هكذا شكَّل التركمان نواة الوجود السياسي والعسكري الدائم في الأناضول بعد معركة ملاذكرد، فأسسوا عددا من الإمارات المستقلة بين عامي (463هـ-470هـ/1071م-1077م) في مناطق مثل ماردين وقيصارية وسيواس وتوقات ومرعش وأرزنجان في شرق ووسط الأناضول. غير أن هذا التشتت لم يدم طويلا، ففي عام 470هـ، تمكن ابن عم السلطان، الأمير السلجوقي سليمان بن قتلمش من التقدم نحو الأناضول انطلاقا من حلب، ليؤسس كيانا سياسيا موحدا عُرف تاريخيا باسم "دولة سلاجقة الروم" أو "سلاجقة الأناضول".
وتتفق المصادر على أن سليمان بن قتلمش نجح في تحقيق هذه الأهداف السياسية والعسكرية التي أرست دعائم دولة إسلامية جديدة في آسيا الصغرى، كانت بمنزلة اللبنة الأولى التي مهّدت لقيام
الدولة العثمانية في القرون اللاحقة.
ومن اللافت أن معركة ملاذكرد خلصت إلى نتائج مفصلية في التاريخين الوسيط والحديث، فقد كانت بمنزلة اليرموك الثانية التي طردت البيزنطيين من الأناضول، كما طردت اليرموك الأولى البيزنطيين من بلاد الشام.
ولعل من أبرز تلك النتائج اندلاع
الحروب الصليبية عما قليل، حيث شكَّلت هزيمة الجيش البيزنطي، وعدم قدرة الإمبراطورية البيزنطية الرومانية على إنشاء قوة جديدة لوقف الزحف السلجوقي، صدمة كبيرة في أوساط أوروبا الغربية، وأثارت مخاوف جدية بشأن مستقبل المسيحية في الشرق.
ورغم الخلاف المذهبي الذي وقع بين الكنيسة الغربية في
روما والكنيسة الشرقية في القسطنطينية قبل ذلك، فإن الغرب الكاثوليكي ظل يرى في الدولة البيزنطية السد الأخير أمام التوسع الإسلامي نحو أوروبا، وبناء على ذلك دعا عدد من البابوات، وفي مقدمتهم البابا جريجوري السابع (1073-1085م)، ثم البابا أوربان الثاني (1088-1099م) إلى نصرة بيزنطة، وكان هذا التوجه تمهيدا لإطلاق الحملات الصليبية التي ستجتاح المشرق بدءا من أواخر القرن الحادي عشر.
ومهما يكن فإن معركة ملاذكرد لم تكن فقط لحظة انتصار عسكري، بل كانت منعطفا حضاريا وسياسيا طويل الأثر، حيث شكّلت بداية التغيرات الكبرى التي ستؤثر في مصير الشرق الإسلامي وأوروبا المسيحية على حدٍّ سواء، من العصور الوسيطة وحتى العصر الحديث.
ونظرا لأهميتها التاريخية الممتدة عبر الزمان والمكان، ودورها الرمزي في تركيا القديمة والمعاصرة، يحرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الذهاب إلى ساحة معركة ملاذكرد وأخلاط كل عام للاحتفال بها، وإحيائها باعتبارها رمزا للنصر والوحدة السياسية، وجزءا من الهوية الثقافية والقومية والتاريخية في البلاد.