عرض مشاركة واحدة

قديم 11-05-09, 05:23 PM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

4. في أفق حروب المستقبل

عرفت السنوات الأخيرة من القرن العشرين عدداً من الحروب المحدودة التي كانت مسارح عملياتها الرئيسة مقترنة بالأعمال القتالية الجبلية، وكان من أبرزها الحرب الأفغانية الروسية (1981 1990م)، وحربي الشيشان الأولى والثانية (1992 1994م) و (1999 2001م)، وكذلك حرب البلقان (أو حرب كوسوفو 1999م)، وجاءت مسيرة الأعمال القتالية لهذه الحروب وتطوراتها ونتائجها بمثابة تأكيدات حديثة لخلاصة المبادئ والأسس والطرائق الخاصة بقتال الجبال، فكانت بالتالي دليلاً لحروب المستقبل.

فبالنسبة للحرب الأفغانية الروسية، كانت الحرب بين قوتين غير متكافئتين ولا متبادلتين، إذ كان الاتحاد السوفيتي (السابق) آنذاك هو ثاني قوة عسكرية في العالم وأول قوة في القوات البرية وقد خاض الحرب ضد فصائل أفغانية تلقت دعماً خارجياً عسكرياً ومالياً عبر باكستان. وقد أفادت هذه الفصائل من طبيعة البلاد الجغرافية الجبلية و ظروفها المناخية الصعبة، ووعورة مسالكها، فأمكن لها تنفيذ أعمالها القتالية لاستنزاف القدرة السوفيتية، دون التورط في معارك كبيرة أو أعمال قتالية حاسمة. وكان عامل الزمن في مصلحة المقاومة الأفغانية إذ استطاعت تطوير قدراتها القتالية بصورة مستمرة، واستثمار تقانة الأسلحة الحديثة، لحرمان القوات المقابلة من حرية العمل العسكري. وقد كانت هذه الحرب محنة حقيقية بالنسبة للقوات السوفيتية، اعترف بها قادة الحرب من عسكريين وسياسيين، وتم توظيف نتائجها بصورة غير مباشرة في أحداث (تفكك الاتحاد السوفيتي)، وكانت الحرب بمجموعها صراعاً سياسياً عقائدياً ذا أبعاد عالمية، برهنت فيه المقاومة الأفغانية على أن العامل الجغرافي (الجبلي) هو عامل حاسم في هذا النوع من الصراع، حيث تستطيع القوة الأكثر ضعفاً والأقل تنظيماً، والأقل عدداً، والأقوى معنوياً، الاعتماد على الجبال للوصول إلى نوع من التوازن وحتى التفوق مع قوى الخصم.

وأما بالنسبة لحربي الشيشان الأولى و الثانية، فقد استطاعت المقاومة الشيشانية تطبيق مبادئ وأسس حرب الجبال بصورة رائعة لاستنزاف القوة العسكرية الروسية، وأمكن لها الإفادة من الظروف الدولية، ومن الظروف الداخلية الروسية (ظروف التحوّلات العالمية الكبرى) لتحقيق التوازن بين العمل العسكري والعمل السياسي، مما أرغم القيادة الروسية على بذل جهود للوصول إلى (هدنة مؤقتة) أفادت منها روسيا أكثر مما أفادت منها القيادة الشيشانية لإعادة تنظيم العمل السياسي (الدولي) والعمل العسكري. وقد كانت القيادة الشيشانية تضع في اعتبارها احتمال غدر القيادة الروسية للاتفاقات السياسية والعسكرية التي تم الوصول إليها، فعملت على بذل جهود كبيرة لتحصين المواقع الجبلية هندسياً، ولتنظيم الملاجئ ومراكز القيادات الميدانية ومستودعات الأسلحة والذخائر والمواد التموينية ... إلخ.

وعندما بدأت حرب الشيشان الثانية، كانت القيادة الروسية قد استوعبت دروس تجربة الحرب الشيشانية الأولى، فقسمت البلاد إلى دوائر وإلى قطاعات يتم اقتحامها وإعادة الاستيلاء عليها عبر مراحل قتالية متتالية، كما أفادت القيادة الروسية أيضاً من دروس (حرب كوسوفو) لزيادة الاعتماد على التقانة وعلى وسائط الحركة الجوية وزيادة كثافة الدعم الناري للقوات البرية. وعلى الرغم من التفوق الساحق للقوات الروسية بالقوى والوسائط القتالية، فقد استطاعت المقاومة الشيشانية الإفادة من قوة التحصينات والمواقع الجبلية، ومن الدعم الشعبي القوي، للصمود طويلاً، واستنزاف القدرة الروسية معنوياً ومادياً بدرجة كبيرة. ولقد برهنت التجربة من جديد على أهمية اقتران العمل السياسي بالعمل العسكري في هذا النوع من القتال، إذ ظهر واضحاً منذ بداية الجولة الثانية لهذه الحرب أنه من الصعب الوصول إلى نصر عسكري شيشاني، ولكن، وبالمقدار ذاته، فقد أثبت استمرار المقاومة ولو بمعدل منخفض أنه لابد في النهاية من الوصول إلى تسوية تكون نتائجها لمصلحة المقاومة ولمصلحة شعب الشيشان. وبقي للعامل الجبلي دوره الحاسم في هذا النوع من الحروب، إذ على الرغم من قدرة القوات الروسية على تحويل البلاد إلى مجموعات متناثرة من الأنقاض، فإن المقاومة الشيشانية استمرت في متابعة صراعها لبلوغ أهدافها.

جاءت بعد ذلك حرب كوسوفو لتقدم نموذجاً جديداً من حرب الجبال، فقد وضع الطرفان المتصارعان (قيادة حلف شمال الأطلسي والقيادة اليوغوسلافية) خلاصة الدروس المرتبطة بحرب الجبال وأولها التجربة الذاتية ليوغوسلافيا في الحرب العالمية الثانية والتجربة الفيتنامية ولهذا قامت بلغراد بكل ما هو ضروري لتحصين الجبال ونشر القوى والوسائط القتالية على امتداد الصفحة الجغرافية للبلاد، بهدف استنزاف قوات حلف شمال الأطلسي وحرمانها من عوامل تفوقها بالتسلح والتقانة، ومقابل ذلك، فإن قيادة حلف شمال الأطلسي وضعت مخططاتها على أساس حرمان الصرب (بلغراد) من فرصة استنزاف القوات البرية وذلك بعدم زج مثل هذه القوات على مسرح العمليات والإفادة من عوامل التفوق الجوي بالتسلح والتقانة والكثافة النارية العالية فكانت حرباً عجيبة خاضتها القوات الجوية وحدها، وأمكن لها تحقيق الهدف السياسي من الحرب (إرغام بلغراد على الاستسلام).

وعلى الرغم من أفكار المدارس العسكرية في العالم لمبدأ الاعتماد على نوع واحد من صنوف الأسلحة في الحرب (القوات الجوية) وعدم المبالغة كثيراً في الاعتماد على التقانة والتسلح المتفوق، إلا أن هذه التجربة ستبقى نقطة تحوّل مثيرة في أفق (حروب الجبال) إذ من المحال الافتراض أن تكون حرب الجبال القادمة نموذجاً مطابقاً لحرب كوسوفو. غير أنه من المحال أيضاً الافتراض بإمكان اعتماد القدرة النارية وحدها عاملاً لإلحاق الهزيمة بالخصم.

خلاصة القول، إن حرب الجبال ستبقى محتفظة بمبادئها وأسسها وعلى الرغم من تدخّل التقانة للحد من صعوبات هذا النوع من الحروب، وعلى الرغم أيضاً من تعاظم القدرات لتجنب الأعمال القتالية في الجبال، إلا أن الجبال ستبقى محتفظة بقيمتها الاستراتيجية حتى لو انتقصت التقانة من هذه القيمة، أو استلبتها بعض أهميتها، ففي الظروف غير الطبيعية للحروب، وعندما تتفجر الأعمال القتالية بين قوى غير متكافئة ولا متوازنة، لا يكون هناك أمام الطرف الأضعف أو الأقل تسلحاً وتقانة من سبيل إلا سبيل تطوير المقاومة باستنفار كل عوامل القتال والعوامل المساعدة (جيواستراتيجياً وبشرياً وفكرياً ومناخياً .. إلخ) لزيادة الصعوبات أمام أعمال القوات المعتمدة على عوامل تفوقها المادية، ولهذا فقد عالجت المدارس العسكرية في العالم قضية الحروب المحدودة في أفق المستقبل من خلال زوايا متعددة، ربما كان في طليعتها العامل الديني أو العامل العقائدي، والقدرة على استنفار مواهب العقل والإبداع للتغلّب على نقاط الضعف الذاتية، واستلال عوامل التفوق من الخصم أو إبطالها، وذلك هو بإيجاز محور (الإرادات المتصارعة) والتي تعدّ حرب الجبال نوعاً متلاحماً بكل أنواع الحروب وفي كل أرجاء الأرض

 

 


   

رد مع اقتباس