عرض مشاركة واحدة

قديم 11-05-09, 05:22 PM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

3. التقانة وقتال الجبال

جاءت الحرب الفيتنامية لتشكّل نقطة التحول الحاسمة في طريق تطوير التقانة لقتال الجبال، فخلال عقدين من الصراع المرير، وعبر حوار الإرادات المتصارعة، ظهرت الحاجة لتقانة متطورة تستجيب لمتطلبات الظروف الصعبة للقتال، فكان من ذلك على سبيل المثال:

أولاً: لقد كان الدفاع عن النقاط الحاكمة والمواقع ذات الأهمية الاستراتيجية يتطلب ما هو أكثر من اللجوء إلى أسلحة الرمي المنحني (مدافع الهاون والهاوتزر)، فكان اللجوء إلى حوامات الدعم الناري التي تستطيع التعامل بالرمي المباشر مع الأهداف (بالرمي المستقيم بالرشاشات والصواريخ).

ثانياً: ظهرت الحاجة أيضاً لتجاوز حدود محاور التحرّك الأرضية (البرية) والتي تكون عادة مهددة باستمرار، فجاء تطوير حوامات النقل (طائرات الهليوكبتر الثقيلة لنقل القوات) للوصول مباشرة إلى الهدف.

ثالثاً: كان التحرّك عبرالجبال يهدد القوات دائماً بالتطويق والعزل والانحراف (أو حتى تغيير الاتجاهات)، فكان لابد من تطوير وسائط الرصد و الاستطلاع الجوي بحيث تتكامل شبكات الرصد الجوي مع شبكات الرصد الأرضي (البري)، وبحيث تبقى القوات على اتصال دائم مع بعضها البعض، وعلى اتصال مع قياداتها ومع الأنساق السفلى لتبادل المعلومات، وتبادل الدعم والتعاون.

رابعاً: أظهرت (الحرب الفيتنامية) أيضاً الحاجة لتطوير شبكات الاتصال في إطار تطوير الحرب الإلكترونية، والحرب الإلكترونية المضادة، وبذلك كانت هذه الحرب نقطة التحوُّل الحاسمة في الدور المتعاظم (لثورة التقانة) في العمل العسكري، وبذلك قدمت حرب الجبال في فيتنام ما هو ضروري لتطوير كل فروع التقانة.

خامساً: وفي إطار إعادة التنظيم الشامل للقوات وتسلحها، كان لزاماً تطوير الأسلحة الفردية (البواريد، والقاذفات الصاروخية، والمقذوفات المضادة للدروع) بهدف زيادة الكثافة النارية للتعامل مع الأهداف القريبة، حيث تتزايد في الأْعمال القتالية الجبلية احتمالات الاشتباكات الفردية وقتال الالتحام والقتال القريب.

سادساً: وتبعاً لذلك كان لابد من تنظيم قوات خاصة للأعمال القتالية الجبلية، حيث تتوافر الكهوف والمغائر والأنفاق والملاجئ، ويعدّ تنظيم (الجرذان الخضراء) نموذجاً لمثل هذه التنظيمات التي يمكن إعدادها تبعاً لطبيعة الجبال، فالوحدات الجبلية في النرويج والسويد مثلاً تعتمد على فرق المتزلجين، فيما تعتمد الوحدات الجبلية الروسية على وحدات المغاوير والقوات المنقولة جواً.

وبإيجاز، فإن ما أمكن إنجازه من تطوير للتقانة، استجابة لتحديات القتال في الجبال، وما تبع ذلك واقترن به من تطوير للتنظيمات القتالية الجبلية، وحتى للأساليب القتالية، قد شكّل برهاناً حديثاً وإضافياً لحقيقة ارتباط التقانة والتسلح بالتنظيمات القتالية، وبطرائق العمليات، كما شكّل في الوقت ذاته برهاناً على أن هذه التقانة قد جاءت لعلاج ما ظهر من ثغرات ومن نقاط ضعف في الأعمال القتالية الجبلية في أصعب ظروف القتال الحديثة. ولإبراز هذه الحقيقة يمكن العودة إلى الملامح العامة لقتال الجبال في حالات الدفاع والهجوم:

1. في حالات الدفاع:: عادة ما يتم اختيار المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية مثل محاور العمليات وطرق المواصلات والمراكز ذات الأهمية الخاصة كالمصانع والمنشآت العلمية ودور الصناعة الحربية إلخ حيث تقوم القوات عندها بالاستناد إلى الموانع الجبلية القوية ويتم تحصينها هندسياً، ويكون الخط الدفاعي الأول والخطوط التالية عند خطوط تبدل المنحدرات، مما يسمح باستثمار خصائص الأسلحة ذات الرمي المستقيم (لغمر منطقة القتل بكثافة نارية عالية).

ولابد من أن يضمن مثل هذا التنظيم الدفاعي الحماية من كل الجهات (نقاط الاستناد المغلقة والمواقع الدفاعية المتباعدة) وذلك بحسب ما تفرضه طبيعة الأرض ذاتها؛ وفي مثل هذه الأحوال لا يعدّ سقوط أحد المواقع الدفاعية كارثة أو نكبة لمسرح العمليات، إذ باستطاعة بقية المواقع الدفاعية الاستمرار في المقاومة، والتعامل مع (الثغرة) التي سقطت من النطاق الدفاعي بعزلها وتطويقها وتوجيه الضربات النارية إليها حتى يتم استعادتها بالهجمات المضادة وإعادة التوازن المفقود للنطاق الدفاعي.

2. أما في حالات الهجوم: فقد جاءت التقانة لتضمن للقوات حرية الحركة أرضاً وجواً، ولم تعد العوائق الجبلية ولا السدود والموانع والتحصينات مهما بلغت من القوة والمنعة بعيدة عن الضربات النارية، ولا قادرة على منع قوات الهجوم من الوصول إلى أهدافها مباشرة. فماذا يعني ذلك كله؟ وهل يعني أن الدفاع في الجبال والهجوم قد وصل إلى حالة الممانعة، بحيث أصبح القتال الجبلي عقيماً وغير مفيد؟

مرة أخرى نقول: إن التقانة هي ملك مشاع ورصيد مشترك يمكن لكل الجيوش امتلاكها والحصول عليها والإفادة من إنجازاتها، وهي حيادية دائماً (ونزيهة)، بحيث لا تقدم امتيازاً خاصاً للهجوم على حساب الدفاع، ولا تمنح الدفاع قدرة تستلبها من الهجوم.

وليس على قادة الحرب ومهندسيها وصانعي قراراتها وواضعي خططها إلا مجابهة متطلبات الحرب بعقول مبدعة تستفيد من إنجازات العلم والتقانة للوصول إلى النصر الحاسم. هكذا كان شأن العلم والتقانة منذ أقدم العصور، وهكذا سيبقى الوضع في ظروف (ثورة التقانة) وفي أفق المستقبل أيضاً. ويقودنا ذلك إلى الإقرار بالحقيقة التالية، وهي: إن الجبال وعوائقها وموانعها ومجاهيلها لا تمتلك من الناحية العسكرية قوة ذاتية، وإنما تستمد هذه القوة والقدرة من خلال استثمار خصائص هذه الجبال وميزاتها سواء للدفاع أو للهجوم وذلك عبر التحصين الهندسي للأرض، وعبر استخدام منجزات العلم والتقانة عند تنظيم الأعمال القتالية.

ويظهر من خلال ذلك كله أن الجبال مثلها كمثل سائر المناطق الصعبة والقاسية ليست هي المناطق الأفضل للقتال، وأنه من المناسب الابتعاد عنها، وعدم التورّط في اقتحامها كلما كان ذلك ممكناً، وبالتالي فإن خيار (القتال في الجبال) هو خيار تفرضه ضرورة الأعمال القتالية على مسرح العمليات بمجموعه في إطار هدف الحرب، ومن ذلك على سبيل المثال:

أولاً: استنزاف قدرة الخصم، وليس الوصول إلى الحسم، حيث تختار القوة الأصغر والأضعف عدّة وعدداً أن تجعل من الجبال قاعدة مأمونة لها، بهدف كسب الوقت وزيادة الاستعدادات للقتال وتطوير قدراتها من خلال استنزاف قدرة هذا الخصم بعمليات صغرى مزعجة وليست قاتلة مع تجنّب خوض معارك كبيرة تسمح للخصم باستثمار قوته المتفوقة لسحق المقاومة والقضاء عليها، وعادة ما تكون هذه القوى الضعيفة هي قوى محلية أو وطنية تجابه قوى وجيوش أجنبية.

ثانياً: الإفادة من الجبال وصعوباتها لنشر قوات ليس من أهدافها القتال في الجبال ولو أنه لابد من مجابهة احتمال خوض معارك هذا القتال وإنما الهدف هو تنظيم قواعد يتم منها إطلاق وحدات استطلاع للعمل فيما وراء الجبال السهول والمدن لجمع المعلومات ومعرفة نوايا العدو واستعداداته القتالية، وتعمل هذه القوات مع كتلة القوات أو الجيوش الرئيسة التي تخوض حربها في السهوب وبعيداً عن المناطق الجبلية. ويمكن تصنيف هذا النوع من الأعمال القتالية في إطار (المهمات أو الواجبات الأمنية) والتي تعمل على ضمان استقرار مسارح العمليات وحماية القوات الصديقة التي قد تجابه تهديدات غير متوقعة، فيما لو تمّ تنظم القواعد الأمنية في الجبال.

ثالثاً: الإفادة من الجبال ودروبها لتوجيه الضربات الإجهاضية المسبقة (وإشغال العدو بنفسه).
وبذلك تكون الجبال مجرد ممرات لعبور القوات نحو أقاليم البلد المعادي. وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن العرب المسلمين كانوا هم أول من نظم هذا النوع من الأْعمال القتالية الجبلية في إطار ما عرف باسم (حرب الثغور) والتي كانت تنطلق منها (الصوائف والشواتي البرية والبحرية) في غزوات منتظمة ودورية لأقاليم (ما وراء الدروب)، وهي عمليات لم يكن هدفها الاحتلال ولا القضاء على العدو، وإنما هدفها هو حرمان العدو من توجيه تهديداته لبلاد الإسلام؛ وقد تركزت هذه الحروب على بلاد الروم في شمال بلاد الشام، وعلى بلاد الفرنج في شمال بلاد الشام، وعلي بلاد الفرنج في شمال الأندلس (أسبانيا).

 

 


   

رد مع اقتباس