
تخذيل وتهويل
ويروي لنا المؤرخ جرجس بن العميد (ت 672هـ/1273م) -في تاريخه ‘أخبار الأيوبيين‘- هذا التخذيل الذي جرى -قُبيل دخول المغول إلى الشام- على لسان نجم الدين الحاجب، الذي بدا معارضا لبيبرس (ت 676هـ/1277م) وقادة المماليك المؤيدين للمواجهة العسكرية مع المغول؛ فقد خاطب الحاضرين قائلا: "كل مَن يقول إنه يتلقّى هلاون (= هولاكو) يتحدث وما يعرفُ ما يقول، ومن هو الذي يلتقى هلاون ومعه مئتا ألف فارس؟".
وحين اقترب المغول من دمشق؛ هرب ملكها الناصر إلى جهة مصر للاستيلاء عليها ثم خاف من المماليك واتجه إلى الأردن، ثم خانه بعضُ أعوانه فدلّ أحدُهم هولاكو على مكانه.
يقول قطب الدين اليونيني (ت 726هـ/1326م) -في تاريخه ‘ذيل مرآة الزمان‘- متحدثا عن مصير الناصر الثاني إثر خيانته لأمته: "فكبَسه التتار بها، وتفرّقَ عنه معظم أصحابه، ثم استأمنَ له بعض أصحابه وسَار إليهم (= التتار)، فكان معهم في ذُلٍّ وهوان"، ثم أخذوه معهم -بعد هزيمتهم في عين جالوت سنة 658هـ/1260م- إلى مدينة تبريز (تقع اليوم شمال غربي إيران)؛ وظل معهم حتى قتله هولاكو عام 659هـ/1261م!
أما الوزير زين الدين الحافظي –ذو التاريخ الحافل بالخيانة والغدر- فقد أوضح لنا ابن أبي أصيبعة الثمن الذي قبضه من التتار، وما صار له من بغض في قلوب المسلمين جراء فعلته تلك.
يقول ابن أبي أصيبعة: "ملكت التتر (= التتار) دمشق بالأمان وجعلوا فيها نائباً من جهتهم، وصار زين الدين أيضاً بها وأمّروه وبقي معه جماعة أجناد حتى كانوا يدعونه ‘الملك زين الدين‘. ولما وصل الملك المظفر قطز (ت 658هـ/1260م) صاحب مصر ومعه عساكر الإسلام، وكُسر التتر في وادي كنعان الكسرة العظيمة المشهورة (= وقعة عين جالوت)، وقُتل من التتر الخلق العظيم الذي لا يحصى؛ انهزم نائب التتر ومَن معه من دمشق، وراح زين الدين الحافظي معهم خوفاً على نفسه من المسلمين"!!
لكن هذا الوزير الخائن لاقى بعد ذلك مصير الملك الناصر حين اتهمه هولاكو بأنه يراسل المماليك في مصر. وينقل المؤرخ ابن الدواداري هذا الحوار الذي يُلخص بعض نهايات الخونة في التاريخ الإسلامي؛ فيقول:
"وكان من كلام هلاون (= هولاكو) إليه -لما أراد قتله- أن قال له: قد ثبت عندي نحسك وتلاعبك بالدول، فإنك خدمتَ صاحب بعلبك طبيبًا فخُنته، واتفقتَ مع غلمانه على قتله حتى قُتل؛ ثم انتقلتَ إلى خدمة الملك الحافظ (= صاحب قلعة جعبر نور الدين أرسلان شاه بن العادل المتوفى 639هـ/1241م) الذي عُرِفتَ به، فباطنتَ عليه الملك الناصر [الثاني] صاحب الشام حتى أخرجته من قلعة جعبر، ثم صِرتَ إلى خدمة الملك الناصر ففعل معك ما لم تسْمُ أطماعُك إليه مِن كلّ خيرٍ، فخُنتَه معي…؛ ثم أمرَ به فقُتل وجميعُ أهله"!
ويقدّم الصفديّ -في ‘الوافي بالوفيات‘- تفاصيل تبين مصير الحافظي وخلفيته؛ فيقول: "قتله وقتل أولاده وأقاربه وكانوا نحوا من خمسين، وكان من أسباب ذلك كُتُبٌ بعثها إلى الظاهر [بيبرس] وذلك سنة اثنتين وستين وستمئة".

خيانات الأندلس
رأينا فيما سبق بعض مشاهد خيانة الحكام للأمانة في أقطار الشرق الإسلامي، لكن زمنيا ربما كان الغرب الإسلامي أسبق منه إلى هذه الظاهرة المؤسفة، وقد أخرناه في الذكر توخيا لتحقيق الوحدة الجغرافية في سرد الأحداث وتداعيتها حتى النهاية، رغم تباعد أزمنتها.
فقد تعرضت ديار الإسلام في الأندلس لسلسلة من الخيانات حتى لكأن تاريخها سيل لا ينقطع منها، فشهدت قصور الحكم فيها مجموعة من القادة والأمراء كانوا على درجة عالية من انعدام الشرف، والتباغض إلى درجة التعاون مع العدو ضد بعضهم بعضا في سبيل مطامع شخصية قصيرة الأمد، كانت عاقبتها وبالا على دولة الإسلام وحضارته في تلك الأصقاع.
فحين ارتقى الأمير الأموي الحكم بن هشام (ت 206هـ/821م) إلى كرسي الحكم في الدولة الأموية بالأندلس؛ لم يرضَ عمّاه سليمان (ت 184هـ/800م) وعبد الله (ت 208هـ/823م) بصعود هذا الأمير الشاب على حسابهم، خاصة أن أباه هشامًا سبق أن آثره والدهما عبد الرحمن الداخل (ت 172هـ/788م) بتولي الحكم من بعده. ولذلك قررا الخيانة العملية بالتحالف مع الثائرين في ولاية الثغر الأعلى (كانت عاصمتها سرقسطة) شمالي الأندلس، ثم بالتحالف مع مملكة الفرنجة وقائدها شارلمان (ت 198هـ/814م).
ويتحدث المؤرخ محمد عبد الله عنان (ت 1407هـ/1986م) -في كتابه ‘دولة الإسلام في الأندلس‘ نقلا عن مصادر لاتينية ومخطوطة لم تحقق بعدُ لكتاب ‘المقتبس‘ لابن حيان القرطبي (ت 469هـ/1176م) تؤرخ لسنوات ما قبل 233هـ/848م- عن هذه الخيانة والتحالف مع الأعداء، إلى حد تجشم من قام بها عناء السفر من قرطبة إلى ألمانيا وبين المدينتين مسافة 2100 كم!!
يقول عنان: "سار عبد الله [بن عبد الرحمن الداخل] إلى الثغر الأعلى يؤلّب البلاد ويحشد الأنصار لمقاتلة الحكَم، ثم عبر جبال البرنيه إلى بلاد الفرنج (= فرنسا)، وسعى إلى مقابلة شارلمان (كارل الأكبر) في مدينة إيكسلا شابيل (= أكس لاشابيل وهي حاليا مدينة آخن الألمانية) حيث كان يعقدُ بلاطَه يومئذٍ، والتمسَ إليه العونَ والمؤازرة، فأكرمَ ملك الفرنج وفادَته، واستجاب إلى دعوتِه، وألفى الفُرصة سانحة للتدخّل في شؤون الأندلس، وتحقيق مطامعه القديمة. وسيّر شارلمان جيشاً مع ولده لويس أمير أكوتين، فعبَر البرنيه واستولى على مدينة جيرونة (جيرندة)، ثم توغل في ولاية الثغر الأعلى بممالأة بعض الزعماء الخوارج" من ثوار تلك المناطق.
ورغم فشل ثورات وتحالف الأخوينِ الخائنينِ سليمان وعبد الله مع الملك الفرنجي شارلمان، حيث قُتل الأول على أيدي جنود الحكَم الأموي سنة 182هـ/798م، وفرَّ الثاني إلى مدينة بلنسية طالبا الأمان من ابن أخيه الأمير؛ فإن شارلمان أدرك نقاط الضعف في ولايات الثغر الأندلسي الأعلى، كما استغل الخلاف الأموي الداخلي بين الأمير الحكم وعمّيه، فكانت المصيبة بسقوط مدينة كبيرة مثل برشلونة.
وقد لاحظ المقّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) –ببصيرة ثاقبة- تداعيات ذلك؛ فقال في كتابه ‘نفح الطيب‘: "واستفحل ملكه (= الحكم الأول)، وباشرَ الأمور بنفسه. وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عمّيه؛ اغتنم العدوّ الكافر الفرصة في بلاد المسلمين، وقصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين [ومئة]، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها".

ثغرة التساقط
والحق أن سقوط برشلونة قد فتح للفرنجة النصارى الباب لإنشاء ولاية تسمى "الثغر الإسباني" أو "الثغر القوطي"، فأضحت منذ ذلك الحين شوكة في خاصرة المسلمين في الأندلس، وقد تطورت مع الزمن حتى أصبحت "كونتينة قطالونيا" التي اتّحدت لاحقا مع مملكة أرغون، وأنهت الجانب الشرقي من الوجود الإسلامي في الأندلس فيما بعدُ؛ فكانت الخيانة التي ظهرت في نهايات القرن الثاني الهجري سببًا في سقوط وانهيار الأندلس عبر عدة قرون!
وحين ضعفت قبضة الدولة الأموية في الأندلس بعد وفاة الخليفة الحكَم المستنصر سنة 366هـ/977م، واعتلاء ابنه الصغير هشام المؤيَّد بالله (ت 403هـ/1013م) إلى سدة الحكم؛ جُعل تدبير أمر الدولة إلى حاجبه المنصور بن أبي عامر (ت 392هـ/1003م) الذي كان مقربا من أم الخليفة الصغير المسماة صُبح البشكنسية (ت 390هـ/1001م تقريبا، وتنسب إلى بلاد البشكنس = إقليم الباسك الإسباني). وقد استطاع ابن أبي عامر بدهائه إقصاء منافسه الوزير المكين في البلاط الأموي جعفر بن عثمان المصحفي (ت 372هـ/983م).
لكن بقيت أمام طموحات ابن أبي عامر عقبة كأداء هي صهره القائد العسكري القوي غالب بن عبد الرحمن الناصري (ت 371هـ/982م)، صاحب البطولات والانتصارات الفذة في الساحتين الأندلسية والمغربية، بوصفه قائدا عاما للقوات البرية والبحرية و"شيخ الموالي قاطبة وفارس الأندلس يومئذ غير مُدافَع له"، كما يقول ابن عذاري المراكشي (ت نحو 695هـ/1296م) في كتابه ‘البيان المُغرب‘. وذلك بعد أن تمالأ الرجلان على إقصاء المصحفي من دائرة النفوذ في أروقة البلاط الأموي.
فقد أدرك غالب الناصري خطورة الوزير ابن أبي عامر وأهدافه الرامية للهيمنة على مقاليد السلطة، خاصة أنه "ضبط المدينة (= العاصمة قرطبة) ضبطا أنسى أهلَ الحضرة من سلف من أفراد الكُفاة وأولي السياسة"؛ حسب تعبير ابن عذاري.
بيد أن الناصري -بدلا من التفاهم مع غريمه أو خوض مواجهة داخلية معه- قرر على الفور إعلان التحالف مع الأعداء النصارى الذين دوّخهم وهزمهم مرارًا، وعلى رأسهم راميرو الثالث (ت 375هـ/985م) ملك ليون الذي سمح له باللجوء إليه. يقول المقري: "ولحق غالبُ بالنصارى فجيَّشَ بهم، وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام، فحكمتِ الأقدار بهلاك غالب، وتمَّ لابن أبي عامر ما جدَّ له، وتخلصت دولته من الشوائب".
على أن تلك الخيانة القديمة في تاريخ بني أمية في الأندلس؛ أضحت ظاهرة في عصر ملوك الطوائف (422-484هـ/1032-1091م) ومَنْ تلاهم؛ ذلك أنهم تسابقوا على تقديم فروض الولاء والطاعة والجزية لملوك ليون وقشتالة النصارى، ولو على حساب دينهم ووطنهم طمعا منهم في هزيمة خصومهم من ملوك الطوائف الآخرين، وتجلى ذلك في عصر ألفونسو السادس (ت 502هـ/1108م) الذي ألقى في قلوب ملوك الطوائف الرعب وعلى رأسهم المعتمد بن عباد (ت 488هـ/1095م) ملك إِشبيلية وقرطبة.
وقد شاهد العلامة ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ/1065م) هذه الحقبة السوداء من تاريخ بلاده، ورأى خيانات ملوك الطوائف المتواطئين الدافعين للجزية لملوك قشتالة، البائعين لأوطانهم بثمن بخس، فكتب بحسرة وغضب واصفا استعدادهم المنفلت للخيانة.
وفي ذلك يقول ابن حزم في ‘رسالة التلخيص لوجوه التخليص‘: "والله لو علموا أن في عبادة الصُّلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكّنُونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أُسارى إلى بلادهم…، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوْها من الإسلام وعمَّروها بالنواقيس، لعن اللهُ جميعَهم وسلَّطَ عليهم سيفاً من سيوفه" .
يتبع.....