وفي نهاية حزيران/يونيو عام 1973، كانت بغداد على موعد مع واحدة من أكثر اللحظات توترا في تاريخ النظام البعثي، عندما بدأ ناظم كزار مدير الأمن العام بتدبير انقلاب داخلي ضد قيادة الحزب والدولة.
وكانت خلفية التحرك محكومة بشعور متزايد لدى كزار بأن مركزه الأمني بدأ يضيق أمام الصعود المتسارع لصدام حسين، الذي تحوّل خلال سنوات قليلة من نائب في القيادة إلى الرجل الأقوى في بنية السلطة، وسط تراجع واضح في قدرة الرئيس أحمد حسن البكر على مواجهة طموح نائبه.
وبسبب كل ذلك شرع كزار في تحرك مضاد يمنحه زمام القيادة، ويستبق استبعاده الوشيك من المشهد، وجاءت اللحظة التي رآها كزار مواتية مع سفر الرئيس أحمد حسن البكر في زيارة رسمية إلى بولندا وبلغاريا، إذ خطط لاستغلال غياب الرئيس لتنفيذ تحرك سريع يضعه على رأس السلطة في بغداد.
وكان البكر قد غادر في أواخر يونيو/حزيران 1973، وكان من المقرر أن يعود في 30 منه، إلا أن جدول رحلته شهد تأخيرات غير متوقعة، بدأت في وارسو واستمرت في مصيف فارنا البلغاري، حيث نظّمت الحكومة البلغارية استقبالا رسميا له بحضور تسولوف نائب رئيس الوزراء، الذي أصر على اصطحابه في جولة قصيرة داخل المدينة وحفل استقبال بروتوكولي في الفندق الرئيس، وكانت هذه التأخيرات -التي بدت في ظاهرها عادية- كفيلة بإرباك حسابات الانقلاب داخل بغداد.
وصلت طائرة الرئيس إلى مطار المثنى في بغداد عند الساعة السابعة و50 دقيقة مساء، حيث كان في استقباله كبار المسؤولين والوزراء وأركان الحزب، وسلّم البكر على الحضور فردا فردا ثم ركب مع نائبه صدام حسين سيارة كانت بانتظارهما على مدرج المطار، وغادرا معا في مشهد نقلته كاميرات التلفزيون الرسمي.
وفي تلك الأثناء كان ناظم كزار يتابع وقائع العودة عبر شاشة داخل مكتبه في مقر الأمن العام، منتظرا إشارة بدء التحرك الذي خطط له بدقة، لكن تأخر الطائرة عن موعدها 3 ساعات، ثم انقطاع البث المفاجئ أيقظ في نفسه الشكوك بأن خطته قد انكشفت، وأن ساعة الصفر التي حددها لم تعد آمنة.
كانت خطته تقوم على عدة محاور، أولها اعتقال وزيري الداخلية والدفاع والمساومة عليهما أو قتلهما لاحقا مع مرافقيهم بحجة أنهما نفذا عملية انقلابية على الحزب والقيادة وذلك بعد تأكده من اغتيال صدام والبكر في مطار بغداد، وبهذا يتخلص من كل الجناح المناوئ له، ويظهر في الوقت نفسه أمام الرأي العام في دور البطل بدون أن تتلوث سمعته، ولكن يبدو أن صدام حسين كان له بالمرصاد ويشعر بخطورة ما يقوم به كراز، فأوعز للبكر أن يتأخر عن الحضور.
وحين تبدلت ملامح المشهد، وأيقن كزار أن خطته قد انكشفت قرر أن يغادر بغداد فورا قبل أن يُحاصر، فاصطحب مجموعةً من رجاله واتجه نحو الحدود الإيرانية في محاولة للهرب ولضمان موطئ قدم للمناورة أو التفاوض لاحقا، مصطحبا معه وزير الدفاع الفريق حماد شهاب ووزير الداخلية سعدون غيدان وبعض مرافقيهم، واحتجزهما كرهائن في سيارته.
وفي أثناء الرحلة بين الكوت والمنفذ الحدودي، تمكن أحد المحتجزين المرافقين للوزيرين من الفرار وإبلاغ قوات الأمن عن خط سير القافلة، وسرعان ما اعترضت مروحيات تابعة للجيش موكب كزار وبدأت بإطلاق النار لإيقافه، فوقعت الاشتباكات في طريق ضيّق تحوّل إلى ساحة مطاردة جوية وبرية عنيفة.
وفي خضم الفوضى حاول وزير الدفاع حماد شهاب أن يتحرر من وثاقه، لكن الرصاص عاجله في ظروف لم تتضح تماما فقُتل على الفور، أما وزير الداخلية سعدون غيدان فقد تمكن من فك قيوده وحاول الفرار لكنه أصيب بطلقٍ ناري في كتفه وسقط على الأرض فظن كزار أنه فارق الحياة، فتابع طريقه مسرعا نحو الحدود، إلا أن الطائرات المروحية وقطعات الجيش كانت قد طوقت المنطقة بالكامل، وأُغلقت كل المنافذ أمامه.
وتحول المشهد إلى مطاردة دامية انتهت بإصابة كزار بجروحٍ واعتقاله مع مجموعة مرافقيه، وذلك ما ينقله سيار الجميل وترصده العديد من الصحف العراقية وقتئذ مثل البيرق والثورة العراقية.
نُقل كزار فورا إلى قصر النهاية ذلك المبنى الذي كان هو نفسه قد حوّله سابقا إلى مركز للتحقيق والتعذيب والقتل، ليتحول هذه المرة إلى مسرح لنهايته، حيث تجمع حوله عدد من كبار قادة البعث مثل عزة الدوري، وطه ياسين رمضان، ونعيم حداد، وغانم عبد
الجليل، ومحمد محجوب، لمتابعة التحقيقات الأولية معه قبل رفع تقرير مفصل إلى القيادة العليا.
وقد بدا واضحا من ملامحه أنه أنهك تماما من الإصابة وفشل خطته، لكنه ظلّ وفق من حضروا متمسكا بنفي التهمة السياسية المباشرة قائلا إن ما فعله لم يكن خيانة بل محاولة "لتصحيح مسار الثورة"، غير أن واقع اللحظة كان أكبر من أي تبرير فقد انتهت مغامرته، وسقط الرجل الذي صنع الرعب في العراق برصاص النظام الذي ربّاه.
انتهت رحلة ناظم كزار الدموية نهاية غامضة لا تزال تفاصيلها الدقيقة محاطة بالالتباس حتى اليوم، إذ لم يُعرف على وجه اليقين تاريخ وفاته ولا الكيفية التي أُعدم بها، بل إن محاكمته كانت سرية يشرف عليها صدام والبكر بصورة شخصية.
وفي النهاية صدرت الأوامر بإعدامه مع عدد من رفاقه المقربين، ونُفّذ فيما يبدو الحكم بسرعة في ظروف سرية، وأُعلنت وفاته لاحقا على نحوٍ مقتضب داخل الأروقة الحزبية من دون أي بيان رسمي أو إعلان عام بعد تنفيذ الإعدام، وسُلّمت جثته إلى أسرته في بغداد على نحو مفاجئ ومقتضب، في إشارة إلى رغبة النظام في إغلاق الملف نهائيا ومنع أي تأويل سياسي لوفاته.
وهو الأمر الذي جعل شامل عبد القادر يشكك في كامل الرواية ويرفضها ويستميت في الدفاع عن كزار في كتابه "ناظم كزار سيرة أقوى مدير أمن عام في تاريخ العراق"، ويتهم صدام حسين بأنه المؤلف والمخرج والمنفذ لحادثة مقتل كزار وإظهار توريطه في قضية لم يكن طرفا فيها.
وهكذا انتهت مسيرة ناظم كزار في مفارقة مأساوية، إذ صعد إلى قمة الجهاز الأمني بوصفه أحد أعمدة الدولة البعثية ثم سقط ضحية للبنية القمعية التي أسهم هو نفسه في تأسيسها، وهكذا بين بدايات متواضعة في أحياء بغداد وعنف مفرط في دهاليز السلطة، تحوّل كزار إلى تجسيد حي لتناقضات النظام الذي صنعه؛ نظام ابتلع أبناءه واحدا تلو الآخر باسم الثورة والأمن والاستقرار.