خديعة في مياه المتوسط.. حين دمرت هولندا وإنجلترا الجزائر وأساطيلها
خديعة في مياه المتوسط.. حين دمرت هولندا وإنجلترا الجزائر وأساطيلها
21/12/2022
في عام 1789م، وقعت الثورة الفرنسية الشهيرة التي غيَّرت شكل الخارطة الفكرية والثقافية، بل والجغرافيا السياسية للقارة الأوروبية، فقد أظهر نابليون بونابرت نفسه بصفته إمبراطورا عظيما مثل أباطرة الرومان، وقضى على الملكية في فرنسا، وقتل مُلوكها تحت المقاصل، وكان نابليون والمؤمنون بالثورة الفرنسية في فورة الحماس والاندفاع تلك يكرهون "القوى الرجعية" في القارة الأوروبية، وهي الإمبراطوريات القديمة التي اعتنقت مبدأ "الحفاظ على الوضع الراهن" محددا للعلاقات الدولية في القارة العجوز.
مسح نابليون الحدود بقواته وجنوده، وطوال عشرين عاما استطاع احتلال بلجيكا وهولندا وأجزاء واسعة من ألمانيا وإيطاليا ومالطا، بل نزل بقواته إلى مصر بُغية احتلالها والسيطرة عليها لتأسيس الإمبريالية الفرنسية في الشرق الأوسط. ولكن حروبه التي استمرت لأكثر من عشرين عاما جرَّت الخراب والدمار والقتل، وأدت إلى تحالف أعدائه ضده، مثل النمساويين والألمان والإنجليز والروس والهولنديين والبلجيكيين وغيرهم. وقد تمكَّنوا من القضاء عليه وأسْرِه بواسطة القوات البريطانية في معركة "واترلو" الشهيرة في صيف يونيو/حزيران 1815م. وقد طويت صفحة نابليون حين قرر خصومه نفيه إلى جزيرة "سانت هيلينا" الواقعة في المحيط الأطلسي، حيث قضى نحبه فيها عام 1821م.
مؤتمر فيينا 1815م
(مواقع التواصل الاجتماعي)
لكن القضاء على نابليون لم يحل كل المشكلات العالقة داخل القارة الأوروبية التي أخذت تبحث عن السلام والأمن وإعادة البناء، ولهذا السبب اتفقت القوى الأوروبية وعلى رأسها روسيا وبريطانيا والنمسا وألمانيا على عقد مؤتمر في النمسا قُبيل وبُعيد استسلام نابليون للتباحث حول شؤون الأمن والسلام، ومناقشة وضع فرنسا وإعادة الحكومة الملَكية إليها من جديد، مع ترسيم الحدود بين معظم دول القارة تقريبا. بيد أن الدول الأوروبية الكبرى لم تناقش فقط المسألة الفرنسية بعد القضاء على نابليون بونابرت والأوضاع العامة في أوروبا وموازنات القوى فيها، وإنما تطلعت كل دولة إلى جنوب المتوسط، لا سيما فرنسا وبريطانيا، حيث ظفرت بريطانيا تحديدا بمالطا ورأس الرجاء الصالح وجزيرتَيْ موريشيوس وسيلان[1].
تنافست بريطانيا وفرنسا أيضا على شمال أفريقيا العثماني من مصر وحتى الجزائر، إذ أدرك كلٌّ منهما مدى ضعف الدولة العثمانية في ذلك الوقت والتحديات التي تواجهها، بالإضافة إلى تغيير الأوضاع في جنوب البحر المتوسط الذي هيمنت عليه البحرية الجزائرية، وفكاك الأسرى المسيحيين الأوروبيين الذين سقطوا في يد العثمانيين والجزائريين. وقد تناول مؤتمر فيينا هذه المسألة لا سيما من الجانب البريطاني[2].
(مواقع التواصل الاجتماعي)
ولكي نفهم هذه المسألة علينا أن نعلم أن ولاية الجزائر العثمانية منذ دخولها في حوزة الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي لعبت دورا مهما في شؤون البحر المتوسط حتى القرن السابع عشر والثامن عشر؛ إذ عُدَّ البحر المتوسط آنذاك بحرا إسلاميا. وإذا ما أرادت الدول المسيحية أن تمر منه، كان عليها أن تحصُل على ترخيص من الدولة العثمانية عن طريق اتفاقية تُعقد بين الطرفين، وإذا رفضت هذه الدول شروط العثمانيين فإن الدولة العثمانية ممثلة في البحرية الجزائرية تواجه هذه الدول بالقوة المسلحة وتمنعها من التجول والتجارة في البحر المتوسط[3].
ولما كانت معظم دول أوروبا لا تُقارن بقوة البحرية العثمانية، فقد اضطرت في كثير من الأوقات إلى الرضوخ لشروطها ودفع رسوم المرور، لكنها استغلت أوقات ضعف ولايات العثمانيين في شمال أفريقيا لا سيما في الجزائر لشن هجوم خاطف بواسطة فرنسا وإسبانيا. ولوحظ أن هذه الهجمات نُفِّذَت في أوقات ضعف الجزائريين وتراجع أساطيلهم، كما حدث في القرن الثامن عشر الميلادي.
البحرية الجزائرية تُرعب إنجلترا وأوروبا
(مواقع التواصل الاجتماعي)
في مؤتمر فيينا، عرضت بريطانيا مسألة الجزائر، وطالبت بضرورة العمل الجماعي لمواجهة ما سمّته "قرصنة المغاربة"، وذلك من خلال القضاء على حكومة الدايات (جمع داي، وهم الولاة التابعون للدولة العثمانية في الجزائر)، وفرض حكومة أخرى تحترم المبادئ الدولية. ولما كانت بريطانيا ودول أوروبا تعلم بضعف البحرية العثمانية والجزائرية، وتحرص في الوقت نفسه على حماية "الوضع الراهن" بما في ذلك وضع الدولة العثمانية؛ اقترح الإنجليز فرض حكومة جديدة في الجزائر مع إبقاء تبعيتها للدولة العثمانية. وقد طرحت بريطانيا الأمر على المجتمعين في مؤتمر فيينا عامي 1814 و1815م، فيما يشبه، للغرابة الشديدة، ما قامت به تجاه ولايات الدولة العثمانية التي احتلتها بريطانيا فيما بعد مثل مصر وأجزاء واسعة من السودان وبعض دول الخليج العربية وفلسطين والعراق، قبل أن تُقسَّم أملاك العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى.
لم تشأ دول أوروبا المجتمعة الدخول في صدام مع الدولة العثمانية فيما يبدو، لكن إنجلترا التي "أخذت ترى نفسها من دول البحر المتوسط بعد أن سيطرت على بعض الجُزر فيه كمالطا والجزر الأيونية (نسبة إلى البحر الأيوني وهو أحد أفرع البحر المتوسط)، وكانت قد انتزعت جبل طارق سابقا من إسبانيا، لم يرضها ذلك الصمت أمام حملات الجزائر المتواصلة في عهد الرايس (الرئيس) حميدو ضد السفن الإسبانية والبرتغالية، إذ كانت الدولتان حليفتيْها"[4]. (و"الرايس" رتبة عسكرية في البحرية العثمانية "Raïs").
عُرف الرايس حميدو بمهارته وقدرته وجسارته، وآمن إيمانا عميقا بأهمية أن يخضع البحر المتوسط لسيادة المسلمين. (مواقع التواصل الاجتماعي)
والرايس حميدو أو محمد بن علي الجزائري كان قد بلغ منصب "رايس" البحر للجزائر، وهو أعلى منصب بحري، وعُرف حميدو بمهارته وقدرته وجسارته، وآمن إيمانا عميقا بأهمية أن يخضع البحر المتوسط لسيادة المسلمين. ولهذا السبب كان دائم الهجوم على السفن الإيطالية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية، بل والأميركية نفسها، فقد خضعت الأساطيل الأميركية في البحر المتوسط في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن التاسع عشر لشروط الجزائر، لا سيما اتفاقية عام 1776م، وذلك حتى عام 1815م وهو عام استشهاد الرايس حميدو[5]. وهكذا، ظلّت البحرية الجزائرية العثمانية تُشكِّل تهديدا حقيقيا وكبيرا للقوى الإمبريالية العالمية التي بحثت عن التوسع آنذاك، ومنها إنجلترا.
ورغم عدم تحمس معظم المجتمعين في مؤتمر فيينا لمهاجمة الجزائر عسكريا، فقد أخذت إنجلترا على عاتقها تنفيذ هذه المهمة، وعهدت بها إلى رجل عسكري اسمه اللورد إيكسموث على رأس الأسطول الإنجليزي للمطالبة بالأسرى الذين أخذهم العثمانيون في معارك البحر الأيوني (أحد أفرع البحر المتوسط) سابقا، فتكون بذلك ضربت عصفورين بحجر واحد، أعادت أسراها من العثمانيين ودمَّرت البحرية العثمانية الجزائرية وفتحت الطريق لأساطيلها التجارية والعسكرية لزيادة نفوذها في البحر المتوسط.
هجوم مخادع ودمار واسع
عندما سمع والي الجزائر العثماني آنذاك عمر باشا بسير الوحدات البحرية الإنجليزية، قبض على القنصل الإنجليزي في الجزائر وزجَّ به في السجن، وبدأ بزيادة الاستحكامات الدفاعية. وقد عرض الأسطول الهولندي مشاركة الإنجليز في هجومهم على الجزائر وجرت الموافقة على العرض، وانتقلت هذه الأساطيل من الشمال إلى البحر المتوسط حتى أصبحت أمام الجزائر العاصمة في 26 أغسطس/آب 1816م. وفي صباح اليوم التالي أرسل القائد اللورد إيكسموث إلى والي الجزائر "داي" يطالبه بإطلاق سراح القنصل الإنجليزي، وفكاك الأسرى الأوروبيين والمسيحيين، وقد أعمل الإنجليز الخديعة، حيث تقدمت الأساطيل الإنجليزية والهولندية من الميناء تحمل الراية البيضاء للتفاوض، وقد سُمح لهم بالفعل بالتقدم، إذ كان عُرفا معمولا به آنذاك[6].
(مواقع التواصل الاجتماعي)
ولكن حين تقدَّمت الأساطيلُ من ميناء الجزائر بدأت فجأة بالقصف الشديد المتواصل الذي شكَّلَ عنصر مفاجأة للمدفعية الجزائرية، فأسفرت الخديعة والقصف الواسع عن تدمير شبه كامل للميناء، وقتل عدد كبير من العساكر بل ومن السكان المحليين الذين جاءوا للمشاهدة؛ فلم يكن في ذهن أحد من المدنيين والعسكريين الجزائريين والعثمانيين أن يدخلوا في معركة ضد الإنجليز والهولنديين من قبل أن يأتيهم الرد الرسمي من الوالي عمر باشا، وكان غالب ظنهم أن الأمور ستُحل بالتفاوض كما حدث سابقا. وإمعانا في إنزال الهزيمة أحرق الإنجليز كل السفن الجزائرية الراسية في الميناء.
وقد علَّق القنصل الأميركي في الجزائر آنذاك "وليام شالر" في مذكراته على تقاعس الوالي عُمر باشا، وعدم إدراكه خديعة الإنجليز والهولنديين إلا متأخرا، بقوله: "تصرَّف الداي (الوالي) تصرفا يتسم بقلة التصميم والحزم ولا يليق بشخصيته، فإنه لم يكتفِ بأن يُعيدَ رسول القائد البريطاني بدون جواب على إنذاره، بل إنه سمح في الوقت نفسه أيضا للأسطول المشترك بأن يختار المواقع الملائمة لقصف المدينة دون أن يخطر في باله مقاومته"[7].
كانت النتيجة المباشرة لهذه الهزيمة الساحقة أن الداي عمر باشا لم يجد بُدا من النزول على شروط الإنجليز دون العودة للباب العالي في إسطنبول. وكانت شروط الإنجليز التي وافق عليها الوالي العثماني تتمثل في وضع حد لاسترقاق الأوروبيين، وإطلاق سراح كل الأسرى المسيحيين الأوروبيين في الجزائر وكان عددهم نحو 1200 أسير، بل ودفع تعويضات للذين دفعوا مبالغ مالية لافتداء الأسرى المسيحيين. وقد لاحظ المؤرخ الجزائري مبارك الميلي أن الإنجليز لم يطالبوا بوضع حد "للقرصنة الجزائرية" في البحر المتوسط كما طالبوا سابقا في مؤتمر فيينا؛ لأنهم رغبوا في استمرارها لإعاقة منافسيهم الفرنسيين في البحر المتوسط[8].
(مواقع التواصل الاجتماعي)
إن الانتصار الإنجليزي والمعاونة الهولندية الناجحة التي أجبرت ولاية طرابلس العثمانية على دفع إتاوة سنوية قدرها 5000 دولار لهولندا مَثَّلت حدثا عظيما في إنجلترا؛ إذ طالما كانت البحرية العثمانية والجزائرية تحديدا منذ زمن بربروس وعروج في القرن السادس عشر وحتى الرايس حميدو في الربع الأول من القرن التاسع عشر من أكبر التحديات وأكثرها إرعابا للغرب الأوروبي كله، بل وللولايات المتحدة الأميركية من خلف الأطلسي التي هُزمت أساطيلها على أيدي الجزائريين في البحر المتوسط، ودفعت الإتاوة السنوية للدولة العثمانية وإيالة الجزائر. ولهذا السبب احتفلت بريطانيا احتفالا لم تعده من قبل، أو كما أورد القنصل وليام شالر: "في إنجلترا اعتُبرت نتيجة معركة الجزائر نصرا باهرا يُخوّل بريطانيا الحق لاعتراف جميع الدول بفضلها، وبهذه المناسبة وُزِّعت ألقاب ونياشين، ومعاشات بدون حساب وبطريقة غير معهودة في المملكة، وكل ذلك في احتفالات ومهرجانات قومية"[9].
ولئن كان للنصر مذاقه وفرحه وابتهاجه القومي في إنجلترا وهولندا، فقد كان للهزيمة أثرها في نفوس الجزائريين والعثمانيين. فلم تمضِ أشهر قليلة حتى ثار الجند على عمر باشا وقتلوه وقرروا تعيين رجل أقوى بأسا وشخصية منه، وفي ذلك يقول الحاج أحمد الشريف الزهار نقيب الأشراف في الجزائر في تلك الفترة عن عمر باشا: "كانت دولته وأيامه كلها مصائب؛ الجراد، والغلاء، ومصيبة حميدو، ومصيبة الإنجليز"[10]. وبعد مقتله اختار العساكر العثمانيون "الداي حسين" مكانه، وكان الداي حسين شخصية أقوى شكيمة وبأسا من عمر باشا، وهو الذي عزَّز دفاعات وأسوار المدينة، وبنى أسطولها، ووقف أمام التهديدات والأساطيل الفرنسية والإنجليزية في البحر المتوسط، حتى إنه وقف بصلابة أمام حملة بحرية عسكرية إنجليزية فرنسية مشتركة عام 1819م، وحملة إنجليزية عام 1824م، ولكن سقطت في عصره الجزائر فريسة للاحتلال الفرنسي الذي دام أكثر من 130 عاما.
والحقيقة أن هذه التطورات الجديدة في جنوب البحر المتوسط دفعت فرنسا لإدراك الأطماع البريطانية في الجزائر، فكانت السبب في التعجيل باحتلالها عام 1830م. ومع كل هذه التطورات والأحداث عاشت الدولة العثمانية في إسطنبول حالة من الضعف والانكفاء، وكل ما استطاعت فعله منذ هجوم الإنجليز والهولنديين أنها أمدَّت الجزائر بثلاث سفن حربية فقط[11]. ويرى الباحث أرزقي شويتام[12] أن الحملة الإنجليزية الهولندية كانت سببا في وضع حدٍّ للانتعاش الذي عرفته البحرية الجزائرية في نهايات القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر تحت قيادة الرايس حميدو، كما أن هذه الحملة تمكَّنت من تحرير عدد كبير من الأسرى المسيحيين دون مقابل، مما ضيع على الجزائر أموالا طائلة، بل وكانت سببا مباشرا من أسباب إنهاء الحكم العثماني في الجزائر على يد الفرنسيين فيما بعد.
______________________________
المصادر
[1] صلاح أحمد هريدي: من الثورة الفرنسية حتى الحرب العالمية الأولى ص111 وص118.
[2] مبارك الميلي: تاريخ الجزائر في القديم والحديث ص262، 263.
[3] ليلى الصباغ: تاريخ العرب الحديث والمعاصر ص253، 254.
[4] ليلى الصباغ: السابق ص254.
[5] علي تابليت: الرايس حميدو أميرال البحرية الجزائرية ص5 وما بعدها.
[6] مبارك الميلي: السابق 3/263.
[7] مذكرات وليام شالر ص156.
[8] الميلي: السابق ص263، 264.
[9] مذكرات شالر ص158.
[10] مذكرات أحمد الشريف الزهار ص127.
[11] ليلى الصباغ: السابق ص255.
[12] أرزقي شويتام: نهاية الحكم العثماني في الجزائر وعوامل انهياره ص158.
يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية