عرض مشاركة واحدة

قديم 11-05-09, 05:21 PM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي القتال في الجبال



 

القتال في الجبال

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

قليل من الباحثين والكتاب والمؤرخين الذين يتوقفون عندما يمكن تسميته بقتال الجبال، فالمعركة الحاسمة المرتبطة بحرب الحركة عادة ما تجذب الأضواء وتبهر الأنظار بشدة وهجها وعظيم نتائحها سواء بالنسبة لما يحققه بطل المعركة من مكاسب وما يحصل عليه من غنائم أو من حيث ما ينزله بالخصم من هزائم ونوائب وكوارث. ولم تعد هذه المعركة الحاسمة مرتبطة بالحرب البرية التي عادة ما تقع في الصحارى الشاسعة، وإنما أصبحت شاملة للمعارك البحرية وحتى المعارك الجوية. وهكذا بقيت معارك الحروب الأخرى مثل قتال الجبال وقتال الغابات والقتال داخل المدن وسواها بعيدة عن الأضواء، وليس لها نصيب كبير من الألق والشهرة، حتى كأن فن الحرب قد أسقط من حسابه مثل هذه الأعمال القتالية رغم أهميتها، ورغم قيمتها وصعوباتها وما تحققه من نتائج قد تكون قريبة من تخوم المعركة الحاسمة، أو قد تكون أكبر من نتائج تلك المعركة الحاسمة. وإذن فإن قتال الجبال ذو طبيعة خاصة مقترنة بطبيعة الجبال ذاتها، وله أيضاً أهدافه المميزة، وطرائق قتاله الفعّالة وحتى أسلحته. وهذا ما أكدته معارك هذا القتال الجبلي في القديم والحديث على السواء.

1. الجبال وخصائصها القتالية

استطاع قادة الحرب إحراز قصب السبق قبل زمن طويل من تعامل علماء الطبوغرافيا والجيواستراتيجيا مع الجبال فهم - بحكم معاناتهم القاسية، ومن خلال خبراتهم المكتسبة والمتراكمة استطاعوا التمييز الواضح بين الجبال، فهذه المرتفعات والرواسي ليست متساوية في أحجامها، ولا هي متعادلة في طبيعتها، ولا هي متماثلة في خصائصها وميزاتها، فهناك الجبال ذات المنحدرات الحادة والمرتفعات الشاهقة، وهناك الجبال المقطعة، التي هي أقرب إلى التلال منها للجبال، وهناك أيضاً الجبال المكسوة بالغابات، والتي يصعب معرفة مجاهيلها واكتشاف مضامينها، إلى الجبال الجرداء المحرومة من الغطاء النباتي.

إذن فقد يكون من طبيعة الأمور أن تتباين طرق التعامل مع الجبال في الأعمال القتالية بحسب خصائص تلك الجبال ومميزاتها الطبيعية والصناعية وما يتوافر لها من المحاسن والمساوئ للأعمال القتالية الهجومية أو الدفاعية الثابتة أو التأخيرية (المؤقتة). ولكن، وعلى الرغم من وفرة الحالات الخاصة للأعمال القتالية في الجبال مما يفرض التعامل مع كل عمل من هذه الأعمال بمعزل عن الأعمال الأخرى إلا أن هناك قواسم مشتركة أو مبادئ عامة تنطبق على معظم الأعمال القتالية في الجبال، ولعل من أكثرها أهمية بحسب تجارب الحروب، ما يلي:
أولاً: خداع النظر وصعوبات التقدير، إذ من المعروف أن الأجسام تبدو أصغر حجماً وأكثر بعداً عند النظر من الأسفل إلى الأعلى، فيما تكون الأمور مناقضة لذلك عند النظر من الأعلى إلى الأسفل. ويصبح من الصعب على سبيل المثال إحكام الأسلحة ذات الرمي المستقيم عند التعامل مع أهداف متباعدة بالعمق (وحتى الأسلحة الفردية عندما تكون الأهداف بعيدة نسبياً). ويمكن على كل حال الحصول على نوع من الدقة في تقدير المسافات بالاعتماد على وسائل للمقارنة (شواخص ومؤشرات) أو باللجوء إلى التقانة (مقدرات المسافات والمناظير المجهزة بالأشعة الليزرية أو الأشعة تحت الحمراء للرؤيا الليلية وسواها).

ثانياً: ضيق أفق الرصد، ووفرة المباغتات، حيث تتوافر في المناطق الجبلية، حتى ما كان منها من نوع التلال والهضاب، ثنايا كثيرة وتعرجات مختلفة، وتباين كبير بين المنحدرات مما يسمح للقوات المنتشرة في الجبال، والتي تتقن أعمال الإخفاء والتمويه واستثمار الطبيعة الطبوغرافية للأرض، أن تظهر في الوقت المناسب لتوجه ضرباتها القاتلة والمدمرة لقوات العدو. وقد تتمكن القوات المتقدمة في الجبال من تنظيم شبكاتها الاستطلاعية بشكل محكم، وقد تنجح في توسيع أفق الرصد قدر استطاعتها لضمان أمن القوات، ولكن يبقى هناك مجال واسع في الأعمال القتالية الجبلية لتحقيق أنواع كثيرة من المباغتات.

ثالثاً: صعوبة اختيار محاور العمليات، ذلك أن المسالك والدروب عبر شعاب الجبال ووديانها عادة ما تتشكل عبر أزمنة متطاولة، مما فرض على الإنسان المقاتل استخدام ما هو متوافر من الطرق والمسالك، والعمل على تحسينها وتطويرها من أجل تلبية متطلبات التحركات العسكرية الكبيرة والكثيفة. ولقد أصبحت الوسائل الهندسية المتوافرة (الجرافات والحفارات وآلات التسوية ..إلخ) قادرة على تقديم المساعدات الضرورية لشق الطرق، وصنع محاور جديدة للعمليات، ولكن ذلك يحتاج إلى مزيد من الوقت، وهو ما يتناقض مع متطلبات الحركة (السرية والكتمان) كما أن التزام القوات بمحاور محددة تفرضها الطبيعة الجبلية، تجعل هذه المحاور هي الأكثر عرضة للتهديد والخطر، لأنها تستقطب إليها جهود القوات المتصارعة على مسرح العمليات.

رابعاً: صعوبة الأعمال القتالية الجبلية، فالأعمال الهجومية في الجبال تحتاج لإعداد خاص. وتدريب شاق نظراً لما يفرضه التحرّك في الجبال والمناورة من جهد كبير كما أن الأعمال الدفاعية تحتاج بدورها للتكيّف مع احتمالات نقص المياه والموارد الغذائية، علاوة على تبدلات الأحوال المناخية، وأحياناً توافر الحيوانات المفترسة، مما يجعل الأْعمال القتالية الجبلية مميزة بصعوباتها ومشاقها، والتي تتزايد مع تزايد حجم القوات وتنوع وحداتها المقاتلة، وما هو مقترن بالطبيعة الخاصة للجبال، ولهذا لم يكن غريباً أن يتم في الجيوش الكبرى إعداد وحدات جبلية خاصة لقتال الجبال (كما في بلاد الشمال الأوروبي).

خامساً: ضرورة التحصين الهندسي للأرض، إذ تبدو أهمية هذا التحصين واضحة لدعم الطبيعة الحصينة للأرض، وللإفادة من ميزاتها حتى أبعد الحدود، فاستخدام الموانع الصناعية، وزرع بعض الألغام في مناطق يتم اختيارها بصورة جيدة، وإعدادها لتدمير بعض النقاط أو الحواجز التي تشكّل عند تدميرها سدوداً قوية، وكذلك إنشاء المقار الميدانية وتنظيم شبكات الخنادق وخنادق المواصلات وإقامة المستودعات في أعماق الجبال؛ كل ذلك مما يمكن اعتباره ضرورياً لزيادة قوة المواقع الحاكمة، وتسهيل التحرّكات والمناورات وضمان أمن القوات. ويبدو أن هذا التحصين الهندسي للأرض هو أكثر سهولة وأكبر فاعلية في الجبال منه في السهوب أو على السواحل أو في أية مناطق قتالية أخرى بما في ذلك التنظيم الدفاعي على تخوم الغابات وسواها نظراً لإمكانات التحكّم بمحاور العمليات.

سادساً: التنظيم الإداري والإمداد، فالقوات المقاتلة في الجبال قد تجد نفسها في أحيان كثيرة تحت دائرة الحصار، وفي حالة من العزلة، مما يرغمها على الصمود قدر المستطاع، وحتى أعلى درجات الصمود، مع الاستمرار في المقاومة العنيدة. وهي بالتالي تحتاج لمخزون كبير من الذخائر المتنوعة، والمواد التموينية، والمياه؛ لاسيما أن الإمداد جواً ليس مضموناً بصورة دائمة ولا ثابتة، كما أن تحرّك القوات البرية لإنقاذ القوات الواقعة تحت قبضة الحصار، قد تتأخر لبعض الوقت لأسباب كثيرة تفرضها الأعمال القتالية على امتداد مسارح العمليات.

ولابد هنا من تذكّر حقيقة أن القوات الجبلية هي قوات ذات تسليح خاص، وتجهيز يتناسب مع طبيعة الجبال. وإذن فعملية التنظيم الإداري والإمداد للقوات الجبلية هي عملية دقيقة، وذات أهمية كبيرة، إذ برهنت التجارب التاريخية منذ أقدم العصور أن الأعمال القتالية الجبلية كثيراً ما تحولت إلى كوارث ونكبات بسبب ضعف التنظيم الإداري أو حتى غيابه.

ويبقى هناك مجال رحب للبحث في مبادئ حرب الجبال وقواعدها تبعاً لخصائص الجبال ذاتها، ونقدم هنا من تجارب القلاع و التحصينات القديمة دروساً مهمة وذات قيمة ثابتة حتى في عصر ثورة التقانة، فتلك القلاع والتحصينات غالباً ما كانت تحتل مواقعها فوق قمم الجبال، أو عند ذراها الاستراتيجية، أو عند الممرات الإجبارية والمواقع الحاكمة، وكانت القلاع والحصون بمثابة مدن عسكرية مجهزة بكل المتطلبات الضرورية لدفاع طويل الأمد، ولمعركة ضاربة، وليس ذلك يؤكد حقيقة التكامل بين وسائل الدفاع الطبيعية في الجبال ووسائل التحصين الصناعية وحسب، وإنما يؤكد أيضاً حقيقة العلاقة بين قتال الجبال وقيمة العامل الجيواستراتيجي المتوافر في قتال المناطق الصعبة.

 

 


 

   

رد مع اقتباس