذه النضالات أن ترغم حكومة ما على المساومة. انها تتيح لقوى الشعب أن تستولي على سلطة الدولة وتقيم دكتاتورية البروليتاريا. كل هذا صحيح إذا تكلمنا من الناحية النظرية. ولكننا إذا رحنا نحلل هذه المسألة على ضوء الوضع القائم في أمريكا، كانت النتيجة الحتمية أن ثمة في كل مكان من هذه القارة ظروفاً موضوعية ترغم الجماهير على مقاومة حكومات البرجوازية وملاك الأرض بأعمال عنيفة، وأن بلداناً عديدة أخرى تعاني أزمة في الحكم، فتكون الظروف الذاتية هي الأخرى حاضرة هناك. انها جريمة ولا ريب أن لا يقدموا على استلام سلطة الدولة في البلدان التي تتحقق فيها هذه الشروط كافة. وفي البلدان التي لا تتوفر فيها الشروط الآنفة يمكن طبعاً اختيار مسالك مختلفة، وينبغي الوصول إلى قرارات مناسبة في كل بلد على أساس التحليل النظري. الشيء الوحيد الذي لا يسمح به التاريخ لمحللي ومنفذي السياسات البروليتارية هو ارتكابهم أخطاء في أحكامهم. ليست المؤهلات لدور الحزب السياسي الطليعي كالمؤهلات لنيل شهادة جامعية. ينبغي لمثل هذا الحزب أن يقود الطبقة العاملة في النضال من أجل سلطة الدولة، وأن يعرف كيف يهديها إلى تسلم السلطة، فيقود النضال إلى الظفر بأسرع ما يمكن. هذه مهمة أحزابنا الثورية كافة. ولاجتناب الأخطاء، ينبغي أن يكون التحليل عميقاً وشاملاً.


 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:49 AM

  رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

تحالف البرجوازية والإقطاعيين:
ان الشروط هي في أمريكا اليوم بحيث أن النفارات الحاكمة والجماهير الضاغطة قد اشتبكت في صراع للقبض على مقاليد الأمور، ولما تزال الفئتان في حالة توازن غير مستقر. نعني بكلمة "النفارات" ذلك التحالف الرجعي الذي شكلته البرجوازية وطبقة ملاك الأرض في كل بلد، مع تمتع البناء الإقطاعي فيه بالهيمنة إلى حد متفاوت. تتعاقب هذه الأنظمة الدكتاتورية ضمن إطار معين من الشرعية رسموه هم أنفسهم لمصلحة نشاطهم ابان مدة حكمهم الطبقي غير المحدود. غير أننا نجتاز مرحلة ضغط قوي من لدن الشعب الذي طفق يتقحّم باب شرعية البرجوازية. سوف ينسف المشرعون شرعيتهم بأنفسهم للحؤول دون اقتحام الجماهير لها. غير أن تدمير كل تشريع قائم تدميراً وقحاً، وإبرام القوانين لتثبيت الأمر الواقع، كلاهما لن يكون من شأنه إلا إهاجة القوى الشعبية. لذا سوف تحاول النفارة الدكتاتورية أن تستخدم القوانين القديمة لتغيير النظام الدستوري وأن تخنق البروليتاريا مع اجتناب الصدام جبهياً. الا أن هذا السلوك يستثير التناقضات. لا يعود بوسع الشعب أن يطيق مختلف التدابير الزجرية القديمة والجديدة التي تتخذها الأنظمة الدكتاتورية وهو يحاول إحباطها. ينبغي ألا ننسى لحظة واحدة الطبيعة الطبقية لدولة البروليتاريا، وصفتها الزجرية، وأفقها المحدود، قال لينين وهو يناقش في الدولة: "الدولة هي النتاج والتعبير عن التصارعات الطبقية التي لا مصالحة فيها. تنشأ الدولة عندما وحيثما وبقدر ما لا يمكن موضوعياً أن تتصالح التصارعات الطبقية. وبالعكس، فإن وجود الدولة يثبت أن التصارعات الطبقية لا يمكن أن تتصالح". ( من كتاب: الدولة والثورة).
بتعبير آخر لا يجوز لنا أبداً أن نسمح باستعمال كلمة "ديمقراطية" لتبييض وجه دكتاتورية الطبقات المستثمِرة، عندما تكون الديمقراطية فاقدة معناها العميق ولا تعني إلا منح المواطنين بعض الحريات. إن مجرد السعي لاسترداد شيء من الشرعية البرجوازية، دون إثارة مسألة سلطة الدولة الثورية، إنما يعدل السعي لإعادة نظام الدكتاتورية الذي تفرضه الطبقات الاجتماعية الحاكمة. وبكلمة واحدة، فأنه لا يعدو محاولة تزويد السجناء الذين يؤدون عقوبة ما بأغلال أخف.

دور العنف:
ورغم أن الطبقات الحاكمة تلجأ دائماً وأبداً إلى وسائل بنيتها العليا التي أنشأتها لغاية القمع، فأنها في ظروف النزاع هذه، سوف تمزق ما اتفقت عليه إرباً إرباً، وتنزع قناع "ديمقراطيتها"، وتهاجم الشعب. وينبغي في مثل هذه اللحظة طرح السؤال مرة أخرى: ما العمل؟ جوابنا هو أن العنف ليس حقاً ارثياً للمستثمِرين، وأن المستثمَرين يستطيعون ويجب عليهم أن يستخدموا العنف في اللحظة الملائمة. قال مارتي[97]: "إذا كان مثيرو حرب يمكن اجتنابها في بلد مجرمين، فإن الذين يرفضون خوض حرب لا مناص منها هم أيضاً مجرمون".
وفي الفترة ذاتها أوضح لينين ذلك بقوله: "لم تنظر الاشتراكية الديمقراطية إلى الحرب قط ولا تنظر إليها من وجهة نظر عاطفية. ففي حين لا تنبري الاشتراكية الديمقراطية تفضح الحرب كوسيلة وحشية لحسم خلافات بني الإنسان، فهي تعِلم أيضاً أن الحرب لا مناص منها ما دام المجتمع منقسماً إلى طبقات، ما دام استثمار الإنسان للإنسان موجوداً. ولن نستطيع، إبان إزالة هذا الاستثمار، أن نتجنب الحروب التي تبدأها الطبقات المستثمِرة المسيطرة المضطهِدة هي ذاتها دائماً وفي كل مكان". قال لينين هذا عام 1905، وقد حلل مراكز الصراع الطبقي فيما بعد تحليلاً ثاقباً عندما كتب في مقاله "البرنامج العسكري لثورة البروليتاريا": "كل من يعترف بصراع الطبقات لا بد له أن يعترف بالحروب الأهلية، فهي في كل مجتمع طبقي استمرار وتثُّور واشتداد طبيعي، ولا مناص منه في بعض الظروف للصراع الطبقي. وتثبت الثورات الكبرى كلها ذلك. أنَّ نبذ الحرب الأهلية أو نسيانها يعنيان السقوط في منتهى الانتهاز والتخلي عن الثورة الاشتراكية". يعني هذا أنه لا ينبغي أن نخشى العنف، وهو قابلية المجتمع الجديد. وما يجب مراعاته هو أنه لا ينبغي استخدام العنف إلا عندما يقرر قادة الشعب أن الوضع أشد ما يكون مؤاتاة.

يجب أن نفهم تحولات نسبة القوى:
ما هو الوضع الأشد مؤاتاة؟ أنه يتعلق من الناحية الذاتية بعاملين متفاعلين معاً، يزدادان نضوجاً أثناء النضال، وهما: وعي ضرورة التغيير الثوري، والإمكان الحقيقي لمثل هذا التغيير. وإذا ما أضفنا إلى هذين العاملين الظروف الموضوعية، وهي أشد ما تكون مؤاتاة لنشر النضال في أمريكا كلها تقريباً، والتصميم الثابت على الظفر في الصراع، وميزان القوى العالمية الجديد، تتحقق عندها شروط العمل.
ورغم أن البلدان الاشتراكية بعيدة، فأن تأثيرها المؤاتي محسوس باستمرار بين الناس المناضلين في كل البلدان، ومثالها مثال تربوي متزايد الإلهام دون ريب للشعوب في كل مكان. قال فيدل كاسترو في 26 تموز من هذا العام، "ينبغي على الثوريين كافة، سيما في الوقت الحاضر، أن يتعرفوا إلى التغيير الذي تَمَّ حتى الآن في ميزان القوى العالمي، وأن يفهموه جيداً، ويدركوا أن مثل هذا التغيير هو في صالح نضال الشعب في مختلف البلدان. بدلاً من انتظار ثورة اجتماعية تحدث كالمعجزة في أمريكا اللاتينية من جراء هذا التغيير في ميزان القوى، فأن مهمة الثوريين كافة، وثوريي أمريكا اللاتينية على الأخص، هي أن يفيدوا ملياً من كل العوامل المؤاتية للحركة الثورية في ميزان القوى هذا، وأن يصنعوا الثورة!".
ثمة من قد يقول: "نقبل أن الحرب الثورية هي، في ظروف نوعية معينة، وسيلة مناسبة لتولي السلطة. لكن أين نستطيع إيجاد أولئك القادة الكبار، أمثال فيدل كاسترو، الذين سوف يقودوننا إلى الظفر؟" إن فيدل كاسترو، مثل الآخرين جميعاً، هو نتاج التاريخ. والقادة الحربيون والسياسيون الذين يقودون نضال الثورات في أمريكا، لو أمكن إدغامهم ليصبحوا رجلاً واحداً، سوف يتعلمون فن الحرب في ممارسة الحرب ذاتها. ليس هناك مهنة أو حرفة يمكن اتقانها بالكتب الدراسية وحدها. النضال، والحالة هذه، هو المعلم الكبير.
ليست هذه، طبعاً، مهمة بسيطة. ولابد من مواجهة بعض المخاطر الجدية على طول هذا النهج.
ثمة لحظتان في نمو النضال المسلح قد تكونان في غاية الحراجة بالنسبة للمستقبل الثوري. تحدث الأولى في المرحلة التمهيدية؛ وكيفية السلوك فيها سوف تدل على مدى تصميم القوى الشعبية على القتال، وهل أن هدفها محدد جيداً. عندما تهاجم الدولة البرجوازية مواقع الشعب، لابد من اللجوء إلى الدفاع الذاتي لأنَّ العدو يشن الهجوم في لحظة مؤاتية له، فإذا توفر الحد الأدنى والموضوعية، كان لابُدَّ لقوى الشعب أن تنتقل إلى الدفاع الذاتي، لكن لا يجوز لها أن تسمح بزجها في موقف تلقي الضربات سلبياً. كان لا يجوز لها اعتبار الدفاع الذاتي مجرد علاج يائس للمضطهَدين عندما يُحصرون في زاوية. حرب الغوار هي حركة دفاع ذاتي للشعب في وقت معين. أنَّ لها قابلية لمهاجمة العدو وينبغي بذل جهود كبرى لأنماء هذه القابلية، سوف تحدد هذه القابلية، مع مر الزمن، طابع حرب الغوار الخاص في تعبئة قوى الشعب. هذا يعني أن حرب الغوار ليست دفاعاً ذاتياً سلبياً، بل دفاعاً هجومياً، ومنذ اللحظة التي تُرى فيها الأمور على هذا النحو، تؤدي حرب الغوار في النهاية إلى تولي السلطة السياسية.
يجب أن نجبر الدكتاتورية على كشف قناعها:
أنها لحظة هامة. لا يمكن في مجرى التقدم الاجتماعي قياس الفرق بين العنف واللاعنف بعدد الطلقات المتبادلة. إنه يتعلق كلياً بالوضع الملموس والمختلج. ولكي يجتنب المرء استفحال وضع مناوئ، ينبغي له أن يحسن القبض على الفرصة الصحيحة ويعرف متى يستخدم قوى الشعب، أن يعرف ضعفها النسبي، وفي الوقت ذاته قوتها، لكي يرغم العدو على اتخاذ الخطوات اللازمة. ينبغي للمرء على هذا النحو أن يزيح التوازن القائم بين دكتاتورية الأوليغارشية الحاكمة والضغط الشعبي. يحاول النظام الدكتاتوري دائماً أن يبقي سلطانه في ظروف لا يضطر فيها لاستخدام العنف على نطاق واسع. ينبغي إرغامه على الظهور بلا قناع، أي إرغامه على الظهور على حقيقته: دكتاتورية عنيفة للطبقة الرجعية. يساعد ذلك على نزع قناعه ويشدد النضال إلى نقطة لا رجعة بعدها. ان مهمة القوى الشعبية هي إرغام النظام الدكتاتوري على تقرير أمره. وأن الطريقة التي تنجز بها القوى الشعبية مهمتها في كشف قناع الدكتاتورية - أما التراجع وأما خوض النضال - هي التي تقرر البداية الحازمة لعمل مسلح وطويل الأمد.
يتوقف على نمو القوى الشعبية اليومي ما إذا كان بالإمكان اجتناب اللحظة الحرجة الأخرى. أكدَّ ماركس باستمرار أنه متى بدأت العملية الثورية، وجب على البروليتاريا أن تهاجم وتهاجم بلا هوادة، إذا لم تشتد الثورة باستمرار، يمكن أن تعود أدراجها. أما إذا اعترى الأعياء المقاتلين، فسوف يأخذون بفقد الثقة، ويحتمل أن تنجح المؤامرات التي كثيراً ما تحيكها البرجوازية ضدنا. ربما كان من هذه المؤامرات إجراء انتخابات لتسليم السلطة إلى سادة مرائين آخرين أقدر من الدكتاتور الأسبق على استعمال الكلام المعسول، أو قيام بعض الرجعيين بانقلاب، يرأسهم على العموم العسكريون، وتدعمهم قوى تقدمية، على نحو مباشر أو غير مباشر. ثمة مؤامرات أخرى أيضاً، غير أن تحليل خططها التكتيكية ليس موضوعنا ههنا.
ان اهتمامنا الرئيسي هنا هو لفت نظر الجمهور إلى مخططات الأنقلابات العسكرية المشار إليها. كيف يستطيع أصحاب النزعة العسكرية أن يُسهموا في الديمقراطية الحقة؟ ما داموا مجرد أدوات تبقي بها الطبقات الرجعية والاحتكار الامبريالي سلطانها، ومادامت، كفئة اجتماعية، لا تعرف شيئاً إلاَّ حمل السلاح، ولا همَّ لها إلاَّ الحفاظ على امتيازاتها، فكيف يمكن توقع إخلاصها لبلادها؟
أحياناً، لما يكون الطغاة في موقف صعب، يصمم العسكريون انقلاباً ويسقطون الدكتاتور الذي أصبح في الحقيقة شديد الافتضاح. ينبغي إدراك أنهم يفعلون ذلك لأن الدكتاتور المباد أضحى عاجزاً عن صون الامتيازات الطبقية دون استخدام منتهى العنف، في حين أن ذلك، ليس في الوقت الحاضر وعلى العموم، بصالح الأوليغارشية الحاكمة.

يجب ألاَّ ننسى الهدف الأخير:
غير أن هذا القول لا يعني مطلقاً رفض استخدام رجال عسكريين، في حالات فردية، إذا كانوا قد قطعوا الصلة بطبقتهم الخاصة وخانوها في الواقع. لكن استخدامهم جائز فقط عندما يكونون قد نقلوا ولاءهم إلى القيادة الثورية، وبصفة مقاتلين، لا ممثلين عن فئة اجتماعية.
لاحظ إنجلس منذ زمن بعيد، في مقدمته للطبعة الثالثة من "الحرب الأهلية في فرنسا"، ان العمال خرجوا من كل ثورة شاكّي السلاح. فقال: لذا كان نزع سلاح العمال أولى فرائض البرجوازيين الذين كان زمام الدولة في أيديهم. من هنا كان ينشأ بعد كل ثورة يظفر بها العمال، صراع جديد ينتهي بهزيمة العمال". (نقلاً عن لينين في "الدولة والثورة").
تكرر هذا النوع من المد والجزر في العالم الرأسمالي طوال عشرات السنين، وقد تمت به من حين لآخر بعض الإصلاحات الشكلية وثمة أيضاً تراجعات استراتيجية. تنخدع البروليتاريا على هذه الصورة باستمرار بالخدع ذاتها التي ظهرت مرة بعد مرة في القرن الماضي.
ومن الخطر البالغ أيضاً أن يكون قادة حزب تقدمي مفرطي الغيرة على استخدام بعض وجوه شرعية البرجوازية، أملاً في الحفاظ على أكثر الظروف مؤاتاة للعمل الثوري في وقت ما، فيضيع عليهم بذلك الحد الفاصل (كما يُرى كثيراً في مجرى العمل)، وينسون أن هدفهم الاستراتيجي النهائي هو تولي سلطة الدولة

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 30-04-09, 08:49 AM

  رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

.
يمكن اجتناب هاتين اللحظتين الصعبتين في الثورة، اللتين حللناهما بإيجاز، ما دام الحزب الماركسي اللينيني القائد يعرف الخطر معرفة تامة في حقبة معينة، وما دام قادراً على تعبئة الجماهير إلى أقصى حد ممكن وعلى قيادتها في الطريق الصحيحة لحل التناقضات الأساسية.
دور المناطق الريفية:
افترضنا عند صياغة موضوعاتنا أنه يمكن أن يقبل الشعب احتمال فكرة النضال المسلح وأن يقبل اقتراح حرب الغوار وسيلة للقتال. لماذا نعتقد أن حرب الغوار هي الطريق الصحيحة في الظروف المتحققة في أمريكا اليوم؟ لماذا ينبغي أن تكون حركة الغوار هي وسيلة النضال الرئيسية في أمريكا؟ الأسباب الأساسية، في رأينا، هي الآتية:
أولاً: ما دام معلوماً أن العدو سوف يقاتل لصون سلطته السياسية، وجب النظر في إزالة جيش القمع. لكن إزالة هذا الجيش تقتضي وجود جيش شعبي يناهضه. لا يأتي هذا الجيش الشعبي إلى الوجود من تلقاء ذاته، أنما ينبغي تسليحه بالسلاح الذي يقدمه العدو. هذا ما يحدد للصراع طابعه الطاحن والمديد، ذلك الصراع الذي يتعرض فيه جيش الشعب وقادته إلى هجمات مستمرة من قوة عدوة متفوقة، إذ تعوزهم وسائل الدفاع والجؤول المناسبة.
من جهة أخرى، فأن النواة الغوارية العاملة في مناطق مؤاتية للنضال سوف تضمن سلامة واستمرار القيادة الثورية. ويمكن للمفارز المدنية التي تقودها قيادة الجيش الشعبي العامة أن تؤدي أعمالاً في غاية الأهمية. حتى لو حدث أن دمرت هذه الوحدات الصغيرة، فلن يتم سحق مركز الثورة العصبي (القيادة الثورية)، وسوف تمضي قيادة الثورة تبعث روح الجماهير الثورية انطلاقاً من المآزر الريفية، وتنظم قوى جديدة للمعركة القادمة.
ثم أن جهاز الدولة المقبل سوف يبدأ يتشكل في هذه المنطقة. وسوف يكون مسؤولاً عن ممارسة الدكتاتورية الطبقية الفعلية في المرحلة الانتقالية كلها. وكلما طال أمد الصراع، عظمت وتعقدت مسألة الشؤون الادارية. ينبغي لحل هذه المسألة تدريب جماعة من الملاكات لمعالجة هذه المهمة الصعبة وهي توطيد سلطة الدولة، وفي مرحلة لاحقة، تنمية الاقتصاد.
ثانياً: ينبغي النظر في الظرف العام لفلاحي أمريكا اللاتينية، وفي طابع نضالهم الذي يزداد انفجاراً ضد البنيات الاقطاعية، في وضع اجتماعي يتعاون فيه المستثمرون المحليون مع المستثمرين الأجانب.

سوف يكون النضال نضال حياة أو موت:
لنعد إلى بيان هافانا الثاني: "تحررت شعوب أمريكا في مطلع القرن الماضي من الاستثمار الاسباني، ولكنها لم تتحرر من الاستثمار. اضطلع الملاكون الإقطاعيون بسلطة الحكام الاسبان، وبقي الهنود يعانون عبوديتهم الشاقة، وبقي إنسان أمريكا اللاتينية عبداً بشكل أو بآخر، وماتت أدنى آمال الشعوب من وطأة الفئات الأوليغارشية الحاكمة وطغيان الرأسمال الأجنبي. هذه هي حقيقة أمريكا بدرجات متباينة من الاختلاف. تقع أمريكا اللاتينية اليوم تحت وطأة امبريالية أكثر وحشية وعتّواً وشراسة من الامبريالية الإسبانية.
"ما هو موقف الامبريالية اليانكية من الثورة الأمريكية اللاتينية ذات الحقيقة الموضوعية والمحتومة تاريخياً؟ انه التأهب لخوض حرب استعمارية ضد شعوب أمريكا اللاتينية. انه إنشاء جهاز من القوة، وإقامة الذرائع السياسية والأدوات شبه القانونية التي يوقع عليها ممثلو الفئات الأوليغارشية الرجعية، لاذلال نضال شعوب أمريكا اللاتينية بالحديد والنار".
لقد كشف لنا هذا الموقف الموضوعي أن لدى فلاحينا ينابيع قوة كامنة لم يستنبطها أحد، وأنه ينبغي استخدام هذه القوة لتحرير أمريكا.
ثالثاً: ينبغي النظر في الطابع القاري للنضال.
هل يمكن اعتبار هذه المرحلة الجديدة من تحرر أمريكا على أنها نزاع على سلطة الدولة بين قوتين محليتين في بعض الأرجاء؟ هيهات. سوف يكون هذا النضال معركة حياة أو موت بين قوى الشعب كافة وقوى القمع كافة. وتتوقع المقاطع المستشهد بها آنفاً هي الأخرى ذلك.

طابع النضال القاري:
سوف يتدخل اليانكيون لتدعيم مصالحهم، إذ أنهم يعتبرون الصراع في أمريكا حاسماً. انهم في الواقع قد ساهموا منذ الآن في تنشئة قوى القمع، وأقاموا منظمة للمكافحة على نطاق القارة. وسوف يفعلون ذلك من الآن فصاعداً بكل ما أُوتوا من قوة ويحاولون قمع قوى الشعب بكل ما لديهم من أسلحة الفتك. لن يسمحوا بتوطيد أي نظام ثوري، وإذا ما اشتد ساعد أي نظام ثوري في أحد البلدان، فسوف يهاجمونه، ويرفضون الاعتراف به، ويسعون جهدهم لشق القوى الثورية، ويرسلون كل صنوف المخربين إلى داخله، ويخلقون اضطرابات على الحدود، ويعبئون بعض البلدان الرجعية الأخرى في صف واحد لمناهضته، ويحاولون خنق البلد الوليد اقتصادياً. وقصارى القول أنهم سوف يسعون جهدهم لتدمير هذا البلد الوليد. وبالنظر لهذا الوضع في أمريكا، يصعب جداً لبلد واحد أن يحرز الظفر ويعززه. ينبغي مقاومة تحالف القوى القمعية بتحالف القوى الشعبية. وفي كل البلدان التي بلغ فيها القمع حداً لا يطاق، ينبغي رفع راية الانتفاض، وسوف تتخذ هذه الراية، نظراً للضرورة التاريخية، صفة شمول نطاق القارة. فمثلما قال فيدل إن جبال الآندس سوف تتحول إلى سييرا ماسترا جديدة، كذلك سوف تتحول أرض هذه القارة الواسعة إلى حلبة صراع حياة أو موت مع الحكم الامبريالي.
لا نستطيع التأكيد متى سوف يأخذ هذا الصراع صفة قارية، وكم سوف يدوم، ولكننا نستطيع التنبؤ أن هذا الصراع قادم ومظفر حتماً، لأنه النتيجة المحتومة للظروف التاريخية والاقتصادية والسياسية وليس ثمة وسيلة لتغيير مجراه. إن مهمة القوى الثورية في مختلف البلدان هي المضي قدماً في النضال حالما تنضج الظروف في بلدانها، وبصرف النظر عن الوضع في البلدان الأخرى. ونشر النضال هو الذي سوف يحدد الاستراتيجية العامة بالتدرج. أما التنبؤ بأن النضال سوف يتخذ صفة قارية، فهو نتيجة تحليل مختلف القوى المتصارعة. انه لا ينفي أبداً وقوع انفجارات للصراع بعضها مستقل عن بعض. وكما أن الصراع الذي ينبثق في مكان من بلد لابد أن ينتشر إلى البلد كله، كذلك سوف يؤدي شن حرب ثورية إلى نشر ظروف جديدة في البلدان المجاورة.

أوائل حرب الغوار:
يشتمل تطور الثورة المنتظم على تعاقب المد والجزر. المد في الثورة يعني الجزر لتضاد الثورة، وبالمقابل، لما تكون الثورة في نكوص يكون تضاد الثورة في نهوض. يكون موقف القوى الشعبية في مثل هذه اللحظة صعباً وعليها أن تبذل كل جهد لاتخاذ تدابير دفاعية بحيث تعاني الحد الأدنى من الخسائر. ولما كان الأعداء في غاية القوة وحائزين الصفة القارية، ينبغي أن نقتصر على تحليل نواحي ضعف البرجوازية النسبي في منطقة محلية وعلى صياغة قرارات تخص نطاقاً محدوداً. ولنبتعد عن التفكير بأن الفئات الأوليغارشية الحاكمة قد تشكل يوماً تحالفاً مع الشعب المسلح. لقد قرعت الثورة الكوبية جرس الخطر. ثمة استقطاب كامل لمختلف القوى، حيث يقف المستثمِرون في أحد الطرفين، والمستثمَرون في الطرف الآخر. وسوف يميل سواد البرجوازية الصغيرة إلى أي من هذين الطرفين تبعاً لمصلحة الخاصة ولكفاءة أي منهما في اكتسابه سياسياً إليه. وسوف يغدو الحياد حالة استثنائية. تلك هي الحرب الثورية.
لننظر كيف يمكن إحداث مركز لنشاط الغوار.
تنتقي وحدات صغيرة ضئيلة القوام بعض الأمكنة المؤاتية لنشاط الغوار، تستطيع التقدم منها للهجوم، والانسحاب إليها ملاذاً، وتبدأ أعمالها في هذه الأمكنة. لكن ثمة نقطة لابد من إيضاحها تماماً: لما تكون الغوارات لما تزل أميَل إلى الضعف، في المرحلة البدئية، عليها أن تركز عملها فقط على تثبيت أقدامها، والتآلف بالبيئة، وإقامة الصلة بالسكان، وتوطيد الأماكن التي يمكن تحويلها إلى مآرز.
وإذا ما أرادت وحدات الغوار أن تبقى حية في النضال بمثل هذه الظروف، لابد لها أن تحرز صفات ثلاثاً: الجؤول الدائم، واليقظة الدائمة، والاحتراز الدائم، ويؤدي سوء تطبيق هذه العناصر من التكتيك الحربي إلى صعوبة بقاء الغوارات حية. ينبغي التذكر أن بطولات المغاوير في مثل هذه الساعة تقوم على توسيع الهدف الذي سبق تحديده، وعلى اتيان تضحيات عظيمة في سبيل بلوغ الهدف.
لا تعني هذه التضحيات قتالاً يومياً أو نضال العدو كشافاً. انها أمرّ وأصعب احتمالاً على المغاوير، جسمياً وذهنياً.
قد يتعرضون لضربات قاصمة من قوى العدو، ويمكن أحياناً أن يهزموهم أو يقتلوهم بعد الأسر. وقد يتم اصطيادهم مثل طرائد الوحش في المناطق التي اختاروها لعملياتهم، وابقاؤهم في حالة استنفار مستمرة، خشية أن يكون العدو في أعقابهم. ينبغي أن يحترزوا من السذاجة في تصديق أي شيء، لأن الفلاحين المروعين، إذا ما أعوزتهم الذريعة أحياناً ورغبوا في التنصل بأنفسهم، قد يسلمونهم إلى جيش القمع. أما الظفر أو الموت. ليس ثمة احتمال آخر. الموت في هذه اللحظات حقيقة داهمة، في حين أن الظفر تُرهة لا يستطيع غير الثوري رؤياها.
تلك هي بطولة المغاوير. يتبع ذلك أن جؤولهم هو أيضاً شكل من القتال، وأن اجتناب القتال، في لحظة معينة، هو أيضاً شكل للقتال.

اتساع حرب الغوار:
مذهبنا في وضع المسألة هو، إزاء تفوق العدو العام، استخدام شكل من التكتيك يساعد على إحراز تفوق نسبي في نقطة مختارة، أما بتركيز قوة أكثر عدداً من العدو، أو باحتلال أرض مؤاتية، بحيث يتغير ميزان القوى. ويمكن ضمان إحراز الأظفار التكتيكية في مثل هذه الظروف، ويفضل الامتناع عن العمل عندما لا يكون التفوق النسبي كثير الوضوح. وما دام ثمة مجال لاختيار "كيف نقاتل" و"متى نقاتل"، ينبغي عدم خوض المعركة عندما لا يكون الظفر أكيداً.
سوف تمضي الغوارات تنمو وتتوطد في حركة سياسية عسكرية هائلة، ويتم التأريز بالتدريج، فيؤلف العامل الأساسي لاستمرار نمو الغوارات. وسوف تغدو المآزر معاقل لا يستطيع العدو ولوجها دون أن يدفع ثمناً غالياً من الاصابات. انها حصون الثورة وملاذ الغوارات التي تزداد إقداماً في شن الهجمات باتجاه المناطق البعيدة

 

 


   

رد مع اقتباس

إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
العصابات

أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
 

شبكـة الوان الويب لخدمات المـواقع