في مقاله له بمجلة "فورين أفيرز" يناقش لورنس فريدمان أستاذ دراسات الحرب في كلية كينجز بلندن سؤال لماذا تستغرق الحروب أكثر مما يظن مخططوها؟ وما بين السقوط في فخ "التقدير الرغبوي" وسوء قراءة الخصوم وعدم امتلاك أهداف عسكرية وسياسية واضحة ومرنة يمكن تكييفها مع مجريات الصراع يستعرض فريدمان أسباب الحروب الطويلة، خالصا إلى أن الحروب الخاطفة والقصيرة كانت مجرد استثناء تقل احتمالاته باستمرار.
ومع إدراك هذه الحقيقة تتفتح نافذة جديدة لإعادة التفكير في الحروب المستمرة ومدى فاعليتها في تحقيق الأهداف السياسية للدول.
نص الترجمة
خلال عملية
عاصفة الصحراء التي دُشنت عام 1991 بهدف "تحرير الكويت من الاحتلال العراقي"، أطلقت الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده العنان لقوة برية وبحرية وجوية هائلة أنهت المهمة في غضون أسابيع.
وقتها كان التناقض بين النصر السريع الذي حققته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبين الحرب المنهكة وغير الناجحة التي خاضتها واشنطن نفسها في فيتنام والحرب الطويلة والمكلفة
للاتحاد السوفياتي في أفغانستان أوضح من أن تخطئه عين لدرجة أنه أثار الحديث حول عصر جديد للحروب أو ربما "ثورة في الشؤون العسكرية".
ومن تلك اللحظة فصاعدا، كانت الحكمة السائدة هي أن الأعداء سوف يُهزمون من خلال السرعة والمناورة، مع توفير معلومات استخبارية آنية بواسطة أجهزة استشعار متطورة توجه هجمات فورية، تُشن باستخدام الأسلحة الذكية.
لكن هذه الآمال لم تدم طويلا، ولم تكن حملات مكافحة التمرد التي شنها الغرب في العقود الأولى من هذا القرن، والتي أطلق عليها فيما بعد اسم "الحروب الأبدية"، تتسم بأي قدر من السرعة. على سبيل المثال كانت الحملة العسكرية لواشنطن في أفغانستان هي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، وفي النهاية لم تكلل بالنجاح حيث عادت
حركة طالبان إلى السلطة واستعادت السيطرة رغم هزيمتها في مطلع الحرب.
ولا تقتصر هذه المشكلة على الولايات المتحدة وحلفائها، بل تنطبق أيضا على الغزو الروسي لأوكرانيا الذي كان من المفترض أن يجتاح البلاد في غضون أيام لكنه استمر أكثر من 3 سنوات -ولا يزال مستمرا- سادت خلالها معارك الاستنزاف وتكسير العظام بدلًا من الأعمال الجريئة والحاسمة.
وعلى نحو مماثل، عندما شنت إسرائيل حربها على غزة في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حث الرئيس الأميركي جو بايدن على أن تكون العملية الإسرائيلية "سريعة وحاسمة وساحقة".
ولكن بدلًا من ذلك، استمرت الحرب مدة 15 شهرا، وامتدت إلى جبهات أخرى في لبنان وسوريا واليمن، قبل التوصل إلى وقف إطلاق نار هش في يناير/كانون الثاني 2025، وبحلول منتصف مارس/آذار، اشتعلت الحرب من جديد. هذا ولم نذكر بعد العديد من الصراعات في أفريقيا، بما في ذلك في السودان ومنطقة الساحل، التي لا نهاية لها في الأفق.
بدأت الفكرة القائلة إن الهجمات المفاجئة يمكن أن تنتج انتصارات حاسمة ترسخ نفسها في الفكر العسكري في القرن التاسع عشر، ولكن مرارا وتكرارا أظهرت الوقائع العملية مدى صعوبة إنهاء الحروب في وقت مبكر ومرضي. لقد كان القادة العسكريون الأوروبيون واثقين من أن الحرب التي بدأت في صيف عام 1914 يمكن أن "تنتهي بحلول عيد الميلاد" -وهي عبارة لا يزال يستشهد بها كلما كان الجنرالات متفائلين أكثر مما ينبغي- وبدلًا من ذلك، استمر القتال حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وانتهى بهجمات سريعة، ولكن بعد سنوات من حرب الخنادق المدمرة على طول خطوط المواجهة الثابتة تقريبًا.
وكذلك نجحت ألمانيا في اجتياح معظم أوروبا الغربية عام 1940 من خلال حرب خاطفة "Blitzkrieg" جمعت بين المدرعات والقوة الجوية، غير أنها لم تتمكن من إنهاء المهمة. ففي أعقاب التقدم السريع والأولي ضد الاتحاد السوفياتي عام 1941، انجر الألمان إلى حرب وحشية مع خسائر فادحة في الأرواح على الجانبين، لم تنته إلا بعد أربع سنوات مع الانهيار الكامل للرايخ الثالث.
وعلى نحو مماثل، انتهى القرار الذي اتخذته القيادة العسكرية اليابانية بشن هجوم مفاجئ على الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 1941 إلى هزيمة كارثية للإمبراطورية اليابانية في أغسطس/آب 1945. وفي الحربين العالميتين، لم يكن مفتاح النصر يكمن في البراعة العسكرية بقدر ما كان كامنا في القدرة الفائقة على التحمل.
ورغم هذا التاريخ المرير من الصراعات المطولة، فإن الإستراتيجيين العسكريين يواصلون تشكيل تفكيرهم حول الحروب القصيرة، حيث من المفترض أن يتم تحديد كل شيء خلال الأيام الأولى، أو حتى الساعات الأولى من القتال.
وفقًا لهذا النموذج، لا يزال من الممكن وضع إستراتيجيات من شأنها أن تترك العدو مذهولا من سرعة واتجاه ووحشية الهجوم الأولي. ومع وجود احتمال دائم بأن تجر الولايات المتحدة إلى حرب مع الصين بسبب تايوان، فإن الحكم على جدوى مثل هذه الإستراتيجيات يصبح قضية ملحة: فهل تستطيع الصين الاستيلاء على الجزيرة بسرعة، باستخدام القوة الخاطفة، أم أن تايوان بدعم من الولايات المتحدة، سوف تكون قادرة على وقف مثل هذا الهجوم في بداياته؟
الواضح أنه في ظل التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة ومجموعة متنوعة من الخصوم، فإن هناك اختلالا خطيرا واضحا في عملية التخطيط الدفاعي. وفي اعتراف بميل معظم الحروب إلى الاستمرار أكثر مما هو مخطط له بدأ بعض الإستراتيجيين يحذرون من أخطار الوقوع في مغالطة "الحرب القصيرة". ومن خلال التركيز على الحروب القصيرة، يعتمد الإستراتيجيون بشكل كبير على خطط المعارك الأولية التي ربما لا تنجح في الواقع العملي، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.
ويرى أندرو كريبينيفيتش (الجنرال السابق ومحلل السياسات العسكرية والدفاعية) أن حربًا مطولة بين الولايات المتحدة والصين "ستتضمن أنواعا من القتال التي لا يملك المتحاربون سوى القليل من الخبرة فيها"، وأنها قد تشكل "الاختبار العسكري الحاسم في عصرنا". وعلاوة على ذلك فإن الفشل في الاستعداد للحروب الطويلة يخلق نقاط ضعف في حد ذاته.
ولكي تنتقل الدول من حرب قصيرة إلى حرب طويلة الأمد، يتعين عليها أن تفرض مطالب مختلفة على جيشها وعلى المجتمع كله بما يشمل إعادة تقييم الأهداف والثمن الذي ينبغي دفعه من أجل تحقيقها.
وبمجرد أن يقبل المخططون العسكريون أن أي حرب كبرى معاصرة قد لا تنتهي بسرعة، فسوف يتعين عليهم التفكير بعقلية مختلفة. فعلى جانب، تُخاض الحروب القصيرة باستخدام كل الموارد المتاحة في وقت معين؛ بينما تتطلب الحروب الطويلة التطوير المستمر للقدرات بهدف التكيف مع الضرورات التشغيلية المتغيرة، كما يتضح مثلا من التحول المستمر في حرب الطائرات المسيّرة في أوكرانيا.
وبشكل لا يقل أهمية، لا تسبب الحروب القصيرة سوى اضطرابات مؤقتة في اقتصاد بلد ما ومجتمعه ولا تتطلب خطوط إمداد واسعة النطاق؛ في حين تتطلب الحروب الطويلة إستراتيجيات للحفاظ على الدعم الشعبي، واقتصادات فعالة، وطرق آمنة لإعادة التسليح، وتجديد مخزونات الذخائر وحتى استبدال القوات.
وتتطلب الحروب الطويلة أيضًا التكيف والتطور المستمر: فكلما طال أمد الصراع، زاد الضغط من أجل الابتكار في التكتيكات والتقنيات من أجل تحقيق تقدم ملحوظ. وحتى بالنسبة لقوى عظمى، فإن الفشل في الاستعداد لمواجهة هذه التحديات ثم محاولة النهوض لمواجهتها قد يكون كارثيا.
ولكن من العادل أيضا أن نتساءل عن مدى واقعية التخطيط للحروب التي ليس لها نهاية واضحة. إن الاستمرار في حملة طويلة الأمد لمكافحة التمرد أمر، والاستعداد لصراع مطول من شأنه أن ينطوي على خسائر مستمرة وكبيرة في الأشخاص والمعدات والذخيرة على مدار فترة طويلة أمر آخر تماما.
وبالنسبة لإستراتيجيي الدفاع، هناك أيضًا عقبات كبيرة أمام هذا النوع من التخطيط: فالجيوش تفتقر في الأغلب إلى الموارد اللازمة للاستعداد لحرب طويلة، وحلّ هذه المعضلة لا يكمن في الاستعداد لحروب غير محددة المدة، بل في تطوير نظريات جديدة للنصر تكون أكثر واقعية في أهدافها السياسية وأكثر مرونة في كيفية تحقيقها.
مغالطة الحرب القصيرة
تعد مزايا الحروب القصيرة، وفي مقدمتها تحقيق النجاح الفوري بتكلفة معقولة، واضحة للغاية إلى درجة أنه لا يمكن تقديم أي مبرر للدخول عن قصد في حرب طويلة، وعلى النقيض من ذلك، فإن مجرد الاعتراف بإمكانية إطالة أمد الحرب يثير الشكوك حول قدرة الجيش على تحقيق الانتصار على خصومه.
لذلك، فإذا لم يملك الإستراتيجيون ما يكفي من الثقة في إمكانية إبقاء الحرب المحتملة قصيرة الأمد، فربما يكون من الحكمة اتباع السياسة الحكيمة الوحيدة في هذا الوقت وهي عدم خوض تلك الحرب على الإطلاق.
ومع ذلك، فبالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة، ربما يتعذر استبعاد الصراع مع قوة عظمى أخرى ذات قوة مكافئة، حتى لو لم يكن النصر السريع مضمونا. ورغم أن الزعماء الغربيين لديهم نفور مفهوم من التدخل في الحروب الأهلية، فمن الممكن أيضًا أن تصبح تصرفات جهة غير حكومية ما ضارة إلى الحد الذي يجعل التعامل مع التهديد الذي تشكله أمرا ضروريا، بغض النظر عن المدة التي يستغرقها ذلك الأمر.
هذا هو السبب في أن الإستراتيجيين العسكريين يواصلون صياغة خططهم حول الحروب القصيرة، حتى عندما لا يمكن استبعاد سيناريو الصراع الطويل الأمد. خلال
الحرب الباردة، كان السبب الرئيسي وراء عدم تخصيص الجانبين موارد واسعة النطاق للتحضير لحرب طويلة هو الافتراض بأن الأسلحة النووية سوف تُستخدم عاجلا وليس آجلا.
وفي العصر الحالي، لا يزال هذا التهديد قائما لكن احتمال تحول صراع بين القوى العظمى إلى شيء أشبه بالحروب العالمية الكارثية التي شهدها القرن الماضي هو أمر مخيف لدرجة أنه يزيد من الضغوط للبحث عن الخطط المصممة لتحقيق نصر سريع باستخدام القوات التقليدية.
تتمحور الإستراتيجيات المستخدمة لخوض هذا "النوع المثالي" من الحروب في المقام الأول حول فكرة "التحرك السريع"، باستخدام بعض عناصر المفاجأة وبقدر كاف من القوة، يكفي سحق الأعداء قبل أن يتمكنوا من القيام بردّ مناسب. وعلى ذلك، فإن تقييم تقنيات الحرب الجديدة يكون وفقا لمدى قدرتها على المساعدة في تحقيق النصر السريع في ساحة المعركة وليس بناء على إسهامها في تأمين السلام الدائم.
وإذا أخذنا الذكاء الاصطناعي مثالا، فإن التفكير يذهب غالبا إلى أن الجيوش سوف تكون قادرة على استخدامه في تقييم ساحة المعركة، وتحديد السيناريوهات، ثم اختيار المناسب من بينها وتنفيذه في غضون ثوان. ويعني ذلك أن هناك قرارات حيوية تُتخذ بسرعة كبيرة بحيث لا يستطيع المسؤولون، فضلا عن العدو نفسه، تقدير ما يحدث فعليا.
لقد أصبح الهوس بالسرعة متأصلًا إلى حد أن أجيالًا من القادة العسكريين الأميركيين أصبحوا يرتعدون خوفا حين تُذكر "حروب الاستنزاف" ويحتضنون بدلا من ذلك فكرة "المناورة الحاسمة" باعتبارها الطريق إلى تحقيق انتصارات سريعة.
وبناء على ذلك فإن المعارك الطويلة مثل تلك التي تجري الآن في أوكرانيا -حيث يسعى كل جانب إلى إضعاف قدرات الآخر، وحيث يتم قياس التقدم من خلال عدد القتلى والمعدات المدمرة والمخزونات المستنفدة من الذخيرة- ليست محبطة للدول المتحاربة فحسب، بل هي أيضا مكلفة للغاية ومستهلكة للوقت بشكل مريع.
تقدم أوكرانيا درسا قاسيا للمخططين العسكريين في العالم اليوم، حيث أنفق كلا الطرفين المتحاربين بالفعل موارد هائلة، ولم يقترب أي منهما من تحقيق النصر بأي شكل. ورغم أن الكثير من الحروب لا تُدار غالبا بنفس الكثافة القتالية العالية للحرب الروسية الأوكرانية، فإنه حتى الحروب غير النظامية المطولة يمكن أن تخلف خسائر فادحة، مما يؤدي إلى شعور متزايد بفقدان الجدوى يتزايد مع تفاقم الخسائر.
في الحقيقة، لقد أصبح من المسلم به أن الهجمات المفاجئة الجريئة غالبًا ما تحقق نتائج أقل كثيرًا مما تعد به في البداية، وأن بدء الحروب أسهل كثيرًا من إنهائها، لكن المعضلة هي أن الإستراتيجيين ما زالوا يشعرون بالقلق من أن الأعداء المحتملين قد يكونون أكثر ثقة في خططهم الخاصة لتحقيق النصر السريع، وسوف يتصرفون وفقًا لذلك، وهذا يعني أنهم مطالبون -رغما عنهم- بالتركيز على المرحلة الافتتاحية المحتملة للحرب.
على سبيل المثال، ربما يفترض البعض أن الصين لديها إستراتيجية للسيطرة على تايوان تهدف إلى مباغتة الولايات المتحدة وتركها مع خيارات محدودة وغير فعالة للرد، ولتجنب مثل هذا السيناريو كرّس الإستراتيجيون الأميركيون الكثير من الوقت لتقييم الكيفية التي يمكن بها للولايات المتحدة وحلفائها الآخرين مساعدة تايوان في إحباط التحركات الأولية للصين وجعل مهمتها أكثر صعوبة.
ولكن حتى هذا السيناريو قد يؤدي بسهولة إلى إطالة أمد الصراع: فإذا نجحت التحركات المضادة الأولى للقوات التايوانية وحلفائها الغربيين، وتعثرت الصين ولكنها لم تنسحب، فإن تايوان والولايات المتحدة ستظلان تواجهان مشكلة التعامل مع وضع توجد فيه القوات الصينية في الجزيرة. وكما يوضح درس أوكرانيا، فمن الممكن جدا أن تتعثر في حرب طويلة الأمد لأن عدوًّا غير حذر أخطأ في تقدير الأخطار.
ولكن هذا لا يعني أن الصراعات المسلحة الحديثة لن تنتهي أبدا بانتصارات سريعة، ففي يونيو/حزيران 1967، استغرقت إسرائيل أقل من أسبوع لهزيمة تحالف من الدول العربية بشكل حاسم في حرب الأيام الستة؛ وبعد ثلاث سنوات، عندما تدخلت الهند في حرب بنغلاديش من أجل الاستقلال، لم تستغرق القوات الهندية سوى 13 يومًا لهزيمة باكستان، وكذلك حققت بريطانيا انتصارها على الأرجنتين في حرب فوكلاند عام 1982 في وقت قصير نسبيا. ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، شهدنا المزيد من الحروب التي تعثرت فيها النجاحات المبكرة، أو فقدت زخمها، أو لم تحقق ما يكفي من الأهداف، مما أدى في النهاية إلى تعقيد الصراعات.
