كل ما يخص إنتخابات الرئاسة الأمريكية ( المزمع في 05 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024م) (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 4 - عددالزوار : 165 )           »          البحرية الهندية تعترض سفينة اختطفها قراصنة صوماليون (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          مجزرة كبكب (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          محمد مصطفى - سياسي فلسطيني (رئيس الحكومة الفلسطينية الـ19) (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          "الكتاب الأحمر".. الدستور السري للدولة التركية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          الجيش الأميركي يرسل تعزيزات عسكرية لقواعده في سوريا (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          كيف أطاحت البروباغندا البريطانية بالرئيس الغاني كوامي نكروما؟ (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          نظام الحكم في روسيا (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          فلاديسلاف دافانكوف - سياسي روسي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          هل أجهضت مالي حلم الأزواديين في الانفصال؟ (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 4 - عددالزوار : 81 )           »          حزب البعث العربي الاشتراكي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 77 )           »          حزب البعث العراقي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 1 - عددالزوار : 84 )           »          تدريبات عسكرية روسية صينية إيرانية قرب بحر عُمان (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          أنباء عن استهداف سفينتين في البحر الأحمر (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 81 )           »          رفع علم السويد في مقر الناتو بعد انضمامها للحلف (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 80 )           »         



 
العودة   ..[ البســـالة ].. > جـناح التــاريخ العسكــري و القيادة > قســـــم التــاريخ العـســــكــري
التعليمـــات قائمة الأعضاء وسام التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة
 


الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث»

قســـــم التــاريخ العـســــكــري


إضافة رد
 
أدوات الموضوع

قديم 16-01-22, 07:03 AM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث»



 


الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «1»

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي:
«مؤلف كتاب» زنجبار : شخصيات وأحداث


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

خيَّم على الجميع جوٌ من الخوفِ والفزع والوجوم، بعد أن استعادوا إلى ذاكرتهم أحداث العُنف العُنصري، التي وقعت في يونيو من عام 1961م، وراح ضحيتها ستة وثمانون شخصًا، وجَرح وإعاقة المئات، أغلبهم من العُمَانيين والحضارمة والشيرازيين.
الجو العام كان مشحونًا بكثيرٍ من التوتر والعصبيةِ والاستنفار. شُوهِد بعضًا من العرب يركُضون وهم يحملون البنادق في أيديهم، مُيَمِمينَ وجهتهم شطر مركز شرطة ماليندي؛ بينما حَرصَ البعض الآخر على إغلاق الأبواب على أهل بيتهِ بإحكامٍ والبقاء معهم في الدّاخل لحمايتهم من أعمالِ شغب مُرتقبة، والتي مثَّلت أقصى ما كان يخطر في حُسبانهم. حقًا، لم يكن بمقدورِ الغالبيةِ العُظمى من الآمنين المطمئنين الاستيعاب أن الدولةَ كانت في صددِ الانهيار التام لنظامها؛ وبالتبعية، انهيار جذريٍّ لمستقبلهم المعيشي.
عاش المجتمعُ الدولي، حالةً من الذهولِ والاستغراب عند سماعهم بخبرِ الإطاحة بالحكومة الشرعية، التي استقلّت حديثًا عن سلطة الحماية البريطانية، التي دامت لثلاثةٍ وسبعين عامًا.
عبارات القائد المزعوم، لما أطلق عليه «ثورة»، جون أكيلُّو (الأوغندي) المعلنة لسقوط النظام السّلطاني، تلقاها عرب زنجبار، وكذا الأقلِّيات العرقية الأخرى كالسهامِ في صدورهم، لما أوحى لهم ذلك من جُل معاني الدمار والهلاك.
«أنا المشير أوكيلو! استيقظ .. أنت أيها الإمبريالي، لم تعد هناك حكومة إمبريالية على هذه الجزيرة، هذه الآن حكومة المقاتلين الأحرار».
«استيقظ أيّها الرجل الأسود. فليأخذ كلٌّ منكم سلاحًا وذخيرة ويقاتل فلول الإمبريالية على هذه الجزيرة. لا تتراجعوا عن قراركم أبدًا، إذا ما أردتم أن تكون هذه الجزيرة لكم». المرجع: كتاب أوكيلو (ثورة في زنجبار).
وبتاريخ 14 يناير 1964م، أصدر أوكيلو البيان التالي: «الدولة أصبحت الآن تدار بمعرفتنا نحن الجيش. ويتوجب على كل مواطن، أيًا كان عِرقهُ أو بشرته: أسود، أو بني، أو أبيض، أن يحترم النظام. سأتخذ تدابير مُشددة بمقدار (88) مرة عما كانت عليه من ذي قبل، لمواجهة كل من لا يلتزم بالنظام. الحكومة التي أقصيناها أمس الأوّل، كانت حكومة المنافقين والنّهابين والخُبثاء الذين لا يحترمون الإنسانية. نحن أناسٌ نحمي ونحترم البشر والحيوانات وسائر المخلوقات».
بهذا البيان، أُسدِلَ الستار عن لؤلؤةِ الممالك، دون أن يهتزُ جَفنُ أيٍّ من دول العالم ولا المنظمات الدولية لنجدتها.. وبالبيان ذاته، غربت شمس أندلس إفريقيا الشرقية، ذاتَ الأصلِ العُمَاني، بغزوٍ دموي، قاده – ظاهريًا – جون أُكيلّو، وجنى ثماره رئيس المعارضة، عبيد أماني كارومي؛ وراح ضحيته ما يقدر بسبعة عشر ألف نفسٍ، أغلبهم من المسلمين العرب، العُمَانيين والحضارمة، ظلمًا وعدوانًا، دون أن تُسمعَ أصواتٌ للشّجبِ والاستنكار.
وفي محاولةٍ منا للمسِ أطراف قضية سقوط زنجبار المأساوية، ومن المسئول عنها، كان لابد من الجلوس والتحقيق مع من عايشَ تلك الأحداث من مواقعِهم السياسية.


❋ ثورة أم انقلاب؟
وقبل الخوض في هذا الجانب، فمن الأهمية بمكان أن نُعرّج أولاً على تحديد أنسب المصطلحات وأكثرها دقةً للتعبير عن ذلك الحراك العنيف الذي أدى إلى إسقاط النظام. البعض يتّجه إلى تسويغ ما حدث فيطلق عليه «ثورة»؛ لإضفاء المدلول الشّعبي. وكأنهم بذلك يقولون إن تلك كانت هي «الإرادة الشعبية». ولما كان الثابت يشير إلى أن تدخلاً أجنبيًا هو الذي أطاح بالنظام، ولم يفعل ذلك شعب زنجبار البتة؛ ولا قوة مسلحة وطنية؛ فإن هذا كافٍ لاستبعاد مصطلحي الثورة وكذا الانقلاب؛ وتأكيد مصطلح «الغزو» والعدوان الخارجي؛ وذلك من باب تسمية الأحداث بمسمّياتها الفعلية.


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

❋ سليمان الخروصي يجترُّ الذّكريات
بالجلوس مع نائب مفوض الشرطة، سليمان بن سعيد الخروصي (1919 ـ 2005م)، وجدنا ذاكرته تفيضُ بكثيرٍ من تفصيلات الحدث المشؤوم، فبعباراتِه الدقيقةِ القاطعة، وبعرضِه المتميّز والمتجرّد؛ نقَلَنا وإيّاه إلى قلب الحدث وأجوائه فقال بدايةً، وبعد تنهيدةٍ طويلة: «قدَّرَ اللهُ وما شاء فعل»، إن ما أصابنا حتمًا ما كان ليخطئنا، وما أخطأنا ما كان ليصيبنا، ولا شك أن الله عزَّ وجَل أراد لنا من وراء ذلك الابتلاء الذي أعقبه التشتت، الخير الوفير، الظاهر علينا بجلاء في وطننا الأم عُمَان .. فلقد صبرنا على ما أصابنا، فعوَّضَنا الله خيرا. بهذه الروحِ الآمنة بقضاء الله وقدره، استهلَّ الخروصي حديثهُ، مُشيرًا إلى أن قوةَ الغوغائين المرتزقة ما كانت لتؤدي إلى الإطاحة بالحكومةِ الشرعية، لولا الخيانة التي مارسها بعضُ المسؤولين الإنجليز في الدولة.

وتوضيحًا لذلك، يُشيرُ الخروصي إلى أنه راجَت قبل إسقاط النظام، ببضعةِ أيامٍ معلوماتٌ وهمساتٌ قوية عن احتماليةِ قيام حزب المعارضة، الأفروشيرازي، ببعض أعمال شغب في مدينة زنجبار. وعلى مستوى جهاز الشرطة، فإن تلك المعلومات بلغت المسؤولين قبل ذلك، وتحديدًا في الأيام التي سبقت الاستقلال. مؤكدًا أنهم وضعوا نُصب أعينهم احتمالية بلوغ تلك الأعمال مستوى محاولة قلب نظام الحُكم. وعليه، فإن الخروصي يُحمل مُفوّض الشرطة، جاك سوليفان (أيّ المفتش العام، بمفهومنا الحالي)، إلى جانب أسبابٍ أُخرى، مسئولية سقوط زنجبار، وفق التوضيح التالي.
من جملة الحقائق التي تجلّت، في فتراتٍ لاحقة، تؤكد أن مُخطّط الإطاحة بالحكومة الشرعية كان من المقرّر تنفيذه يوم احتفالات البلاد بالاستقلال، إلا أن أُكيلّو، آثرَ عدم تكدير جو الاحتفال ـ حسبما يدَّعي في كتابه ـ سيّما بالنسبةِ للضيوف الرسميين القادمين من الدول الصديقة والحليفة. والظاهر يُشير إلى أن أُكيلّو، خشِيَ من احتمالية تدخل بريطانيا فيما لو حاول تنفيذ المخطَّط في ذلك اليوم؛ إذ كان على رأس الحضور، الأمير فليب، دوق أدنبرا. كما حضر الاحتفال كذلك شخصياتٌ من سبعين دولة، من ضمنها رئيس مجلس الشّعب المصري، آنذاك، محمد أنور السَّادات. صحيفة الأهرام المصرية، بتاريخ 10 ديسمبر 1963م.


❋ خيانة مُفوِّض الشُرطة
قبل الأحداث بيومين اثنين، أصدر مفوض الشرطة، جاك سُليفان توجيهاته إلى كلٍّ من سليمان بن سعيد الخروصي بصفته الرجل الثاني في الشرطة، بالذهاب إلى منطقة تُسمى: أُرُوة Urowa، التي تبعد عن مدينة زنجبار مسافة (24) ميلاً، على الساحل الشرقي؛ وإلى محمد سالم السكيتي بصفتهِ الرجل الثالث في الشرطة، بالذهاب إلى منطقة تُسمى ماكوندوشي على بعد (41) ميلاً من المدينة، باتجاه الجنوب الغربي؛ وذلك، بحجّة جسّ نبض الشارع في تلكما المنطقتين، المعروفتين بشدّة تأييدهما لحزب المعارضة. أخذ الرجلان أسرتيهما، كل على حدة، لإنجاز المهمةِ الحيوية الموكلة إليهما؛ وفي الوقت نفسه، وجداها فرصةً سانحة لقضاء وقتٍ ممتع، سيّما وأن المأمورية تزامنت وعطلة نهاية الأسبوع، السابقة لحلول شهر رمضان المبارك.


❋ الجو العام في اليوم الأخير
إن الجو العام في اليوم الأخير، كان مُلبّدًا بكثيرٍ من الغموض والغليان. فالجمهور الذي كان قد سمع همسًا يدورُ في الأوساط، حول احتمالية قيام حزب المعارضة بأعمال شغب، شاهد في ذلك اليوم فصائل من الشّرطةِ المتحرّكة تقوم بعمليةٍ لاستعراضِ القوة. تمثّلت العملية، في تسيير فصائل الشرطة المتحرّكة، بملابسهم العسكريّة المميّزة، يجوبون شوارع المدينة هرولةً، في صفوفٍ منتظمة؛ تحتضن أيديهم البنادق أمام صدورهم، في زاويةٍ مائلة ـ كما تقضي أصولُ الهرولةِ بالسّلاح ـ بينما كانت خطوات أقدامهم المنتظمة، الضّاربة للأرض، ضربة رجُلٍ واحد، تُسمع من مسافاتٍ بعيدة. بدأت هذه العملية في تمام الثانية عشرة ظهرًا، واستمرت إلى الخامسة عصرًا، حيث أعلن مُفوّض الشرطة عندئذٍ انقشاع المخاوف الأمنية، وأن الوضع الأمني أصبح في حالة استتباب؛ وأمر بإعادة القوة إلى قيادتها. رغم أن عملية استعراض القوة هذه لم تستمر طويلاً، إلاّ أنها نجحت، إلى حدٍّ بعيد، في بثّ الطمأنينة في نفوسِ العامة؛ كما كانت سببًا في انقشاع سحابة التوتّر لدى بعض الجهات المسئولة.


❋ الدولةُ في وضعٍ لا دِفاعي
في صبيحةِ يوم الأحد، الموافق 12 يناير 1964م، وفور الانتهاء من صلاة الفجر تفاجأ الخروصي بشيخ المنطقة التي بُعِث إليها، يطرق باب بيته، ويبلغه باندلاع أعمال شغبٍ في مدينة زنجبار، وأن الوضع هناك أصبح في غايةِ الاضطراب.

هَمَّ الخروصي من فوره بالخروج من المنزل ومعه أسرته، مُيَمِّمًا وجهته إلى مدينةِ زنجبار لمواجهةِ الموقف. وعندما بلغ قرية مويرا، التي تبعُد حوالي ستة أميال (عشرة كيلومترات) عن قلب المدينة، آثر الوقوف عند مركز الشرطة لغايات الاطمئنان على الوضع الأمني في المدينة، بعد أن كان قد سمعَ لتوهِ في الإذاعة خبر الإطاحة بالحكومة.
يُذكر أنه، من ضمن النداءات التي كثيرًا ما رددها في الإذاعة القائد المزعوم للحركة: نداء إلى الحكومة بالاستسلام؛ وآخر إلى السلطان بالمبادرة بشنق نفسهِ بنفسه.
يقول أنتوني كلايتون في كتابه (ثورة زنجبار، وآثارها الكارثية)، أن النداءات الإذاعية الملتهبة أو ما عُرفت بالحرب الإذاعية، هي نوعٌ من المناورة، يقصد منها إضعاف قوة الخصم.
استخدم هذا النوع من المناورات، للمرة الأولى، في الحرب الأهلية الأسبانية؛ ولم يُسجل التاريخ أيّ تجربة أخرى مماثلة، إلى أن استخدمت في الإطاحة بالحكومة الزنجبارية في عام 1964م. كما استخدمت لاحقًا في الحرب الأهلية الرواندية، في عام 1994م، بين الهوتو والتوتسي.
كان ابن شقيق مساعد مفوض الشرطة، الملازم محمد بن علي الخروصي، ضابطًا لهذا المركز ـ آنئذٍ ـ وكان على رأسِ عملهِ، ومعه اثنا عشرَ شُرطيًا مُسلَّحين بالبنادق. اتصل سليمان الخروصي بمفوض الشرطة سُليفان، الذي كان متحصنًا في مركز شرطة ماليندي، يسأله عن الوضع الأمني، فرد عليه بأن مدينة زنجبار ملتهبة، وأضحت في قبضة الغوغائيين القائمين على إطلاق النار على كل من يتصدى لهم دون تمييز، ونصحه بأن يبقى متواريًا عن الأنظار، حفاظًا على حياتهِ.


وتظهر خيانة مُفوِّض الشرطة سُليفان، عندما اتصل به الخروصي ليبلغه بأنه أصبح مُسيطِرًا على الوضع تمامًا في مركز شرطة «مويرا»، وطلب منه تزويدهُ بوسيلة لنقلهِ ومَن معه من الرجال لدعمِ ومُساندة مركز شرطة ماليندي، الذي كان لا يزال يقاوم، فردّ عليه القائد مُكرِّرًا ما سبق ذِكره، بتعذُّر الوصول إلى المدينة، نظرًا لغلقِ الطرق. هنا طلب منه الخروصي أن يرسل له قاربًا إلى حيث استراحة جلالة السُّلطان، المسمّاة «قصر السّعادة»، لنقلهم جميعًا إلى المدينة، إلا أنه تعذَّر أيضًا بحجة انشغال القوارب بأعمالٍ أمنيةٍ أخرى؛ ليتضح للخروصي، في وقتٍ لاحق، بأن القائد كان قد خصَّصَ قوارب الشرطة القليلة العدد، لنقل الأُسرِ البريطانية إلى البواخر لتهريبها.


❋ ماذا فعل سُليفان بعد؟
لم تتوقف خيانة جاك سُليفان عند مجرّد إبعاد أعلى رتبتين قياديتين عن مدينة زنجبار، وإنما امتدّت دناءته إلى الاستخفاف بتوجيهات رئيس الوزراء أيضًا.

ففي مساء يوم الجمعة، الموافق 11 يناير 1964م، أي بعد مضي اثنين وثلاثين يومًا على الاستقلال، كان رئيس الوزراء قد تلقّى معلومات شبه قاطعة بأعمال الشغب المرتقبة؛ فنقل تلك المعلومات إلى مُفوّض الشرطة، الذي استدعاه للمثولِ أمامه شخصيًا، وكلَّفه بأن يتَّخِذ تدابير أمنيةً مناسبة، لضمان أمن البلد.
طمأن مفوّض الشرطة رئيس الوزراء، بقوله: «لا تقلق، سيكون الوضع تحت السيطرة». وبدلاً من أن يعمل على تأمين السلاح والذخيرة لأفراد الشرطة، اكتفى بإعلان حالة تأهب من الدرجة الثالثة فقط.


❋ كيف كانت المقاومة الوطنية ؟
من المؤسف القول إن المقاومة الوطنية كانت ضعيفةً للغاية، إذ أنها كانت في حدود العشرين رجلًا. تمركزت هذه النواة البسيطة في مركز شرطة ماليندي، حيث عملت على مُساندة أفراد الشرطة، الذين كانوا في حدود السبعين رجلًا، مُسلحين ببنادقهم الشرطية الاعتيادية. فهذا المركز، وبحكم موقعه الاستراتيجي المتميِّز، كان مسؤولًا عن أمن مواقع شديدة الحيوية، كقصرِ السُّلطان، والميناء البحري، والمدينة الحجرية. ومن مُنطلق هذه المسؤولية؛ بقيَ يُقاوم حتى الرَّمق الأخير.

وفي هذا السياق، يؤكد الشيخ علي محسن البرواني، وزير الخارجية، بأنه أرسل إشارة استغاثة ـ أثناء ذلك ـ إلى مؤيدي الحكومة؛ إلا أن الذين استجابوا للإشارةِ لم يتعدَ أصابع اليد، بينما كان من المتوقع أن يصل المئات بأسلحتهم. تحصَّن غالبية الرجال في بيوتهم بحجة حماية النساء والذراري.


❋ الخروصي يحاول إنقاذ الموقف عن بُعد
حاول الخروصي عبثًا تقديم التضحيات لإنقاذ النظام من السقوط، وذلك حينما هداهُ تفكيرهُ إلى إمكانية قيادة العرب، الذين نادرًا ما كانت تَخلو بيوتهم من أسلحة الصيد (الشوزن)، التي تعد الأفضل في تفريق الجموع المحتشدة، محاولاً بذلك قيادة أولئك العرب إلى المدينة لمواجهة الغزاة والغوغائيين. وعليه، أرسل رسولاً، صاحب متجر (بقالة) يُدعى سعيد بن عبدالله الكيومي، أرسله إلى الحاكم الإداري في المنطقة (في حُكم الوالي)، الشيخ حمود بن علي بن حمود الغيثي، ليبلغه بأن يحث العرب على حمل السلاح لإنقاذ الدولة، إلا أن بساطة تفكير العامة، جعلتهم يعتقدون أن الأمر لن يتجاوز مستوى أعمال الشغب التي حدثت في يونيو 1961م، فآثروا البقاء في منازلهم لحماية أهليهم، رغم المحاولات التي بُذلت لإقناعهم بنقل النساء والأطفال إلى مكتب الحاكم الإداري، الذي كان سيُخصّص لهم حِراسةً مُناسبة، ليبقى المجال مفتوحًا أمام الرجال لحملِ السلاح تحت قيادة الخروصي، إلا أن تلك المحـاولات ذهبت جميـعها أدراج الرياح.


استمرَّ مركز شرطة ماليندي يقاوم حتى حوالي الخامسة والنصف عصرًا، حيث علم الخروصي بأن معقلهم الأخير هذا سقط هو الآخر في أيدي الغزاة. في تلك اللحظات شعر الخروصي أن الأمر أضحى في غايةِ الصّعوبة، وأن أيّة محاولة للمقاومة إنّما هي ضربٌ من الانتحار؛ وأن الاستسلام لقضاء الله وقدره، بات أمرًا لا مَندُوحَة عنه؛ فعمل على سحب البنادق من أفرادهِ، وقلبه يملؤه الحزن، وتقطر منه المرارة؛ وأمرهم بالعودةِ إلى بيوتهم موضحًا لهم بأنه سيستدعيهم إذا ما تطلب الأمر إعادة التعبئة. أخذ البنادق في سيارته، واتجه بها إلى الحاكم الإداري الشيخ حمود الغيثي، وأبلغه بأنه سيدفن الأسلحة في مكانٍ معلوم، لإمكانية الاستفادة منها عند الحاجة؛ فما كان من الأخير إلّا وأن زوَّدهُ بفردٍ من مكتبهِ ليتعرف على مكان الدفن. اتجه بعدئذٍ ومعه أسرته إلى بيت أحد البراونة، في نفس المنطقة «مويرا»، حيث أخذ يُتابع الأخبار، وكذا التصريحات النارية الملتهبة للقائد المزعوم للحركة من محطة «صوت زنجبار» الإذاعية، طوال الليل؛ وفي الفجر، اتجه إلى مركز الشرطة ليتفقد الأحوال، فوجد الغوغائيين وقد استولوا على المركز؛ فسلَّم نفسه، واقتيد مُباشرةً إلى قيادة حزب المعارضة. أُدخل فور وصوله هذه القيادة على القائد المزعوم جون أُكيلّو (الأوغندي) الذي أخذ يُكلمه بلُغةٍ سواحلية مُكسَّرة، قائلًا له بما في معناه: «لقد بلَغَني بأنك قاومت رجالي بِشدَّة في مويرا، وأنا بدوري سأحطِّم رأسك». كان (كارومي)، رئيس حزب المعارضة الأفروشيرازي، واقفًا بجوار (جون أُكيلّو) آنئذٍ. ومما يُذكر، أن كارومي هذا، كان قد نُقِل من قِبَل رجال أُكيلّو إلى دار السلام، قُبيل الانقضاض على الشرعية، وذلك تحسُّبًا لاعتقالهِ فيما لو فشلت محاولتهم، وأعيد إلى زنجبار بواسطةِ قارب شراعي، تابع لشركة «منتجات المحيط» يملكها «تاجر إسرائيلي»، فور الإطاحة بالحكومة والنظام الدستوري. سنتعرف في الحلقات القادمة على الدور الاسرائيلي في الإطاحة بالنظام، ومصلحته في ذلك.


يقول الخروصي بأنه نُقِلَ عَقِبَ ذلك مُباشرةً إلى السجن المركزي، حيث شاهد هناك أعدادًا غفيرة من العرب المعتقلين؛ لا يستطيع حصرهم، وإنما يذكر منهم المشايخ محمد بن عبدالله الحارثي (رئيس الجمعية العربية)، ومحمد بن ناصر اللمكي، والسفير هلال بن محمد بن هلال البرواني، وعبدالله بن علي بن حمود الغيثي، وشقيقه المعلم حمود بن سعيد بن عبدالله الخروصي.

وممّا يُذكر، أن الخروصي ـ الذي عُرف بتقواه، وعطفه على الفقراء ـ كان قد تعرّض لمحاولة الاعتداء عليه، من قبل مجموعة من المرتزقة، الذين لا يعرفونه، أثناء نقله إلى قيادة حزب المعارضة، على متن شاحنة (لوري)؛ إلاّ أن أفراد الشرطة، الذين كانوا معه في المقاومة، والذين كانوا قد عادوا إلى المركز تأييدًا للنظام الجديد ـ وهم من الأفارقة ـ أحاطوه إحاطة السوار بالمعصم، للحيلولةِ بينه وبين غدر بني جنسهم من الغوغائيين.


❋ الإطاحة بالحكومة بأسلحةِ الحكومة
بداية الهجوم كان على مستودع السلاح والذخيرة، أو ما كان يعرف بـ(Police Depot)، التابع لمركز شرطة زيواني، المجاور لقيادة الشرطة. حدث إبان هذا الهجوم تبادل لإطلاق النار، كما أطلق أفراد الحراسة جرس الإنذار، وأطلق حامل البوق الإشارة الدّالة على التعبئة العامة لصدّ هجومٍ واقع، كما بدأوا يلقون القنابل المسيّلة للدّموع تُجاه الهجوم.

تمكّن أُكيلّو ورجاله ـ حسبما أورد أنتوني كلايتون في كتابه ـ من التخلّص من أثر القنابل بأن التقطَوها بقُمصانهم، وألقوا بها بعيدًا؛ كما قطع أُكيلّو سلك جرس الإنذار؛ ثمَّ أطلق النار على حامل البوق، مُسقطًا إياه أرضًا.
بعد أن سيطر الغزاة على أفراد الحراسة، توجهوا إلى مُستودعِ السلاح في هذا المركز وتمكنوا من تحطيم الباب والاستيلاء على كمية السلاح، واعتقلوا أفراد الشرطة الذين كان أغلبهم يغطُّون في نومٍ عميق، داخل ثكناتهم الكائنة في حرم المركز.
اتجه الغوغائيّون عقب ذلك إلى حي متُوني، حيث قيادة الشرطة المتحركة، وهناك استولوا على كميةٍ أكبر من السلاح؛ كما انتقلوا بعدئذٍ إلى السجن المركزي؛ وأفرجوا عن النزلاء وسلَّحوا نسبةً كبيرةً منهم تمهيدًا للانضمامِ إلى صفوفهم.
أخيرًا، انتقل أُكيلّو ورجاله للسّيطرة على محطّةِ الإذاعة، وهناك وجدوا مهندسًا تابعًا للإذاعة البريطانية، فأرغموه – تحت سطوة السلاح – على تشغيل البث الإذاعي؛ لتبدأ عندئذٍ ما عُرف بالحرب الإذاعية، أو النداءات الإذاعية الملتهبة. وهكذا سقطت الدولة تحت قبضةِ الغوغائيين بسلاح الحكومة.
يُذكر بأن أحدًا ممّن كان في صُفوفِ المقاومة في مركز شرطة ماليندي، كان قد أشار على جاك سوليفان، مفوّض الشرطة، بأن يرسل بعضًا من الأفراد إلى مستودع الشرطة للاستحواذِ على السلاح، قبل أن تصل إليه الأيدي الغادرة؛ إلّا أن القائد أجهض الفكرةَ بحجة عدم قدرته على الاستغناء عن أيّ فرد في تلك اللحظات العصيبة.






 

 


 

الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 16-01-22, 07:10 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «2»

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

بعد أن استعرضنا في الجزء الأول من هذا الملف الشائك، لحظات سقوط سلطنة زنجبار؛ نورد تاليًا تتمّة للأحداث، على النحو التالي:
إنزاليَّات السلاح
يقول نائب مفوض شرطة الحكومة المنكوبة في زنجبار، سليمان بن سعيد الخروصي، أنه وردت معلومةٌ إلى قيادة الشرطة، تُشيرُ إلى أن هناك إنزاليات لأسلحةٍ نارية على ثلاثة من شواطئ الأحياءِ الشديدة التأييد لحزبِ المعارضة، الأفروشيرازي، وهي: (تشوكواني، ومبويني، وفومبا)، المطلة على دار السلام مُباشرةً. يقول الخروصي، إنه أرسل مدير التحقيقات الجنائية، الرائد سبيت (Speight)، على رأس قوة من أفراد الشرطة للوقوفِ على حقيقة الأمر فجاءت إفادة الأخير نافية لصحة المعلومة.


وفي الواقع، فإن هناك ما يُؤكّد أن سفينةً جزائرية، باسم (ابن خلدون)، أنزلت في تنجانيقا في غُضون الأسبوع الأول من يناير 1964م، شُحنةً من أسلحةٍ نارية؛ وأن عملية الإنزال تمت في جوٍّ من الكتمان التام. وصرَّح وزير خارجية تنجانيقا، بأن بلاده تدفع ثمن تلك الأسلحة بتصدير شُحنات من البن إلى الجزائر، بموجب اتفاقٍ معقود بين البلدين؛ وأن تلك الأسلحة إنما هي لتزويدها للجيش التنجانيقي، وليس لتسليمها إلى لجنة تحرير أفريقيا – التي يوجد مقرها في مدينة دار السلام – كما اعتقد البعض، وفقما جاء في جريدة الأهرام المصرية، بتاريخ 8 يناير 1964م، نقلًا عن الإذاعة البريطانية.


ورغم أن الأخبار المتواترة، في حينه، أشارت إلى أن شحنة السلاح الجزائري كانت في طريقها إلى المقاتلين الأحرار في موزمبيق، عن طريق تنجانيقا؛ إلاّ أن ما هو مؤكّدٌ، في المقابل، يشير إلى أن تلك الشحنة استَحصلت عليها تنجانيقا بالحيلة. حيث سافر وزير الدفاع التنجانيقي، أوسكار كمبونا، إلى الجزائر، وطلب من الرئيس الجزائري، أحمد بن بلة تزويده بشحنةِ السلاح، بصفته (كمبونا) رئيسًا للجنة تحرير أفريقيا، بعد أن أوهمه أنها ضرورية لعمل اللجنة، وذلك وفقما أشار سليمان بن شحبل، في كتابه (زنجبار: صعود وسقوط دولة مستقلة). ومع ذلك، فهناك في المقابل، معلومات مُؤكّدة، تُشيرُ إلى أن الرّئيس نيريري توقّف في العاصمة الجزائرية، في طريق عودته من أمريكا إلى بلاده، في الفترة 25-28 يوليو 1963م، وطلب صراحةً من الرّئيس أحمد بن بلة أن يطلب من الرّئيس عبد الناصر وقف مُساندته للحزب الوطني، أو تحديدًا، للحكومة الائتلافية المنتخبة؛ بعد أن أوهمه بأنها حكومةٌ عنصريّة موالية للإمبرياليةِ الإنجليزية (حسب اللقاء الذي أجريته مع الدكتور حارث الغساني، نقلًا عن لقاء الأخير مع الرئيس الأسبق أحمد بن بلة). ولعلّ هذا ما يُبرّرُ اللقاء الذي أجراه أحمد بن بلة بعبد الناصر في القاهرة، فورَ الإطاحةِ بالحكومة، حيث نصحه بعدم التدخّل في شئون زنجبار؛ مسوغًا ذلك بالقول: إن ما يحدث في زنجبار إنما هو ثورة اجتماعية، يقودها شبّان عرب راديكاليين، من أمثال علي سلطان وعبد الرحمن بابو (سليمان بن شحبل، ص 411).


يصبُّ في الوعاء ذاته، ما أكّده القبطان شاندلر، قبطان السفينة السلطانية (السيد خليفة) للرائد وارينج، قائد الشرطة المتحركة، عندما جمعهما لقاءٌ في دار السلام، بعد سقوط زنجبار بأيام قلائل؛ حيث قال له: إنه شاهد سفينة جزائرية راسية في ميناء دار السلام – قبل الأحداث المأساوية بأيامٍ معدودة – تفرّغ حمولتها، ومن ضمنها كانت مجموعة من سيارات الإسعاف؛ وأن هذه السيارات لم تخضع لإجراءات التفتيش المعتادة؛ وأنه بالتالي، يعتقد أنها كانت محمّلةً بالسّلاح (تقرير ضابط الشرطة توماس وارين، الأرشيف الوطني البريطاني، الوثيقة رقم: Do 185/‏‏59(.

وبمناسبة الحديث عن أوسكار كمبونا، الذي عُرف بـ(رجل تنجانيقا القوي)، فقد يكون من المناسب الإشارة إلى الكيفية التي تم بها التّخلّص منه. يقول الشيخ علي بن محسن البرواني في كتابه (زنجبار: الصراعات والوئام): إن كمبونا كان من أشد المؤيّدين للرئيس التنجانيقي، جوليوس نيريري، إلاّ أن الأخير، وكما هي عادته، كان يُخطّط للخلاص منه، بعد أن سطع نجمه. ففي المحاولة الانقلابية التي تعرضت لها تنجانيقا بعد الانقضاض على زنجبار بأسبوعٍ واحد فقط – والتي كانت في حكم الناجحة – كان الرئيس نيريري قد اختفى حيث المجهول، وكذا وزراؤه؛ إلاّ أن كمبونا تدخل بدورٍ حيويّ، وذلك بأن أجرى تنسيقًا مع القوات البريطانية؛ التي بدورها أعادت الرئيس إلى دفَّة الحكم، بعد أن نجحت في إخماد الانقلاب العسكري. نظرت جماهير العامة إلى كامبونا كبطلٍ قوميّ، واشتدّت شعبيّته بشكلٍ منقطع النظير، ونُظمت له الأناشيد والأغاني الشعبية الحماسية.


هنا شعر الرئيس بخطورة الرجل على مركزه، ورأى أنه لابد من كسر شوكته؛ فعمد إلى سحب حقيبة وزارة الدّفاع منه وسلّمه أُخرى ليست ذات سيادة. المقرّبون من كمبونا، ومنهم إخوته، نصحوه بالهروب من المصير المشئوم الذي ينتظره؛ ففعل ذلك وهرب إلى بريطانيا. جاءت ردّة فعل الرئيس نيريري مؤكّدة لنواياه الخبيثة؛ إذ أمر فورًا باعتقال إخوة كمبونا، وألقى بهم في غياهب السجن. وفي بريطانيا، انضمّ كمبونا إلى الجماعة التي كان يقودها أحمد بن سيف بن ناصر الخروصي، التي كانت تسعى إلى عملٍ مُضاد، لاسترداد الشرعية في زنجبار؛ كما وسافر بعد ذلك إلى القاهرة لمقابلة علي محسن البرواني، وزير خارجية الحكومة المنكوبة، فور خروجه من السجن في عام 1974م، وأقرّ له بخطئه الفادح حينما طاوع الرئيس نيريري في مسألة توجيه شُحنة السلاح إلى زنجبار. (وفق اللقاء الذي أجريته مع البرواني، في سنة 2005م).

وممّا يُذكر، فإن تحريات الحزب الوطني أكّدت، قبل الانقضاض على الشرعية ببضعةِ أيام، أن رجالات حزب الأمة، شوهدوا وهم يُنـزلون السّلاح على الشاطئ في أوقاتٍ متأخرة من الليل؛ كما شوهدوا كذلك يتدرّبون على السلاح في الغابات. هذه المعلومة أكّدها العقيد علي محفوظ (أحد أبرز قيادات حزب الأمة) لعلي محسن البرواني، عندما تشاركا زنزانة واحدة في “سجن دودوما” في تنجانيقا. جديرٌ بالذكر، أن رجالات حزب الأمة، الذين كانوا قد تلقّوا تدريبات عسكرية في كوبا، كثيرًا ما سُمعوا يرددون على الملأ عزمهم على الإطاحة بالحكومة، سواءً بالقوة أو بالحيلة، إذا ما فاز الحزب الوطني في الانتخابات.


والحقّ، فمهما قيل عن موضوع شحنة السّلاح التي وُجّهت إلى زنجبار، فالثابت يُشير إلى أن الإطاحة بالحكومة تمّت بأسلحة الشرطة، التي تم الاستيلاء عليها من المخازن، حسب الإبانةِ التي أوردناها في الجزء الأول من هذا المقال. (تقرير ضابط الشرطة توماس وارينج، الأرشيف البريطاني). تؤكّد وكالة الاستخبارات الأمريكية هذا الرّأي، وذلك بالإشارة إلى أن شحنة السلاح والذخيرة التي حصل عليها حزب الأمّة من تنجانيقا، بقيت في مخبئها إلى أن سقط النظام الشرعي (تقرير استخباراتي، زنجبار: ثورة المائة يوم، رفع عنه التصنيف 2007م). وإذا كانت لمسألة إنزاليات السلاح من دلالة، فإنما تدلُّ على وجود مُخطَّطٌ آخر للإطاحةِ بالحكومة، حسبما سيأتي ذكره لاحقًا.


هل كان للإنجليز دورٌ في الإطاحة بالحكومة ؟
إن شتات ما خلَّفه التاريخ عن ملف زنجبار، يدفع كل ذي لُبٍّ إلى تساؤلٍ محوريٍّ وخطير، حول مدى التدخل الإنجليزي في الأحداث التي أطاحت بالحكومة الشرعية؟ وما إذا كان من الجائز التسليم أصلًا بوجود تدخلٍ من نوعٍ ما؟ يمكن القول، وبحق، إن الإجابة على مثل هذا التساؤل ليست بالأمرِ الهين، إذ لا يمكن بحالٍ من الأحوال الجزم يقينًا بوجود يدٍ إنجليزيةٍ خفية وراء الإطاحة بالدولة؛ إلّا أن ما يمكن الإشارة إليه في هذا الصّدد، يتمثل في التأييد الإنجليزي بل والتسهيل لبلوغِ النتيجة المأسوف عليها؛ ناهيك عن وجود العديد من الأدلةِ الظرفية التي تشيرُ بأصابعِ الاتهام إلى الإنجليز – كأشخاصٍ على أقلّ التقديرات – بالتدخل لإيجاد الظروف الملائمة لإنجاح مخطّط الإنقضاض على الدولة.

ينبغي أن نستحضر في هذا السياق، أن أمن الدولة حتى لحظة الإطاحة بالنظام كان بيد الإنجليز: فمُفوِّض الشرطة كان إنجليزيًا، وكذلك الحال بالنسبة إلى كلٍّ من: قائد الشرطةِ المتحركة PMF، وقائد القسم الخاص Special Branch، ومأمور السجن المركزي؛ وكذا عدد كبير من كِبار الضباط. مُؤشرات القيام بأعمالِ شغَبٍ عنيفة؛ وبالتالي، الإطاحةِ بالحكومةِ الشرعية، كانت واضحةً أمام كل هؤلاء، إلا أنهم تعمَّدوا عدم التدخُّل لإنقاذ الموقف؛ بل تدخلوا بأعمالٍ إيجابيةٍ، حسب ما أورده سليمان بن شحبل في كتابه، لإفساحِ المجال لإتمام ذلك، وضمان شل حركةِ أية مُقاومةٍ مُحتملة،وفق ما سنرى في الأدلة الظرفية التالي بيانها:


أولاً: عدم اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ الأمن:
فرغم أن مُفوض الشرطة، كان قد تلقى تبليغًا رسميًا من رئيس الوزراء، مَفاده أن الدولة ستتعرض لاضطرابٍ أمنيٍّ شديدِ الحرج، من طرف أتباع حزب المعارضة، وأن ذلك التبليغ حدث قبل الاجتياح الغوغائي بما ينوفُ على الأربع والعشرين ساعة؛ إلّا أن المفوض لم يُكلف نفسه باتخاذ التدابير اللازمة لحفظ الأمن والنظام العام، كإعلان حالة التأهب الأمني من الدرجة الأولى، حسبما تقضي بذلك الأصول المرعية؛ وإنما أوهم الرئيس بأن الوضع الأمني سيكون تحت السّيطرة. نتيجةً لذلك، فإن التشكيلة الشرطية الوحيدة القائمة مقام الجيش والمتمثلة في الشرطةِ المتحركة، لم تكن في حالة تأهب؛ بل أقل يقظة من كثيرٍ من الأيام العادية.


ليس ذلك فحسب، وإنما الثابت وثائقيًّا يشير إلى أن رئيس حزب المعارضة، عبيد كارومي، كان قد أَبلغ أحد كبار ضبّاط القسم الخاص، وهو الرائد بوت، (Mr. Bott)، قبل الانقضاض على الدولة بيومٍ واحد، أن اضطرابًا أمنيًّا من نوعٍ ما سيحدث، وأن هذا الاضطراب سيستهدف السّيطرة على مخزني السّلاح في كلّ من مركز شرطة زيزاني، ومركز شرطة متوني؛ وأنه بالتالي يُبرئ نفسه مُقدّمًا من أية مسئولية، لعدم اتصاله بما سيحدث. عمل الضابط أعلاه على توصيل المعلومة إلى مُفوّض الشرطة، الذي بدورِه لم يأخذ الموضوع بجدّية؛ فلم يُكلّف نفسه بالتحقيق في الأمر؛ ولا حتى بإعلان حالة طوارئ من الدرجة الأولى، حسبما تقضي الأصول الأمنية. وللأمانة، فإن الثابت أيضًا، يُشير إلى أن مُفوّض الشرطة، مرّر المعلومة إلى قائد الشرطة المتحركة، الرائد طوماس وارينج، الذي لم يأخذ هو الآخر المعلومة بجديّة؛ لاعتياده على تلقي مثل تلك البلاغات، حسبما ذكر صراحةً في تقريرِه. ويقول الأخير: إنه في ضوء تلك المعلومة، اكتفى بوضع فصيل واحد من فصائله في حالة استنفار؛ حيث زوّدهم بالهراوات والدروع فقط؛ تاركًا السّلاح والذخيرة في مخزنها، بحجة إمكانية الرّجوع إليها بسهولة، إذا ما دعت الحاجة.

علاوة على ما تقدّم، يُضيف مفوّض الشرطة في تقريره، أنّه كان قد تلقّى معلومةً، من أحد مصادره السرّية، في مساء يوم السّبت، 11 يناير، مُؤدّاها أن اضّطرابًا أمنيًّا شديد الحرج سيحدث في ذلك اليوم، وأن هذا الاضطراب سيستهدف القضاء على حياة جلالة السّلطان وكذا وزير خارجيّته، على محسن البرواني؛ وذلك كلّه، بعد السّيطرة على سلاح الشّرطة. لاشك أن معلومةً كهذه، هي بحق، كافية لتعزيز الأُولى، التي نُقلت إليه عن رئيس حزب المعارضة؛ ومَدعاةً، بالتالي، إلى رفع درجة التأهب الأمني إلى أقصى درجاته؛ إلاّ أنه، وعلى خلاف ما يدّعيه في تقريرِه، فإن شيئًا من هذا لم يحدث؛ كما أنه لم يسعَ إلى استدعاء نائب مفوض الشرطة، سليمان الخروصي، ولا الرجل الثالث في جهاز الشرطة، محمّد السكيتي، من المهمّة التي كان قد كلّفهما بها، خارج مدينة زنجبار.


ثانيًا: إبعاد أعلى قياديين وطنيين عن مدينة زنجبار:
حسب العرض التفصيلي المتقدم، عمَدَ مُفَوِّض الشرطة إلى إبعادِ نائب المفوض سليمان الخروصي، وكذا الرجل الثالث في القيادة، محمد السكيتي، بحجةِ الإشراف على الوضع الأمني، في منطقتين بعيدتين عن مدينة زنجبار. وكان من الممكن أن يُفسّر هذا الإجراء لمصلحةِ المفوض حال اتخاذه الإجراءات اللازمة للمحافظة على أمن البلاد، وكذا استدعاء القائدين أعلاه من خارج المدينة لتدعيم شوكته، فور التكليف الذي تلقاه من رئيس الوزراء باتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة حالة الشغب المتوقعة؛ أو حتى فور ورود المعلومة المنقولة إليه عن رئيس حزب المعارضة، كارومي – حسب الإشارةِ المتقدّمة –إلّا أن ذلك لم يحدث.


ثالثًا: رفع نقاط التفتيش:
علاوةً على ما تقدم، فإن الذي كان مُتَّبعًا في تلك الفترةِ الحرجة، تمثل في وضع نقاط تفتيشٍ أمنية – من أفراد الشرطةِ المتحركة – في بعضِ المواقعِ الحساسة أمنيًا، حيث كانت تبقى تلك النقاط يقِظةً طوال الليل؛ إلا أن الذي حدث في ذلك اليوم اختلف عن المألوف، إذ عمد المفوض جاك سُليفان إلى تصريف نقاط التفتيش مُنذ السادسةِ مساءً. لاشك أن غياب تلك العيون الساهرة، في الطُرقات العامة، سهَّلت للمهاجمين التسلُّل إلى أهدافهم دون عائق.


رابعًا: تغيير في بعض قادة الشرطة:
رغم حالة الاستنفار العامة التي تملَّكت رجل الشارع، في الفترةِ السابقةِ على الإطاحة بالنظام، فإن الاختلال الأمني السَّابق الإشارة إليه ما كان ليحدث، لولا التغيير الذي طرأ في بعض قيادات الشرطة، ونذكُر من ذلك قائد الشرطة المتحركة، الرائد مادان. عُرف عن هذا الرائد حِرصه وإخلاصه الشديدين للعمل، ولعلَّ التصرُّف الذي بدر منه قبل الإطاحة بالحكومة بأسبوعين خير دليل على ذلك. فلقد استشعر أن مركز شرطة متُوني سيتعرض لهجومٍ من قِبَل حزب المعارضة؛ وكرَدَّةِ فِعلٍ مُباشرة من هذا القائد الحريص، عمَدَ إلى تسليح قناصتهِ بأفضل الأسلحة، والمتمثلة في بنادق آلية من نوع Bren &Stenووضعهم في مواقع استراتيجية، في حالةِ استنفارٍ قُصوى، لحماية المركز بشكلٍ خاص، والمدينةِ بشكلٍ عام، إلى أن انحسَرَ الخطر وعادت الأمور إلى طبيعتها. المكافأة التي تلقاها هذا القائد، بعد الحادثةِ ببضعةِ أيامٍ، كانت الإحالة إلى التقاعد.

خامسًا: التصرُّف الذي بدر من قائد شرطة زيواني:


عمد قائد شرطة زيواني، الرّائد دُرَمْ، إلى سحبِ البنادق من حرَّاسِ قيادته، وتركهم مُزوّدين بالهراوات والدّروع فقط. كما أخذ معه مفتاح مُستودع السلاح، خِلافًا للنظام الذي يقضي بتركِ المفتاح مع الضابط المناوب. حدث هذا قبل بداية الاجتياح بحوالي ساعةٍ واحدة فقط. يُذكر أن هذا المركز كان يَضُم بين جَنباتهِ مُستودع السلاح الرئيس لجهاز الشرطة.


سادسا: عدم التعرُّض للإنجليز:
فور بداية الاعتداء على مركز شرطة زيواني، شاهد الكثير من العامة، الضباط الإنجليز يُولونَ الأدبار هربًا من الثكنات العسكرية، وبصحبتهم عوائلهم؛ حيث أخذوا يمرون وسط الاعتداءات الغوغائية على الأبرياء من المواطنين، دون أن يُصابوا ولو بخدشٍ بسيط. جميع المؤشرات تُرجّح تلقي القائد الشكلي للعملية التي أطاحت بالدولة تعليمات بعدم التعرُّض للإنجليز.فكل الطوائف العرقية في زنجبار، تعرَّض أفرادها للقتلِ أو الاعتداء، ماعدا الأوروبيين. وفي المقابلات الصحفية التي أُجريت مع البريطانيين الواصلين كينيا بعد الإطاحة بالنظام ببضعة أيام أفاد أحدهم: “إن الثوريين كانوا لطيفين جدًا معنا”. وقال أحد البريطانيين الذين غادروا زنجبار: “إن جميع القتلى والجرحى في زنجبار، إنما هم من العرب، وإن الثوريين امتنعوا عن إيذاء أيّ أوروبي في البلاد” (جريدة الأهرام المصرية، 16 يناير 1964م). المعاملة الخاصة للبريطانيين جعلت الكثير من العامة يتساءلون عما إذا كان هناك أيّ اتفاقٍ خاص بين بريطانيا والقائد المزعوم للإطاحة بالحكومة.

ويجدر بنا أن نشير إلى أهم التوجيهات التي أصدرها القائد المزعوم لعملية الإطاحة بالشرعية، جون أُكيلّو، لرجاله قبل تنفيذ العملية، وفق ما أورده في كتابه وهي على النحو التالي:
1. على الجميع الامتناع عن إلحاق الأذى بالأوروبيين؛ فهم لم يسيئوا إلينا.
2. ينبغي قتل السلطان أينما وجد، وبدون تردُّد.
3. ينبغي قتل كل من ينتمي إلى الفئة العمرية (18-55 سنة)، وبدون تردُّد.


سابعًا: موقف بريطانيا الرافض للتدخل
يقول البرواني، إنه عندما كان حاضرًا مع رجال المقاومة في مركز شرطة ماليندي وبعد نقاشٍ مُستفيضٍ مع كلٍّ من رئيسِ الوزراء، محمد شامتي؛ ووزير المالية، جمعة علاي الأبروي؛ استقر الرأي – بعد التباحث مع مُفوض الشرطة –على أهمية الحصول على مُساندةٍ عسكرية، من القوات البريطانية المتمركزة في كينيا، على غرار ما حدث في أحداث شغب يونيو من عام 1961م. تم على إثرِ ذلك، الاتصال بالقنصل البريطاني، الذي أفاد بأن الوضع يقتضي الحصول على موافقة من الدولة المضيفة، أي من الحكومة الكينية، كونها أصبحت دولة مستقلة؛ كما أنه وضع من العراقيل ما يستخلص منه عدم رغبته في إدخال الحكومة البريطانية في مسألة إغاثة زنجبار.

ولتجاوز عقبة ضرورة الحصول على موافقةِ الدولة المضيفة، اقترح الوزراء المذكورين على القنصل – بعد أن انتقلوا إلى مكتبهِ – الاستعانة بالقوات البريطانية المتمرّكزة في عَدن كون عدن لا تزال مُستعمرة بريطانية. ردود فعل القنصل جميعها اتسمت، ليس بعدم التشجيع للفكرةِ وكفى، وإنما، بالفُتورِ وعدم المبالاةِ أيضا؛ إذ وضع أول عقبة أمام إمكانية التنفيذ، بالقول متسائلاً: وأين ستهبط تلك القوات والمطار تحت قبضةِ “الثوريين”؟ الأمر في غاية البساطة، فمن الممكن إنزال مَظليين، هكذا كانت إجابة البرواني العفوية؛ ولكن، الأمر يقتضي الحصول على موافقة الحكومة البريطانية.
تلك كانت العقبة الثانية التي وضعها القنصل أمام الوزراء. هنا طلب البرواني من القنصل أن يُسجل استغاثة الحكومة لدى السلطات المختصة في بريطانيا، إلا أن الأخير ردّ عليه بالقول: إننا في عطلة نهاية الأسبوع، ويتعذَّر التنسيق مع الحكومة البريطانية؛ ومهما كان الحال، فأنتم تمثِّلون حكومة أقلية، ولن أؤيد تدخّل حكومة صاحبة الجلالة في شئون زنجبار الداخلية. حاول البرواني إفهام القنصل بأنهم، وبفوزهم في انتخابات الرئاسة بثمانيةِ عشر مقعدًا مُقابل ثلاثة عشر للمعارضة، لا يمكن، بحالٍ من الأحوال، اعتبارهم أقلية، بل هم أغلبية وأن المشكلة ليست دستورية بقدر ما هي مُشكلة إنسانية، تتمثل في ذبح الأبرياء من المواطنين؛ وأن زنجبار عضو في مُنظّمةِ دولِ الكومنولث، فهي بذلك لها حق على الحكومة البريطانية.
جميع تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح؛ وبالنتيجة، لم تتلقَ بريطانيا استغاثةً رسميةً من الحكومةِ المنكوبة، وهذا ما أكده فعلاً وزير المستعمرات البريطانية، لأحمد بن سيف الخروصي، عندما كتب إليه بعد الإطاحةِ بالحكومة بأسبوعين مستوضحًا عن سبب رفض بريطانيا التدخل لإنقاذ الحكومة من الانهيار.
في الجزء التالي، الذي سنعرضه في عدد يوم الأحد المقبل، سنقف على المصلحة البريطانية في إسقاط الحكومة الشرعية؛ ثم نضيف أسبابًا ظرفيةً أخرى تشير بأصابع الاتهام إلى التورط البريطاني في تلك النتيجة الدموية المأساوية؛ وهل كان لتوافق الحكومة الشرعية مع الرئيس جمال عبدالناصر، علاقة في الأمر؟ ولماذا لم يتدخل عبدالناصر، لإنقاظ الوضع .. هذا ما سنتعرف عليه في العدد القادم.

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 16-01-22, 07:15 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «3»
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■
عرّجنا سريعًا في الجزءين المنصرمين، من هذا الملف الشائك، على عناوين جانبية، غايةً في الأهمية، والتي على هديها تجلَّت أمام ناظرينا حقيقة أن الحراك الذي أسقط بتاريخ 12 يناير 1964م، سلطنة زنجبار، لم يكن ثورة اجتماعية؛ وذلك بالنظر إلى أن الأداة التي استخدمت فعليًا في الإسقاط والتغيير، لم تتمثل في الشعب؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لا يمكن بحالٍ من الأحوال عدّه انقلابًا، وذلك بالنظر إلى أن الأداة المستخدمة لم تتمثل في قوةٍ مسلحةٍ وطنية. وبما أنه ثبت لدينا بالدليل القاطع، والبرهان الساطع أن السقوط والتغيير كان بفعل قوى أجنية خارجية، كما ألمحنا فيما تقدّم، وسنقف على تفصيلات ذلك في الجزء القادم؛ فإننا إذًا، أمام وضعٍ يحتم بنا أجمعين إطراح المصطلحين الدارجين بين العامة “ثورة /‏ إنقلاب”، ونعتمد بدلًا منهما مصطلح “الغزو الخارجي، أو الإجتياح، أو الإنقضاض على الشرعية”؛ فالأمر لا يختلف عما حدث في غزو الكويت.
كما خلُصنا، من واقع اللقاءات المتكررة، التي أجريتها شخصيًا مع نائب مُفوض الشرطة، سليمان بن سعيد الخروصي؛ وكذا مع وزير خارجية الحكومة المنكوبة، الشيخ علي بن محسن البرواني، أن القوة الغوغائية المرتزقة ما كان في مقدورها البتة الإطاحة بالحكومة؛ لولا الخيانة الواضحة من بعض قادة الشرطة الإنجليز، وهو الأمر الذي مَكَّنَ المرتزقة من وضع اليد على مخزن سلاح الشرطة؛ ليتحقق لها الإطاحة بالحكومة، بأسلحة الحكومة. سلطنا الضوء أيضًا، في الجزء الثاني، على شهادة وزير الدفاع التنجانيقي، أوسكار كامبونا، الذي أكّدَ شخصيًا للبرواني، بعد الإفراج عن الأخير من المعتقل، الذي امتدّ أمده لعشر سنوات؛ أنه، وبناءً على توجيهات الرئيس التنجانيقي جوليوس نيريري، عمل على تحويل السّلاح الذي استحصل عليه بالخديعة من الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، إلى زنجبار، تنفيذًا لمخطط الرئيس للإطاحة بالنظام؛ وهو الأمر الذي يعزز ما أشرت إليه، فيما سلف، من أن ما حدث لم يكن ثورة اجتماعية، كما أنه لم يكن انقلابًا عسكريًا؛ وإنما غزوٌ خارجي.
تناولنا أيضًا تساؤلًا محوريًا، مُؤدّاه: إلى أيّ مدى يمكن القول بتورّط بريطانيا في الإطاحة بالنظام؛ وأشرنا إلى قرائنٍ سبع مُعززة للفرضية؛ كانت القرينة السابعة بعنوان (موقف بريطانيا الرافض للتدخل).
وفي العدد الماثل نورد المسوّغ البريطاني لرفض التدخل؛ ثم نورد قرائن أخرى: ولماذا ترفض بريطانيا التّدخُّل؟
قبل الخوض في سبب الامتناع البريطاني عن نجدة حكومة شرعية منتخبة جماهيريًا، عن السقوط؛ ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أن العذر المتمثل في عدم رغبة بريطانيا في التدخل في الشأن الداخلي الزنجباري، يُكذبه التدخل البريطاني لنجدة بعض حكومات دول الجوار.
فالحكومة التنجانيقية، تعرَّضت لفعلٍ مماثل، بعد الانقضاض على زنجبار بأسبوعٍ واحدٍ فقط، وذلك بأن أطاح الجيش بحكومة الرئيس جوليوس نيريري؛ فتدخلت القوات البريطانية فورًا وأعادت الرئيس إلى سدَّة الحكم.

أزمة مماثلة حدثت في كلٍّ من كينيا ثم أوغندا، في الفترةِ ذاتها.


لم يكن لمصطلح التدخُّل في الشأن الداخلي، في هذه الدول الثلاث وجودٌ بالمرّة، كما كان في قضية زنجبار.
يؤكد أنتوني كلايتون في الصفحة 83 من كتابه (ثورة زنجبار، وآثارها الكارثية)، أنه تأكّد، في وقتٍ لاحقٍ، أن البحريَّة البريطانية وكذا الأمريكية كانت متواجدةً في المياه الإقليمية الزنجبارية، إلّا أنها آثرت عدم التدخل، واتخذت بدلًا من ذلك موقف المراقِب لسقوط الشرعية. كما ثبت بأن تلك القِطع البحرية، وضِعت على أُهبةِ الاستعداد للتدخل العسكري، حال حدوث أيّ مكروهٍ، أو مجرد تعرُّضٍ لمواطنيها؛ ومع ذلك، فلقد عملت على تزويد الجاليات الأوروبية بالمواد الغذائية اللازمة خلال تلك الفترة.

السِّر وراء تلك الوقفة البريطانية، واضحٌ لكلِّ ذي عقلٍ وبصيرة؛ فهو ليس بأكثر من ردةِ فعلٍ تجاه موقف الحزب الوطني، وحزب الشعب – ائتلاف الحكومة الشرعية – الملح على الاستقلال. فلاشك أن الاستقلال يتعارَض ومصالح المستعمِر “دولة الحماية”. فزنجبار كانت لُقمةً سائغةً للإنجليز، ولم يكُن بالأمر الهيِّن عليها تقبُّل نزع تلك اللقمة من فمِها – تحت أيٍّ من المسمَّيات الحضارية، كالاستقلال – لتقف موقف المتسامِح الحريص على مصالح شعب الدولة المحميَّة.


أكد لي السفير سالم بن حكيم الخصيبي، في اللقاء الذي أجريته معه: أن بساطة شعب زنجبار، جعلته يعتقدُ خطأً أن نيلهم للاستقلال – الذي كان حقًا انتصارا سياسيّا – يُجيزُ لهم الضرب بكرامة رموز سلطة الحماية؛ موضِّحًا ذلك بالإشارة إلى أن بعض المسؤولين الذين خرجوا من زنجبار عقبَ الاستقلال، كانت الجماهير المحتشدة تودِّعهم بتوجيه شتى صنوف السِّباب والعبارات المهينة؛ بل وبالقذف بالبيض وغيره. وفي تأكيدٍ لهذا المعنى، يقول النقيب سالم بن حمد البرواني: أنه اختير ليكون مرافقًا عسكريًا للمقيم البريطاني، جورج مورينج، في مراسم توديعه، وأنه سمع تلك السباب، كما أن المقيم البريطاني سمعها أيضًا، وتظاهر بعدم فطنته لها، وسأل البرواني عمَّا يهتفون، فردَّ عليه أنهم يتمنَّون لكم سفرًا سعيدًا سيدي. لذلك، يقول أنتوني كلايتون: أن مشاعر كبار السّن اختلفت عن مشاعر الشباب لحظات رحيل المقيم البريطاني وكذا كبير الوزراء، حيث ودعمهما الكبار بالدّموع، خوفًا من المصير المرتقب (ص 62، حاشية 25).


ثامنًا: ثبوت علمهم بالواقعة
الثابت يشير إلى أن بعض المسئولين الإنجليز كانوا على علمٍ تام، ليس باحتمالية وقوع أعمال شغب تستهدف الإطاحة بالنظام فحسب، وإنما بموعدها الأكيد أيضا. فيقول المستشار القانوني للجنة الانتخابية، الأستاذ محمد بن سالم الريامي، والذي عمل عن قرب مع المشرفين الإنجليز على سير العملية الانتخابية، وارتبط مع أحدهم (المستر تايلور) بصداقةٍ حميمة: إن هذا المشرف أسرّ له بالفوضى المرتقبة وبموعدها، وذلك بالقول إن المؤشّرات جميعها تشيرُ إلى أن ائتلاف الحزب الوطني وحزب الشعب سيفوز في الانتخابات، وإذا ما تحقّق ذلك فعلًا، فإن الحكومة الشرعية التي سيشكّلها هذا الائتلاف ستُسقط عقب تشكيلها بشهر واحدٍ على أبعد التقديرات. وأردف قائلاً: إن كانت لديك أية ترتيباتٍ خاصة، فلتبدأ في إعدادِها من الآن. نقل المستشار القانوني هذا الكلام إلى البرواني، وزير الخارجية، فردّ عليه قائلاً: هذا كلامٌ معروفٌ لدينا، وسمعناه كثيرًا، ومررناه إلى مُفوض الشرطة، لعمل اللازم.


تاسعًا : شخصية القائد المزعوم
تؤكد دراسة بعنوان (زنجبار: ثورة المائة يوم)، التي أعدتها وكالة الاستخبارات الأمريكية، في سنة 1966م، ورفع عنها التصنيف في سنة 2007م، إن المتأمّل في شخصيةِ جون أُكيلّو، يصلُ إلى قناعةٍ حتمية مؤداها أنه من الصعوبةِ بمكان، إن لم يكن من المحال، أن تكون عملية الإطاحة بالحكومة، والمساندة الفاعلة التي لاقتها من البر الأفريقي، من صُنعِ يدِ هذا الشخص البسيط، بل والساذج في تفكيرهِ وتصرفاته؛ ويُرشِده، بالتالي، عقلهُ وتفكيره السليمين؛ وكذا، منطقهُ الوجيه، إلى نتيجةٍ قاطعة، لا تخرج في مضمونها عن أن يكون وراء ذلك الرجل، قوة خفية خطّطت للعملية بِرمتها؛ وهذا بالفعل ما لاحظه أعضاء مجلس قيادة “الإنقضاض”، حينما قدَّم إليهم، ذلك “الهمجيّ الغوغائيّ”، جون أوكيلو – حسبما جاء في الدراسة – قدم دراسةً أمنية مُفصَّلة لتشكيل الجيش الزنجباري. أدرك رئيس حزب الأمة، عبدالرحمن بابو، من أولِ وهلةٍ، استحالة أن تكون تلك الدراسة من إعداده. اتضح فيما بعد أن المهندس الفعلي لتلك الدراسة، هو أحد الخبراء الإنجليز، في الحكومة المطاح بها، هنري هوكر (Hawker).

تملك أعضاء مجلس قيادة “الإنقضاض”، إحساسٌ قوي بأن جون أُكيلّو ليس بأكثرِ من أداةٍ في أيدي بعض المسؤولين الإنجليز، وهو الأمر الذي دفعهم – تبعًا لذلك – إلى التخلُّص منه عقِبَ توليهم مقاليد الحكم بثلاثةِ أشهرٍ فقط، وتحديدًا في شهر مارس من عام 1964م. تمثل هذا الأمر، في القرار الذي صدر من السلطة المختصة، في تلك الحكومة، باعتباره “شخصًا غير مرغوب فيه”. هذا ولقد صدر قرار مماثل في كلٍّ من تنجانيقا وكينيا؛ وهو الأمر الذي دفع بجون أُكيلّو إلى العودةِ إلى مسقطِ رأسهِ، أوغندا، واختفى هناك حيث المجهول.
عاشرًا: تعيين أفراد شرطة من الأجانب
قبل انتقال الحكومة المنتخبة إلى إدارة الحكم الذاتي، وبسنواتٍ طويلة، عكفت الإدارة الإنجليزية على تعيين أفراد الشرطة من البر الأفريقي، وتحديدًا من تنجانيقا وكينيا، دون أن يعطوا الأولوية لمواطني زنجبار. الغالبية العظمى من هؤلاء الأفراد كانوا، بطبيعة الحال، من مؤيدي حزب المعارضة، الأفروشيرازي.


وما مصلحة الإنجليز في سقوط الحكومة؟
إذا كانت الأدلة الظرفية المتقدمة تدعم التكهنات المثارة حول التدخل الإنجليزي في الإطاحة بالنظام، فمن حقّ القارئ أن يتساءل عن المصلحة، أو الدافع إلى مثل هذا التدخل. يمكن أن نُلَخّص ذلك في التالي بيانه:


أولاً: التوافق مع عبد الناصر
الواضح يُشيرُ إلى أن بريطانيا وجدت من التوافق الحميمي الذي ربط الحكومة الزنجبارية المنتخبة بالنظام المصري، وتحديدًا بشخص الرئيس جمال عبد الناصر، سيجعل من زنجبار امتدادًا طبيعيًا لسياسات عبد الناصر (العدو اللدود للإنجليز)؛ وبالتبعية، ستصبح المنطقة برمّتها (شرق ووسط أفريقيا) كتلةً ناصرية.
ظهر هذا التوافق جليًا إبان، وعلى أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956م، حيث أظهر شعب زنجبار تعاطفًا مع الشعب المصري، فارتفعت أبواق المساجد، ليس في زنجبار فحسب، وإنّما في كثير من دول شرق أفريقيا، تتضرع إلى المولى عزّ وجل لنصرة مصر على العدوان؛ كما خرجت الجماهير في مُظاهرات مُعادية للإدارة الإنجليزية في شوارع زنجبار مُعربةً عن سُخطها على ما حدث، ومُندّدةً بالعدوان الجائر على مصر.
كما انضم، عددٌ ليس بيسير، من شباب زنجبار إلى صفوف المقاتلين في مصر. يقول سليمان بن شحبل: إن تأييد زنجبار لمصر، عَدَّه الإنجليز من الكبائر التي لا تُغتفر (ص 142).

بلغ أوج هذا التأييد – حسب تأكيد اللواء المكرم محمد بن عبدالله الريامي، في اللقاءات الكثيرة التي أجريتها معه، إلى تمجيد شعب زنجبار للثقافة المصرية؛ كترديده للنشيد الوطني المصري، في كثيرٍ من المناسباتِ العامةِ والخاصة؛ فكان يُسمع الأطفال قبل الرّجال والنساء يردّدون: “بلادي بلادي بلادي، لكِ حُبّي وفؤادي”؛ كذلك، ترديدهم لبعض الأناشيد الحماسيّة، التي كانت تُغنّى في مصر زمن الحرب، مثل: “الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر فوق كيدِ المعتدي .. والله للمظلوم خير مُؤيّدِ .. أنا باليقينِ وبالسّلاح سأفتدي، بلدي ونور الحق يسطع في يدي..، إلخ”. هنا أخذت بعض الصُّحُف تتحدَّث عن أن عبد الناصر يُخطِّط لفرضِ نُفوذه على زنجبار، آخذين في الاعتبار، سبق تدخله في الصومال، في مطلع الستينيات لدعم الحكومة المستقلة في تأسيس الجيش.


وقد يكون من المفيد أن يعلم القارئ، في هذا السّياق، أنه قلَّما كان يخلو بيت عربيّ في زنجبار، من صورة الرئيس عبد الناصر؛ وكثير من النساء كنّ يحملن مناديل طُبع عليها صورته (دراسة وكالة الاستخبارات الأمريكية، آنفة البيان، ص 10).

تدخل عبد الناصر في شؤونِ زنجبار، كان يعني التمهيد للتغلغُل في دول الجوار. هذا التغلغُل، وذاك النفوذ، تضَمَّنا تهديدًا للسيطرة على باب المندب؛ وبالتالي، على الملاحة العالمية. شعر الإنجليز أنه ينبغي التعامل مع زنجبار كعدوٍّ جديد؛ نظرًا لثبوت صداقتها الحميمة للزعيم عبد الناصر؛ إعمالاً للمقولة: “صديق العدو، عدو”. من لقاءاتي مع الشيخ سعيد بن محمد الريامي.


تأكيدًا للسّياقِ المتقَدِّم، يستشهِدُ علي بن محسن البرواني في كتابه بواقعةٍ، تُشير بالبرهانِ الدَّامِغ إلى عدمِ ارتياح الإنجليز للتقارُب الذي كان قد تأسَّس مع عبدالناصر. فيقول: إن هذا التَّقارب، وسَّع الفجوة بينهم (الحزب الوطني) واللوبي المناوئ للناصرية في بريطانيا. واحدٌ من أشدّ المؤيدين لقضية استقلال زنجبار أمام البرلمان الإنجليزي، كان العضو الممثل لحزبِ العمال جيمس جونسون؛ إلاَّ أن هذا العضو غضب منهم كثيرًا، وانقلب عليهم بمقدار مائة وثمانين درجة، على أعقاب الزيارة التي أجراها البرواني للرئيس جمال عبدالناصر في عام 1957م. نُقل عنه يقول: “ولكن، لماذا يذهبون إلى مصر؟ جميع الشعوب الأفريقية تلجأ إلى بريطانيا”. يضيف البرواني قائلاً: أن عضو البرلمان هذا زار نيروبي وزنجبار للتباحث مع القادة السياسيين في المسائل ذات الصلة بالاستقلال، وبينما كان في مطار نيروبي، وقبل أن يقلع إلى زنجبار، صرَّح في مؤتمرٍ صحفي: “إن زنجبار يجب أن تُحكم بمعرفة الأفارقة وليس العرب.” (البرواني، زنجبار: الصراعات والوئام، ص ص 112 – 113). وفي السياق نفسه، يؤكد سليمان بن شحبل في كتابه: أن هذا السياسي وصل زنجبار بدعوة من حزب المعارضة الأفروشيرازي، وألقى كلمةً أمام حشدٍ كبيرٍ من مؤيدي هذا الحزب، الذين كانوا يُندّدون بالناصريّة؛ فما كان منه إلاّ أن طمأنَ المحتشدين بالقول: إنه ما أتى إلى زنجبار إلاّ لتقييم التهديد الناصري (بن شحبل، ص 224).


لماذا لم يتدخل عبد الناصر إذًا ؟
توقَّع عرب زنجبار، أن عبدالناصر – وعلى غِرار وقفته مع الكثير من شعوبِ المنطقة – لن يدَّخر مالاً ولا قوةً لمساندتهم؛ وأنه حتمًا سيتدخَّل، إذا ما تعرضوا لأي هجوم خارجي. يقول البرواني في اللقاء الذي أجريته معه، إن هذه النظرة لم تأتِ من فراغ، فلقد كان هناك بالفعل اتفاقٌ مبدئيٌ مع مصر على المساندة في تأسيس جيش زنجبار – مثلما حدث في الصومال – وأنه كان من المقرَّر أن يتجه وزير المالية، جمعة علاي الأبروي، إلى مصر للتباحث حول الترتيبات الخاصة لهذا الأمر، إلاَّ أن الرّياح هبّت بما لا تشتهي السفن (راجع في المعنى نفسه، تقرير مفوض الشرطة، جاك سوليفان، الذي أعده بتاريخ 17 يناير 1964م). ولهذا، فإن الاعتراف السَّريع للحكومة الناصرية بنظام الطُّغيان الجديد، خَيَّبَ فأل عرب زنجبار. فكيف حدث ذلك؟

الكثيرُ من اللَّغَط، قيل حول موقف عبد الناصر؛ ومن جُملة ما قيل: إن عبد الناصر اشتهر بكونه مُفجِّر الثورات في إفريقيا؛ ناهيك عن أنه كان ممّن أزال الملَكيّة في مصر؛ فكيف يُتصوَّر منه، والحال كذلك، العمل على ما من شأنِه حماية نظام سُلطانيّ ملكيّ إقطاعيّ من الإقصاء؟ ومن جانبنا نرى بأن عدم التَّدخُّل، قد يُعزى – إلى جانب أسباب أُخرى _ إلى ما يمكن وصفه بالتحليل الخاطيء لطبيعة الأعمال التي أطلقت عليها “ثورة”، وفق البيان التالي.


يصفُ محمد فائق، مدير مكتب الرّئيس عبدالناصر للشؤون الإفريقية، المشورة التي قدَّمها للأخير في قضية زنجبار على اعتبارها أهم المشورات على الإطلاق، فيوضح ذلك في صحيفة البيان الإماراتية، بتاريخ 24/‏7/‏2002م، فيقول:

“عندما قامت الثورة في زنجبار، كان هناك تصوُّر بأن هذا بمثابةِ مقتل دولة عربية، وكانت هناك بالفعل مجزرة وذبح. طلبني الرَّئيس وسألني: هل سنتفرَّج على مقتل دولة عربية؟ فقلت له: ما يحدث ليس مقتل دولة عربية، وإنّما هو وضع مُتعلِّق بالأوضاع الاجتماعية فيها، …..”
وقبل جلوسي مع معالي المستشار محمد فايق؛ جلست مع المستشار حلمي الشعراوي، الذي كان يعمل في رئاسة الجمهورية آنئذٍ، فأوضح لي المحاولة الحثيثة التي بذلها سفير سلطنة زنجبار في القاهرة، للحصول على موافقة الرئيس عبدالناصر بالتدخل العسكري. وفي بيانه لذلك، أوضح التالي:


أحمد اللمكي يستغيث:
وحول إمكانية تدخّل الإدارة الناصرية لإنقاذ الحكومة الشرعية من السّقوط، يقول الشعراوي: في يوم “الثورة”، وفق المصطلح الذي استخدمه، وبينما كانت عقارب السّاعة تشير إلى الثانية من بعد انتصاف الليل، أو بعد ذلك بقليل، تلقّى زيارةً غير مُتوقّعة في بيته، من السفير أحمد بن محمد اللمكي، مُعربًا له، والاضطراب يعلو وجهه، عن رغبته الملحّة في مُقابلة الرّئيس عبد الناصر فورًا. عبارات الاستفهام التي استخدمها الشعراوي، قابلها بيانٌ مُقتضبٌ من اللّمكي حول ما كان يحدث آنئذٍ في زنجبار، وأنه بذلك يرغب في تقديمِ استغاثةٍ إلى الرّئيس شخصيًّا، لانقاذ حكومة زنجبار من السّقوط؛ ولو بالتدخّل العسكري.


الشعراوي، بدوره، اصطحب اللّمكي إلى منزل المستشار محمّد فايق؛ إلّا أن الأخير، وعلى ما يبدو، وجد من غير الحكمة التعامل مع الموقف بالسّرعة التي أرادها اللمكي؛ ولعلّه أراد بذلك الوقوف على تفصيلات الموقف، من وزارة الخارجية، قبل عرضه على الرّئيس. عرَضَ اللمكي على فايق، من جملة ما عرض، في تلك اللحظات العصيبة، فكرة توجيه بعضٍ من القوات المصرية المرابطة في اليمن إلى زنجبار، لإنقاذ الموقف؛ إلّا أن فايق، وجد أن هذا الرّأي غير قابل للتنفيذ، لكثيرٍ من الاعتبارات، في مُقدّمتها، ذلك الوضع شديد الحرج الذي كانت تواجهه القوات المصرية في اليمن، والتي كانت في وضعٍ لا يسمح لها بالدخول في مُستنقعٍ جديد، بعد أن خسرت في اليمن أكثر من (35) ألف شهيد؛ وكانت الحرب تكلفهم مليون جنيه مصري يوميًا، في وقتٍ كانت العملة المصرية أقوى من الإسترليني.

وفي اللقاء الذي أجريته مع معالي المستشار محمد فايق في بيته في القاهرة، في سنة 2008م، نقلت له صراحةً لسان حال شعبَي عُمان وكذا زنجبار؛ بل، ولسان مقالهم أيضًا، الذي لطالما ردّد عبارة: أن الرئيس عبدالناصر كان يميل إلى التدخل العسكري، لولا المشورة الخاطئة من مستشاره للشؤون الأفريقية، التي صوّرت له أن ما كان يحدث هو ثورة اجتماعية. فقال معاليه: أنّ خبر الإطاحة بالحكومة الشرعية، تأكّد للقاهرة، عندما كانت جميع مفاصل الدولة الحيوية في زنجبار قد سقطت في أيدي “الثوار”، بما في ذلك المطار؛ وهو الأمر الذي جعل من بديل التدخّل العسكري، غير وارد من الناحية العمليّاتية؛ وأضاف بأن الرئيس عبدالناصر استدعاه فعلًا ، وسأله عمّا كان يحدث في زنجبار من تقتيلٍ وإبادة للعرب، وأنه رد عليه بما كان ثابت أمامه آنئذٍ من حراك شعبي جماهيري لإزاحة نظام السلطنة من قبل شباب عربي راديكالي، من أمثال “أحمد رشاد، وعبدالرحمن بابو”، هكذا ذكرهما بالاسم. يُذكر، فإن أحمد رشاد هذا، هو ابن العلامة المشهور علي باقشمر، من أصلٍ حضرمي. واسترسل فايق قائلًا: أنه اقترح على الرئيس التدخل الدبلوماسي، بدلًا من العسكري، الذي ما كانت مصر تقواه آنئذٍ، بسبب وضعها غير المحسود عليه في اليمن؛ وأن عبدالناصر أخذ بمشورته، وكانت مصر من أوائل الدول التي اعترفت بالنظام الجديد؛ وهو ما أجاز لها التدخل الدبلوماسي.
يؤكّد فايق أن اعتراف عبد الناصر السّريع بالنظام الجديد، جاء من مُنطلق رغبته في إيقاف المذبحة العرقية؛ فتقرر إيفاده على رأس وفد مصري لمقابلة القادة الجدد والتفاوض معهم بشأن حماية الأرواح.
في حلقة الغد، سنستعرض الجهود التي بذلها الوفد المصري لوقف حمام الدم العربي؛ كما سنعرج على السبب الثاني المجسد لمصلحة الإنجليز في إسقاط الحكومة الشرعية في زنجبار، والمتمثل في وقف انتشار الإسلام؛ ثم الدور الإسرائيلي في الإسقاط؛ ثم كيف أعلنت الحكومة استسلامها بشكلٍ رسمي في الإذاعة، وغيرها من الأحداث المتصلة.

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 16-01-22, 06:31 PM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «4»

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

كنا قد توقفنا في الجزء الثالث من هذا الموضوع الحيوي، عند اللّحظة التي قرر فيها الرئيس عبدالناصر إيفاد معالي المستشار محمد فايق إلى زنجبار، على رأس وفدٍ مصري، للتفاوض مع القادة الجدَد في زنجبار بشأن وقف عمليات الإبادةِ العرقية، وحماية الأرواح؛ وذلك، بعد أن أخذ الرئيس بمشورة فايق، بالتدخل الدبلوماسي، بدلًا من التدخل العسكري؛ وهو الأمر الذي اقتضى الاعتراف الفوري بالنظام الجديد.
يضيف فايق بأنه: وصل زنجبار في اليوم الثاني أو الثالث للإطاحة بالنظام، فوجد في استقباله في المطار عبد الرحمن بابو، وبعض الشخصيات الأخرى، التي كان قد تعرّف عليها في القاهرة؛ وهو الأمر الذي أكّدَ له أن “الثورة”، هي بالفعل اجتماعية، يقودها بعض الراديكاليين العرب؛ فأعرب لعبد الرحمن بابو عن القلق الشديد للرّئيس وحرصه على الوقف الفوري لحمّام الدّم العربي، وعدم امتداده إلى البر الإفريقي؛ فما كان من عبد الرحمن بابو إلاّ أن طمأنه بأن الأمور ستكون على ما يرام، وأن “الثورة” لم تهدف القضاء على العروبة كما يعتقد البعض؛ وكونه من أصلٍ عربي، لم ولن يسمح بذلك. أكد لي المستشار محمد فائق، في المقابلة التي أجريتها معه في بيته في القاهرة، في سنة 2008م، أنه اجتمع في النادي الإنجليزي، بمعظم القادة الجُدد، يذكر منهم: الرّئيس عبيد كارومي، وعبدالله قاسم هانجا، ومن يُلقبونه بـ”زعيم المقاتلين الأحرار”، جون أوكيلو؛ وبعض القيادات الأخرى، حيث نقل لهم رسالة عبدالناصر، وهي على النحو الآتي: “وقف حمام الدم العربي فورا، وعدم المساس برموز الحكومة المنكوبة، وعلى رأسهم علي بن محسن البرواني”، يقول فايق أنه كرّرها عليهم لثلاث مرات.طلب فايق مقابلة البرواني؛ إلا أن طلبه لم يحظَ بالموافقة، مكتفين بطمأنته بأن البرواني ورفاقه، رموز الحكومة السابقة، سيكونون في أمان، ولن يُمسّوا بسوءٍ؛ وهذا الذي حدث فعلًا؛ إلا أن بقاءهم في المعتقلات، امتدّ لعشرِ سنوات، حيث أفرج عنهم في سنة 1974م.
ومهما يكن من أمر، فإن المراقب لمجملِ الظروفِ والأحوال التي مرَّت بها القارة الإفريقية، في تلك الحقبة الزمنية؛ وتحديدًا، الظروف التي مرَّت بها مصر العربية الإفريقية، سيخرج بخُلاصةٍ مُؤداها أن عبد الناصر ما كان في وضعٍ يسمح له بالتّدخُّل. يُستخلص هذا فيما قاله فايق من أنه كانت هناك مُحاولة استعمارية خبيثة لإبعاد عرب إفريقيا، ومصر تحديدًا عن أيّ نوعٍ من التضامن أو الوحدة الإفريقية؛ ومن ذلك، برزت فكرة تقسيم القارة بواسطة الصحراء، ليصبح شمالها عربيّ وجنوبها إفريقي؛ وبفشل هذه المحاولة المرتكزة على مبدأ “فرِّق تَسُد” الاستعماري، برزت فكرة العُنصرية (العربية – الإفريقية) كمرتعٍ خصب لتشويه صورة العرب في القارة، وإثارة الكراهية ضدّهم. بلغت الفكرة مداها بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958م (فايق، عبدالناصر والثورة الأفريقية، ص 185).
وللتدليل على الحساسية المفرطة بين إفريقيا السّمراء والبيضاء، أوضح لي فايق أنه، حدث أن احتدم النقاش، في أحد اجتماعات منظمة الوحدة الإفريقية، بين مندوب السنغال ومندوب مصر، فتهجّم الأول على الثاني بالقول إنه يستغل المنظمة لفرض سياسة مصر على “الأفارقة”؛ ثم تساءل مُستنكرًا عمَّا إذا كانت مصر تنتمي حقيقةً إلى إفريقيا، أم أن انتماءها هو انتماءٌ عربي؟ (المرجع السابق، ص 188).
من هذا المنطلق، نرى أنه، ومع الأخذ في الاعتبار الوضع المتقدِّم، سنجد أن أيّ نوعٍ من التدخل من جانب عبدالناصر، مهما كان ضآلته، لنصرةِ حكومةٍ وصمت بكونها “عربية” – خلافًا للحقيقة -من السقوط، في وسط القارة السمراء، كان سينظر إليه بمنظورٍ عُنصريّ مُجرَّد (عربي – إفريقي)، المؤكِّد للمُخطَّط الاستعماري في هذا الشّأن؛ سيَّما إذا ما أخذنا في الاعتبار أيضًا أن المشاعر الإفريقية في دولِ السّاحل كانت قد أيَّدت حركة الإنقضاض التي تزعمها الرئيس نيريري وباركتها.


ويبدو أن عبد الناصر كان في موقفٍ حرج، ووجد نفسه مضّطرًا إلى وزن قضية زنجبار في ميزان المصالح السياسية؛ فوضع تأييد النفوذ العربي في زنجبار في كفّة؛ ووضع في الكفّةِ الأُخرى علاقة مصر بالشعوب الإفريقية السّمراء، فرجحت الأخيرة، وتلك هي لعبة السياسة.

هذا التحليل، ينبغي أن يُنظر إليه في ظلّ حدثٍ تاريخيٍّ مهم، وهو أن مصر كانت، في تلك الفترة، تعدّ العدّة لتأكيد دورها المؤثر، من أجل تحقيق الوحدة الإفريقية؛ وأنها عملت، لتحقيق ذلك، على استضافة أوّل اجتماعٍ لرؤساء منظّمة الوحدة الإفريقية، الذي انعقد في شهر يوليو 1964م (لقاء مع المستشار حلمي الشعراوي، سنة 2008). ينبغي ألاّ ننسى كذلك، بأن عبدالناصر كان يتطلّع إلى تحقيقِ دور كبير في مجال الوحدة الإفريقية، وأن من طموحاته كانت، إقامة جامعة إفريقية، على غرار الجامعة العربية. رأى عبدالناصر أن الصراع مع إسرائيل قد بلغ أشدّه، ووجد بالتالي أن ارتباط مصر بالدّول الإفريقية، في منظّمةٍ سياسيةٍ واحدة، من شأنه إعطاء مصر ميزة هامة في التغلّب على إسرائيل، يمكن استغلال هذه الميزة في مُقاومة التوسّع الإسرائيلي في القارة الإفريقية (فايق، 177 – 178).


وعلى الرّغم من أن التدخّل العسكري، من طرف الإدارة الناصرية لم يكن من البدائل المتاحة، من الناحيةِ العمليّاتية؛ يقول سليمان بن شحبل: فإن الفكرة التي تبلورت في صورة أن ما حدث في زنجبار إنما هو ثورة اجتماعية، يقودُها راديكاليون عرب، نُقلت إلى عبد الناصر كذلك من طرف الرئيس الجزائري، أحمد بن بلة، الذي اجتمع به في القاهرة، في يوم الانقضاض على زنجبار،ليُثنيه عن أيّ تدخّلٍ مُحتمل. يُذكر، أن وصول بن بلة إلى القاهرة، كان للمشاركة في مُؤتمر قمّة جامعة الدّول العربية، بتاريخ 13 يناير 1964م. (بن شحبل، ص 411).

هذه الفكرة، التي نراها غير سديدة، هي التي جعلت عبد الناصر يرفض الاستجابة لاستغاثة أحمد اللمكي، سفير سلطنة زنجبار في القاهرة، حسب البيان الذي أوردناه في الجزء الثالث من هذا الموضوع. يقول السفير اللمكي: في صباح اليوم التالي، ظهرت الصُحف المصرية بتصريحٍ منه، مفاده أن زنجبار لم تتعرّض لثورةٍ اجتماعية، كما يعتقد البعض، وإنما لعُدوان خارجيّ (بن شحبل، في لقائه مع اللمكي، في عام 1989م، ص 411).


ثانيًا: وقف انتشار الإسلام
ينبغي ونحن نتحدّث عن مسألة وقف انتشار الإسلام، كسببٍ ثانٍ من الأسباب التي يمكن أن يُعزى إليها تدخّل بريطانيا في إسقاط الحكومة، ينبغي أن نتذكّر الحقائق التالية: أن زنجبار كانت مركزًا للإشعاع الديني والحضاري في شرق إفريقيا؛ وكانت لها تأثيرٌ فكريّ قويّ على دول المنطقة؛ وأن الدّهاء الإنجليزي لم يكن ليغفل عن حقيقة أن الإسلام هو المرشَّح لقيادة العالم. لاشك أن وضعًا كهذا كان من الطبيعي أن يقلق المبشرين.


الدور الإسرائيلي
الحميميّة التي بدت في علاقة قادة الحزب الوطني الزنجباري بعبدالناصر، دفعت بإسرائيل إلى السّعي نحو تكوين علاقات مُضادة مع بعض قادة إفريقيا؛ وذلك تحسُّبًا لامتداد المشروع الناصري إلى شرقيّ القارة الإفريقية؛ سيّما إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحزب الوطني، كان قد صُنّف لدى المراقبين بأنّه حزبٌ عربيّ. وعليه، فلقد نجحت وزيرة خارجية إسرائيل، جولدا مائير، في تكوين علاقة وطيدة مع الدكتور كوامي نكروما، الرّئيس الغاني؛ كما اغتنمت فرصةَ وجودها في مؤتمر “كل الشعوب الإفريقية” الأوّل، الذي انعقد في أكرا، عاصمة غانا، في ديسمبر من عام 1958م، وتعرّفت على كارومي، عن طريق الرئيس نيريري، الذي كان رئيسًا لحزب التانو (TANU) آنئذٍ.


تمويل المعارضة:
الثابت يُشير إلى نجاح جولدا مائير في حملتها في زنجبار، وذلك من خلال استمالة حزب المعارضة، الأفروشيرازي، الذي أخذت تُزوّده بالكثير من المساعدات المالية والعينيّة. فلقد حصل هذا الحزب على مجموعة من سيارات لاندروفر ذات دفعٍ رباعيّ، وكذا مبالغ مالية، أثناء الحملات الانتخابية؛ حيث كانت المساعدات، في بادئ الأمر، تُرسل عن طريق حزب التانو (TANU)- الذي حكم تنجانيقا فيما بعد؛ وفي وقتٍ لاحق، وجدت طريقًا مباشرًا، عن طريق أمين خزينة حزب المعارضة، وهو تاجر هندي يدعى رافال. ولقد أكّد مصدرٌ بنكيّ، أن حساب هذا الحزب، كان يتلقى دعمًا شهريًّا من إسرائيل، يُقدّر بثمانية عشر ألف شلنج (بن شحبل، ص 406).

الذي كان يقوم بدور التنسيق بين الجهتين هو عميل “تاجر” إسرائيلي، يدعى ميشا فينسيلبير (Misha Feinsilber). عُرف هذا العميل من قبل المسؤولين بأنه السفير غير المعلن لإسرائيل، حيث كان على أرض زنجبار بذريعة العمل في مجال تصدير السمك واستغل هذا الغطاء في القيام بدورِ الوساطة في توصيل المساعدات إلى حزب المعارضة.


ومن منطلق الحميميّة التي سادت، على الأقل، من طرف الحزب الوطني تجاه عبد الناصر وأيديولوجياته؛ تعاطفت زنجبار كثيرًا مع القضيّة الفلسطينية؛ وهو الأمر الذي دفع برئيس الوزراء إلى الإعلان صراحة عن مُعارضة حكومته لإسرائيل، وذلك في الخطاب الذي ألقاه في يوم الاستقلال، الموافق 10 ديسمبر 1963م. واضحٌ من التصريح، أن رئيس الوزراء لم يكن قد حَنكتهُ التجارب بعد؛ وإلاّ، لما صرّح بأمرٍ يُدعّم العقيدة المترسّخة حول كونهم حكومة عربية؛ سيّما وأن ذلك جاء في محفلٍ عام. كما اتّجه رأيّ علي محسن البرواني – حينما كان وزيرًا للداخلية، قبل الاستقلال – إلى ضرورة إصدار قرار إداريّ بإبعاد العميل ميشا من زنجبار؛ إلاّ أن مُفوّض الشرطة بايلز (Biles) ثناه عن هذا الاتّجاه، بعد أن أوضح له أنه لا ينبغي عليهم، كدولةِ قانون، اتّخاذ قرارات كهذه، دونما اللجوء إلى القضاء.

ومع اقتراب موعد الاستقلال، تعاظمت المساندة الإسرائيلية لحزب المعارضة بشكلٍّ حادٍ وملحوظ؛ كما نجحت إسرائيل في شراء ذمّة عبد الله قاسم هانجا، الذي أصبح نائبًا لرئيس زنجبار، في حكومة الانقضاض على الشرعية؛ وأغلب الظّن أنها نجحت في شراء ذمة عبد الرحمن بابو، رئيس حزب الأمة، كذلك. فلقد شوهدا لمراتٍ مُتكرّرة، يتردّدان على مكتب ميشا اليهودي وكذا السفارة الإسرائيلية في دار السلام.
التخطيط للإطاحة بالنظام:


تشير إحدى وثائق الاستخبارات الأمريكية، أن المذكورين، ومعهما آخرين من الشباب الإفريقي المتعلّم، خطّطوا، بمعزلٍ عن مجموعة جون أُكيلّو، ودون علمهم، للإطاحةِ بالحكومة الشرعية. هناك دلائل تشير إلى أن السفارة الإسرائيلية، في دار السّلام، أرسلت إلى مجموعة (هانجا – بابو) شحنةَ سلاح؛ إلاّ أن استخدامها في الإطاحة بالحكومة غير مُؤكّد؛ إذ من المرجّح أن تكون قد وصلت زنجبار بعد عمليّة جون أُكيلّو بوقتٍ قصير (بن شحبل، 406 – 407)، حيث كان من المقرّر أن يكون موعد تنفيذ المجموعة الثانية لعمليّتهم في عطلة نهاية الأسبوع التالية، أي في اليومين 18- 19 يناير (أنتوني كلايتون، 69 – 70).
جديرٌ بالذّكر، أن عبد الرّحمن، الملقّب بـ”بابو” كان قد بعث مجموعةً من الشباب إلى كوبا لتلقي تدريباتٍ عسكريةٍ خاصة في العمليّات ذات الصّلة بالإطاحة بالحكومات؛ وكان ذلك بالتنسيق مع السّفير الكوبي في دار السّلام، بابلو ريبالتا. هذه المجموعة عادت إلى زنجبار عن طريق دار السلام، قبل الانقضاض على النظام ببضعة أيام. من الأهمية بمكان أن نعلم أن عودة هؤلاء الشباب المشحونين بفكر بابو الشيوعي، كان بواسطة قارب تابع لشركة منتجات المحيط، التّابع للتاجر الإسرائيلي ميشا (كلايتون، 70 – 71).

يذكر، أن إسرائيل كان يهمّها، في تلك الحقبة من الزمان، أن تتوغّل داخل القارة الإفريقية، لتكتسب ثقة أُممها، ثمّ تأييدها في موقفها ضد العرب. فتبنّت لذلك سياسة تقديم مُختلف المساعدات لشعوب إفريقيا، من تدريب وتعليم وخدمات أُخرى. يقول كلايتون: إنه من غير المستبعد أن تكون الحكومة الإسرائيلية قد استخدمت هذا التاجر الإسرائيلي في تحقيق أهدافها في زنجبار. ويضيف قائلاً: إن هذا التاجر وبصفته إسرائيلي الجنسية، وجد نفسه يكنّ الكراهية لحكومة زنجبار، المصنفة خطأً بكونها “عربية” – سيّما وأن رئيس الوزراء، محمد شامتي كان قد أعلن عن موقفه في خطاب الاستقلال إزاء القضية العربية الإسرائيلية – فوجد التاجر أن مصلحة تجارته تكمن في تقديم ما يلزم من مُساعدة لإقصاء تلك الحكومة من الوجود؛ إذ أن استمرارها كان حتمًا سيؤدّي إلى وضع حدٍّ لنشاطه التّجاري (كلايتون، 71).
قيادات إسرائيلية تزور زنجبار:


إن ما يُؤكّد الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الإفريقية، يكمُن في الزيارةِ الخاطفة التي أجراها لزنجبار موشى ديّان – الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للدفاع الإسرائيلي – في الفترةِ السّابقة لسقوط الحكومة الشرعية؛ ثمّ الزيارة المماثلة التي أجراها ديفيد كيمحي، وهو النّائب الثاني لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي،”الموساد”، والمسئول عن الشئون الأفريقية، فور سقوط زنجبار؛ حيث انتقل إلى المقر الذي اتّخذه القائد المزعوم للإنقضاض مقرًّا له، وتقابلا هناك، دون أن يُعرف الحوار الذي دار بينهما تحديدًا (لقاء أجريته مع الدكتور حارث الغساني، نقلًا عن لقاءات أجراها الأخير مع بعض القيادات الإسرائيلية، التي آثر عدم الإفصاح عنها). الثابت في أدبيّات جهاز الموساد وقادتها، يشيرُ إلى أن ديفيد كيمحي، هو النّجم اللامع في الجهاز، وأنه ترأس كل العمليات السرّية التي تحقّقت في أفريقيا.

محاولتهم لضم أمريكا معهم:


يُشار أخيرًا إلى أن ميشا، صرّح في جريدة “واشنطون ستار” الذّائعة الصّيت، في عددها الصادر بتاريخ 4 مايو 1964، أنّه سبق أن نصح القنصل الأمريكي، قبل انتخابات يوليو 1963م بفترةٍ وجيزة، نصحه بأهميّة تقديم مُساندة مالية لحزب المعارضة، الأفروشيرازي، ليتمكن بمقتضاها من الوقوف أمام المساندة المصرية القوية للعرب؛ وذلك، بعد أن أوضح له أن الحكومة العربية ونظام السّلطنة لن يستمرّا طويلاً، وأنه بات من المهم عمل ما يلزم لإظهار الولاء لهذا الحزب؛ إلا أن القنصل رفض حتى رفع المقترح إلى واشنطن، حسبما جاء في تصريح ميشا. وفي هذا الصّدد، يؤكّد بيترسون، الذي كان مُساعدًا للقنصل الأمريكي آنئذٍ، يؤكد في كتابه: حتى لو حدث أن رفع القنصل المقترح إلى واشنطن، فمن المستبعد أن تستحسن الخارجية الأمريكية فكرة التقرّب نحو المعارضة وإغضاب حكومة الحكم الذاتي التي كانت قد أوشكت على استلام الحكومة بعد الاستقلال المرتقب (بيترسون، ثورة في زنجبار، ص 30).

ومن هذا المنطلق، ينفي مُساعد القنصل، بيترسون، علم القنصلية الأمريكية بوجودِ أيّ مُخطّط للإطاحة بالحكومة الشرعية، أو بوجود أيّ تهديدٍ للأمن في تلك الليلة من طرف المعارضة، وفق الكيفية التي أوردها أنتوني كلايتون في كتابه (ص 29)؛ وأن هذا تُؤكّده جُلّ تقارير القنصلية التي صدرت في الفترة السابقة للإطاحة بالنظام، والتي تمحورت معظمها حول حزب الأمة وراديكالية رئيسه، عبدالرحمن محمد بابو؛ وكذا، أيديولوجيّته الخطيرة على أمن البلاد وعن علاقته المريبة بالشيوعية، وبالصين تحديدًا، وفق الثابت في آخر تقرير صدر عن القنصلية، في اليوم السابق للاطاحة بالحكومة الشرعية. أنظر (بيترسون، ص 31).


الاستسلام الرسمي


للحكومةِ الشرعية

في لحظةٍ من اللحظاتِ المبكرة للانقضاض على النظام؛ وتحديدًا، فور أن شعرت الحكومة بفقدها لزمامِ السَّيطرة على الموقف الأمني، فكَّرَت الحكومة في مُغادرة جزيرة زنجبار العاصمة والاتجاه نحو الجزيرة الخضراء (بيمبا) – الشديدة التأييد للائتلاف الحاكم – لحمايةِ نفسها من الانهيار؛ إلا أن هذه الفِكرة سُرعان ما أن تبدَّدت، ذلك لأن هَم الحكومة في ذلك الوقت العصيب، لم ينصرف إلى حماية شرعيتها ومقاومة الانهيار، بقدرِ ما انصرفَ إلى حمايةِ الأرواحِ البريئة من الإبادةِ الوحشية الجماعية.


أمام هذا الموقف العصيب، لم تجد الحكومة الشرعية المنتخبة مَناصًا من الاستسلام. ففي تمام الخامسة من مساء يوم الأحد الموافق 12 يناير 1964م، تقدم كلٌّ من محمد حمد شامتي، رئيس الوزراء (من أصل شيرازي)؛ وعلي بن محسن البرواني، وزير الخارجية؛ وجمعة علاي الأبروي، وزير المالية؛ تقدَّموا إلى حيث مقر الحزب الأفروشيرازي المعارض، وذلك لغايات الاستسلام بشكلٍ رسمي. يضيف على هذا وزير التعليم والرعاية الاجتماعية، آنئذٍ، مولد مشانجاما (قُمري الأصل): إنهم كانوا يأملون أن الاستسلام الرسمي للحكومة سيهدئ من حالةِ الفوضى والفَلَتان الأمني التي سادت؛ وسيوقف بالتالي المذابح الجماعية والنهب، التي كان يتعرَّضُ لها الأبرياء من الشعب؛ إلّا أن ذلك لم يحدث (راجع كتابه، ص 11).
يُذكر أنه، قبل لحظات الاستسلام، تقدم كل من رئيس الوزراء، ووزير الخارجية إلى مكتب القنصل البريطاني، حيث سجَّل البرواني، وزير الخارجية، رسالة استسلامٍ إذاعية إلى الشعب، قال فيها:
“دعونا نتقبل الموقف على ما هو عليه الآن. فلم تعُدْ للمقاومة أية فائدة ولا معنى. دعونا نتقبل الموقف على اعتبارهِ إرادة اللهِ عز وجل، ولنرفع معًا أكُفَّ الضراعة، لعودةِ الأمنِ والأمان إلى بلادنا”.


كان من المقرّر أن يُسجّل رئيس الوزراء، محمّد شامتي رسالة الاستسلام الإذاعية، إلاّ أن وضعه النفسي لم يسمح له ذلك، وأسند الأمر إلى البرواني، وزير خارجيّته؛ مُكتفيًا هو بالتوقيع على الوثيقة الرّسمية لاستقالة حكومته (كلايتون، 83).

عودًا إلى لحظات الاستسلام العصيبة، يقول البرواني: إنه عندما شرع في دخول مقر قيادة حزب المعارضة – الذي كانت تفوحُ منه رائحة الحشيش والخمور المصنّعة محليًّا – بصحبة الرجلين آنفي البيان، تفاجأ بِضربةٍ شديدةٍ على مُؤخرةِ رأسهِ، أطاحت به أرضًا، ولم يدرِ بنفسهِ إلا وقد أُدخل حيث يوجد جون أُكيلّو، بينما هذا الأخير يُشهر مسدسًا على وجههِ، ويسأله عما إذا كان يريده أن يقتله، فرد عليه البرواني: افعل ما تراه أنت مناسبًا (أوكيلو، ص 152). ويُضيف البرواني، بأن ذلك كان في حضور عبيد كارومي، رئيس حزب المعارضة؛ وعبد الرحمن بابو، رئيس حزب الأمة؛ والمدعو ميشا “السفير غير المعلن لإسرائيل في زنجبار”، الذي قدّم له سيجارة، فردّ عليه بأنه لا يُدخّن.يقول البرواني: إن ما يزيدُ الموقف أسىً وحسرة، أن أيًّا من هؤلاء الرّجال، باستثناء عبد الرّحمن بابو، لم يكونوا من مواليد زنجبار؛ بل وليس لهم أية جذورٍ بالأرض.
وبهذا تم اعتقال أعلى ثلاثة عناصر في الحكومة الائتلافية الشرعية، وأُودعوا السجن بلا محاكمة لمدّة عشرِ سنوات وخمسة أشهر.
سنستعرض في حلقة الغد أحداث خروج جلالة السلطان جمشيد بن عبدالله آل سعيد من زنجبار، والتفاصيل المتصلة بذلك.

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 18-01-22, 02:44 AM

  رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «5»
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

في حُدود الحادية عشر من صباح أول أيام سقوط نظام سلطنة زنجبار، الذي صادف الأحد 12 يناير 1964م، خرج جلالة السّلطان جمشيد بن عبدالله آل سعيد من قصرِه، متجهًا إلى ميناء زنجبار البحري، الذي يبعد مسافة خمسمائة متر تقريبًا، ومعه أسرته وحاشيته، وركب سفينة (السلامة)، دون أن يعلم وجهته تحديدًا، بقدرِ ما علم أن عليه الخروج من البلد فحسب؛ لينأى، ليس بنفسه ولا بأسرته من مذبحةٍ مُحققة وكفى؛ بل لينأى بالنظام من السقوط والانهيار أيضًا، وفق مشورة رئيس الوزراء، التي نقلت إليه عبر أحد المخلصين للنظام وللسّلطان؛ في محاولةٍ لإقناع جلالته بترك القصر، والخروج من البلد؛ دون البقاء، والقتال حتى الشهادة، كما أراد السّلطان الشاب الذي عُرف واشتهر بالشجاعة والإقدام، كما وصفه الشيخ عيسى الإسماعيلي في كتابه.
تشرفت بتاريخ 6 أبريل 2006م، بمقابلة جلالة السّلطان جمشيد، في بيته في انجلترا. وعلى الرغم من أنها لم تكن فعليًا المقابلة الأولى؛ إلّا أنها كانت كذلك، من ناحية تخصيصها لنقل الأحداث منه مباشرةً، وفقما عايشها، لحظةً بلحظة؛ وهو لعمري شرفٌ حصريّ، خصّه جلالته لي، دون غيري، حتى لحظة تسطير هذا التقرير. فالمعروف عن جلالته، تحفظه الشديد عن التحدث عما حدث، ليس مع الإعلاميين فحسب؛ وإنما، مع المؤرخين في الوقت عينه.


بالجلوس مع جلالته، وبدء الحديث معه حول مسألةِ خروجه من زنجبار، وكيف كانت؛ تلمست كم كان الأمرُ عسيرًا عليه، وشعرت بقشعريرة تسري في عروقي .. كيف لا، والأمر عسيرٌ على كلّ ذي حسٍ وإدراك أن يتخيّلَ مليك وقد أجبرته ظروفٌ مريرة على تركِ عرشه، وعرش آبائه وأجداده، من قبل، ظلمًا وعدوانًا. كَمْ هو مُوحشٌ حقًا أن يُرى ذلك المليك مجبورًا، ليس على تركِ عرشهِ وكفى، وإنما على تركِ وطنه أيضًا، بل والخروج منه طريدًا مُنكسرًا؛ باحثًا، وهو في عرضِ البحر، عن ملاذٍ يأويه ويقبله بصفةٍ ما كانت لتخطر على باله يومًا، وهي صفة اللاجئ السياسي. هذا هو عينُ ما حدث للسُّلطانِ الشاب صاحب الثلاثة والثلاثين عامًا، والذي لم تتجاوز فترة جلوسه على عرش زنجبار، كدولةٍ مُستقلة، واحدًا وثلاثين يومًا فقط؛ بعد أن كان قد جلس على العرش، تحت الحماية البريطانية، فور وفاة والده، السلطان عبدالله بن خليفة بن حارب، بدءًا من 1 يوليو 1963م. إنّه ذلك السّلطان، الذي طالما رفض حياة القصورِ والعظمةِ والمجد، مُؤثرًا عليها البساطة والاختلاط بعامة الجمهور؛ وهو الأمر الذي دفعه مِرارًا إلى رفض أيلولة العرش إليه، وتقديم أخيه الأصغر، سمو الأمير السيد محمد (كما كان يُلقب آنئذٍ)؛ إلاّ أن مجلس الوزراء نصحه بألا يخالف العُرف السّلطاني في مسألة ولاية العرش.


القرار التاريخي الصَّعب
يقول جلالة السّلطان جمشيد: إن الأمر الذي أزعجه كثيرًا، وجعله يشعر بالمرارة، أنه لم يكن قد تلقّى أيّ إبلاغٍ عن أعمال الشغب المرتقبة، ممّن يُتوقّع منهم ذلك – مجلس الأمن القومي أو رئيس الوزراء، أو حتى وزير خارجيّته – في الوقت الذي بادره بذلك أحدُ كبار التجار الهنود، ممّن يدينُ له بالولاء، يُدعى (كيرمالي)، في اليوم السّابق للعدوان، حيثُ طلب الالتقاء به لأمرٍ غاية في الأهمية. يذكر أن مجلس الأمن القومي كان قد تشكل على أعقاب أعمال الشغب التي وقعت في عام 1961م.


يذكر أيضًا، أن السّلطان الشّاب، الذي اعتاد على التجوّل بسيارته وقت الأصيل من كلّ يوم، مرَّ على التاجر أعلاه في محلّه، بعد أن فرغ من جولته؛ فالتمس منه الأخير عدم الخروج للقنص في صباح اليوم التالي، الأحد، كما هي عادته الأسبوعية، مُؤكّدًا له أنه سمع همهمة كلامية بين الناس بأن حزب المعارضة سيفجّر اضطرابًا أمنيًا شديد الحرج .يقول السلطان: إنه عاد من فورِه إلى القصر والوقت يدنو من أذان المغرب، حيث حاول عبثًا مُخابرة رئيس الوزراء عبر الهاتف لمرّاتٍ مُتكرّرة. أخذ القلق يتسلّل إلى نفسه رويدًا رويدًا، لم تُبدّد حدّته سوى المحادثة الهاتفية التي أجراها مع البرواني، وزير خارجيّته، الذي طمأنه بتأكيد علمهم بالشائعات؛ وبأن رئيس الوزراء أصدر توجيهاته إلى مُفوّض الشّرطة لاتّخاذ ما يلزم من تدابيرٍ أمنية، لقمعِ أيّ تمرّدٍ مُحتمل، حفظًا للأمن والنّظام العام.

ورغم هذه الطّمأنة، فإن السّلطان قضى ليلته في قلقٍ شديد، حيث لم يجد النوم أو حتى النُعاس طريقًا إلى مآقيه. وفي حدود الثانية والنصف من بعد انتصاف الليل، اخترق أزيز الرّصاص سماء المدينةِ الهادئة؛ فأخذ السّلطان يُجهّزَ ما لديه من سلاح، مسدسًا وبندقية، وجهز ذخيرته، لمواجهة الأسوأ.


هذا، ويستمر جلالة السلطان جمشيد في عرضه لتلك اللّحظات الأليمة، وعلامات الحُزن والأسى تعلوان وجهه وتملآن عينيه، فيقول: بأن مُرافقه الشخصي (AD. Camp) استأذنه عقبَ صلاةِ الفجر، للوصول إلى مركز شرطة ماليندي لتفقُّد الأوضاع هناك، على أن يعود إليه دونما تأخير، إلاّ أنه لم يعُد. يضيف السّلطان على ذلك فيقول، وقلبه يملأه الحزن، وتقطر منه المرارة: إن المرافق سأله، قبل خروجه من القصر، ما إذا كان لديه سلاح، فأخرج السلطان مُسدّسه، بنوعٍ من الشّدة، من بين طيّات ملابسه، قائلًا له: بالتأكيد لديّ سلاح، هاهو هاهو ذا. قال السّلطان: إنه توقّع الخيانة من المرافق، مُشيرًا أنه شعر، في تلك الأثناء، بأنه إن لم يبرز سلاحه بتلك الكيفية، لكان المرافق قد أجهز عليه قبل خروجه من القصر، رميًا بالرّصاص.


عدم عودة مرافق السّلطان إلى القصر، لم يكن بالأمر الغريب؛ إذ عُرف عنه ميلهُ إلى حزب الأمة، وأيديولوجيته الشيوعية؛ لأسبابٍ كثيرة، لسنا بصددِ الإشارة إليها في هذا الحيز المحدود. إن ما يهمّنا في هذا السّياق، يكمن في الإشارة إلى ما قد يلحظه المراقب، بمفردات أمنِ اليوم وأبجديّاته، وبمنظورِ المكان المغاير للمكان، أن تصرُّفًا كهذا يُعدُّ وبحق، ضربًا من ضروب الإخلال الجسيم بأمن السّلطان، بل وكبيرة من الكبائر الأمنية التي لا تُغتفر؛ إذ كيف يتأتى الإبقاء على شخصٍ مشكوكٍ في ولائِه للنّظام الحاكم، داخل أروِقةِ القصر؛ إلاّ أن العالمين ببساطةِ شعب زنجبار ووضاعة تفكيره، وميله المفرط إلى التّسامح؛ يُدرك، أن الأمر ما كان ليُحمَل على محمَل توقّع الغدرِ والخيانة.


يسترسل السّلطان قائلًا: أنه، في حدود السادسة صباحًا، أو بعد ذلك بقليل، وصل إليه في القصر مندوبٌ من رئيس الوزراء، يُدعى الحاج حسين، وأبلغه رسالة مجلس الوزراء بضرورة ترك القصر، حمايةً له؛ إلاّ أن جلالته امتنع عن الخروج، قائلًا، وبشجاعته المعهودة: إنه لن يخرج ويترك رعيَّته يلتهمهم الغوغائيّة مُنفردين؛ وإذا لم يكن من الموت بُدّ فالأكرم له أن يقاتل حتى تكتب له الشهادة بين ظهرانيهم. حاول الحاج حُسين جاهِدًا إقناع السُّلطان بوجاهة رأي الخروج من القصر، إلاَّ أنه استعصم. يذكر أن هذا الاعتصام والإصرار على القتال، ورد في تقرير سميثيمان، الذي عمل حتى قبيل سقوط زنجبار في مكتب رئيس الوزراء؛ كما ورد ذلك أيضًا في كتاب الشيخ عيسى الإسماعيلي، ص ص 98 – 99).

يقول السّلطان: في هذا السياق، وبعد أن غادر الحاج حسين خائبًا؛ ورده بعد فترةٍ، لم يحددها، السفير هلال بن محمد البرواني،الذي تمكَّن فعلًا من إقناعه بالخروج، بعد أن أوضح له أن الخروج ليس لمصلحته فحسب، وإنما لمصلحةِ النِّظام والبلد والشعب في آنٍ واحد. وهذا هو عين ما أكده لي وزير خارجية الحكومة المنكوبة، خلال لقائي معه في سنة 2004م. يقول السّلطان: ورده، بعد ذلك، اتصال هاتفي من المفوّض السّامي البريطاني، تيموثي كروسوايت، وأبلغه باقتراب الغوغائيين من القصر، وأن الأمر بات يحتّم عليه ترك القصر، بل والرحيل من البلد. أبلغه كذلك، بأنه سينسّقُ مع مُفوّض الشرطة لتأمين سلامة خروجه. يُذكرأن السفير هلال البرواني، كان قد صدر بشأنه مرسوم سلطاني بتعيينه سفيرًا لدى الأمم المتحدة؛ وقدم أوراق اعتماده فعلًا لأمين عام الأمم المتحدة في نيويورك، قبل الأحداث بأقل من ثلاثة أسابيع؛ ولولا القدر الذي أعاده إلى زنجبار، لكان قد حصل على اللجوء السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية.


في تمام الحادية عشرَة صباحًا، تلقى جلالة السّلطان جمشيد اتصالًا آخر من مفوّض الشرطة، جاك سوليفان، مُستأذنًا جلالته بأن يرسل إليه ضابطًا على رأس قوّة شُرطيةٍ مُسلّحة، لإخراجِه من القصر إلى الميناء البحري؛ وأوضح له بأن القوة ستصل القصر في غضون عشرِ دقائق. وهذا هو عين ما ورد في تقرير مفوض الشرطة، المحفوظ في الأرشيف البريطاني.

تنفيذًا لذلك، وصلت القوّة المذكورة القصر، وعملت بالفعل على تأمين وصول جلالته، وأفراد أسرته إلى الميناء البحري. أوضح لي السّلطان: أنه خرج من القصر مُتهيئًا لأسوأ الاحتمالات؛ فظهر للعامة حاملًا بندقيةً بيمينه، ومُخبّئًا بين طيّات ملابسه مُسدّسًا؛ وأبت نفسه أن يخرج في سيارة الشرطة؛ مُؤثرًا، بدلًا من ذلك، الخروج مرفوع الهامّة، قائدًا سيارته بنفسه، وكأنّ الأوضاع تسيرُ وفق طبيعتها، حيث ركبَت معه زوجته وأولاده؛ بينما ركب بقيّة أفراد الأسرة، وكذا الحاشية في سيارات النّجدة التي أحاطت بسيارة السُلطان. هذه القوة الشرطية، لم يكن في مقدورها العودة إلى مركز شرطة ماليندي لتعزيز المقاومة؛ إذ أن الغوغائيين، كانوا قد اقتربوا إليهم؛ وهو الأمر الذي دفعهم إلى ركوبِ السفينة بصحبة السّلطان.


ترك جلالة السّلطان أفراد أسرته في السفينة، وعاد مُنفرِدًا إلى قصرِه – لسببٍ لم يذكره – دونما حراسةٍ أمنية. ولا يُعرف حقيقةً سبب هذا الانفراد؛ ويُرجَّح أن تكون الحراسة نصحته بألاّ يفعل ذلك، إلاّ أنه أصرَّ على العودة. وهذا هو عين ما أكده لي السيد سعود بن أحمد بن حماد السّمار، في اللقاء الذي أجريته معه في بيته، في سنة 2006م، حيث أكد لي أنه كان يراقب الموقف من شرفة بيته، في مربع القصور السلطانية؛ ولاحظ السلطان يعود إلى القصر منفردًا، دون حراسةٍ أمنية يشيرُ السّلطان إلى أن أفراد حراسة القصر، أدوا له التحية العسكرية، حسب العادة التي درجت عليها أُصول المراسم السّلطانية، عند دخوله القصر؛ إلاّ أن الأمر لم يكن كذلك عند الخروج، حيث لم يُكلّفوا أنفسهم حتى مجرد القيام من مقاعدهم؛ وهو الأمر الذي توجّس منه السّلطان خيفةً، وتوقَّع منهم الخيانة، حال العودة إلى القصر ثانيةً. هذا المظهر، يشير إلى حقيقةٍ مُؤدّاها: كيف كان التحول، ليس على النّظام فحسب، وإنّما على السّلطان أيضًا سريعًا وواضحًا، حتى ممَّن كان يُتوقّع منهم بذل التضحيات، فداءً لحياتِه؛ والسبب يعود إلى دأب قيادة الشرطة على تعيين ضباط الصف، وكذا الأفراد من البر الأفريقي، الموالين لحزب المعارضة، الأفروشيرازي، وفق البيان الذي أوردته في الجزء الثالث من هذا التقرير.


هكذا، حانت ساعةُ الرّحيل .. لحظاتٌ دراميةٌ لنهايةِ عهد .. سُلطانٌ يُغادرُ قصرَه طريدًا مُنكسرا .. نظراتٌ تائهةٌ مُرتبكة، ملؤها علامات الاستفهام، مُلتمسةً السبيل المنقِذ للموقف .. خيانةٌ مُتوقّعة من حيث لا يدري.. عُيونٌ محمرّةٌ من شدّةِ الحنَق على ما هو آيلٌ لشعبِه، والحسرةِ على فقدان عرشٍ تليد .. سلطانٌ يعتلي ظهر سفينةٍ مُحطّم الفؤاد ساهمًا واجمًا وقد غامت الدُّنيا في وجهه، فيوجّه منها نظرةَ الوداع إلى القصر الذي بناه جدّه الأكبر، السيّد سعيد بن سلطان.. وإلى المدينة التي ولد وكبر على تُرابها، هو ووالده من قبل .. يتولّد لديه عندئذٍ إحساسٌ بأنها آخر عهد له بهما؛ ويبدو أن الحال كذلك؛ حيث لم يعد إلى زنجبار، حتى اللحظة.


وعودًا إلى لحظات الخروج، يُذكر بأن السفينة السّلطانية “السيد خليفة”كانت قد أبحرت، بوالدة السلطان وبعضٍ من أفراد أسرته، قبل الغزو ببضعة أيام إلى مينائي تانجا وممباسا، لقضاء فترة نقاهة ما قبل حلول شهر رمضان المبارك. وعليه، فلقد أُرسلت برقية عاجلة إلى قائد السفينة بالعودة الفورية إلى ميناء زنجبار لنقل السّلطان وإلى حين وصول السفينة، نُقل السّلطان إلى سفينة “السلامة” – في حدود الحادية عشر صباحًا – التي كانت قد أُبعدت عن الرّصيف، إلى ما وراء مرمى بنادق الغُزاة والغوغائيين ومما يُذكر، فإن سميثيمان، هو الذي تولى كلّ الترتيبات الخاصة بتجهيز السفينة المقلة للسلطان. فيقول سميثيمان في هذا الصدد: إنه كان قد تواصل هاتفيًا مع رئيس الوزراء، محمد شامتي، واتفق معه على أن يُغادر مجلس الوزراء برفقة السلطان في السفينة، إلا أنه تفاجأ عند وصوله السفينة بعدم رؤية أحدٍ من الوزراء بصحبة السلطان. أضاف سميثيمان قائلاً: إن عدم مرافقة الوزراء للسلطان في هذه الرحلة، أجهض أي احتمالية لإعادة ترتيب وضع الحكومة الشرعية.راجع تقرير سميثيمان، ص 15، الأرشيف البريطاني. وصلت سفينة “السيد خليفة” قبالة ميناء زنجبار، في زمنٍ قياسيّ، حيث بلغت مقصدها من ميناء تانجا، في أربع ساعات تقريبًا؛ أيّ أنها وصلت ميناء زنجبار في حدود الرّابعة عصرًا، حيث وقفت على مقربة من “السلامة”، وعندها تم نقل السلطان ومن معه إلى “السيّد خليفة”.


إبحار إلى وجهةٍ مجهولة:
هنا تبدأ رحلة السّلطان إلى المجهول .. سفينةٌ تبحرُ في لحظاتٍ تاريخيةٍ عصيبة، دون أن تعلم وجهتها .. أخذ القبطان يلفّ بها حول جزيرة زنجبار لثلاثِ مرّات، لا لشيءٍ سوى لعدم تلقّيه التعليمات حول الوجهة التي ينبغي سلوكها. أحمد بن سيف الخروصي، الذي كان في حكم السكرتير الخاص للسّلطان، في رحلة الخروج هذه، استدعى أهل الرّأي من الرّجال لعقد اجتماعٍ طارئ، داخل السفينة لتحديد الوجهة. تضاربت الآراء؛ حيث ذهب رأيٌ ضعيف إلى الاتجاه نحو الصُّومال؛ بينما ذهب رأيٌ أقوى منه قليلاً إلى الاتّجاه إلى مصر؛ واتّجه رّأي ثالث – والذي رجّحه المجتمعون جميعًا، باستثناء جلالة السلطان – إلى جزيرة بيمبا، المعروفة بـ(الجزيرة الخضراء)، للأسباب التالية:


1. تُشكل جزيرة بيمبا النّصف الآخر المكمِّل للإقليم الأرضي لسلطنة زنجبار. وعليه، فإن نزول السّلطان عندها، يُكسبه القوة من خلال قدرته على ممارسة صلاحيّاته الدستورية؛ من تشكيل حكومة جديدة، خلفًا لتلك المستقيلة في العاصمة زنجبار؛ وما إلى ذلك من صلاحيّات؛ سيّما وأن الغالبية العُظمى من سكّان بيمبا، هم من مؤيّدي حزب الشعب، الدّاخل في الائتلاف الحاكم. وعليه، فإن وجود السّلطان على أرض هذه الجزيرة، ما كان ليُشكّل أية خطورة على حياته.


2. إن وجودهم على الإقليم الزنجباري، كان ليُعزّز من مكانتهم عند إجراء الاتّصالات اللازمة مع الحكومة البريطانية، أو أيٍّ من الحكومات الصديقة، لطلب المساعدة العسكرية.


3. لسهولةِ القيام بهجومٍ فوريٍّ مُضاد. فلقد كان الرّأي، أن تواجدهم في بيمبا، سيُمكّنهم من وضعِ اليد على سلاح الشرطة هناك؛ وبالتالي، إعلان التعبئة العامة، للانقضاض على الغُزاة في العاصمة، إجهاضًا لذلك العدوان الغاشم قبل أن تتوطّد أركانه.

كلام الملوك، ملوك الكلام، كما جاء في الأثر:


عارض جلالة السلطان كليًا التوجه إلى جزيرة بيمبا، حيث استبعد بحدسِه وفراستِه الحصول على أي إسنادٍ من الإنجليز؛ وآثر التوجّه إلى ممباسا، بدلًا من ذلك؛ فكان له ما أراد، وصدرت التعليمات بمقتضاه إلى القبطان. ثبت وثائقيًّا بأن حدس السلطان كان مُصيبًا؛ فمسألة وضع اليد على سلاح الشرطة في بيمبا، للقيام بهجومٍ مُضادة، ثبت عدم إمكانيّته، في ظل ما أكّده مُفوّض الشّرطة، في تقريره، بأنه كان قد أصدر تعليماته إلى الضابط المسؤول في مركز شرطة بيمبا، الرائد لونج لاند بأن ينقل جوًّا أكبر قدر من السلاح والذخيرة إلى زنجبار للإسناد. وممّا يُذكر، فإن الضابط المذكور نفّذ تعليمات المفوّض في حوالي التاسعة صباحًا؛ إلّا أن المفوّض اضطر، عقب ذلك، إلى التنسيق مع برج المراقبة لتوجيه الطيار بإعادة السلاح إلى بيمبا؛ بعد أن علمَ بسقوط المطار في أيدي الغُزاة. كما ورد في التقرير بأنه لم يكن في مقدور الطيار العودة إلى بيمبا، دون أن يوضح السبب إلى ذلك؛ ويعتقد أنه بسبب النقص في كمية الوقود. علم في وقتٍ لاحق، بأن السّلاح تم إنزاله في مطار دار السلام. (راجع تقرير مفوض الشرطة، ص 7، الأرشيف البريطاني)؛ كما أن مسألة الحصول على إسنادٍ من الإنجليز، كذلك لم تكن واردة؛ إذ مع التسليم الجدلي بأن نيّة الإنجليز كانت قد اتّجهت إلى الإسناد، لفعلوا ذلك دونما تأخير، كما حدث في كلٍّ من تنجانيقا، وكينيا وأوغندا، في وقتٍ لاحق من الشهر ذاته. يدعم هذا الرّأي ويُؤيّده، حقيقة وجود قطع بحرية بريطانية في المياه الإقليمية الزنجبارية، منذ اللحظات الأولى للغزو؛ ومع ذلك، آثرت عدم التّدخّل.


يُذكر أنه، وعلى الرّغم من هذه المحنة السياسية، التي ألمت بالسّلطان بالدّرجةِ الأولى، فإنه لم يفقد أعصابه ولا رباطة جأشه، في أيّ مرحلة من مراحل المحنة.

ففي خارج أوقات رسم السياسات، واتّخاذ القرارات – التي كانت تتمّ في غرفةِ العمليات – كان يجلس مع العامة، ويتباحث معهم في مسائل اجتماعية مُتنوّعة، وكأنّ شيء لم يحدث. فكان يُجالس الشباب، الذين هم في أواسط العمر، يتبادل معهم أطراف الحديث في الجوانب الرّياضية، التي كانت تستهويه شخصيًّا، كسباق السيارات، وألعاب القوى، كالملاكمة وكمال الأجسام والقنص؛ ويتجنّب، في الوقت ذاته، التباحث معهم في المصير الذي كان ينتظرهم، أو عن احتمالات التدخّل الإنجليزي، وما إلى ذلك من المواضيع، وفق الثابت في اللقاء الذي أجريته مع الشيخ سالم بن حمود الخروصي، في سنة 2002م. وفي هذا السياق، يقول سميثيمان: “نظرتي تجاه السّلطان أخذت تتعاظم في كلّ ساعةٍ ولحظة من تلك اللحظات العصيبة التي عايشتها معه، إنه رجلٌ يتمتع بالشجاعة ورباطة الجأش”. وفق الثابت في رسالةٍ وجهها سميثيمان إلى السير جورج مورينج، آخر مقيم بريطاني في زنجبار، ص 5، الأرشيف البريطاني.


في ختام هذا الجزء أقول: إن تفصيلات خروج جلالة السّلطان جمشيد من زنجبار، كثيرة ومتشعبة، ومهمة في آنٍ واحد. وعلى الرغم من أنني أطرحت منها الكثر من التفصيلات غير المؤثرة وغير الضروية لاستقامة المشهد العام في الأذهان؛ فإن حرصي، في موازاة ذلك، على أهمية إحاطة الجمهور الكريم بالحيثيات المحورية


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 18-01-22, 07:38 PM

  رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «6»

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■
وصلنا في الجزء الخامس من هذا التقرير، عند اللحظات التاريخية العصيبة التي كانت فيها السفينة السّلطانية “السيد خليفة”، تبحر على غيرِ هُدى، وعلى متنها آخر سلاطين دولة البوسعيد، في زنجبار، جلالة السّلطان جمشيد بن عبدالله آل سعيد، وأسرته ومجموعة من الذين تركوا وراءهم كل ما يملكون، مؤثرين على ذلك النفاد بجلودهم من موتٍ أو تنكيلٍ مُحققين.


القرار الذي صدر من غرفة العمليات، التي انعقدت على ظهر السفينة، هو بالتوجه إلى ممباسا، التي كانت قد خرجت من ممتلكات سلطنة زنجبار، لمصلحة دولة كينيا المستقلة، قبل تلك الحادثة بثلاثةِ أشهرٍ فقط. يُذكرأن جلالة السّلطان كان قد وقع بالتراضي، بتاريخ 8 أكتوبر 1963م، في لانكستر هاوس في لندن، على وثيقة تسليم الشريط الساحلي لكينيا “ممباسا”، دون مقابل نقدي. أشرنا بأن هذا هو القرار الذي أمر به جلالته، بعد أن رفض بدائلٍ ثلاثة مطروحة، هي: اللجوء إلى الصومال، أو إلى مصر، أو إلى الجزيرة الشمالية لسلطنة زنجبار، المعروفة بجزيرة بيمبا. وعلى الرغم من أن غالبية أهل الرأي رجّح اللجوء إلى جزيرة بيمبا، للأسباب الوجيهة التي أشرنا إليها؛ إلا أن جلالته لم يتفق معهم في الرأي، وتأكّد لاحقًا أنه كان مصيبًا، وفق التقارير التي نوهنا بها في الجزء نفسه. في هذا العدد، سنرى كيف كانت ردّة فعل الحكومة الكينية على مسألة استقبال سلطانٍ يدين غالبية سكان الشريط الساحلي بالولاء له.


قبل لحظات وصول السفينة السلطانية الشريط الساحلي لكينيا، نشير إلى أن مُفوّض الشرطة، جاك سوليفان، الذي كان على ظهر السفينةِ نفسها، أصدر تعليماته إلى أفراد الشرطة – أثناء الإبحار – أن يجمعوا السلاح من جميع الرّكاب، بحجّة حفظ الأمن والنظام العام. اغتاظ البعض من تعليماتٍ كهذه، وترددوا في الامتثال لها؛ حيث شعروا أنها لا تعدو كونها وسيلة من وسائل الإنجليز لفرض السيطرة عليهم، وقيادتهم كيفما يشاءون؛ فنشبت على إثر ذلك مُلاسنةٌ كلامية بين أحدهم والمفوّض، حيث جادله بالقولِ إن تلك الأسلحة، إنّما هي أسلحة شخصية، وليست ملكًا للدولة؛ كما أنه، أي المفوّض، لم تعد له أية صفةٍ رسميةٍ تُؤهله، أو تجيز له إصدار توجيهات أو أوامر إليهم. شرَعَ المفوّض في فرض تعليماته وتنفيذها بالقوةِ الجبرية، بأن أمر اثنين من أفرادِه بسحب البندقية منه كُرهًا؛ فما كان من ذلك الفتى الجريء، الذي لم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد، إلاّ أن أشهر البندقية تجاههما، مُهدِّدًا بالقضاء عليهما إذا ما تحرّكا لخطوةٍ أُخرى إلى الأمام؛ كما هدّدهما بلهجةٍ حادة بألاّ يتدخّلا في الأمر.


حاول المفوّض أن يرهبَ الفتى بسطوته التي ولّت، حيث أخذ يرفع صوته، وينعته بأحطّ الصّفات؛ فما كان من الفتى إلّا أن ازداد قلبه تصلبًا وشجاعةً، مُصوّبًا سلاحه تجاهه، قائلًا في ثباتٍ وهدوء أعصاب: خطوة واحدة إلى الأمام وستجد الرصاصة قد استقرت في قلبك؛ مُضيفًا على ذلك، وبلهجةٍ حادة، بما معناه أن أهله وجماعته يُقَتّلون ويُذَبّحون في زنجبار؛ وإنه لذلك لا يهاب الموت، الذي سيوافيهما حتمًا في آنٍ واحد (يقصد نفسه والمفوّض). هنا توقّف المفوّض، بعد أن أحسّ أن الشاب عازمٌ على تنفيذ ما في رأسه؛ فأخذ يُكلّمه باللين والسياسة؛ طالبًا منه ألاّ ينسى أن جلالة السلطان على متن السفينة؛ وأن مُقتضيات حفظ الأمن والنظام العام تُحتّم نزع السلاح من الجميع. ردّ عليه الفتى قائلًا: إنهم ما ركبوا السفينة إلا لحماية جلالته؛ وأنه لا مسوغ، والحال كذلك، من نزع السّلاح. وبعد أخذٍ وعطاء، وتدخُّل كبار السّن لتهدئة الفتى الشجاع، تراجع الأخير عن موقفه، إلاّ أنه آثرَ أن يُلقي بالسلاح في البحر، ولا أن يُسلّمه للمفوّض.لم يكن هذا الشاب، العصي على الإنقياد، سوى المهندس سليمان بن أحمد بن سليمان الريامي .. ولا غرو من وقفته المتصلّبة تلك؛ فلقد ورث الشجاعة والإقدام من والده المعروف بقوةِ الشكيمة.


يمنع من دخول ممباسا
في تمام الثّامنة من صباح يوم الاثنين، 13 يناير، وصلت السفينة السلطانية ميناء ممباسا، وعلى متنها جلالة السلطان وبعض من أفراد أسرته وحاشيته وكذا أتباعه. صدرت التعليمات أن ترسو السفينة في مكانٍ مُنعزل خارج الميناء، وتحديدًا، في مكانٍ يُعرف بـ(Mtongwe)؛ ولم يُسمح لأحد بالصعود أو النـزول. وتحدّث جوزِف مورومبي، وزير دولة بمكتب رئيس الوزراء، بالنيابة عن رئيس الوزراء، إلى القنصل البريطاني، حيث التمس منه النّظر في إمكانية نقل السّلطان إلى أيّ دولةٍ أُخرى بواسطة سفينةٍ من سفن البحريّة الملكية البريطانية؛ وذلك بعد أن أوضح له، أن السّماح للسلطان بدخول ممباسا، قد يُؤدّي إلى نشوبِ اضطرابٍ أمنيٍّ شديد الحرج من طرف العرب (عمانيين وحضارمة) المقيمين في ممباسا.

وللأمانة، يمكن القول إن هذا التوجُّس كان له ما يُسوغه؛ فوفق الإبانة المتقدمة، كان الشريط السّاحلي لممباسا،وعلى عُمقِ عشرةِ أميال إلى الدّاخل، من ممتلكات سلطنة زنجبار، فمن الطبيعي، والحال كذلك، توقع ردة فعلٍ قوية من قِبل الشعب، الذي ما فتئ أفراده حتى تلك اللحظة، يكنُّون الولاء لسُلطانهم. جديرٌ بالذكر، أن عرب ممباسا كان يُقدر عددهم آنئذٍ بحوالي أربعين ألف عربي.
يُذكر، أن السلطات أجازت لاثنين فقط من أفراد الشرطة الزنجبارية بالنـزول من السفينة، لتلقّي العلاج، جرّاء إصابتهما بطلقٍ ناريّ، أحدهما يدعى جاكسون إيجونزا، 24 عامًا، من نيانزا (Nyanza)؛ والآخر يدعى سالم عبد الله، 21 عامًا، من الجزيرة الخضراء؛ فتمّ نقلهما فورًا إلى مستشفى الساحل العام في ممباسا. وفي لقاءٍ صحفيّ، أجرته جريدة دايلي نيشون (Daily Nation)، أفادا: إن على متن السفينة خمسين من أفراد الشرطة، وهم جميعًا مُستعدّون للإعراب عن ولائهم للنظام الجديد في زنجبار. أنظر صحيفة (Daily Nation)، الصادرة في ممباسا، بتاريخ 15 يناير 1964م، ص 4، مقال بعنوان (Their real Uhuru day)، أي، “يوم الاستقلال الحقيقي لهم”.


وبينما كان الأمر لا يزال قيد الدراسة من قبل الإنجليز، صدرت تعليماتٌ من السّلطات المعنية، للسفينةِ السّلطانية بمُغادرتها ميناء ممباسا؛ وذلك، دونما التنسيق مع وزير خارجية كينيا، ولا حتى السّماح للسفينة بالتزوّد، لا بالوقود ولا بالمؤن. المسئول الذي أصدر هذه التعليمات غير معلوم تحديدًا؛ ومع ذلك، يُرجّح أن يكون وزير الداخلية، أوجينجا أودينجا (Oginga Odinga)، الذي كان، في الوقت ذاته، مسئولاً عن الهجرة. تحرّكت السفينة مرة أُخرى، تمخر عباب البحر، من غير هُدى، إلى أن تلقّى القبطان نداءً، عبر جهاز اللاسلكي، مُبشّرًا بحصولهم على موافقة دار السلام لاستقبال السلطان وأتباعه؛ فكان التوجّه إلى ميناء دار السّلام من غير تردّد.
ثمّةَ أمرٌ جوهريّ هنا، لابد من ذكره، وهو أن حكومة دار السلام، ما كانت لتبادر باستضافة جلالة السلطان إلى إقليمها هكذا حبًّا فيه، وإنما بتدخُّلٍ إنجليزيّ، وفق الثابت في الوثيقة رقم (HO 344/‏309)، الأرشيف الوطني البريطاني، لندن.


وفي اللقاء الذي أجريته مع السفير سالم بن حكيم الخصيبي، في سنة 2004م، قال: لم يسمح لأحدٍ بالنـزول من السفينة، عقب وصولها ميناء دار السلام، إلى أن اعتلى ظهرها بعض المسؤولين من الشرطة التنجانيقية، وسمحوا بذلك للسلطان وحاشيته فقط من المدنيين؛ بينما أمروا العسكريين بالبقاء في السفينة، إلى أن تأتيهم تعليمات لاحقة. وعليه فلقد بقيَ الملازم سالم بن حكيم الخصيبي ومن معه من أفراد مركز شرطة ماليندي وعددهم (30) ثلاثين فردًا تقريبًا – أو يزيد على ذلك بقليل – بانتظار التعليمات. في اليوم التالي، وصلتهم قوةٌ شرطيةٌ، بقيادةِ ضابط، حيث نزع عنهم الرتب العسكرية، وسمح لهم بالنـزول؛ إلاّ أن ذلك كان إلى السجن مُباشرةً. وبعد أن بقوا في السّجن قُرابة الخمسةِ أيام، وفي الليلةِ الموعودة، حيث العودة إلى زنجبار لمحاكمتهم، أو بالأحرى، للتنكيلِ بهم، تمكّن الخصيبي بالمكرِ والخداع من الهرب من السّجن بأعجوبة، ولجأ مُباشرةً إلى السفارة البريطانية، حيث مُنح الحماية السياسية؛ ومنها سافر إلى عدن، حيث عمل في التدريس، ومكث فيها بِضع سنين؛ ثم إلى مسقط، حيث عمل في جهاز الشرطة، واستمر كذلك إلى أن تقلّد منصبًا قياديًّا، ثم نقلت خدماته إلى وزارة الخارجية، وعُينَ بدرجة سفير؛ وبعد أن تقاعد، عمل مبعوثًا خاصًا لجامعة الدول العربية في الصومال، وغيرها.


وضِعَ السّلطان، وكذا أتباعه قيد الإقامة الجبرية في بيتين من بيوت الحكومة في حي راقٍ، يُدعى (Oyster Bay Area)، في العاصمة دارالسلام، تحت حماية الشرطة؛ حيث خُصّص بيتٌ للسلطان وأفراد أسرته، والبيت الثاني لأتباعه وحاشيته. استمر مكثهم في دار السلام منذ يوم 13 يناير، إلى يوم 18 من الشهر ذاته، حيث اليوم المحدّد للجوئهم جميعًا إلى بريطانيا.
في مساء هذا اليوم التاريخيّ المشهود، يوم 18 يناير، تمّ توصيل جلالة السّلطان وأتباعه إلى مطار دار السلام، في حراسةٍ أمنيةٍ مُشدّدة؛ حيث وجد هناك السفير البريطاني في مُقدّمة مُودّعيه ومنعت الشرطة الصحفيين والمصوّرين من الوصول للمطار، وفق ما كشفت عنه جريدة الأهرام المصرية، ص 4، الصادرة بتاريخ 20 يناير 1964م. وفي تمام العاشرة مساءً أقلعت طائرة تابعة للخطوط الشرق أفريقية (East African Airline)، الرحلة رقم (RCH 3376) بالسلطان وأتباعه (46) ستة وأربعين شخصًا من مطار دار السلام إلى مطار نيروبي، الذي وصلته في تمام الحادية عشرة والربع من مساء اليوم نفسه؛ ليلتحق بهم أفراد أسرة السّلطان الذين كانوا يقضون إجازة في ممباسا، وعددهم (13) ثلاثة عشرَ شخصًا، منهم والدته السيدة تُحفة، وشقيقه، السيّد حارب؛ وكذا، أخواته وابنته السيّدة معتوقة. كان السيّد محمّد، شقيق السّلطان، الأصغر منه في السّن مُباشرةً، قد غادر معه من زنجبار. ومن مطار نيروبي كانت المحطة التالية مطار بنغازي (ليبيا)، حيث وصلته في تمام الخامسة وخمس وخمسين دقيقة من صباح اليوم التالي، 19 يناير، ونزلوا المطار ترانزيت لمدّة ساعتين تقريبًا؛ ومن مطار بنغازي أقلّتهم الطائرة ذاتها إلى إنجلترا. وفق الثابت في الوثيقة السابقة، المحفوظة في الأرشيف البريطاني، لندن. لم تتمكّن الطائرة من الهبوط في مطار هيثرو (لندن)، لسوء الأحوال الجوّية، فاتّجهت إلى مطار مانشستر.وفي المطار، أُجري له مؤتمر صحفي، صرّح فيه بالخطّة التي دُبّرت للإطاحة بحكومته، حسبما ورد في جريدة الأهرام المصرية، ص 5، بتاريخ 21 يناير 1964م.


إلى جانب بعضٍ من المسئولين، فقد استقبلهم الصليب الأحمر، الذي زوّدهم بملابسٍ شتويةٍ ثقيلة، ومعاطف واقية من البرد الشديد والمطر، فمكثوا ليلتهم في مانشستر؛ وفي اليوم التالي، نُقلوا جميعًا إلى لندن بالقطار، حيث حطّ جلالة السلطان جمشيد رَحاله وكذا أسرته في فندقٍ جديد في حي (Queen’s Gate)، قريب من قصر باكينجهام، بينما أفراد حاشيته، وكذا الشباب الذين كانوا في حمايته، حطّوا في ثكنة تعرف بـ(Salvation Army Barracks)، وهي مُتّصلة بالجيش والصليب الأحمر. وفي المقابلة التي أجريتها مع كل من سالم بن حمود الخروصي، وسليمان بن أحمد الريامي، أفادا: وبعد أيامٍ معدودة من وصولهم لندن، زارهم مندوب من مكتبِ العمل، لتسجيل الحِرَف التي يجيدونها، كلّ على حدة؛ وكذا، المجالات التي يمكنهم الخدمة فيها، لتوفير عمل مُناسب لهم؛ فتمّ ذلك بالفعل، وانخرط الشباب في سوق العمل؛ فكانت تلك من بدايات استقرار العُمانيين، القادمين من زنجبار، في بريطانيا والعيش فيها، وأغلبهم شقوا طريقهم إلى مسقط رأس أجدادهم في سلطنة عمان في مطلع السبعينيات.


كان من المقرّر أن يستقر السّلطان في لندن، إلاّ أن الشيخ سالم بن مسعود بن علي الريامي، الذي كان يدرس القانون في مدينة بورتسماوث، في الجنوب، التمس منه، وبإلحاح، أن ينتقل معه إلى هذه المدينة الأخيرة، ويتّخذها موطنًا له؛ فما كان من جلالة السلطان، الذي تربطه صداقة حميمة بشقيق الشيخ سالم الأكبر، الشيخ عبدالله بن مسعود، إلاّ وأن نزل عند رغبته، وانتقل إلى بورتسماوث، واشترى منزلاً متواضعًا في حي فيكتوريا جروف، إلى أن أتى اليوم التاريخي المشهود، الذي قرر فيه الاستقرار في مسقط رأس أجداده، سلطنة عمان، بتاريخ 15 سبتمبر 2020م، بعد أن قضى ستة وخمسين عامًا في المنفى.


أختم بكلام الحق عز وجل:
“قُلِ ٱللَّهُمَّ مَلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ٌ” . آل عمران، 26
ومن منطلق أن التاريخ ليس ملكًا للجيل المعايش لأحداثِه وكَفى؛ وإنما، للأجيال الآتية، بالمقدارِ نفسه؛ سعيتُ إلى توثيق هذا الجانب الحيوي الهام من امتداد الإمبراطورية العُمانية، معززًا بالمصادر التي رجعت إليها، تسهيلًا لكل من سيأتي بعدي، من الباحثين، لإيلاء الموضوع ما يستحقه من عنايةٍ تامة، غيرِ منقوصة؛ فإن أصبت الهدف، فللهِ وحدهُ المنةِ والفضل؛ وإن قصّرتُ أو أخطأتُ، فذلك من نفسي ومن الشيطان، والله بريء منه ورسولُه، والله المستعان، إنه نعم المولى ونعم النصير.

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

إضافة رد

أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
 

شبكـة الوان الويب لخدمات المـواقع